رواية عقاب ابن الباديه
الفصل الخامس5
بقلم ريناد يوسف
غادر قصير الخيمة تاركاً الصبي يكتم ألمه من السم الذي يجتاح جسده الصغير الآن،
والكفيل بجعله يصرخ حتى يصل صراخه عنان السماء، ولكن يال العجب إنه صامت تماماً، نعم ان قصير قد واجه هذه الحالة من الاستسلام للألم كثيراً قبل ذلك، وهذة مرحلة متقدمة من القوة والجلد والصبر، ولكن في مثل هذا السن الصغير لم تحدث قط، فهذا سن الفزع والاستنجاد لا سن هذا النضج الجسدي الغريب!
وصل الى خيمته فتناسى أمر آدم تماماً، ودلف وهو يشعر بانه لامس السماء فرحاً، فهاهي حياة جديدة بإنتظاره وللعروس فرحة لا تضاهيها أيه افراح.. أعاد الثعبان لسلته وتقدم اليها ورمقها بنظرات جعلتها تذوب خجلاً، ثم أمرها قائلاً:
تعالي صبيلي المي اغسل يدي لناكل اول لقمة سوا، اخاف اطعميكي بيدي يكون عالق فيها سم من الحنش تموتين قبل لا ادوقك ولا اتهنى فيكي.
نفذت سدينه أمره واقتربت منه بإناء فارغ وأبريق به ماء، واخذت تسكب له الماء وبدأ يفرك يداه بالصابون جيداً وهو ينظر اليها متفحصاً، وهي تتبسم له بخجل اذابه وحطم كل دفاعاته مما جعله أجل العشاء لوقت لاحق،
وقرر ان ينهي مهمته الاهم اولاً ويجعل من سدينة زوجة له.
في الصباح فاق قُصير عند الفجر على صوت عمه عمران خارج الخيمة ينادي عليه.. فأطل له برأسه وأردف له وهو يتثائب:
أبشر ياعمي راسك مرفوع.
تهللت اسارير عمران ورفع سلاحه واطلق عدة طلقات في الهواء معلناً عن أن إبنته صانت عرضه، ولو حدث غير هذا لكان قلبها مستقراً لهذة الطلقات الآن.
وبهذا الفعل علمت البادية كلها ما يود عمران إخبارهم به، وصدحت أصوات الهلاهل من أفواه النساء المتوارية خلف الخيام.
ووحدها مكاسب هي من تشعر بأن هذه الاصوات هي غارات تعلن عن حربها القادم مع سدينة،
وانتهاء الحرب لصالحها بإحتلالها لقصير بالكامل إن أنجبت له الذكور التي يرجوها.
أما آدم فلم ينم ليستيقظ، بل أمضى ليلته بكاملها يتقلب من ألم السم في جسده،
مما جعله يختبر شعور الموت للمرة الثانيه، ومع كل هذا لم يكن ألمه من السم،
بل كان ألمه الاعظم من تخلي ابواه عنه، والوجع كل الوجع من الشعور بالخذلان من القريب، أما البعيد فلا لوم على أفعاله ولا عتب.
انفض الأولاد من حوله كُل على عمله اليومي، أما هو فبقي وحيداً ينتظر نوعاً جديداً من عذاب لا يعلمه، ولكنه يعتقد أن قُصير يتفنن له فيه.
اما في القصر..
ابتسم محمود وهو يرى إخوته يهلون من بوابة القصر وملامحهم يشوبها القهر، فأخفى مابداخله من شماتة ممزوجة بوجع لا يشعر به سواه،
فكم هو شعور مقيت أن من يفترض بهم ان يكونوا لك اماناً ووطناً ومسكناً ودفئاً تقضي معظم وقتك في التفكير ماذا ستفعل لتنجوا من براثنهم.
القى يحيى التحية قائلاً:
- السلام عليكم.. ازيك يامحمود ياخويا عامل ايه، وحشتني.
ليرد عليه محمود بهدوئه المعتاد:
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حمداله ع السلامه يايحيى، حمداله عالسلامه يامديحه انتى وفريال، ازيكم ياحبايب عموا عاملين إيه.. قربوا ياحبايبي سلموا عليا واقفين بعيد ليه؟
لينطلق نحوه الولدان فور ان قال ذلك، ويرتميا في حضنه الحنون، أما هو فكاد قلبه ينفجر بين ضلوعه وهو يشعر بعاطفة الابوة نحو اولاد اخيه،
وفي المقابل تُقتل اطفاله هو على يد اخيه، واخذ يتسائل أي قلب يقطن بين ضلوعه ليطاوعه علي هذا الفعل! والذي لا تفعله الحيوانات مع من يجري في عروقهم نفس الدم وتربطهم بهم صلة قرابة!
اقتربت فريال والقت التحية وكذلك مديحة،
وخرجت عليهم عايده من المطبخ ويال العجب فقد تبدلت احوالها كلياً منذ ان تركوها!
فهي تبدو اكثر ارتياحاً وملامحها تبدوا اكثر إشراقاً، وهذا ما أكد شكوك فريال وجعل الظنون تتحول لحقائق وتعلم أن ماخمنه عقلها هو الحقيقة بلا ريب.
ابعد محمود الطفلين عن حضنه وتوجه بالحديث لاخيه يحيى قائلا:
- اه صحيح يا يحيى نسيت اديك الظرف ده قبل ما تسافر، ده جواب جلنا من عميل في فرنسا كان اشترى مننا بضاعه وعجبته وقرر انه ياخذ مننا كميه كبيره،
وبعت لنا كل التفاصيل والعنوان اللي هنبعت عليه الشحنه،
وطلب مننا رقم حساب بنكي عشان يحول لنا عليه الفلوس.
نظره يحيى الى الظرف الذي بيد اخيه وهو لا يعلم ان كان حديث اخيه صحيح ام ان هذه محاوله منه لتضليله، وصرف نظره عن انه عرف بمخططاتهم، وانهم سافروا للبحث عن ابنه،
فالتقط الظرف من يد اخيه وفتحه وبدا بقراءه محتوى الرساله التي بداخله، والعجب كل العجب ان ما اخبره به اخيه هو بالضبط ما جاء في الرساله.. فطوى الرساله مره اخرى واعادها داخل الظرف واعطاه لمحمود، وقال له بهدوء:
- وماله نبعث له اللي هو عايزه،
بعد اذنك يا ابو ادم انا طالع اوصتي اخذ شاور وارتاح شويه،
المشوار طويل زي ما انت عارف والسفر متعب، وتبعته زوجته فريال واختهم مديحه أيضا دلفت الى غرفتها لتستريح.
اقترب يحيى من فريال وسألها بحيرة:
- ايه رايك يا فريال في الكلام اللي قاله محمود، انا شفت الرساله وفعلا كل اللي قاله حقيقي، احنا شكلنا اتسرعنا لما سافرنا ندور على الولد من قبل مانتأكد.
ضحكت فريال بسخرية على سذاجة زوجها وهمست له:
-انت بجد عقلك صغير يايحيى وبينضحك عليك بسهوله، وفعلا محمود بقى يعرف يلاعبك كويس..
طيب محطتش ليه في حسبانك السريه اللي كان بيتعامل بيها مع الظرف وانه خباه، طيب بلاش دي ملاحظتش الهدوء والراحه والفرحه اللي فعيون عايده وعلى وشها، ولا السلام النفسي اللي حاسس بيه اخوك، كل الحاجات دي ملفتتش نظرك لحاجه؟
مأكدتلكش إنهم نجحوا فى خطتهم وانهم بعدونا وشافوا ابنهم واطمنوا عليه، وإن الولد فعلاً في مصر يايحيى ومخرجش منها.
نظر يحيى بعيداً وهو يحاول ربط جميع الخيوط التي اعطته زوجته اطرافها ببعضهم، وفي النهاية ادرك انها على صواب، فكم هو غبي إذ لم يلحظ ذلك الشيئ.
مره يومان وبدأ آدم في التحسن من اثر السم، وهذه المره لم تكن كالمره السابقه بالنسبه له..
فقد كان الالم اقل بقليل عن سابقتها، وعاد لممارسه كافه نشاطاته مع الاولاد،
وتلقي الاوامر من قصير والتنفيذ دون اي اعتراض.. بدأ يحب الجلوس بجانب الحيوانات ويرتاح بجوارهم، اصبح يشعر بانهم اكثر حنانا من البشر، وخاصه وهو يرى الامهات منهم وهي ترضع صغارها، وتجن عليهم ان ابتعدوا عنها، وتنادي وتصيح حتى يعودوا اليها صغارها.. فتصمت وهي تتلمسهم بانفها وفمها بحنان،
وكانها تخبرهم انها اشتاقت لهم وتطلب منهم عدم الابتعاد مره اخرى.. بعكس امه التي تركته هنا ولم تحاول ان تعود لأخذه،
وكانها انتزعت من قلبها الرحمه ونست الأمومة
لم يكن يقطع عليه خلوته الا سالم صديقه المقرب، والذي اصبح لا يفارقه الا نادرا او للضروره القصوى فقد وجد كلا منهما الراحه في شخص الاخر.. وكأن الله أرسلهم بعضهم لبعض مستقرا ومستودع.
فكان سالم هو من ياخذ بحمى ادم ويخاف عليه من كل شيء ويساعده ان إحتاج للمساعده، ويعطيه من خبراته كل ما يعينه على التعلم بسرعه.. حتى يتخلص من هذا الشعور المقيت الذي يسيطر عليه دائما بانه عبداً مأموراً،
وهو للان لم يدرك ان هذا شيء طبيعي عند اطفال البوادي،
وان ما يفعله معه قصير هو العادي، فمن هم في سنه او اكبر منه قليلا يكون بإمكانهم العيش بمفردهم تماما، وتحمل مسؤولية انفسهم.
هذا هو قانون القبائل وسكان الصحاري، ولكن ادم لا يعلم هذا..
وسالم يحاول ان يعينه بشتى الطرق على الفهم.
مرت الايام وتوالت..
كف ادم عن السؤال عن والديه او موعد رجوعهم فهو بات يعلم الان انهم لم يبتعدا، وانهم في الجوار، وعدم مجيئهم اليه هو بكامل ارادتهم، واصبح يجتهد من تلقاء نفسه ليتعلم كل شيء،
ويتفوق حتى على اطفال الباديه نفسهم، دون انتظار كلمه شكر من أحد، او عبارات تشجيع،
فقد قرر ان يتعلم لنفسه اولاً، فهو على الارجح سيقضي بقيه عمره في هذه الصحراء ووسط رمالها،
ولن يعود الى المكان الذي لفظه وتخلى عنه سكان.
فانخرط مع الاطفال يتسابق معهم في إنجاز المهمات غير ابه لنظرات الفخر به في عيون قصير والشيخ منصور،
وكانهم لا يخصونه بهذة النظرات، وكان هذا يزيد من عجب قصير والشيخ منصور!
ومن ضمن الايام التي لن تُنسى في حياة آدم، ذلك اليوم الذي تعرض فيه لاصعب إختبار مر عليه، إختبار التمسك بالحياة،
الاختبار الذي واجه فيه ادم الموت للمره الثالثه، وهذه المره كانت المواجهه بالغرق وليس بالسم كسابقتيها،
فقد استدعاه قصير وقام بربطه، وطلب منه ان يقوم بحل قيده..
وجعل احد الاطفال يريه الطريقه، فقام امامه بحل قيود يديه بفمه، ثم يقوم بحل قيود قدميه بيديه..
وجعل ادم يفعلها عده مرات،
وظن ادم ان هذا كل شيء.
وان درس اليوم هو تعلم فك القيود.. ولم يكن يعلم ان الدرس أصعب من ذلك بكثير،
فقد اخذه قصير هو ومجموعه من الاطفال في سنه الى بحيره، وقام بربط جميع الاطفال وتقييد ايديهم وارجلهم،
والقاهم في المياه واحداً تلو الاخر وكان ادم الاخير فيهم جالساً ينتظر دوره غير مصدق بما تراه عينه، وكانه ضرباً من الجنون اصاب قصير.
فهذا في نظره قتل لا محاله.
وحين اتى الدور عليه وحمله قصير ليلقي به في الماء رأى آدم الطفل الأول الذي القاه قصير اول شيء يخرج من الماء وهو متحررا من قيوده،
ثم خرج وراءه الثاني والثالث وقبل ان يفكر ادم في احتمال نجاته من هذا الاختبار ام لا كان يغوص في قاع المياه.
فما كان منه الا ان يحاول بكل جهدة، ولكن المحاوله الأولى اخذت منه وقتا اكثر من الازم.
كاد ان يختنق تحت الماء ويغرق، ولكن تدريبات كتم النفس التي كان يعلمها له قُصير افادته كثيراً،
وفي النهايه نجح وخرج من الماء وهو يلتقط انفاسه بصعوبه،
وارتمى على الارض ونظر الى السماء طالبا الرحمه من ربه..
فقد تأكد ان من حوله من البشر لا يوجد في قلوبهم اي ذره من رحمه.
اقترب منه سالم وقام بتفحصه وطلب منه وضع إصبعه في حلقه والتقيؤ فمن الواضح انه شرب ماء كثيرا، فانفاسه أصبحت ثقيله.. فنفذ آدم تعليمات سالم، وفعل مثل ما قال له.
وبالفعل شعر ببعض الراحه حين تقيأ ما في بطنه من مياه،
واعاد يومها قصير هذه الفعلة مرة واثنان وثلاث وعشرة،
حتى اصبح آدم اول من يفك قيده ويخرج من المياه من بين كل الاطفال.
فتبسم قصير وعاد به وهو معجب مجددا بمهارته وسرعته في التعلم، فهو الطفل الاول الذي مر عليه يتعلم الدروس بهذه السرعه!
بعد عده اسابيع كانت عايده تجلس مع محمود زوجها في غرفتهم وقد بدت مهمومه،
فاقترب منها وجلس بجوارها وسالها:
- مالك يا عايده لسه برضو قلقانه على ادم حتى بعد ما طمنتك عليه،
وبعد ما مرسال الشيخ منصور جاب لنا صوره وهو زي الفل.. عايش وبياكل ويشرب ويجري ويلعب مع الاطفال، واتعلم السباحه والغطس وركوب الخيل والرمايه والنشان، وبشهاده الشيخ منصور بقى اشطر وامهر من ولاد الباديه نفسهم..
لسه برده خايفه عليه؟
عايده:
- وهفضل خايفه عليه طول الوقت يا محمود، ده ابني وطول ما هو بعيد عن عيني قلبي مش مرتاح، وغير الخوف عليه الولد وحشني جدا، ونفسي اشوفه بعيني مش اشوفه في الصور وبس..
نفسي المسه، نفسي احضنه،
نفسي اطبطب عليه واطمنه واقول له انا ما سبتكش يا حبيبي..
نفسي ابصله لحد ما أشبع منه، نفسي أشوفه بيجري ويلعب قدامي، نفسي أعمل له الاكل اللي بيحبه واكله بايدي، نفسي أطمن عليه بالليل وهو نايم..
انا عايزه ابني يا محمود انا مش قادره اعيش وهو بعيد عني، ومتاكده إن هو كمان محتاجني ومفتقدني، ووحشاه زي ما هو واحشني.
كلماتها جعلت محمود يستسلم للحنين الذي يشعر به هو الاخر، ويحاول كتمانه وتمتعض ملامحه ويغمض عيناه،
ويتخيل كل ما قالته زوجته وهو يفعله مع ابنه وحيده، يتلمسه يحتضنه يقبله يجلس بجواره، يقص عليه القصص كما تعود وعوده، يتحدث معه في كل شيء يخصه، يعطيه من خبراته ويستمع الى حكاياته ومغامراته التي يعود محملا بها من مدرسته، وكانه السندباد وقد كان في رحله اتى منها بكل ما هو جديد وعجيب، وليس مجرد يوم عادي في مدرسته.
نغزات توالت على قلبه فهو لم يعد يقوى على الفراق، فتباً للمسافات وتباً للبعد، وتباً للفراق بشتى انواعه.
وكم تمنى لو لم يرزق بأطفال فما كان اختبر كل هذا الالم.
اما في البادية..
في الصباح الباكر خرجت سدينة من الخيمة مسرعة، واخذت تتقيأ خلفها، وعلى صوتها خرجت مكاسب من خيمتها الملاصقة لها،
واخذت تنظر إليها وهي ترى بشائر الحمل تعلن عن حدوثه، فهي اكملت اكثر من شهر منذ زواجها من قصير، وها هي بذرة الزواج تنبت داخلها، وقريباً ستجني هي وقصير الثمار، ومكاسب ستجني الخيبات.
فعادت إلي خيمتها ووجدت رجوة تبكي،
فحملتها ونظرت اليها ثم رمتها على الفراش بعنف جعلتها تصرخ على اثر إرتطامها بالأرض،
وتوالت عليها بيدها ضرباً وكأنها تحاسبها على زواج ابيها بأخري فور قدومها،
وكانها هي السبب، وكأن قدومها اتى بالخراب وعليها دفع ثمن الاضرار التي لحقت بأمها.
فافاقت معزوزة من نومها على صوت بكاء اختها الغير طبيعي! وجحظت عيناها وهي ترى امها تضرب قطعة اللحم الحمراء هذه التي لا حول لها ولا قوة!
فاختطفتها منها وضمتها لصدرها تحميها، وبغضب سألت امها:
- ويش تسوي إنتي، ويش سوتلك هي الصغيره، عليش تحاسبينها؟ ما رق قليبك وانت توجعينها بيدك، ليش كل هاد لييش؟
مكاسب:
- اتركيني اخلص اعليها وجها وجه البوم، من ساعة اللي جات وجابت معاها الويل، ابوها راح لغيري وراح يجيه الولد واللي يحصل القعده معو ساعه بالسنه مره يكون فاز.
معزوزه:
بوي كلنا نعرف انه بيتزوج بيتزوج لا تضحكي اعلا روحك وتحملي الصغيره ذنب ما فعلته، خدي يمه بنيتك واعطيها حليبك وحنانك واستغفري ربك،
وادعيه يحنن قلب بوي اعليكي وما تكفري بقضاه.. تدابير ربك هي لا تعترضي.
نظرت مكاسب للطفلة ورقت لحالها وهي تستمع لشهقاتها،
واخذت تلوم نفسها على تصرفها الأهوج هذا، فهي بالفعل طفلة لا حول لها ولا قوة، ماذنبها الذي ضُربت لأجله!؟
حملتها وبدأت في إرضاعها لتكف عن البكاء وتهدأ شهقاتها الصغيرة التي تسببت لها بها،
واغمضت عينيها وهي تتجرع شعورها بالوجع من جميع الاتجاهات،
وفور إشباعها للصغيرة تركتها وتركت الخيمة وخرجت لتجهيز طعام الافطار مع باقي نساء البادية، فلا حزن ولا ألم يمنع المرء عن تأدية مهامه مهما كان يعاني.. هذة قوانينهم وهذا سعيهم الذي لا يتوقف منذ نعومة اظافرهم وحتى يُفنى الحيل وتخون الصحة.
جالسة امام الموقد فإقتربت منها سدينة وبنبرة تحمل في طياتها خبث النساء قالت لها:
-مكاسب يابنت العم، اليوم مشتهية عصيدة من يدك، انت احسن من تعمل عصيدة في كل البادية، وبعد عصيدتك ماتنوكل عصيدة، ودي اتريق بيها تسويلي؟
-ردت عليها مكاسب دون ان تنظر اليها:
- انسويلك ياام الوليد ليش مانسويلك، وبعدين انخاف تطلع بعين الصبي العصيدة.
سدينه بغرابة:
- ويش هاد من وين عرفتي! انا اليوم بس اللي تأكدت من الخبر، وانتي تحكينها بثقه كنك تعرفي من يوم لاول اللي حبلت فيه؟
مكاسب:
- لاتنسين يابنت العم انا اكبر منك وجايبه ٤ بطون واعرف بأمور الحبل زين.. إمبارك وبالذكور انشاله، وقولي لقصير مادام تم المراد عاود لاعقابك القديمة.
فهمت سدينة ماترمى إليه مكاسب واردفت متغنجة:
- انا مااقدر اقول لزوجي روح وتركني، هو اذا راحتلك نفسو بيجيكي لحاله،
وبعدين اتركيه معي اشبع منو ويشبع مني، مازال معرسين اجديد ماتهنينا ببعضنا لاتصيري خبيثه يامكاسب.
نهضت مكاسب ووقفت امامها معترضة وحدثتها بغضب:
-اني خبيثه ياسدينه؟
- اي دامك تريدي تاخدي عريس من جوار عروسته وهما بأول ايامهم معناها انتي وحده خبيثه يامكاسب.
- زين.. وانا الحين بوريكي الخبث كيف يكون.
ونادت بأعلي صوتها:
- قصييير ياااقصيرر تعال، تعال شوف مكاسب بنت عمك ومرتك وام بنياتك ويش عم يصير فيها.
خرج قصير من الخيمة على صوت مكاسب، وانتبه لها الجميع واقتربت النساء على صوتها، وبدأت مكاسب في النحيب بصوتها العالي فور ان رأت قصير الذي إقترب منها وسألها في حيرة:
-ويش فيك يامكاسب ليش تعيطي من الصبح؟
مكاسب:
- تعال شوف مرتك سدينه ويش جايه تقولي وكيف تحاكيني وتكايد فيا.. جايه تقولي انها صارت حبله وغدوه بتجيب الوليد وبيه راح تصير ستي وتاج راسي وراس بنياتي وتاج راسك أنت بعد.
جحظت عينا قصير ونظر لسدينه وسألها والشرار يتطاير من عينيه:
-صدق حكيتي هالحكي ياسدينه؟
-لا ورب العرش ياقصير مانطقت بحرف من هالحكي.
مكاسب:
- اذا تعرف مكاسب كذابه ياقصير معناها لا تصدق.
نقل قصير نظراته بينهم ثم ثبت انظاره على سدينة وسألها:
- مكاسب من وين دريت انك حبله ياسدينه وماليكي غير دِقايق دريتي بروحك حبله؟
سدينه:
-عرفت لحالها والله.
مكاسب:
-اي صرت من ضرابين الودع واشم على ضهر ايدي..
ياقصير مرتك غايتها تكيدني وتفهمني اني خلاص مالي حق فيك وكل الحق اصبح ليها هي.
قصير:
- زين.. معناها من اليوم مجلسي ومبيتي فخيمة مكاسب لحتى تجيبي ياسدينه، وودي اشوف كيف قُصير يصير طوع يدك لاجل انك هتجيبي وليد، مبين نسيتي ان قصير يقدر يجيب مره واتنين اعليكم ويخلف بدال الوليد عشره، وراح اسويها وغلاة ابوكي عمران.
بس بدها صبر.
مكاسب... روحي خدي قواعي من خيمة سدينه وعاوديهم لخيمتك، من اليوم المبيت عندك.
انهي حديثه وترك المكان لمكاسب التي تبسمت نصراً،
ولسدينة التي تساقطت عبراتها ندماً، فبدلاً من انها اتت تحرق مكاسب بنار الغيرة إحترقت هي..
وتأكدت ان خصمها ليس بهذا الضعف الذي تصورته، وان مكاسب تخفي خلف قناع المسكنة خبثاً ومكراً لن تستطبع مجاراتها فيه، ومن الافضل لها إجتنابها لكي لا تتفاقم الأمور اكثر من ذلك أو أن تجتهد في منافستها.
وها هي تعود لخيمتها من معركتها الاولى وهي خاسرة خسارة فادحة.
حل الليل وعاد قصير لخيمة مكاسب كما وعد، وعادت الطيور المهاجرة لاعشاشها، فأقتربت منه مكاسب تبث له شوقها إليه، ولكنه أخبرها بأن تؤجل كل شيئ حتى يعود، وذهب إلي خيمة سدينة كي يأخذ منها عقرب،
فاليوم موعد الحوي لآدم، وما أن دخل الخيمة حتى نظرت اليه سدينة بعتب ولم تتفوه، بل بكت وهي تستجديه الرحمة بصوت نحيبها، فتجاهلها وخرج يكمل مهمته..
وهذة المرة لم يستيقظ آدم، فقد كانت اللدغة اخف واسرع من لدغات الثعابين، وتركه يشعر بالسم رويداً رويداً،
وذهب ليعيد العقرب مكانها، ولكنه وجد سدينة وقد لجأت للسلاح الذي لا يقاومه اي رجل، فأرتدت اجمل مالديها وكفكفت دموعها وانتظرته وقد استدعت كامل انوثتها،
فهي اليوم قد أُهينت على يد مكاسب وستحاول استرداد بعضاً من كرامتها المهدورة مهما كلفها الأمر،
وما كان من قصير إلا التسليم لها، فهي باتت تعرف مواطن ضعفه وتجيد اللعب عليها.
أما مكاسب فحين تأخر قصير عنها خرجت تتقصى سبب غيابه، فسمعت ماكانت تخشاه،
صوت ضحكات سدينة وغنجها، ومداعبة قصير لها جعلت البراكين تثور بداخلها، وأقسمت علي الإنتقام.
اما سدينة فرأت خيال مكاسب خارج الخيمة وازدادت ضحكاتها وعبارات الدلال حتى تحرق قلب مكاسب، ولا تعلم بذلك انها تضرم النار في نفسها ولا تدري.