رواية نصف الجمال الفصل التاسع9 بقلم ولاء عمر
تعالي ودعيه يا سارة.
- طيب أصحيه، تعالي كدا، ممكن يكون نام على نفسه من غير مايحس بسبب العلاج على فكرة.
- وحدي الله يا سارة.
قربت منه، أنا فاهمة ومدركة، بس عقلي رافض الفكرة، إزاي يسيبني طيب، دموعي متشبهش لشيء غير الشلالات، لا تنقطع، قربت منه وأنا مفيش في دماغي وأنا بـ أبوس رأسه غير آية"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ" ملامحه مبتسمة والله، بوست رأسه وسبحان من ألقى على قلبي الصبر إني اسكت في اللحظة دي.
ودعته بالفعل وخرجت مع نوح، طيب أصدق إنه سابني إزاي ؟! وإني مش هشوفه تاني إزاي ؟ وإني مش هسمع ليه الورد بتاعي ولا يفسرهولي.... ولا حتى هقدر احضنه تاني!!
كل دا كان في دماغي وأنا بعيط ونوح واخدني في حضنه بيطبطب عليا، ومفيش حاجة بتحصل غير إن عياطي بيزيد.
قرب نوح من مرت خالي وخلاني قعدت معاها وطلع هو علشان الجنازة..... الجنازة... عقلي وقف بيردد الكلمة بإنكار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حاسس وكإن اللحظات والأيام بتتعاد؛ بس المرة دي أنا محتاج أكون متماسك لو مش علشان فهو علشانها، مش عايزها تعيش اللي عيشته، أنا خايف عليها.
طلعت علشان أقف مع الرجالة برا، بعد الغُسل دخلنا علشان نصلي صلاة الجنازة.
وأنا واقف بصلي على أبو سارة، حسيت كلامه بيرن في وداني، آخر مرة شفته كان بيوصيني عليها وقال لي:
"نوح، سارة مالهاش غيرك، أخواتها مش زي باقي الأخوات، وأنت أكتر واحد فاهم معدنها وحاسس بيها. خلي بالك منها، دي أمانة عندك."
صوته كان مليان رجاء وخوف، وأنا وقتها وعدته، وعدته من قلبي، إني مش هسيبها أبداً، لكن وأنا ببص لسارة النهارده وهي واقفة قدام النعش وعينيها مليانة دموع، حسيت الحمل اللي على كتافي تقيل أوي.
عارف إن أخواتها شرانيين، شايفينها دايماً أقل منهم، وكأنها عبء. ودي أكتر حاجة كانت توجع قلب أبوها، إنه كان شايل همها ومش لاقي اللي يطبطب عليها بعده.
خلصت الصلاة، وكل كلمة دعاء طلعت من قلبي كانت علشان أبو سارة وعشان سارة كمان. أنا عارف إن الطريق قدامي مش هيبقى سهل، لكن وعدي ليه كان أكبر من أي خوف أو تردد. "مهما حصل، يا عم سعيد، سارة في أمان. أنا جنبها، ومش هـ أهز ثقتك فيا."
وأنا ماشي ورا النعش، كلام عم سعيد في واحدة من خطب الجمعة جه في بالي. كنت فاكره وهو واقف على المنبر، صوته هادي لكن مليان قوة، وقال:
"يا جماعة، العبد لما يكون صالح، حياته وآخرته بتبقى خفيفة، حتى وهو ميت. النعش بتاعه يبقى كأنه طاير من خفته، والروح بتبقى فرحانة تقول: قدموني قدموني، عايزة تروح للراحة اللي ربنا جهزها ليها. لكن لو العبد عمله وحش، النعش يبقى تقيل زي الجبل، واللي شايلينه يحسوا بالثقل، لأن الروح مش راضية ومش عايزة تروح للي مستنيها."
صوته كان بيرن جوايا، كأن الخطبة كانت ليّ دلوقتي. بصيت للنعش وقلت لنفسي: "أكيد كلامه صح، وده اللي بيحصل النهارده. نعشك خفيف يا عم سعيد، زي قلبك اللي كان كله خير ومحبة."
الكلام بتاعه مكانش مجرد خطبة، كان درس للحياة، وإحساس بالخفة اللي كنا شايفينها النهارده أكدلي إنه كان عايش بكلامه، وعارف إن اليوم ده جاي.
بيعدي اليوم الأول والتاني وأنا لسة واقف في الجنازة، وموصي أمي وهناء يأخدوا بالهم منها، وبغيب وأدخل لها .
ــــــــــــــــ
يومين عدوا وكإنهم سنتين، مغيبة، بعيدة، مش مصدقة، مُنكرة لكل اللي بيحصل وعقلي رافض يصدقه، مين هيقعد معايا يفسر لي القرآن واعمله الشاي بتاعه اللي على كلامه إنه بيحبه من إيدي، وهجري لمين أجهز الأكل عشان معاد العلاج، وهقعد مع مين، وهحكي مع مين، وهتسند ويبقى ليا مين بعد ربنا غيره؟؟!؟!!
كنت قاعدة على الكنبة اللي جنب السرير بتاعه وبفكر في كل دا لحد ما حسيت بنوح وهو حاطط إيده على إيدي وبيمسكها وبيضمني ليه.
حد لا يكل ولا يمل من تكرار جملة " أنتِ مش لوحدك، أنا جنبك، ومعاكي ومش هسيبك، ميهونش عليا أشوف دموعك، متعيطيش عشان خاطري."
جملة طويلة بتطبطب على قلبي وتطمئنه إني فعلاً ليا سند، سند إن شبه بشيء فهو هيتشبه بالحيط اللي زي السد المنيع،الحصن القوي، مرهم بيخفف الألم ويداوي جروح .
أسبوع أمي كمان تعبانة فيه، وكأن الحزن لا ينفك عن ترك المرء، وكأن خوفي حالف ليضل ملازمني زي ظلي.
بعد عشر أيام كنت رجعت مع نوح اللي مسابنيش ولا لحظة، معرفش لولاه بعد ربنا مين كان هيساعدني افوق وأتعايش.
- تعالي اضفر لك شعرك .
- معنديش حُلق والله يا نوح.
- تعالي بس، بعرف اضفر حلو على فكرة.
- إنت متجوز عليا يا نوح وبتضفر لها شعرها؟؟ نهارك مش فايت!!!
خبطني بالمشط خبطة خفيفة وهو بيقول:- أيوا ومعايا منها تلات عيال.
- يا نهار، أنا كان قلبي حاسس، سيبني كدا أنا ماشية وسايبة لك البيت.
- يارب صبرني عليها، هتمشي تروحي فين؟ وايه كنتي حاسة دي؟! أومال لو كنت بأبات برا؟!!
- أومال أنت بتعرف تضفر منين ؟
- كنت بحب اضفر لعيال شادية أختي يا فالحة يا ناصحة.
قعد يضفر لي شعري وأنا كنت بحاول أكتم ضحكتي على غبائي، نوح يعني حنية، خفة دم، حنية تاني وتالت ورابع.
بعدما ضفرلي شعري قرب رأسي منه وباس رأسي وملس على شعري.
ابتسمت ولفيت ليه وحضنته، بحس إني بشبه للطفل الصغير اللي مش بيعرف يقدم حاجة للي بيحبهم أو يشكرهم غير بالحضن.
- مش يلا عشان تأكلي، أمي رنت وقالت إنها جهزت الوكل.
- مش قادرة أكل.
- هينفع يعني كل شوية اتحايل عليكي؟ متعودش أشوفك كدا؛ إتعودت أشوف سارة المؤمنة بالقضاء والقدر، الصابرة القوية.
- مش قادرة يا نوح طيب.
- لاء يا سارة، هتقدري، ماانتيش وحدك، أنا معاكي وفي ضهرك.
لما الإنسان بيحس بالهزيمة، وإن كل حاجة دايسة عليه بيحس ساعتها إن لاعنده طاقة يقاوم ولا قادر حتى يقوم؛ لحد ما يلاقي اللي يقوله أنا هنا معاك، إنت مش لوحدك.
بعد شهر قدرت بفضل الله ثم دعم نوح ليا إني أكون أحسن، إني أتقبل فكرة الموت، يمكن صعبة، لكن تذكري إن إحنا عايشين في دنيا وكام سنة وهنسيبها، سواء كانوا كتير أو قليلين فإحنا كدا كدا هنسيبها وهنجتمع في الجنة مع من نحب، الجنة اللي مافيهاش فقد ولا حزن.
وإن إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث، صدق جارية أو علم ينتفع به، أو ولدٌ صالح يدعوا له، قررتت أعمل بالحديث وفي كل صلاة بدعي له ولنادر ولأموات المسلمين جميعاً.
روحت لأمي البيت ولقيت مرت أخوي الكبير عندها، كانت بتحاول تتكبر على أمي وتوجعها بالكلام، ساعتها أنا دخلت .
- جرا ما تلمي لسانك يا مرت أخوي، ولا هو هيفضل متبعتر ويشطح وينطح كيف العجل كدا كتير؟
- خبر إيه ما تلمي لسانك يا سارة!
- مش لما تتلمي أنتِ ولسانك! جاية كيف القضا المستعجل وقاعدة تقولي لأمي كلام كيف السم ومستنياني أسكت لك؟؟؟ ليه مفكرة إن معنديش لسان زيك إياك؟!
- إتلمي يا قليلة الرباية.
- إلزمي حدودك، أقفي عوج وإتكلمي عدل، فكري بس مرة تاني تضايقي أمي بكلمة ولا توجعيها وأنا قسماً باللي خلقني لأجيبك من شعرك، يلا إنجري من هنا.
خدت بعضها وطلعت وهي معاجبهاش كلامي، قربت من أمي وحضنتها، عارفة إن أمي أضعف وأطيب من إنها توقف في وش واحدة منهم، بس أنا موجودة.
قعدت معاها وساعدتها في اللي محتاجاه وخلتني أمشي، قالت روحي لجوزك.
أمي كإنها كبرت فوق عمرها، وتعبت أكتر من بعد موت أبوي، كفيل الفقد يعجز بصحيح.
بعد مدة كانت بدأت تستعيد صحتها وتبقى أحسن، وفي الفترة دي خالي ونوح كانوا بيحاولوا يوقفوا في وش بطش إخواتي، وبعد خناقات كتير وإصرار محدش منهم يقدر يهوب ناحية أمي ويمسها بكلمة ولا يوجعها.
كنت واقفة بـ أحضر الأكل لوحدي في المطبخ وسايبة مرت خالي تريح شوية، ساعتها لقيت نوح داخل وهو في إبتسامة واسعة قالبة لضحكة على وشه، سألني ساعتها.
- إيه الحاجة اللي نفسك فيها أو نفسك تحققيها، أو مثلاً مكان نفسك تروحيه.
- هتسفرني تاني ؟
- فكري نفسك تروحي فين في أسرع وقت يلا.
- نفسي أسافر وأعمل عمرة.
- طيب يا ستي من بكرا هنروح إن شاء الله عشان نجهز الباسبورتات بتاعتنا إن شاء الله، إيه رأيك؟
- يا خبر، إحلف كدا!
- والله بجد
عنيا اتملت دموع من الفرحة وأنا مش مصدقة، بس النهاردة هو صادق، علشان بعدها بعشر أيام ودلوقتي بالظبط أنا واقفة قدام الكعبة بلبس الإحرام ودموعي بتنزل لوحدها، قلبي بيدق دقات سريعة، إحساس غريب، جمال وحلاوة الكعبة كفيل ينسي الواحد كل حاجة، كفيل يغسل القلب من كل حاجة .
قعدت قدام الكعبة وأنا فارشة المصلية وقاعدة ماسكة في إيدي المصحف وبقرأ، حاسة إني صغيرة قدام عظمة ربنا، وإن كل الهموم اللي في قلبي بتتسرّب بين دموعي وبتتلاشى في الهوا. كنت بدعي بكل اللي في قلبي، وحاسة إن الدعوات بتطلع مني كأنها نور بيطير للسما.
قضينا مناسك العمرة وخلصناها وبعدها رجعنا وعملنا ختمة كبيرة وعزمنا فيها ناس كتير، ووزعنا منها على المحتاجين.
في أثناء ما أنا واقفة في المطبخ مع مرت خالي في آخر اليوم بعدما كله مشي واليوم خلص، حسيت بدوخة وغثيان، ساعتها هي بعتت وجابت إختبار حمل، وطلعت حامل.
رجع نوح من برا هو وخالي، ساعتها أنا طلعت وسبقت نوح على شقتنا.
مسكت لكلوك صغير ومديته ليه أول ما دخل.
- شكله حلو يا سارة.
- يعني إنت مش فاهم معنى التلميح؟
- تلميح إيه؟!
طلعت إختبار الحمل وقولت له:- بعد تمن شهور من النهاردة أستعد إنك هتبقى أب يا نوح.
ساعتها عنيه اتملت دموع فرح، حزننا على كل اللي فات دلوقتي بنعيشه جبر وفرح.
" كنت أشبه ذلك الطير مكسور الجناح، جارح ومجروح، اليوم هو داوى جروح وتداوت جروحه، عوضه الله بجبرٍ أنساه تعب ليالٍ ثِقال