
رواية لعنة الخطيئة الفصل الحادي والاربعون41والثاني والاربعون42 بقلم فاطمة أحمد
"تمر الحياة بتقلبات عديدة...
بعضها تجعل الإنسان يتكيف مع متغيراتها ويتقبلها ...
وبعضها لا تلقى القبول فيسعى لتغييرها حتى ولو بالقوة ...
وبين هذا وذاك تضيع الروح بين الوفاء والخيانة، اللين والقسوة، الجحود والعاطفة...
فتتلون هذه الروح بسواد الدنيا والطمع بمُغرياتها ثم تصبح مؤذية فلا تهتم إذا ما كان الأذى سيمتدّ لأحبائها ..."
أطرق مراد مهمهما وشردت عيناه مجددا وهو يفكر في عرضها حتى عاد ينظر إليها وتمتم بلهجة جادة :
- طيب و ايه هو المقابل انتي عاوزة مني ايه بالظبط.
تنهدت حكمت باِرتياح ولمعت عيناها باِنتصار ثم أسندت يدها على سطح المكتب الفاصل بينهما ورفعت حاجبها مغمغمة :
- عاوزاك تبقى إيدي اليمين يا مراد يعني تكون زي عيوني بتنفذ طلباتي وبتعمل اللي بقولك عليه مهما كان ... أنا عاوزاك تكون ظلِّي !!
استمر لحظات الصمت المشحونة وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بصلابة حتى بدأت ملامح مراد الجادة تنبسط شيئا فشيئا وانشقت شفتاه في ابتسامة واسعة قد امتدت وتحولت إلى ضحكة انزلقت منه دون حساب !
تفاجأت حكمت وعقدت حاجبيها بتعجب خاصة حين واصل الضحك العالي حتى زنته فقد اتزانه فضربت سطح المكتب بغضب ساخط :
- انت بتضحك على ايه شايفني بهزر معاك يا ولد !
- ده انتي لو بجد بتهزري معايا مكنتش هتضحكيني للدرجة ديه يا حكمت هانم جاية لعندي وبتطلبي مني ابقى الظل بتاعك مقابل اني ادخل للعيلة ... انتي بتتكلمي من كل عقلك ؟
زمت شفتاها بعينين ملتهبتان بالشر فهدأت ضحكاته ودنى منها هامسا بشماتة :
- سيبك من اسم الصاوي ... انتي لو وعدتيني بالدنيا نفسها مكنتش هقبل اتعامل معاكي.
- احترم نفسك ومتنساش نفسك انت بتكلم مين.
- وهكون بكلم مين أنا مش شايف قدامي غير واحدة بدأت تفقد السيطرة على الناس اللي حواليها عشان كده جاية تشحت حلفاء جدد لأنها خايفة تخسر مكانتها ... واحدة بائسة وفاقدة الأمل لدرجة انها تبيع حفيدها وتلجأ لابن الست المنبوذة.
- اللي بيسمعك بيقول ان آدم صعبان عليك انت نسيت عمايلك معاه الماضي مش ناقص غير انك تقولي ده اخويا.
- لا مش لأنه صعبان عليا بس أنا مستغرب منك ازاي حفيد العيلة المبجل اللي بينفذ كل أوامرك وبيحترمك قادرة تتخلي عنه بالسهولة ديه ... ولا استني هو اللي تخلى عنك مش كده لقيتي ان دماغه مبقتش مغسولة زي الأول ومبتقدريش تتحكمي فيه علشان كده جيتي لحفيدك التاني عاوزاني ابقى آدم تاني وانفذلك كل أوامرك.
أخرسها مراد بالحقيقة الصادمة في وجهها وتابع مضيفا :
- تعرفي أنا متأكد ان في حاجة حصلت وخوفتك لدرجة تغلطي وتلجئي ليا بس ايا كان اللي اتسبب في خوفك أنا بوجهله شكر كبير.
سخرت حكمت منه وقالت :
- أنا فعلا غلطت عارف ليه لأني اعتبرتك بني آدم يعتمد عليه افتكرتك بتقدر تطلع من المستنقع بتاعك وشوفت ان ممكن تكون بتستحق تاخد اسم أبوك بس طلعت غلطانة ... انت مبتجيش في ظفر آدم حتى.
انتفضت واقفة بعنف والتفت كي تغادر لكن مراد أوقفها مرددا وهو يريح ظهره على المقعد خلفه :
- حكمت هانم ... على سيرة المستنقعات أنا عماله افكر الأيام ديه ايه نوع المستنقع اللي وقعتي فيه زمان وقاعدة تتحاسبي عليه دلوقتي من طرف واحد مجهول وكنت بقول يا ترى مين اللي بيكره عيلتك العظيمة لدرجة تخليه يكسر محلاتكم ويتهجم على مزرعتكم بالرصاص ... بتعرفي أنا بفكر فـ ايه دلوقتي ؟ ان هوية الشخص ده هي اللي خلتك بالشكل ده.
- قصدك ايه !!
استجوبته وقد احتدت عيناها بخطورة مفكرة في أنه ربما لديه فكرة عن سرِّها فهز الآخر كتفه ببساطة معقبا :
- قصدي واضح أكيد الشخص المجهول ظهر وهددك بالقتل أو بحاجة تانية أسوء من الموت بالنسبالك وده خلاكي تخافي على مكانتك وتطلبي مساعدتي ايه رأيك.
- رأيي انه من مصلحتك تنسى المقابلة ديه وتعمل نفسك مشوفتنيش لان لو حرف واحد اتقال ما بيننا طلع لبرا هضيِّق الدنيا عليك ومحدش هينجدك مني ... يا ولد فردوس سليمان.
- ده فخر ليا اني ابن ست محترمة وقلبها نظيف عمرها ما طمعت في الفلوس ولا ظلمت غيرها الدور والباقي على سلالة الصاوي.
استعرت النيران في قلب حكمت ولو كانت النظرات تحرق لأصبح مراد محترقا بسعيرها في الحال لكن هذا الأخير لم يبالي بغضبها على العكس كان مستمتعا بالعجز الذي يتوارى خلف حدقتيها الحادتين، العجز الذي جعلها تلجأ إلى الحفيد المنبوذ معتقدة في أنها تستطيع شراءه بعرض رخيص إلا أنه فهم مقصدها جيدا وأغدقها بالإهانات التي تناسبها كي تدرك بأنه ليس بإمكانها وضع الجميع بين قبضة يدها.
هذا ما فكر فيه مراد وهو يطالع حكمت التي فتحت الباب على مصراعيه وغادرت بإنفعال عكس الثقة التي دخلت بها منذ قليل، ثم رسم ابتسامة استهزاء على وجهه ودمدم بصوت خفيض :
- آدم قضى سنين حياته وهو بيحبها وبينفذ كلامها بالحرف في الاخير طلعت مستعدة تستبدله بكل سهولة هي ديه عيلة الصاوي كل اللي بيهمها مصلحتها.
اعتدل جالسا يتابع عمله بتدقيق حتى أنهاه وتوجه إلى المقبرة كي يزور والدته جثى على الأرض متحسسا الشاهد المكتوب عليه اسمها بحسرة وقال :
- الدنيا اسودت في وشي من بعدك يا أمي مهما حاولت املي يومي وادفن نفسي في الشغل عشان محسش بالفراغ بفشل وبكتشف ان كل يوم بيعدي وانتي غايبة عني بينهش من قلبي اكتر يمكن لأني عشت على أمل انك تخفي وترجعي زي الاول.
بس بموتك يا أمي أنا خسرت الشخص الوحيد اللي حبني وحاربت علشانه.
انتحرت دمعة من عينه فمسحها سريعا وتابع بصوت متحشرج :
- أنا وعدتك اني مش هنزل دموعي من لما زورتيني في الحلم وطلبتي مني اكمل حياتي من غير انتقام وقولتيلي مبحبش أشوفك بتعيط، رغم ان ده صعب عليا اوي بس عارفة بقيت بحس ان ربنا بياخد حقك من حكمت لوحده من غير ما اعمل أنا مجهود لو شوفتيها النهارده كنتي هتعرفي قد ايه اتغيرت وبقت ذليلة وضعيفة وبتمنى من قلبي ان حالتها تبقى أسوء ويجي اليوم اللي تفضل وحيدة وملهاش سند أما آدم فهو ...
عض مراد باطن شفته بشرود ثم استطرد بلهجة متزنة :
- هو شخص كويس وبيهتم اوي بعيلته أنا لسه فاكر نظرة الشر في عيونه لما اقتحم بيتي عشان يؤذيني بس اول ما شافني شايلك وموديكي للمشفى اتراجع حتى يوم العزا نسي عمايلي وجه يعزي شاب خسر والدته وكل ده حصل قبل ما يعرف اني اخوه.
انا بعترف دلوقتي اني غلطت لما كنت بهاجمه وبتعاون مع اعدائه عشان اؤذيه آدم راجل قوي وبيستحق نواجهه في وشه وبيستاهل الاحترام كمان يمكن لو القدر جمعنا بطريقة تانية كنا هنحب ونحترم بعض بس مع الأسف اسم الصاوي هيفضل حاجز مابيننا.
ظل يتكلم معها لبضع دقائق أخرى يفرغ مكنونات قلبه ثم نهض مستعدا للمغادرة وبينما كان يستدير التقت عيناه بعيني فتاة مألوفة تمعن النظر لها حتى رفع حاجباه بإدراك واقترب منها مستفسرا :
- مش انتي البنت اللي جت لعندي قبل كده وو...
ابتسمت الأخرى وأومأت بإيجاب :
- اديتك طبق محشي اه، اسمي زينب.
تنحنح وهزَّ رأسه معرفا عن نفسه هو أيضا :
- وأنا مراد جاركم.
- متشرفين.
- الشرف ليا ... جاية تزوري قبر واحد من قرايبينك.
غامت عينا زينب بحزن وتنهدت مجيبة :
- ايوة قبر بابا مكناش بنزوره في الفترة اللي غبنا فيها عن البلد.
- ربنا يرحمه أنا كمان جيت ازور والدتي.
أشار للقبر فَدعت لها بالرحمة وخرجا سويا ليعرض عليها مراد أن يصطحبها في سيارته بما أنهما يقصدان نفس الوجهة، وبالفعل ركبت معه وظلت طوال الطريق هادئة حتى قطع وصلة الصمت وهو يستفهم :
- طالما والدك مدفون هنا يبقى انتو كنتو عايشين في القرية ديه من الاول صح ... بسأل لان بقالي سنتين عايش هنا ومشوفتكمش قبل كده.
رمقته زينب بنظرات معتدلة وردَّت عليه :
- قضيت طفولتي في البيت ده قبل ما ننتقل عشان شغل بابا وبعد ما توفى دفنناه هنا لانها كانت وصيته يندفن في الأرض اللي اتولد فيها وفضلت انا وماما عايشين كام سنة في مكان تاني ودلوقتي رجعنا.
رمقها مراد بطرف عينه دون كلام فاِبتسمت قائلة :
- في ايه انت مستغرب وبتسأل نفسك ايه العيلة ديه اللي عماله تغير مكان الاقامة.
حرك رأسه نافيا بينما يجيبها بجدية :
- لأ خالص حتى أنا ووالدتي فضلنا ننقل من مكان للتاني كل فترة بسبب ظروف صعبة عشناها لحد ما استقرينا.
- عيلتك عايشة هنا في البلد عشان كده استقريت فيها ؟
استفسرت زينب بفضول لم تستطع السيطرة عليه وهي تتساءل بداخلها عما جعله يأتِ لهذه القرية بالذات وهو لم يعش فيها من قبل وحين لم يصلها جواب تنحنحت بحرج وأردفت :
- اسفة مش قصدي ادخل في خصوصياتك واضايقك.
زفر مراد وتابع النظر للطريق أمامه مجيبا برتابة :
- مفيش داعي تعتذري بس أنا مش عارف ارد ع سؤال العيلة ده ازاي.
استشعرت زينب من البلادة في صوته أن لديه علاقات معقدة من الصعب الإفصاح عنها فأماءت بتفهم وهمست بداخلها :
- أحيانا مبنقدرش نقول على العيلة أنها عيلة بجد.
دخلا للشارع المنشود وهمّت بشكره لولا أنها انتفضت فجأة وهي تلمح رجلا بعينه يغادر منزلها ففتحت باب السيارة وترجلت سريعا تحت نظرات مراد الذي توجس ولحق بها بعدما رأى قلقها، وقف خلف زينب التي شرعت تطرق الباب بقوة وسألها :
- خير في حاجة ؟
كادت ترد عليه لولا أن الباب فُتح وظهرت والدتها من خلفه متسائلة :
- في ايه انتي نسيتي المفتاح بتاعك عشان تخبطي بالطريقة ديه.
تجاهلت زينب تعليقها وعقبت بصوت منخفض :
- ده كان بيعمل ايه هنا.
في هذه الأثناء لاحظت والدتها وجود مراد فتنحنحت وابتسمت :
- اهلا بيك يابني.
استوعبت زينب أمر حضوره فضربت جبينها وتداركت نفسها بينما تردد :
- اه نسيت أنا تقابلت مع الاستاذ مراد في المقبرة وعرض عليا يوصلني شكرا لحضرتك.
- يا خبر معقوله متشكرة يا بني أنا اصلا كنت خايفة عليها تتأخر في الرجعة ... اتفضل عشان نضيفك.
- مفيش داعي يا حاجة عندي شغل لازم اخلصه في البيت شكرا.
ودعهم مراد برسمية وتحرك بضع خطوات للأمام قبل أن يقف ويفكر مستغربا في تصرف زينب لكنه شتت تفكيره وواصل طريقه لمنزله ....
_________________
بعد غروب الشمس وصعود القمر ليتوسط السماء مكانها ...
خرج من منزلهم المتواضع ودار حوله ليجد أخاه الأصغر في الخلف جالسا على إحدى الدعامات الخشبية وهو يعبث بالحصى فأخذ مكانا بجواره يطالع وجهه الواجم ثم سأله :
- محمد، انت قاعد هنا ليه مسمعتش الحاجة وهي بتناديلك عشان تتعشا.
- أنا مش جعان.
أجابه محمد بنفس التعبيرات ودون أن ينظر إليه فتنهد فاروق ووضع يده على كتف شقيقه مبرطما بجدية :
- انت زعلان مني ؟
- لا يا ابيه.
- اومال ليه بقالك كام يوم مبتبصش في وشي ... من يوم شوفتك مع ليلى.
زمَّ محمد شفته ممتعضا وقد ازداد وجومه ليقول فاروق مستنتجا :
- يعني انت طلعت بجد معجب بيها ... من امتى.
هدر بعينين غائمتين بلمعة الشوق الممزوجة بالحسرة وهو يزفر بحسرة مثقلة :
- من كام شهر، في الأول مكنتش بتعامل معاها خالص يعني حاطط حدود ما بيننا بس بعدين غصب عني بدأت انجذبلها صدقني يا ابيه انا حاولت كتير اني اسيطر على نفسي وفشلت انت بتعرفني مليش في الصياعة وجو اللف والدوران وطبعا مكنتش هبص على اخت الراجل اللي مشغلني عنده بس مقدرتش اتحكم في مشاعري ... فجأة لقيت نفسي واقع.
- طب وهي عندها نفس مشاعرك ؟
- احنا لسه متواجهناش مع بعض مباشرة ولا حكيتلها عن اللي بحسه ناحيتها يعني يدوب بنتكلم مع بعض ساعة ما بوديها وبجيبها من الجامعة بس غالبا ايوة يعني مش متأكد لكن لو هي مش حاسة بحاجة مكنتش هتقبل هديتي صح.
- مش لأنها قبلت هديتك بيعني أنها مغرمة بيك وبعدين خلينا نتفرض انها معجبة بيك كمان طب ايه آخرة العلاقة ديه هتوديكم لفين انت هتروح تخطبها طيب فاكر هيوافقو عليك لو عملت كده مش بعيد يرفدوك من شغلك ... أنا مش عايز اجرحك بس متنساش فرق المستويات ما بيننا وبين عيلة الصاوي.
شرح له فاروق موقفه بجدية وثبات على أمل أن يفهم بأن الطريق الذي يمشي به آخره مسدود، لكن محمد الشاب الذي كان حديث العهد بالحب والهوى رفع رأسه يرسل له نظرات معترضة بينما يجلجل ثائرا :
- يعني انا مبتسحقش احب واتحب لأني قد حالي مبستاهلش اعيش مع البنت اللي بحبها في الحلال يا أبيه !!
هز فاروق رأسه نافيا على الفور وبرطم بتأكيد :
- انت سيد الرجالة والمنطقة كلها بتشهد بأخلاقك وشطارتك في اي شغل بتدخل فيه بس يا محمد فكر بمنطقية البنت اللي بتحبها بتبقى بنت اكبر عيلة في البلد ياترى حكمت هانم هتوافق ولا تقوم الدنيا عليك ومتقعدهاش خلاص سيبك منها جاوبني بصراحة هل ليلى هتكون مستعدة تسيب العز والغنا وتجي لعندك طيب انت ممكن توفرلها نص الرفاهيات اللي عايشة فيها ؟
وللأسف الشديد كانت الاجابة على كل سؤال هي "لا" !!
شعر بتحطم قلبه إلى أجزاء وقظ احتشدت أنفاسه واعتصرت الغصة حلقه حتى كاد يغص بها وهو يصطدم بالحقيقة الموجعة فشهق ساحبا قدرا يسيرا من الهواء لداخله ثم استدرك بألم :
- عندك حق أنا مفكرتش في الموضوع من الناحية ديه قبل كده ... غالبا بالغت واتحمست زيادة أنا أصلا متأكدتش من مشاعر ليلى ولا عرفت هي بتبصلي ازاي يعني ممكن اكون الموهوم الوحيد في القصة ديه وخيالي مصورلي حاجات محصلتش.
تهدَّل وجه فاروق بالأسى عليه الذي تعلق قلبه بفتاة بعيدة المراد وربما يقع الخطأ عليه هو فلقد شعر أحيانا بأن أخاه يتعامل مع ليلى بشكل خاص وربما وجب تحذيره في وقتها إلا أنه لم يتوقع تطور الأمر وهذا ما جعل قلب محمد ينكسر.
لكن أن يتحطم قلبه الآن خير من أن يتحطم كبرياءه عندما يواجه عائلة الصاوي ويتلقى الرفض.
ساد الصمت وقد غرق كل منهما في أفكاره حتى صدع صوت والدتهما الساخط وهي تصيح بتقريع :
- انا بعتك لأخوك تجيبه وتجي تتعشو ولا عشان تقعد جمبه انتو بتعملو ايه ؟
- كنا بنتكلم وخلاص يلا يا محمد قوم قبل الحاجّة ما تولع فينا.
رسم الآخر بسمة باهتة على وجهه حتى لا تلاحظ والدته حزنه وأومأ موافقا وهو يدخل معهما وبداخله حسم قراره بأن يطمس ما شعر به يوما.
_________________
وبينما شعت السماء عند الأفق موشاة بألوان الغروب كأنها نافذة صغيرة مخرمة تقع عند آخر الممر مرسلة لمعة فريدة من نوعها على العشب والأزهار والنباتات الموزعة على طول السهول في هذا الوقت من فصل الربيع.
وقفت عند باب الاصطبل بمنتصف المزرعة تداعب الحصان الأسود "سلطان" وتطعمه من حبات التفاح الموضوعة في السلة تحت نظرات آدم الذي أنهى عمله للتو واقترب منها هاتفا :
- بتعملي ايه عندك مش أنا قولتلك ان سلطان مبياكلش في أي وقت وخلاص وعنده مواعيد منتظمة لازم يمشي عليها.
هزت نيجار كتفها موضحة :
- ماهو مكلش حاجة من العصر وتعب اوي يا عيني وهو بيجري في الساحة لازم يتغدا وبعدين دول يدوب حبايتين تفاح بس ولا تلاتة اللي اكلهم.
همهم ممتعضا وتمتم بصوت منخفض :
- وانتي خلصتي الباقي ماشاء الله عليكي واضح ان مخزون التفاح هيخلص قبل ما ابيعه.
التقطت أذنها ما يبرطم به فنظرت له ورددت بحنق :
- الكام حباية دول انا اللي جبتهم من الشجرة ونقلتهم في السلة من البستان لهنا يعني دول حقي ماشي واعتبرها مكافأة لأني عملت مجهود كبير النهارده مع الحصان بتاعك.
- مقولناش حاجة ألف صحا وهنا.
اطرق آدم قليلا مستمعا لصوت صهيل قادم من بعيد فاِبتسم مستطردا برضا :
- بس لازم تزودي مجهوداتك من النهارده.
قضبت حاجبيها بتساؤل عما يقصده لكن سرعان ما تحولت حيرتها إلى دهشة حينما استدارت خلفها فتجد السائس يخطو ناحيتهما ويسحب معه فرسا ... وليست أي واحدة فهذه "مُهرة" فرسها العزيزة !!
شهقت نيجار بقوة واتسعت عيناها بذهول من هول المفاجأة غير مصدقة لما تراه قبل أن تصيح ببهجة طفولية وتقفز لفرسها محتضنة إياها بصخب :
- مُهرة انتي هنا معقوله أنا مش مصدقة ... يا حبيبتي وحشتيني وحشتيني.
انهالت على كل إنش منها بوابل من القُبلات وهي تردد عبارات الدهشة والاشتياق بينما تسمع آدم يتحدث برصانة :
- أنا سألت صفوان عليها ولما قالي انها لسه في الاصطبل بتاع الشرقاوي طلبت منه يرجعهالك لاني عارف قد ايه بتحبيها وده سبب اهتمامك بالخيل في مزرعتي.
ارتجفت شفتاها من اللوعة وادمعت عيناها هاتفة بنبرة متحشرجة بينما ترشقه بنظرات امتنان :
- أنا مشوفتهاش من شهور وافتكرت صفوان باعها ولا بعتها لأي مكان تاني عشان كده انصدمت من شويا ... مش عارفة اشكرك ازاي يا آدم انت مش متخيل مدى فرحتي دلوقتي.
مالت شفته في ابتسامة رصينة ودنى منها بضع خطوات حتى وقف أمامها مباشرة وهمهم بنبرة مثقلة :
- أنا مش مستني منك أي شكر.
جُلُّ ما أراد رؤيته هو تعبير السعادة الناضح من عينيها كوردة تفتحت أوراقها في يوم ممطر وبعثت الروح في البقية، كتم آدم هذه الكلمات بداخلها واكتفى بمداعبة وجنتها فألقت نيجار نفسها عليه وتوسدت صدره برأسها ثم حاوطت خصره متنهدة :
- أنا بحبك اوي بجد.
بادلها العناق بتربيتة يد خفيفة على ظهرها وانسلخ عنها لتتشدق الأخرى بحماس :
- شوف مهرة بتبصلي ازاي ديه منستنيش خالص ولسه فاكراني ... ايه رأيك كل حد مننا يركب على حصانه ونعمل سباق ؟
- ايه الهبل ده لأ طبعا.
رفعت نيجار حاجبها وغمزته بشقاوة :
- خايف مني اكسب والناس تقول آدم الصاوي خسر قدام مراته.
رمقها من الأسفل للأعلى مستخفا بها وأجاب :
- لا أنا بتكلم عشان الجرح اللي في ظهرك متفتكرنيش مش واخد بالي انك بتتوجعي من لما جيتي للمزرعة نبهتك تفضلي قاعدة في البيت بس كأني بكلم الحيط.
تحولت ملامحها للامتعاض وقلبت عيناها بتملل حسنا هي تتألم بالفعل ولكن بقاءها في الخارج أفضل من وجودها تحت سقف واحد مع حكمت التي لا تتوانى عن تقريعها بكلماتها السامة.
حمحمت مستفيقة من شرودها واستطردت :
- طيب مبعدناش اهو طالما مش خايف مني يبقى انت خايف عليا.
أدرك آدم أنها تعبث معه وأوشك على مجاراتها لكن انحشرت الحروف في فمه تلقائيا حين أبصر صفوان قادما من بعيد وهو يمشي بثقة وتمختر كأن العالم بين يديه فمطَّ شفته ممتعضا لينتبه له الآخر ويبتسم بسماجة :
- أهلا يا ابن الصاوي ايه مش هترحب بيا وتقولي نورت مزرعتي.
رمقه ببرود معقبا :
- معلش اصلي مبحبش اكدب ... ايه اللي جابك لعندي.
تجاوز جملته الأولى وركز على سبب قدومه فطلب منه التكلم بمفردهما لتعترض نيجار رغبة منها في أن تسمع ما يُقال لكن آدم أوقفها بحزم وابتعد مع صفوان الذي برطم بلهجة جادة :
- جاي عشان الموضوع بتاعنا انت فاكر لما قولتلي في احتمال ان الشخص اللي بيهاجمنا ده يبقى حد اتعامل مع العيلتين قبل كده.
- ايوة فاكر.
- تمام أنا قعدت ادور في سجلات التجارة بتاعت الصاوي و الشرقاوي وكل الأسامي المشتركة ما بيننا دورت عليهم وملقتش اي شبهة حواليهم.
فروحت للعمدة النهارده الصبح وطلبت منه يديني اي معلومة عن حادثة حصلت في الماضي يعني أيام والدي ووالدك.
تنبه آدم واعتدل في وقفته موليا اهتمامه الكامل وهو يقول بترقب :
-انت بتقصد أيام المجلس ؟ سمعت انهم هما الاتنين كانو مشتركين في مجلس القضايا اللي بتخص الأهالي.
- ماهو ده اللي عاوز اتكلم عنه في فترة اشتراكهم في المجلس جتلهم قضايا سرقة ونهب وقتل وكانو بيحكمو ع كل واحد على حسب جريمته أنا بقى طلبت من العمدة يديلي السجلات اللي بتخص الموضوع ده وندور ع أسامي المحكومين عليهم وبكده هيبقى عندنا احتمال كبير اننا نوصله.
- وفين السجلات ديه.
- قالي انه هيبعتهملنا بكره وطبعا هيكون تحت اشرافه يعني لازم نعرفه بكل خطوة بنعملها ... ايه رأيك بقى.
أطرق آدم رأسه وهرش ذقنه بخفة ثم عاد ينظر إليه هاتفا بمراوغة :
- مش بطال مستوى ذكائك بيتحسن وده طبيعي لأنك بتقضي وقت اكتر معايا الأيام ديه.
كز صفوان على أسنانه بغيظ منه وشتمه بصوت منخفض فقطب الآخر حاجبه باِحتراز واستجوبه :
- سمعني كده انت بتقول ايه.
ناطحه بحدة وتحدٍّ هاتفا :
- هسمّعك عادي هخاف منك يعني.
رفع آدم قبضته عازما على تحطيم وجه هذا المستفز بيد أنه لمح نيجار التي تُطعم فرسها وتداعبها بلطف فتراجع مفكرا في أنه لا يريد افتعال مشاجرة أمامها وتمتم :
- احمد ربك لأني مليش مزاج اتخانق معاك والا كنت ...
قطع كلامه رنين هاتفه من رقم غريب فعاد للخلف قليلا وفتح الخط :
- ألو.
- السلام عليكم يا باشا.
- وعليكم السلام مين معايا.
صدر تهكم من الطرف الآخر يتبعه كلامه :
- الشخص اللي عماله تدورو عليه ليل نهار ... الكابوس بتاعك انت وابن الشرقاوي.
الفصل الثاني والأربعون
صدر تهكم من الطرف الآخر يتبعه كلامه :
- الشخص اللي عماله تدورو عليه ليل نهار ... الكابوس بتاعك انت وابن الشرقاوي.
تفاجأ آدم ونظر لصفوان الذي رمقه بتساؤل ففتح مكبر الصوت وردَّ عليه ببرود عكس النيران المشتعلة بداخله :
- انا طول عمري كابوس لغيري بس ان حد يكون كابوس ليا جديدة ديه.
ضحك سليمان وهو يفكر بأن الحفيد ورث أسلوب العبث والغرور من جدته ثم أردف :
- مكنش ده كلامك ساعة ما كسرتلك المحل بتاعك وحرقت مستودع التاني ونزلت عليكم بالرصاص وانتو مش عارفين تتخبو مني فين ... ولا لما كنت بتعيط على مراتك مش كانت هتموت منك بردو.
أطلق صفوان سُبابا لاذعا و هدر بصوت عالٍ نسبيا :
- الوحيد اللي بيتخبى هو انت لو عندك شجاعة كنت جيت وواجهتنا بدل ما تبعت كلابك يعملو شغلك.
- صفوان الشرقاوي بيتكلم عن الشجاعة لا جديدة ديه ... مش انت بردو اللي سرقت الراجل اللي واقف جمبك ده وولعت في بيته وبعدين بعت واحد يخلص عليه عشان انت تاخد العمودية.
صعقة نزلت على كليهما وهما يستمعان لحديث هذا المخبول الذي يبدو أنه يعرف كل شيء يخصهما، وأدرك سليمان صدمتهما من السكوت المفاجئ فتهكم في سرِّه وتشدق مضيفا :
- أنا بعرف كل حاجة عنكم وده مخليني اسبقكم بسبعين خطوة ... قولي يابن الصاوي مش انت طول عمرك بتفتخر بقوتك وذكائك وان محدش بيقدر يبقى ند ليك حاسس بـ ايه دلوقتي وانت بتقابل راجل زيي لأول مرة.
رغم السخط والجنون المحيطان به في هذه اللحظة ارتأى آدم لعدم إظهار تخبطاته حتى لا يتلذذ الوغد بذلك فهدأ من روعه ومالت شفته في ابتسامة عابثة متشدقا :
- راجل ؟ أنا مش شايف غير فار بيلعب من ورا الستارة أما راجل فمش متأكد من ديه.
اسودت تقاسيم سليمان واهتزت حدقتاه بوضوح عندما استفزه آدم بعقدته الأزلية، انعدام الاستحقاق !
نفس ما قالته حكمت حينما ساومها بأن تنقذه وتعيده للقرية وإلا سيفضح تزييفها لوصية العمدة فأخبرته بأنه ليس رجلا كفاية لكي يرتقي لمستوى تهديدها، إنه مجرد فأر خسيس لا قيمة له، هذا ما قالته منذ سنوات والآن قد سمعها مجددا من حفيدها !!
- انتو طول عمركم بتستحقرو الناس وبتشوفوهم أقل منكو خصوصا انت يابن الصاوي فاكر الدنيا ملكك ومحدش قدك.
هدر بصوت بغيض باصقا حقده عليهم جميعا لكن الآخر التقط كلمة بعينها فدمدم معلقا :
- انتو ؟ احنا مين بالظبط مين اللي مخليك تحقد علينا للدرجة ديه.
تابع صفوان يستجوبه بمقت :
- بطل تلميحات واتكلم مباشرة انت مين وبتهاجمنا ليه وايه الداعي لـ أنك تتخبى أصلا بتقدر تعادينا وانت واقف قدامنا وش لوش ولا حضرتك خايف ينقطع نفسك اول ما تظهر ؟
تبسم آدم وبرطم باِستهانة متعمدا استفزازه :
- احنا ايه عرفنا انه هو اللي بيهاجمنا مش ممكن يبقى مجرد عبد مأمور اتبعت من صاحبه عشان ينقلنا الكلام زي البغبغان.
أطلق سليمان سُبابا لاذعا واشتعل داخله بالجنون فكاد يصرخ لاعنا إياه لكنه تراجع وتمتم بهدوء مصطنع بدلا من ذلك :
- هنشوف مين البغبغان لما اخليك تبكي دم يا ولد سلطان هنشوف.
أغلق الخط مباشرة ليتهدل وجه صفوان بالحيرة ويتساءل :
- الراجل ده مجنون ولا ايه اتصل وقفل مرة واحدة كده ! طب انت بجد معتقد انه مش نفسه اللي بندور عليه.
- لا أنا متأكد انه هو وأنا قولتله كده عشان استفزه و اخد جواب ع سؤالي.
- بتقصد ايه.
نظر له آدم وهتف بذكاء :
- لما جاب سيرة عيلتي وعيلتك شكيت في انه واحد حصلتله قصة مع ابهاتنا في الماضي واتطرد ولا اتهان ودلوقتي رجع عشان يجيب حقه فأنا ذليته عشان اسحب الكلام من لسانه فهو اتعصب بجد وهددني و ذكر ابويا دونا عن الجميع وده بيخليني اتأكد انه فعلا عنده تار مع والدي.
عصر صفوان ذهنه بحيرة أكبر محاولا لمَّ أكبر قدر من المعلومات التي تنزل عليه واحدة تِلوَ الأخرى واندهش بداخله من قدرة آدم على التحليل بهذه السرعة والسهولة فقال :
- كده هيبقى في احتمال كبير نوصله من السجلات اللي عندنا.
- ايوة فعلا وممكن بردو نقدر نستدرجه ونخليه يظهر بنفسه.
- اشمعنا ايه اللي يخليه يعمل كده.
تنهد آدم وأعرب بجدية وصراحة عن توقعاته :
- مش احنا استفزيناه وقولناله معندكش شجاعة عشان تظهر قصادنا وش لوش ؟ اهو ممكن من كتر غيظه يحب يقنعنا بعكس كلامنا فيقوم يطلع في وشنا فعلا.
ذهل صفوان وطفق يفكر في مدى تحقق ما يقوله ليقول في النهاية :
- اتصاله حيرني أكتر يعني المسألة بجد طلعت شخصية والبني ادم ده عاوز ينتقم مننا، وبصراحة أنا بقول ان ممكن الست حكمت هانم هتبقى عارفاه أو على الاقل سمعت عنه من قبل فـ ليه متسألهاش.
شرد الآخر في جدته التي تعلم كل كبيرة وصغيرة في هذه البلدة ثم أماء مقتضبا :
- أنا هسألها فعلا ممكن المرة ديه ترضى تفيدني، المهم أنا همشي دلوقتي لان الوقت اتأخر ولو سمحت تعرفني اول السجلات ما توصلك عشان نقعد نقراهم مع بعض.
- ولا يهمك تمام.
أجابه بهدوء وغادر فتنحنح آدم مبسطا ملامح وجهه وذهب إلى نيجار التي كانت تقف على أحر من الجمر والفضول يكاد يأكلها كي تعرف عما كان يدور حديثهما ومن صاحب الاتصال الذي جعلهما يتلبَّدان هكذا.
فاِقتربت منه بدورها تقطع المسافة بينهما وبادرت بالسؤال :
- في حاجة انتو اتكلمتو فـ ايه ومين اتصل.
لوَّح بيده متجاهلا الرد على أسئلتها :
- يلا نمشي أنا تعبان.
سارت نيجار بجواره ليخرجا من المزرعة ثم نظرت ليده الممسكة بيدها وأعادت سؤالها بإصرار :
- احكيلي كنتو بتتكلمو فـ ايه طيب لقيتو حاجة عن اا..
قاطعها آدم بنظراته المحذرة كي تكُف عن الحديث وسحبها معه فمطت نيجار شفتها وتمتمت بصوت حانق وصل إليه :
- صفوان كان بيحكيلي على كل حاجة.
- وهو مين اللي خلاكي عامله كده غير صفوان أصلا.
كتم الجملة في داخله وهو يدخل للسيارة وبعد مدة وصلا للسرايا بعدما أسدل الليل ستاره، سأل آدم على جدته وصعد لغرفتها أما حليمة فأوقفت الأخرى واستفسرت منها :
- ابن اخويا ماله مش على بعضه في حاجة حصلت عشان اول ما يوصل يطلع لحكمت.
هزت كتفها بجهل حقيقي مجيبة بأنها لا تعرف شيئا ثم نظرت للأعلى وحدثت نفسها :
- بقص ايدي لو حكمت ملهاش دخل في الموضوع ده.
*** طرق باب الغرفة ودلف ليجدها تجلس على مقعدها المعتاد وتنظر إلى الخارج عبر قضبان النافذة الحديدية حمحم ملفتا انتباهها لحضوره فهتفت حكمت ببلادة دون أن تطالعه :
- اتفضل يا حفيدي اقعد.
اقترب منها آدم وسحب كرسيا ليجلس مقابلا لها وقال :
- مساء الخير يا ستي عامله ايه.
- الحمد لله.
ردت بإيجاز حاسم جعله يحتار من حالتها الغريبة في آخر فترة فاِنحنى قليلا وضمَّ يدها بين كفيه مبرطما بنبرة جادة :
- أنا ملاحظ ان بقالك فترة وانتي مش على بعضك في حاجة ؟
لم يجد اجابة منها فأصرَّ عليها وهو يستدرك هاتفا :
- كنت هقول ان وجود نيجار هو السبب بس حضرتك ع الحالة ديه من قبل ما اجيبها للبيت لو في حاجة مضايقاكي بتقدري تحكيهالي ... أو مشكلة.
نجح هذه المرة في كسب اهتمامها حيث رفعت وجهها الواجم وذهنها يستحضر عدة أحداث من صباح اليوم حينما أخبرها مساعدها بأنه لم يستطع ايجاد المدعو سليمان حيث أنه كلما يصل لطرف الخيط يجده قد تسرب بسهولة من بين يديه.
لم يكن هذا كافيا لإغضابها بل زاد عليها اتصال ذلك الوغد الذي سخر من محاولاتها الفاشلة في إيجاده وقال بالحرف الواحد " العد التنازلي بتاعك بدأ يا حكمت هانم خدي بالك وودعي آخر أيامك مع السُلطة لأني هخليكي تخسري كل اللي عشتي وانتي بتسعي عشانه وأولهم حفيدك أكبر سند ومصدر قوة ليكي"
منذ تلك المكالمة وهي تتخب من جهة يتملكها الغضب والسخط لدرجة رغبتها في سحق سليمان أو دفنه حيًّا ومن جهة يتآكلها القلق رغما عنها كلما فكرت في أنه من الممكن اكتشاف السرّ الذي مضت عليه سنين طويلة، حقيقة أنها سرقت حق العمودية من يد أعدائها !!
أفاقت حكمت من شرودها العميق على تكرار آدم لسؤاله فشهقت بروية محاولة كسب نفسها أكبر قدر من الهدوء وقالت :
- أنا كويسة مفيش حاجة بس أنا زيك بفكر فـ مين ممكن يكون الشخص اللي بيهددنا وبيؤذينا.
تصلب فكّ آدم بتهجم مماثل وكز على أسنانه مغمغما :
- هو عارف ازاي يلعب علينا لدرجة محدش مننا قادر يوصله حتى العمدة ملاقي صعوبة، الندل ده بيعرف يتوقع تحركاتنا بشكل غريب.
- قصدك ايه.
- أيا كان هو مين بس أنا حاسس أنه بيعرفنا كويس وفاهم احنا بنفكر ازاي عشان كده سابقنا دايما بخطوة.
أجابها آدم بجدية ومنطقية رابطا الخيوط ببعضها البعض وتابع :
- ممكن بيعرف عيلتنا من زمان وعاوز يؤذينا لأي سبب كان، أنا مش متأكد.
جاهدت حكمت للسيطرة على رجفة كفها المحصور بين يديه حتى لا ينتبه لاِضطرابها من ذكر هذه السيرة ثم أجلت صوتها القوي ورددت بثبات :
- طيب انت عندك فكرة عنه طالما هو بيعرفنا اوي كده.
- لا بس هو اتصل بيا من شويا.
صارحها بهدوء فأجفلت.
- قال كلام كتير مفاده اننا طول عمرنا بنقلل من غيرنا وهو هيثبتلنا عكس الكلام ده، حسيت ان الموضوع اكبر من مجرد انتقام عادي فـحبيت اسألك لو عندك فكرة عن أي حد حصلتله مشكلة معانا في الماضي واشتركت فيها عيلة الشرقاوي علشان يحقد علينا.
نضب صبر حكمت التي كانت تشعر بكل كلمة تنزل على أذنيها كأنها سيخ من حديد فاِنتفضت واقفة وأولته ظهرها مبرطمة بعصبية مضطربة :
- انت ليه عماله تحط احتمال ورا التاني وكأنك متأكد ما يمكن الشخص ده عاوز يضيعك بكلامه عشان تفضل تدور بعيد ومتبصش للناس اللي حواليك.
- ومين دول اللي حواليا وأنا مش شايفهم.
- مراد ابن فردوس، أخوك يعني.
- مراد !
ردد اسمه بلهجة ساخرة وقد ظهرت على وجهه ملامح الاستنكار فهزت حكمت رأسها بتأكيد متابعة :
- ايوة انت مستغرب ليه، مش هو بردو اللي عمل خطط كتيرة عشان يوقعك.
- تمام بس مراد من ساعة وفاة والدته مرجعش اتعامل معانا وكل اللي عاوزه أننا نبعد عنه.
- ايه اللي بيخليك متأكد كده يمكن بيلعب عليك هو وولد الشرقاوي عشان يضيعوك.
- اعذريني بس شكل حضرتك نسيتي ان مستودع صفوان اتحرق وهجمو علينا مع بعض وبنت عمه كانت هتموت يعني هو اتأذى زينا واكتر يبقى ازاي بتقولي انه مشترك في اللعبة مستحيل يحط نفسه قصاد المدفع، وبعدين انا مش مقتنع بموضوع مراد.
- شكلك انت اللي نسيت ان الاتنين دول اتفقو عليك في الماضي ومراد ده سمحلهم يطعنوك ويسيبوك جوا النار وفضل يهاجمك عشان يوبظ شغلك يعني معملش حساب انكم من نفس الأب حتى، ونسيت ان ولد الشرقاوي جرب يقتل لتاني مرة فـ وكان هينجح لولا ستر ربنا وفضل بيحاول يوقعك عاوز تقنعني انهم بقو فجأة كويسين معاك ! وبعدين بخصوص اصابة بنت عمه فـ متنساش ان الرصاصة كانت موجهة عليك انت مش على نيجار هي اتصابت بالغلط.
العيون الجعانه عمرها ما بتشبع يا حفيدي والاتنين دول عندهم جوع لـ انهم يوقعو عيلة الصاوي يعني بتقدر تتوقع منهم الغدر في أي لحظة.
واصلت حكمت تسميم عقله باِتهامات باطلة من شأنها تشتيت تفكيره السليم وإزاحته عن طريقه في الوصول إلى هوية العدو الحقيقي.
كانت تعلم جيدا بأن آدم ماهر في الملاحقة وربط الخيوط ببعضها البعض وأساسا هذا ما جعله يكتشف علاقة مراد بالعائلة في السابق، ولكنها ستحاول هذه المرة تضييع وقته مع الشخص الخطأ ريثما تستطيع هي تدبير أمر سليمان.
حسبت حكمت كل التفاصيل بعقلها في مدة لا تتجاوز الثواني ونظرت لآدم الذي كان بالفعل قد طفق يفكر جديا في صحة حديثها خاصة أنه بدا منطقيا بعض الشيء، رفع حاجباه وأخفضهما كعلامة على إرهاقه ثم أردف :
- مش عارف أنا لسه بفكر ومش مجمع الخيوط ببعض يمكن تكوني انتي الصح وأنا اللي محسبتهاش كويس، وعموما أنا حطيت كلامك في دماغي كويس وهشوف لازم اعمل ايه.
أنهى الحوار واستأذن مغادرا الغرفة ليتقابل مع حليمة التي سألته حين لاحظت ضيقه :
- في ايه مالك يا حبيبي.
- مفيش أنا كويس.
- بس انا مش شايفة كده خير في حاجة ؟
سألته مجددا وأضافت بترقب :
- نفس الموضوع مش كده انت مضايق لأنك لسه موصلتش لعدوك.
في هذه اللحظة صعدت ليلى وانضمت للحوار بفضول مستمعة لشقيقها الذي زفر مبرطما بخشونة :
- ايوة هو ده السبب يعني من شويا بس دخلت للبيت وأنا فاكر اني مسكت طرف الخيط بس دلوقتي لقيت نفسي مضيعه.
رشقته حليمة بنظرات حائرة تبادلتها مع ليلى ثم قالت :
- بتقصد ايه لو سمحت فهمني.
تردد آدم في البداية بخصوص إدخال عمته وشقيقته في الأمر لكن ولأنه يعلم جيدا بأن حليمة تعرف مراد وتعاملت معه أكثر من مرة رجح مقدرتها على مساعدته فطفق يحكي لها ما توصل إليه واتهامات جدته لتتسع بؤبؤتا حليمة باِستهجان مما تسمع وتعقب :
- حكمت هانم بعدت كتير يعني هما هيستفادو ايه لما يلعبو من الجانب ده ومتنساش ان مراد أخوك مستحيل يوصل بيه الوضع لـ انه يتهجم ع المزرعة ويقتلك.
- مستحيل ليه حضرتك نسيتي انه اتفق مع صفوان على قتلي قبل كده.
عارضها آدم باِنزعاج مستحضرا الماضي وكاد يذهب لولا أن ليلى أوقفته بتمتمتها الخفيضة :
- أنا لازم احكيلك عن حاجة يا ابيه بخصوص مراد ... اللي هحكيهولك عدى عليه وقت طويل من اول ما عرفنا ان هو بيبقى أخونا.
تلبدت ملامح وجهه على حين غرة مطالعا إياها ثم تلفظ بالذي أدهشها :
- عاوزة تحكيلي عن انك روحتي زورتيه في بيته ؟
- حضرتك عرفت ازاي حد قالك !
كانت تقصد محمد بهذا التلميح لأنه هو الذي أوصلها لمنزل مراد لكن آدم أجابها بجدية :
- محدش قالي بس انتي اختي وطبيعي اعرفك بتفكري ازاي أنا كنت متأكد ان فضولك هيخليكي تروحي تشوفيه واستنيتك تجي تتكلمي بنفسك.
عضت على شفتها بحرج من إخفائها الأمر وشرعت تعبث بأصابع يديها حتى استجمعت نفسها وقالت :
- ايوة انا روحت عشان اشوف الأخ اللي طلعلنا فجأة وهناك عرفت حاجة مهمة ... مراد عمره ما خطط لقتلك.
لاحظت دهشة جلية على وجهه فتابعت بتأكيد :
- لما واجهته واستفزيته بالكلام قالي مكنش بيعرف انهم هيضربوك بخنجر ولا يولعو في بيت الهضبة حتى يوم ما اتصاوبت وانت مع نيجار مراد اتعصب وقطع علاقته مع صفوان نهائيا.
- ايه اللي يخليني اقتنع انه مكدبش عليكي عشان يبرئ صورته.
- نفس اللي بيخليك متأكد ان مراد مش هيستفاد حاجة لو برّأ نفسه بالكدب هو كده كده مش عايزنا في حياته وبالتالي مش هيهتم بـ انه يبرئ صورته زي حضرتك ما بتقول.
- يبقى ايه هيخلي مراد يعترفلك بالحقيقة فجأة رغم ان احنا اتواجهنا قبل كده وضربنا بعض وكنت ناوي اقتله بس مفكرش يشيل التهمة من عليه.
- يمكن عشان خسر والدته ولقى انه مفيش داعي للمقاوحة اكتر من كده، ويمكن عشان حسّ بالذنب يا ابيه.
ولو عاوز رأيي في موضوع العدو المجهول ده فـ أنا بقول ان كره مراد مش هيوصله لدرجة يتهجم على المزرعة بالطريقة المتوحشة ديه علشان يقتلك.
أجابته ليلى بصراحة وقوة مثلما علّمها دائما لكن هذه المرة صراحتها حيَّرته أكثر وجعلته يتخبط كغريق بين الأمواج المتلاطمة !!
__________________
تململت على السرير واستفاقت منزعجة من نومها المتقطع لترفع رأسها عن صدره كي تعدل في وضعيتها فتفاجأت من استيقاظه وهمست بصوت متحشرج ناعس :
- انت لسه منمتش ليه.
أخفض بصره اليها ثم عاد يتطلع في السقف مجيبا بإختصار :
- مش جايلي نوم.
مطت شفتها ممتعضة وعادت تسند رأسها على صدره العاري راسمة دوائر وهمية بأناملها ثم همهمت بخفوت :
- آدم أنا عارفة انك متضايق عشان اللي بيحصل ومتعصب لأنك لأول مرة بتواجه عدو مبتعرفوش ولا بتعرف سبب عدواته معاك اينعم انت مبتحكليش عن مشاكلك بس أنا بقدر افهمك كويس يعني من ناحية شاكك في صفوان وأخوك ومن ناحية تانية ... حاسس ان ستك مخبية عنك حاجات مهمة صح وهو ده اللي خلاك تطلع لأوضتها وتستفسر منها.
- عرفتي منين متقوليش انك رجعتي تلمعي اوكر من تاني.
استفسر آدم بدهشة مصطنعة فاِستندت نيجار بجواره على مرفقها وضربته بخفة نافية :
- قولتلك اني بفهم عليك كويس وبعدين أنا ذكية وبعرف ازاي اربط الأحداث ببعض وكمان انت بتعرف اني مبحبش اتسمع ع كلام حد.
كاد يضحك معلقا بأنها لو وجدت وسيلة للتنصت فلن تتردد لكنه كتم أفكاره في داخله حتى لا يغضبها وأماء موافقا :
- ايوة أنا اللي بعرفك كويس ياحبيبتي.
اغتاظت نيجار من سخريته البائنة وكادت تجادله بيد أنها توقفت على حين غرة عندما نطق كلمة بعينها وأعقبت هي عليها :
- حبيبتي ؟! بقالي كتير مسمعتش الكلمة ديه منك كنت بتقولهالي عشان تضايقني وتستفزني.
تبسَّم آدم رغما عنه مطالعا ملامح وجهها المنبسطة وعيناها الامعتان ثم رفع يده عابثا بخصلات شعرها، وغمغم بلهجة متهدجة :
- طيب مش عايزاني ارجع اقولهالك.
هزت نيجار رأسها نافية بسرعة وقالت :
- قولهالي في كل دقيقة حتى لو كنت بتتريق بيها عليا وأنا هقولك دايما اني بحبك ... بحبك لدرجة مبتتوقعهاش وهفضل واقفة جمبك في كل مشاكلك يا آدم.
استنفرت عروقه تأثرا والتمعت عيناه برغبة واضحة فجذبها من خصرها حتى وقعت فوقه ولفحت أنفاسه الساخنة بشرتها وهو يهمس مستسلما في غمرة من المشاعر النادرة :
- كفاية انك تفضلي جمبي وتوريني ابتسامتك الجميلة ديه مش عايز منك اي حاجة غيرها !!
خرجت من الحرم الجامعي بعد انتهاء دوامها ووجدت سيارة السائق في انتظارها فركبت وانطلق محمد بصمت مركزا على الطريق، رمت عليه هذه الأخيرة نظراتها من الخلف محدقة في محمد بوجوم مختلط بالحيرة...
إن محمد يتصرف بغرابة منذ أيام عديدة وتحديدا بعدما أعطى لها الإسوارة كهدية وعاملها بعاطفة واضحة، لقد كانت تشعر في ذلك اليوم أنها ملكت الدنيا واعترفت لنفسها بأنها معجبة بمُحمد وظنت أنه سيتقدم خطوة أخيرا بعدما قضت شهورا وهي تحاول لفت انتباهه ناحيتها، لكن فجأة عاد إلى نقطة الصفر دون سابق إنذار وأصبح لا ينظر لوجهها بل حتى أنه لا يطيق التحدث معها !
في البداية رجحت ليلى احتمال مروره بمشاكل في العمل وحاولت فتح الموضوع معه إلا أنه لم يُعرها اهتماما بل اكتفى باِدعائه الانشغال في الهاتف والآن هاهو يجلس في المقعد الخلفي مثل الجماد...
تنحنحت ليلى مجلية صوتها كي يصله وتمتمت في محاولة منها للمبادرة :
- انت عامل ايه في شغلك حكيتلي عن انك اترقيت.
- الحمد لله.
ردَّ محمد بنبرة صقيعية أبرد من الجليد لتعض شفتها بحنق لكنها لم تحبذ الاستسلام فاِستطردت مواصلة :
- وأنا كمان كنت بفكر في اني اشتغل بس هشوف الوضع اول ما اتخرج.
قابلها صمت موحش ألمَّ بها وأفقدها آخر ذرات صبرها الذي نضب فأغمضت عيناها تستجدي الهدوء وعادت تفتحهما قائلة :
- وقف العربية.
رفع محمد رأسها مطالعا إياها من الزجاجة الأمامية ولم يتحرك فرفعت ليلى صوتها الحازم :
- قولتلك وقف العربية !!
عصبيتها المتفجرة للتو جعلته يده تتشنج على المقود لكنه أخمد تأججه الكامن بداخله من قربها، وخفف من السرعة تدريجيا ثم توقف بالسيارة على قارعة الطريق فتحررت كالطير الحبيس تلقي بنفسها إلى الخارج ما إن توقفت العجلات وهتفت ملفتتة بثورة عندما أحست به خلفها :
- انت مالك الأيام ديه ؟
- مالي ازاي يعني.
- متعملش نفسك مش فاهم يا محمد، ايه اللي حصلك وخلاك تتغير معايا بالشكل ده.
- أنا فعلا مش فاهم قصدك يا ليلى هانم ممكن اعرف حضرتك طلبتي مني اقف ليه.
- هانم وحضرتك ؟ لا والله مش ناقص غير تقولي جلالتك.
- حضرتك أخت آدم بيه المعلم بتاعي وأنا السواق بتاعك لازم اقولك ايه واحنا اللي بيننا هو علاقة شغل مش اكتر.
نغزها قلبها نغزة غريبة ... نغزة حملت شعورا شبيها بخيبة أمل !
- علاقة شغل.
كررت ليلى الجملة بهمس جريح وتابعت :
- نظراتك ليا واهتمامك بدراستي وتفاصيل حياتي كلهم شغل، مشاورينا وكلامنا مع بعض كانو شغل بردو ؟
أتاها رده الغليظ كغُلظة قلبه في هذه اللحظة :
- أنا مش فاكر اني لمحتلك بأي حاجة يا هانم يعني ممكن اكون سايرتك شويا في الكلام بس ده مكنش بيدل على أي شيء تاني.
كانت كلماته تنزل على أذنها كحمم من الجحيم وهو يخبرها مباشرة بأنه لا يشعر بشيء اتجاهها، بل أنه لم ينظر لها بلمحة أخرى غير أخت سيد عمله !
لكنها رغم ذلك تجلدت ورفعت معصم يدها أمام عينيه هاتفة بتحدٍّ وغضب :
- طيب والاسوارة اللي ادتهالي ديه كانت مسايرة منك كلامك ليا وقولك انك مستعد تعمل كل حاجة عشان تشوف ابتسامتي كانت مسايرة بردو !
رغم انفعال ليلى في هذه اللحظة إلا أن عيناها اغرورقت بدموع عاصفة برزت لمحمد بوضوح فقسمت قلبه نصفين وأحرقت روحه وهو يجد نفسه مجبرا على معاملتها بقسوة وجرح كبريائها لكنه لم يملك خيارات أخرى، بل لم يكن في حوزته خيار واحد من الأساس !!
لقد دخل في حفرة عميقة بملء إرادته سابقا وجعل الفتاة الجميلة التي تقف أمامه تدخل فيها معه -وهذا ما تأكد منه للتو-
ولكن يجب أن يتخلص من أنانيته ويُعيدها إلى صوابها فعلاقتهما مستحيلة وهو يفضل أن يجرحها الآن خير من أن تزداد تعلقا به ثم تنصدم بالواقع الموجع في المستقبل.
ولهذا أخذ نفسا عميقا يستنجد به القدرة على التحمل وتشابكت عيناهما بنظرات مشحونة، واحتدمت الأنفاس ما بين جنون وترقب قبل أن يدق آخر مسمار في تابوت حبهما الخفي الذي لم يعترف به أحد منهما للآخر :
- زي ماقولتلك اللي بيننا طول عمره علاقة شغل وعمري ما بصيتلك غير كده وأسلوبي معاكي كان بحسن نية مني لما حسيت انك بتواجهي مشاكل وهموم أكبر من سنك ومش ذنبي انك فهمتي تصرفاتي وفسرتيها بطريقة غلط ... يا ليلى هانم.
لم يطعنها بخنجر لكن كلماته طعنتها ! عصفت عيناها بجرح خاطف جلب لهما الدموع على الفور، وتلكأت نظراتها على تقاسيم وجهه الجافي وحدقتيه الخاليتين من العاطفة لتشعر في هذه الأثناء بمعنى سحق كبريائها تحت قدميه وهدر أحاسيسها من طرف أول شخص أُعجبت به في حياتها أو بالأحرى شخصا دقت نبضات قلبها حُبًّا له ...
لكنها لن تكون ليلى سلطان الصاوي لو لم تقتلع قلبها هذا من مكانه وتدعس عليه رافضة تعرضها لأي إذلال آخر فتجلدت بالحزم ونزعت الاسوارة من يدها لتلقيها عليه هاتفة بقوة متزعزعة :
- عندك حق الغلط عليا أنا اللي فسرت الأمور بشكل مش صح علشان كده لازم اتخلص من أي شي قادر يشوشني.
اندهش محمد ونظر للإسوارة التي سقطت على الأرض وتمتم بتنهيدة حارقة لم تلاحظها :
- مفيش داعي ديه كانت ...
لم تكن شيئا، كتم الحقيقة المؤلمة بداخله وهو يرى ليلى تتجاوزه في أعلان غير صريح بنهاية الجدال، ركبت السيارة بهدوء ظاهري أما هو فاِنحنى يلتقط الاسوارة ووضعها في جيب سترته ثم صعد ليكون قريبا منها ... وفي الحقيقة كانا بعيدان عن بعضهما كـبُعد السماء عن الأرض ...
__________________
بعد عودته من العمل التقطت عيناه جارته السيدة اللطيفة واقفة في الخارج عند اصيصات النبات والزهور المزروعة فـاِبتسم واقترب منها هاتفا :
- مساء الخير.
استدارت السيدة بتأهب زال تدريجيا حينما رأته وابتسمت قائلة :
- مساء النور يابني عامل ايه.
بادلها الابتسامة وهزَّ رأسه مجيبا :
- بخير الحمد لله أنا شوفتك واقفة هنا فقلت ممكن تكوني محتاجة لحاجة.
حاد بعينيه نحو الأداة التي كانت تقصّ بها الأعشاب الضارة ويبدو أنها لم تتقن ذلك فتابع عارضا عليها المساعدة :
- خليني اعملهم مكانك.
- يا حبيبي انت لسه راجع وأكيد تعبان.
- لأ خالص حضرتك مفيش أي تعب.
- طيب هسمحلك تاخد المقص وتعملهم بدالي بس بشرط تبطل رسميات وكلمة حضرتك اللي ع بوقك ديه ... أنا خالتك أم زينب قولي يا خالتي لو معندكش مانع طبعا.
أحرجه حنانها وبساطتها في التعامل لكنه كان يشعر بالراحة معها فأماء بتردد طفيف نظرا إلى أنه لم يسبق له أن كان قريبا من شخص ما غير أمه ثم أخذ مكانها وشرع يقصّ الأعشاب بحرفية وسط أحاديث جانبية بينهما حتى أنهى عمله وتنهد بتعب :
- اهو خلصت يا خالتي ابقي اعمليهم بالطريقة ديه تاني مرة عشان ميبوظش منك.
نظرت له ببسمة وشكرته فتابع مراد :
- يلا انا هروح لبيتي دلوقتي.
تحرك ليغادر لكن أم زينب أوقفته بسرعة مرددة :
- يا فضيحتي انت عايز تجي لباب بيتي عشان تساعدني بعدين تروح من غير ما تتغدا معايا لا ده مش هيحصل.
تفاجأ مراد من عزيمتها وعقب عليها باِرتباك :
- مفيش داعي انا ...
- مفيش داعي ايه بس انت عايز الناس تاكل وشي ولا ايه يلا تعال ادخل أنا عامله رز وسمك هتاكل صوابعك وراهم.
حسمت النقاش وهي تتقدمه فتلكأ مراد برهة قبل أن يستسلم ويتبعها دخلا إلى المنزل واستقبلته رائحة فتحت شهيته وسمع أم زينب تقول له :
- اقعد وأنا هحط السفرة.
- استني هساعدك بعد اذنك طبعا.
بدأ مراد بتجهيز المائدة بأناقة استرعت تعجب الأخرى فسألته عن ذلك وأخبرها بأنه عمل في أيام مراهقته بمطعم فاخر وتعلَّم من الشيف كيفية تجهيز الطاولات بطريقة تُلفت نظر الزبائن ذوي الطبقة الرفيعة، همهمت السيدة بتفهم وتبسمت هاتفة :
- اكيد كنت بتساعد والدتك ربنا يرحمها في شغل المطبخ صح.
تجمدت يده الممسكة بالكوب وأصابت عيناه لمعة حزن درأها سريعا إلا أنه ظهر جليا في صوته وهو يعقب :
- مكنتش بعرف اطبخ اوي يعني بدبر نفسي بس أمي ربنا يرحمها كان نفسها حلو اوي في الاكل.
تأملت هشاشته بتعاطف لكنها لم تعلق حتى لا تسبب له الحرج وبعد ثوانٍ طُرق الباب فقالت وهي منشغلة في تحضير السلطة :
- ديه زينب أكيد هي نسيت المفتاح بتاعها زي العادة، ممكن تفتحلها انت يا مراد أنا مشغولة زي ما انت شايف.
تلكأ مراد هنيهة ثم هز كتفه وذهب ليفتح الباب وحينما رأته هذه الأخيرة عقدت حاجباها بغرابة ومالت للخلف قليلا مطالعة لوحة المنزل بينما تردد :
- ماهو ده بيتي اهو انا مش غلطانة.
حكَّ أسفل ذقنه متنحنحا قبل أن يفسح لها المجال لتدخل وتسمع تقريعات والدتها بسبب نسيانها الدائم لمفاتيح المنزل وعندما أخبرتها بأن مراد ضيف لديهما اليوم استدارت اليه زينب وتلجلجت نظراتها متمتمة بهدوء :
- أهلا بيك.
برطم بشكر خافت وبعد دقائق كانوا يجلسون على طاولة واحدة يتبادلون الأحاديث الجانبية كانت السيدة هي الطرف المبادر فيها أما مراد فرغم تحفظه قليلا إلا أنه شعر بمدى لطفها وأحسَّ ببعض الألفة التي غابت عنه منذ سنوات، وعلى عكس هذه المرأة فلقد كانت ابنتها زينب هادئة مشغولة بصحنها وتعلق على الحديث بكلمات موجزة في البداية ظن أن الفتاة لم تحبذ وجوده معهما فكاد يستأذن ويغادر ، بيد أن طرق الباب قاطعهم فتوجست السيدة أما الأخرى استقامت بوجوم أرسل بداخله ترقبا لينهض وراءها ويهتف متأهبا :
- خير في حاجة ؟
لم تجيبا عليه وفتحت زينب الباب لتتقابل مع رجل غليظ الملامح يرتدي جلباب وعمامة ويستند على عصاه الخشبية، تصلبت قبضة يدها وتشنجت تقاسيم وجهها بنزق لم تهتم بإخفائه وهي تطالعه فغمغم بنبرة خشنة :
- ايه يا بنت خوي هتسبيني واقف عند باب بيتي كده.
- بيتك !
برطمت مستهجنة ليتابع الآخر متجاهلا نظراتها :
-اومال فين الست الوالدة مش عايزة تستقبل عم بتها.
- أنا هنا يا حج عثمان اتفضل نورتنا.
رددت الجملة وهي تتقدم منه وبالفعل كاد يلج للداخل لولا أن مراد ظهر هو أيضا فرفع حاجباه بتعجب متسائلا :
- مين الواد ده.
تبسم الآخر بدبلوماسية متذكرا أنه نفس الرجل الذي رآه المرة الماضية ومن الواضح أنه فرد من العائلة. لم يحتج للكثير من الوقت كي يفهم بأن هذا الشخص غير مرحب بوجوده في المنزل لكن مراد لم يكن يملك الحق باِتخاذ أي موقف لذلك مدَّ يده مصافحا إياه ومدعيا الدبلوماسية بينما يعرفه عن نفسه بلهجة مقتضبة :
- أنا مراد سليمان جار الخالة أم زينب كتر خيرها عزمتني واستقبلتني في بيتها عشان اتغدا معاهم.
رشقه بنظرات متكبرة ممتعضة وقصد ترك يده معلقة في الهواء برهة قبل أن يبادله المصافحة مبرطما :
- وأنا الحج عثمان اخو المرحوم جوز خالتك أم زينب.
- متشرفين.
نطقها ببرود واستدار لأم زينب الواقفة بجوار ابنتها الحانقة وقال :
- أنا لازم امشي دلوقتي عشان اخلص الشغل اللي جبته من المكتب.
- انت بتشتغل ايه لمؤاخذة.
- سمسار في مكتب العقارات ... بعد اذنكم.
ودّعهما متجاهلا عثمان ورحل لكنه ولسبب ما توقف في منتصف الطريق ولم يرتح قلبه لتركه المرأتين بمفردهما مع شخص لا يبعث الراحة في النفس أبدا.
عض مراد باطن شفته بتجهم لم يدم طويلا لأنه سرعان ما رأى ذاك المدعو بالحج عثمان يغادر منزل جيرانه وعلى وجهه أمارات الاقتضاب فتنهد براحة درأها سريعا وهو ينهر نفسه :
- في ايه دول عيلة فبعض انت مالك بيهم مش ناقص غير انك تحشر نفسك في الغرب.
___________________
في نفس الوقت.
خرجت من غرفتها بعدما أحضرت الهاتف واتصلت به ثم نزلت على درجات السُلم بهدوء وهي تتذمر قائلة :
- معقوله مش هتجي تتغدا معانا يا آدم طب ليه مقولتليش الصبح كنت هجيبه لحد عندك بنفسي.
وصلها جوابه من الطرف الآخر :
- ماهو قصدت مقولكيش لأني عارف عمايلك وأنا مكنتش عايزك تجي وتصدعيني عندي شغل لفوق دماغي.
توقفت نيجار في مكانها وانكمشت ملامح وجهها بالضيق هاتفة :
- اخس عليك يعني أنا بعملك صداع.
كتم آدم ضحكته التي كادت تشق فمه وهو يؤكد لها حديثه -مع أن ثرثرتها تروق له كثيرا- لكنه لم يحبذ التشابك معها الآن فتنحنح بغلظة وبرطم :
- بهزر معاكي متقفشيش كده، أنا عندي شغل مع التجار النهارده وبعدها هقعد مع ابن عمك عشان نفس الموضوع المتفقين عليه وعلشان كده مش هقدر اجي.
- بس انت هتفضل جعان كده.
- متشغليش بالك أنا هعرف ادبر نفسي ... لا إله إلا الله.
- محمد رسول الله.
ودعته نيجار وأغلقت الخط لتستند على حواف الدرج وتجمع يديها محدثة نفسها :
- أنا عارفة انكم مخططين لحاجة انت وصفوان أو على الأقل لقيتو معلومات جديدة خلتكم تقربو من الشخص المجهول ده بس مش راضيين تتكلمو.
وحتى أنا لما اتصلت بصفوان وجربت اسحب الكلام من لسانه مقدرتش يعني بجد مش فاهمة امتى بقو متفاهمين لدرجة يخبو اسرار بعض بالشكل ده.
قلبت عيناها بتملل من الأمر ثم تنهدت وأردفت بمضض :
- بس ده أحسن مليون مرة من عدواتهم يعني العدو المجهول عمل اللي مقدرش العمدة وكبار المجلس في القرية انهم يعملوه ان شاء الله يفضلو كده وميرجعوش زي الأول.
أفاقت من صفنتها على صوت فتح الباب وإغلاقه بقوة نسبيا فاِعتدلت نيجار في وقفتها مطالعة ليلى التي تنهب الأرض نهبا لتعترض الخادمة أم محمود طريقها وتقول :
- جيتي في وقتك انا عملتلك الأكل اللي بتحبيه و....
قاطعتها بفتور وهي تتجاوزها كي تصعد إلى غرفتها :
- مش عاوزة اكل حاجة دلوقتي.
زمت نيجار شفتها بتعجب من حالة شقيقة زوجها ثم أكملت النزول على الدرج مرددة :
- آدم مش هيجي يتغدا هو كمان يا ام محمود مفيش داعي تغرفيله.
دلفت لغرفة الطعام وجلست بهدوء متجاهلة زفرة حكمت المتضايقة من وجودها ثم نظرت لحليمة وهي تستفسر :
- آدم لسه مجاش ؟
حولت بصرها إلى حكمت التي بدى من وجهها الانتباه لسؤالها وردَّت :
- لا انا اتصلت بيه وقالي عنده شغل مع التجار ومش هيقدر يجي ... والله اعلم ايه نوع الشغل ده.
- قصدك ايه.
ركزت نيجار على وجه حكمت أكثر وتحدثت بغموض :
- يعني غالبا هو قاعد دلوقتي بيدور ورا العدو بتاعه وبيحاول يوصله حضرتك بتعرفيه كويس آدم مش هيهدا غير لما يلاقيه ويعرف مين وراه ... أو ايه اللي بيخليه حاقد على عيلة الصاوي والشرقاوي.
رغم محاولتها المحافظة على جمودها إلا أنه كان صعبا عليها في هذه الأثناء وهي تدرك جيدا بأن تلك الأفعى تُرسل تلميحات خبيثة حتى تراقب ردة فعلها لربما تستنتج شيئا.
ولكنها لن تكون حكمت إذا لم تضرب محاولاتها عرض الحائط فرفعت رأسها بشموخ وغمغمت بصوت قوي حازم :
- حفيدي بيعرف لازم يعمل ايه كويس عشان يلاقي أعدائه انا واثقة انه هيلاقيه عن قريب ويخليه عبرة قدام الكل، ومين بيعرف ممكن العدو المجهول يبقى حد قريب مننا بس ملوش شجاعة يظهر وشه الحقيقي فعمل نفسه صديق عديم الأصل ده ... أصل ياما شوفنا من النوعيات ديه في حياتنا وطبعا انتي أدرى بيها.
ابتلعت نيجار الإهانة ببسمة خفيفة كي لا تفقد أعصابها فتنهض وتشق عنق العجوز الشمطاء لذلك أماءت ببطء مدَّعية موافقة رأيها :
- عندك حق يا حكمت هانم ياما شوفنا عدو متخفيش في شكل صاحب وياما شوفنا ناس قوية وفخورة بأصلها بس طلعت فاسدة من جوا ومظاهرها كدابة.
توتر عظيم شُحن به الصمت الذي عمَّ على الطاولة ولفحات نارية خرجت من فاه كلتيهما وهما تحدقان ببعضهما بشرٍّ جسيم، شر شعرت به حليمة بوضوح واعتقدت أن الحرب ستقوم الآن فاِعتدلت بتحفز.
بيد أن ظنها خاب عندما قطعت نيجار خيط التواصل البصري الملتهب ونهضت من مكانها هاتفة :
- أنا شبعت الحمد لله هروح أعملكم شاي.
غادرت بغرور ورأس مرفوع تاركة خلفها العمة التي ابتسمت بذهول وتمتمت :
- مش قولتلك البت ديه قوية يا حكمت هانم ومش سهل توقعيها.
- هي وقوتها واللي خلفوها تحت رجلي يا ست حليمة أنا لو حبيت اوقعها مش هتاخد في ايدي غلوة قبل ما تلاقي نفسها جوا حفرة مستحيل تطلع منها.
عقبت حكمت بحدة رخيمة ثم نظرت لاِنعكاسها على كوب الماء وحدثت نفسها ... كيف سيكون موقف هذه الأفعى إذا اكتشفت بأن عائلة الصاوي أخذت مكان آل الشرقاوي منذ سنوات طويلة.
وأن ذاك العدو المجهول ماهو إلا رجل أحمق عاد من صفحات الماضي وينوي تَصدُّر الواجهة وإعلام الجميع بسرِّها !!
** بعد إعداد الشاي ووضعه في الطاولة أخذت كوبا منه وأسندته على الصينية متجهة للأعلى ووقفت تطرق الباب ثم دلفت مبتسمة :
- ممكن ادخل لجوا يا ليلى.
اندهشت الأخرى من حضورها لأول مرة إلى غرفتها لكنها اعتدلت في جلستها على السرير مبرطمة :
- اتفضلي.
ولجت بخطوات واثقة وأخذت مكانا بجوارها بينما تردف :
- لاحظت عصبيتك وانتي راجعة من الكلية ورفضتي تتغدي كمان.
- ايه علاقة كل ده بأنك تجي لأوضتي ؟
- جاية اطمن واسألك عن حالك ايه ممنوع !
- لا مش ممنوع بس أنا معتقدش ان علاقتنا قوية لدرجة تجبيلي شاي لغاية عندي وتفتحي معايا أحاديث.
- ومش وحشة بردو لدرجة مقدرش اجي واقعد معاكي ... صح ؟
تنهدت ليلى باِستسلام وأخذت كوب الشاي منها لترتشف منه قليلا وتعود لشرودها أما نيجار فحدقت فيها بدقة ولمحت أثرا للدموع على وجهها فقالت مستنتجة :
- العياط ده بسبب ايه بالظبط ... ولا بسبب مين.
انتفضت الأخرى كالملسوعة وطفقت تجفف عبراتها الجافة بالفعل بينما تهمهم بتوتر :
- أنا مبعيطش.
انهت جملتها وهي تشيح بوجهها عن نيجار التي سبق وقد انتبهت عليها أساسا فرفعت حاجبها واستطردت بنبرة عادية :
- دموعك باينة ع وشك أصلا يعني مفيش داعي انك تخبي.
ارتباكها بدأ يتحول إلى ثورة كانت بحاجة للتنفيس عنها وهذا ما جعلها تفقد سيطرتها على أعصابها وتجلجل باِنفعال :
- وانتي مالك حاشرة نفسك في حاجات مبتخصكيش ليه لو سمحتِ اطلعي برا.
في حالة أخرى وشخص آخر كانت نيجار ستقوم لتصفعه مباشرة عقابا على قلة أدبه معها ولكن الوضع يختلف مع ليلى النسخة الأنثوية من آدم فهي لم تؤذها قط وحتى أنها كانت تحاول الدفاع عنها في السابق -قبل معرفتها بجريمة نيجار في حق آدم- ولطالما كانت ليلى هادئة متزنة ولذلك فإن إنهيارها الآن يثير استغراب وتوجس نيجار.
لكن بعد معاملتها بهذا الشكل أدركت أن عصبيتها فاقت الحدود فتنهدت وأوشكت على النهوض والرحيل لولا أن ليلى أوقفتها مستطردة :
- اسفة أنا مبقصدش اتصرف معاكي بالشكل ده ... أعصابي تعبانة شويا.
- حالتك ديه بسبب صاحب الإسوارة ؟
أجفلت ليلى ورشقتها بنظرات مندهشة لتبتسم نيجار هاتفة بإدراك :
- مش محتاجة مجهود كبير عشان اعرف انك بتعيطي بسبب شاب لأني عشت التجربة ديه من قبل .. والاسوارة اللي كل يوم بتبصي عليها وطلعتي النهارده بيها ورجعتي من غيرها بعصبية الدموع على خدك بتخليني افكر في انها هدية من الشاب ده.
تفاجأت من قدرتها على لمح التفاصيل إلى هذه الدرجة وكادت تنكر على الفور بيد أن نيجار قاطعتها بروية :
- متقلقيش أنا مش هقول لأي حد.
طالعتها ليلى بتشكك وعدم تصديق :
- ايه اللي يخليني اثق في كلامك انتي بالذات.
تنهدت وردَّت ببساطة :
- ولا حاجة.
مالت شفتها في ابتسامة خفيفة اختفت سريعا عندما تذكرت مواجهتها مع محمد وعادت لحزنها وهي تسترسل في الكلام بسهولة وكأن هناك شيء يحرك لسانها :
- أنا معجبة بواحد من فترة طويلة وحسيت ان هو كمان معجب بيا مقالهاليش مباشرة بس حنيته وتعامله معايا خلوني افتكر انه بيبادلني نفس الشعور.
كنا كويسين وقربنا من بعض كمان بس مرة واحدة اتقلب ورجع بارد زي الأول، ولما واجهته ولمحتله صدمني وهو بيقول اني كنت فاهماه غلط وهو عمره ما شافني بالنظرة ديه.
- طب انتي زعلانة لأنه مبيحبكيش ولا عشان كبريائك اللي اتكسر لما صارحتيه ورفضك.
- عشان الاتنين ... أنا عمري ما عشت الموقف ده عمري ما فتحت قلبي لأي راجل بس اللي بكلمك عليه شخص كويس ومكافح وبيختلف عن كل اللي قابلتهم ويوم ما اُعجبت بيه وحبيته روحت بوظت كل حاجة زي الغبية من جهة انا زعلانة لاني حطيت نفسي في موقف محرج ومن جهة مقهورة لأنه ... محبنيش.
تحشرج صوت ليلى عند آخر كلمة وامتلأت مقلتاها بغشاوة من الدموع وأصبحت رؤيتها ضبابية، فتهدلت ملامح نيجار بالأسى لأنها عاشت هذه التجربة في السابق وتلقت الرفض عدة مرات وربما لو لم يراها آدم غارقة في الدماء ذلك اليوم ويدرك صدق مشاعرها لكانا منفصلان عن بعضهما البعض الآن.
تنهدت وربتت على يد ليلى بخفة وقالت :
- أنا مش عارفة التفاصيل بس مادامك بتقولي انه واحد كويس وحسسك بالحب بس اتقلب مرة واحدة فممكن هو بجد كان عنده مشاعر ناحيتك بس في سبب خلاه يرفضك.
مسحت عبراتها العالقة وعقدت حاجبيها بتعجب لتستطرد نيجار بجدية :
- وفي احتمال تاني اللي هو انه بجد محبكيش بس على الأقل واجهك بالحقيقة أحسن ما يضحك عليكي ويديكي أمل كذاب انتي الحمد لله فوقتي قبل ما تغرقي اكتر ومين عارف يمكن مشاعرك ديه مؤقتة وهتتمسح مع الوقت.
وبالنسبة لكسوفك واحراجك لأنك صارحتيه انتي الاول فخلاص اعتبريه موقف واحد وعدى مترجعيش تتعاملي معاه وحاولي تنسي اللي حصل لأنه حتى لو كان بيحبك بجد بس هو معندوش شجاعة كافية عشان يصارحك وأكيد بنت الصاوي مش هتتذل لواحد جبان مش كده.
فكرت في كلامها ووجدت أنه منطقي فأماءت برأسها مبرطمة بكلام مفاده أنه معها حق ثم تبسمت متابعة :
- متشكرة اوي ريحتيني شويا بس أنا مكنتش متخيلة اقعد معاكي واناقشك في موضوع حساس زي ده.
ضحكت نيجار عليها وهمهمت :
- ولا أنا بس بقيت خبيرة من لما وقعت في حب أخوكي وتجربتي مش قليلة بقى.
ربتت على يدها مجددا واستقامت واقفة وهي تقول :
- هنزل دلوقتي واشوف لو محتاجين حاجة انتي بتعرفي حكمت هانم مستنية اي فرصة عشان تهاجمني وأنا مش عايزة اديهالها.
غمزتها بشقاوة ورحلت تاركة ليلى تتلظى على نار قلبها حتى حسمت قرارها وتمتمت بحزم :
- أنا خلاص هحاول انسى محمد وانسى اي حاجة متعلقة بيه طالما صارحته ورفضني يبقى معدش ليه لازمة في حياتي.
__________________
غربت شمس اليوم ولم يتبقى منها سوى خيوط ذهبية يتلاشى ضوؤها بالتدريج وهي تختبئ خلف الأفق.
راقبها هذا الأخير الذي أنهى أشغاله من قليل وقرر العودة إلى المنزل مشيا حتى يتسنى له التفكير بروية وسط الجو الهادئ، ووضع يده في جيبه يسير بشرود مستعيدا لحظات من اجتماعه الأخير مع صفوان.
حينما جلسا سويا كي يدرسا السجلات التي تحمل أسماء كل من عاقبهم سلطان الصاوي مع والد صفوان لعلهما يجدان اسمها يدلهما على العدو وللصراحة قد وجدا الكثير وهذا ما صعب عليهما الأمر.
فالبحث عن رجل مجهول ذو حادثة مجهولة ضعيفة الاحتمالات وطواها الزمن بصفحات تقدر بسنوات طويلة مثل البحث عن إبرة في كومة قش !
زفر بإرهاق يكمل مسيره على الطريق المفروش بأوراق الشجر قبل أن يتوقف حينما لمح آخر شخص يتوقع وجوده ... ولم يكن سوى شقيقه المزعوم !!
توقف آدم تلقائيا مطالعا إياه وهو يقترب منه حتى وقف أمامه فبادر بالسؤال :
- ايه جابك هنا.
زاغت عينا مراد بالسخرية وعلَّق :
- لازم اخد اذنك عشان اطلع اتمشى ؟
لم يكن مزاج آدم رائقا لمجادلته فأزاحه من طريقه ليذهب لكن الآخر أوقفه متسائلا :
- انت عملت ايه في موضوع اللي اتهجم عليك قدرت توصله ولا لسه.
قضب حاجباه واستدار إليه مغمغما :
- والجواب بيهمك في ايه هتحصل حاجة لو عرفت.
لم يبدُ على مراد التوتر أو الارتباك وهو يجيبه ببرود :
- عادي مجرد فضول البلد كلها محتارة وبتفكر مين اللي قدر يعلم على عيلة الصاوي والشرقاوي وملقاش حد يوقفله.
كز على أسنانه بغيظ كاتما شتيمة بداخله ليستطرد الآخر بنبرة لم يستطع إخفاء الاهتمام منها :
- وبعدين طول ماهو لسه قادر يتخبى هتفضل معرض للخطر في أي لحظة لأنك مش عارفه امتى وفين بيظهر.
- اللي بيسمعك بيقول انك خايف عليا.
- هخاف ليه انا بحط احتمالات بس.
- وأنا بقول كده بردو اصل ازاي هتقلق على عدوك اللي حاولت تقتله اكتر من مرة.
- أنا عمري ما حاولت اني اقتلك ع فكرة واسأل صفوان لو عاوز تتأكد هو مكنش بيحكيلي عن اللي بيخطط يعمله.
نظر اليه آدم وهو يضطرم بعصبية يحاول اخفاءها مهتاجا بالعواصف، لا ينكر أن الصخرة التي كانت تجثم على صدره وانزاحت من فوقه منذ عرف بأن مراد لم يكن شريكا في محاولة القتل فحتى لو كان لديه سبب وجيه للكره إلا أن قتل الأخ لأخيه هي جريمة لا تغتفر بالنسبة إليه.
ورغم هذا لم يتحرك بإنش واحد وهو يغمغم :
- مش مهم اصلا عمايلك مبتفرقش كتير عن القتل يعني حاولت توقعني في شغلي وتشوه سمعتي حتى لما اتهجمو عليا بالسلاح في المزرعة ومراتي اتصابت وفضلت ايام في المشفى مفكرتش تسأل عمتك عني حتى ... الظاهر انك كنت اكتر واحد فرحان باللي حصلي.
ضغط مراد على خصلات شعره مستجديا الصبر وهاجمه بفظاظة :
- بتتكلم كأنك كنت بتنام جمب باب بيتي عشان تطمن عليا نسيت انك فضلت ورايا علشان تعرف سري وبعد ما اكتشفت اننا اخوة مرجعتش سألت ولا جيت من ناحيتي حتى.
- وأنت كنت عاوزني اسأل عنك.
- ايوة ... لأ، أنا بس بواجهك بحقيقتك وادعائك للمثالية في حين انك مفكرتش تسأل عن الشخص اللي اتظلم من عيلتك وبقى عايش لوحده.
ارتاع وجه آدم من الحرقة البائنة في صوت مراد الذي حاول إخفاء قهره بالغضب فاِقترب منه وكاد يربت على كتفه كنوع من المواساة بيد أنه توقف وعلى حين غرة !!
ضيق آدم عيناه بتوجس وحواسه تلتقط تلك الحركة المريبة من حوله ليتراءى له خيالان يظهران من العدم .. شابان بقدٍّ ضخم وهيأة لا تبشر بالخير تحفز لها آدم وتصلبت لها أوداجه ...
تلونت عيناه بعدائية هوجاء حينما لمح العصي في أيديهما وتهكم ساخرا :
- أنا استفزيته بس مكنتش متوقع انه يبعت كلابه بالسرعة ديه.
تأهب مراد بترقب ونغزه حدسه بخطورة تجلت في صوته وهو يهدر :
- انتو مين.
تبادلا النظرات والتفت له أحدهما قائلا :
- مشكلتنا مش معاك يا بطل اطلع منها.
رفع آدم يده مبعدا مراد للخلف وهامسا بكلمات مفادها أن يغادر لكن هذا الأخير لم يرضى ووقف يستمع لأخيه الذي أطلق ضحكة مستهينة مردفا بلهو :
- وأنا بردو مشكلتي مش معاكم يا شوية جرابيع ياريت المعلم بتاعكم بعتلي ناس عليها القيمة.
- هوريك مين اللي ليه قيمة.
هدر بها الأول وانطلق يهاجمه فتصدى له آدم وقبض على عصيه بيد اما اليد الأخرى أمسك بها عنقه وأعطاه ضربة قوية على رأسه ارتد على إثرها للوراء.
جاء رفيقه من الخلف وكاد ينقض عليه إلا أن مراد أحكم القيد على تلابيبه ورماه على الأرض صائحا باِزدراء :
- هي وكالة من غير بواب ولا ايه.
عاد الأول يهاجم فسحب آدم العصا الملقية ورفعها في الهواء ثم نزل بها على جسد قاطع الطريق وهو يصرخ بخشونة :
- جيتو لقضاكم برجليكم.
نفض قمي*صه بقرف وتحفز يتأهب لهجمة ثانية آخذا بالإعتبار سرعته وهو يحتسب حسابات سريعة ...
بيد أن حساباته تبخرت حينما وجد نفسه محاطا بستِّ رجال ظهروا من العدم وحاصروه مع مراد في كمين غادر ... مراد الذي رفض الرحيل منذ قليل وزاد رفضه الآن حين همس له آدم بحدة :
- امشي من هنا انت ملكش دعوة مشكلتهم معايا.
هز رأسه مجيبا بكلمة واحدة حازمة :
- مستحيل.
عاد كل منهما للخلف بتأهب حتى التصق ظهرهما ببعض وهنا مالت شفة آدم في ابتسامة خفيفة بينما يطالع الأوغاد المصممين على أذيته :
- مستعد تقف جمبي وانت عارف ان احتمال كبير تتكسر عظامنا ومنقدرش عليهم ؟
همهم بضحكة سخيفة انزلقت من فمه وهتف :
- ده احنا هنلعب دانس النهارده استعنا بالله