رواية اسد مشكي الفصل الخامس عشر15بقلم رحمه نبيل


رواية اسد مشكي
 الفصل الخامس عشر15بقلم رحمه نبيل

 | بئر الذكريات  |



صلوا على نبي الرحمة .

---------------------------------------

توقفت أقدامها عن الحركة حين سمعت تلك الصرخة التي شقت الأجواء حولها، صرخة من أحد الجنود شقت سكون الأجواء، ويبدو أنها نجحت في شق صدر ذلك الصخرة الذي يقف خلفها خاصة حينما نطق الجندي بتقطع وكأنه لا يمكنه الموازنة بين تنفسه والكلمات التي تخرج منه، فكانت كل منهما يصارع للخروج اولًا .

فخرجت كلماته مع صوت انفاس مرتفع وحسرة وتمزق عميق تعجبت أن يخرج من رجل مثله :

_ هناك في سكن الاطفال و....

وإن تعجبت منذ ثواني أن يكون الجندي بهذا التمزق، فالعجب الحقيقي هو الذي أبصرته حين شحب وجه أرسلان بقوة وهو يقطع حديث الجندي دون أن يصبر على باقية كلماته يركض كالمجنون في الممر صوب المبنى الخاص بالصغار، وجسده كان ينتفض بشكل مرعب .

لم تضع سلمى المزيد من الوقت في تأمل المحيط بها وهي تركض لاحقة بارسلان تشعر بالاختناق ينتشر بالاجواء فجأة منددًا بعاصفة قريبة لا تدري من ستقتلع الأشجار أم القلوب ؟!

زادت خطواتها أكثر وأكثر حتى أصبحت خلف أرسلان بخطوة واحدة فقط وحينما خطى للمبنى كانت هي في عقبيه تراقب حالة الاستنفار المريبة .

حالة استنفار من العاملين هناك وأصوات بكاء وصراخ بعض الاطفال تعلو بشكل مريع وكأن ذكرى انهيار حياتهم تعاد أمام عيونهم، وارسلان يحدق بما يحدث باحثًا عمن يخبره ما يحدث، وحينما فشل ركض في الممرات بين الغرف يصرخ بهم بجنون :

_ توقفوا عن الصراخ والبكاء وليخبرني أحدكم ما يحدث هنا، توقفوا ..

توقفت بعض العاملات عن البكاء وتجرأت احداهن في الاقتراب منه والتحدث بصوت خافت تقطعه شهقات مكبوتة :

_ أنه سيف ...سيف الدين، هو ...هو يحتضر مولاي، الطبيب في الداخل والجميع يحاولون المساعدة لكن لا أحد يستطيع .

تجمد جسد أرسلان وشحب وجهه بقوة وسلمى تتابع ما يحدث تحاول فهم ذلك الاسم، رغم انقباضة صدرها لسماعها كلمة الموت والتي جاءت تحمل روائح غير محمودة في المكان .

وفي حين أن أرسلان كان يهرول منذ ثواني، أضحت الآن خطواته بطيئة بشكل مخيف وكأنه لا يستطيع نزع قدمه عن الأرض، وكأن جسده زاد اطنانًا مفاجئة تعرقل حركته بسهولة .

توجهت أنظار سلمى صوب أحد الأبواب والذي كان صوت صراخ زيان يخرج منه بشكل جعل صدرها ينقبض، ابتلعت ريقها ولم تكد تتكلم كلمة واحدة، حتى وجدت أرسلان يتحرك صوب الغرفة بتثاقل مريع .

وحينما وصل بابها كانت هي في أعقابه، لتبصر مشهدًا جعل صدرها يرتجف، ترى طفل بالكاد يُقدر في الثانية عشر، يتوسط فراشه شاحب الوجه مبتسم الثغر يردد كلمات لا تصل لأحد، وزيان جواره يجلس ارضًا يدفن وجهه بين أقدامه يخفي اهتزاز خفيف في جسده .

تحرك أرسلان ببطء صوب الفراش الخاص بالصغير والذي كان فقد أسرته بأكملها في انهيار لمنزله وفقد معهم ذراعه ليصاب باعياء شديد كان يتحامل عليه بجسارة لأيام طوال.

توقفت أقدام أرسلان جوار الفراش يجلس على ركبتيه جانبه يبتسم بسمة صغيرة وهو يربت على خصلات الصغير بحنان شديد :

_ السلام عليكم يا بطل، مالي أرى وجهك شاحبًا سيف الدين ؟؟

استدارت رأس سيف الدين صوب أرسلان يهمس بصوت منخفض لم يصل سوى له :

_ لم استطع مواصلة الحرب مثلك، أخبرتني أنك استطعت العيش بعد طعنات وإصابات كثيرة وأنك حاربت الآلام، لكنني لم استطع، لقد خسرت الحرب، لست بطلًا.

سقطت دمعة من عيون أرسلان لم يبصرها سوى الصغير، وشعر بجسده يرتجف استعدادًا لموجة بكاء، يبصر في الصغير استسلامًا يقتله .

امسك يده الباردة يحاول أن يتنفس ويتحدث بنبرة لا تظهر غصته التي استحكمت حلقة :

_ أحيانًا يكون الاستسلام قمة الانتصار سيف الدين، والتراجع قمة الشجاعة يا صغيري، احيانًا....

توقف عن الحديث يبتلع غصته ليشعر بيد الصغير ترتفع لتمسح دمعته وهو يردد بصوت خافت وكأنه ينازع الاحتفاظ بروحه للحظات إضافية :

_ سوف أذهب لوالديّ فلا تحزن أرسلان، غدًا نلتقي في جنات النعيم مولاي .

ومن بعد تلك الكلمات لم يسمع أرسلان سوى صوت الصغير ينطق الشهادة ويسلم روحه لبارئه، ليتجمد جسد أرسلان لحظات طويلة وعم هدوء المكان حوله، فقدان شخص آخر كان قشة قسمت ظهره، احتاج ثواني ليتنفس مجددًا بشكل طبيعي .

حرك عيونه في المكان يبصر جسد زيان المنهار في ركن الغرفة يدرك أنه الآن يحيا داخل ذكرى رحيل أبنائه وقد أعاد موت سيف الدين بين يديه دون أن يملك شيئًا يساعده به، ذكرى أليمة له، زيان الآن يسبح بين اوجاعه وقد وشت هزة جسده الصغيرة عن حربٍ ضروسٍ يخوضها في هذه اللحظة .

واخيرًا وصلت عيونه صوب الباب حيث كانت تقف سلمى تستند عليه بأعين شاخصة وجسد مرتجف وهي تبصر في حياتها وللمرة الثالثة موتًا بعد موت والديها، لكن تلك المرة كانت اقسى .

نظرت له سلمى نظرة مرتعبة ليبعد عيونه عنها بهدوء يهتف بصوت منخفض خرج مصحوبًا بغصة واضحة :

_ هل يمكنك مساعدتي فزيان الآن ليس واعيًا بما يحدث ..

تحدثت سلمى بدموع بدأت تجري على وجنتيها تحاول أن تعي ما يحدث حولها :

_ أنا ....هل هو ...هل رحل ؟! 

وبمجرد نطق تلك الكلمات احتقن وجه أرسلان واشتد احمرار عيونه وهو ينهض عن مكانه يحمل معه الصغير بين أحضانه يهمس بصوت منخفض :

_ فقط اعتني بباقي الصغار رجاءً لا اعتقد أن أحدهم ينقصه رؤية رفيق لهم كجثة هامدة، افرغي لي الممر لأمر به .

سقطت دموع سلمى أكثر وهي تهز رأسها بسرعة كبيرة، ثم تحركت بسرعة للخارج تبصر الصغار متجمعين مرتعبين في المكان يبكون والبعض يواجه ما يحدث بأعين شاخصة مصدومة لتهتف بصوت ظهر به صوت البكاء واضح :

_ سوف أفعل، ثق بي .

ارتسمت بسمة باهتة على فمه وكم مقتت سلمى تلك البسمة، هي الآن تفضل بسمته المستفزة والساخرة وأي بسمة أخرى عدا هذه الباهتة الحزينة .

_ أنا أفعل .

وكانت هذه آخر الكلمات التي سمعتها من أرسلان وهي تخرج من المكان تمسح دموعها تبتسم بسمة واسعة تهتف في الصغار بما ظنت أنه قد يصرف انتباههم عما يحدث :

_ مرحبًا يا صغاري ألم تفتقدوا موزي الصغير ؟!

نظر لها البعض بفضول والبعض الآخر لم ينتبه حتى لما تتحدث به، لذا عمدت على التحدث مرة أخرى بصوت مرتفع اكثر وهي تردد :

_ هو مريض في المشفى مسكين لا أحد معه، ما رأيكم أن نزوره جميعًا ؟!

بدأ الإهتمام يتجلى على ملامح الجميع وقد اختارت سلمى موضوعًا مشوقًا يجذبهم، تبصر أنها أصابت هدفها بنجاح ولم تستغرق دقائق إلا وهي تتحرك بالجميع خارج المسكن الخاص بهم صوب غرفتها حيث تحتفظ بموزي بها تعتني بجروحه.

وحينما اطمئن أرسلان أن المكان أضحى خاليًا من الأطفال تحدث بصوت قوي وهو يبصر لجسد زيان الذي يتخذ من ركن الغرفة مأوى له ولذكرياته:

_ زيان هيا انهض، سندفن جسد الصغير الآن .

ختم حديثه يتحرك بجسد الصغير بين أحضانه شارد الأعين وهو يتذكر صوته المتحمس :

" وهل سيتقبلني جيش البلاد بذراع واحدة ؟!"

ابتسم له أرسلان وهو يضع سيفه الخاص بين قبضته :

" فقط انهض وكن بخير يا صغيري وإن أردت جعلتك قائدًا للجيوش بأكملها بدلًا من المعتصم "

اتسعت أعين الصغير بانبهار رغم نبرة أرسلان الممازحة، يتحسس السيف بيده منبهرًا به، وقد سمع سابقًا عن سيف الملك أرسلان والذي يحمل ختم الأسد الخاص به :

" هل ....هل سيكون لي سيف كهذا ؟! حين أصبح جنديًا في جيشك ستعطيني سيف كسيفك هذا ؟!"

سقطت دمعة أرسلان وهو يتحرك به خارج السكن بالكامل وصوت الصغير ما يزال يتردد في أذنه، فقد كان الصغير سيف الدين هو أول الواردين من الأطفال لهذا السكن وقد 
عثر عليه أرسلان جريحًا مشردًا في طرقات المملكة ليقرر حينها أن يخصص مبنى كامل من مباني القلعة لأجل الاطفال الذين فقدوا ذويهم.

 كان أولهم للسكن وسيكون أولهم للجنة .......

ضمه لصدره خائفًا من فكرة أن يكون قد خان عهده أمام الله بالاعتناء بهم، اهتز جسده وهو يخشى أن يقف أمام الله ويسأله عن تقصيره بحق أرواحهم .

ورث عن والده حِملًا وليس مُلكًا ...

خرج بالكامل من السكن يهتف بصوت ميت لأحد الجنود :

_ أيقظ الجميع وأعلمهم أن يتجهزوا لصلاة الجنازة .

نظر صوب وجه الصغير المبتسم يردد ببسمة صغيرة :

_ فقدت مشكى اليوم أحد أبطالها، لنكرمه إلى مثواه الأخير.........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دخلت الغرفة التي تقبع بها بملامح وجه مكفهرة لا تتحدث بكلمة واحدة بينما حارسها الشخصي والذي خرج بوجه مدمر جراء قتاله العنيف مع ذلك العملاق، في اعقابها يحدق فيها بوجه محتقن بالغضب.

ولم تكد تستدير له للتحدث بكلمة واحدة حتى وجدته يصرخ بجنون :

_ فقط ألا يمكنك أن تظلي بمكانك دون افتعال مصائب ؟!

نظرت له توبة برفض لصراخه هذا، ليس لأنه حماها من ميتة وشيكة على يد العملاق المخيف وخرج بجروح غائرة بعدما أسقطه ارضًا، يكون له حق الصراخ بها بهذا الشكل .

رفعت إصبعها في وجهه تردد بصوت محذر :

- أحذرك أن تتخطى حدودك معي سمو الأمير، لا تنس الآن أنك لا تتحدث مع إحدى العاملات في قصر والدك الذي نبذته بكل حمق، أنا الأميرة ...

_ توبة ابنة الملك بارق وأميرة سبز، نعم حفظتها لهذه الكلمات وخمني ماذا؟! جسدي لا يرتعش خوفًا لذكر كل تلك الكلمات على مسامعي في كل مرة تتشاجرين بها معي، وإن كانت مكانتك كابنة للملك بارق وأميرة لسبز تقيكِ شر الفواجع وتحميكِ مكر الشياطين لما كنتِ هنا تتحدثين معي بعدما كدتي تقتلين على يد مختل .

ختم حديثه وهو يتنفس بصوت مرتفع وقد وصل لحافة صبره منها، لكن يبدو أنه لم يكتفي بعد من تلك الكلمات التي شحبت على أثرها توبة وهي تخفض اصبعها ببهوت، بل أكمل كلماته بغيظ شديد :

_ ترفضين الثقة بي لإخراجك من هنا، وتثقين بعقلك المتهور ؟؟ أنتِ امرأة غريبة ..

نظرت له بشر تعض شفتيها وهي تبحث عن رد يلجمه عن محاولات تذكيرها بحقيقة تهرب منها، لكن كل ما وجدته في عقلها هو كلمة مغتاظة غاضبة :

_ أنت أكثر الرجال لُئمًا وخبثًا وإثارة للغضب نزار، أنا اكرهك، واشكر كل الظروف التي أدت لعدم تقاطع طرقنا مسبقًا .

ابتسم لها نزار وقد علم أنها حُشرت لتوها في الزاوية فاتسعت بسمته أكثر يستفزها أكثر وأكثر وكأنه لا يصدق أن الحياة اهدته لتوها فرصة أن يكون الكفة الراجحة في هذه العلاقة المعقدة :

_ من يدري ربما كان كل ذلك تجهيزًا للقاء اكبر لا يليه فراق سمو الأميرة .

رفعت توبة عيونها له بشر ليبتسم لها بسمة واسعة، جعلتها تبعد عيونها عنه تهتف بجدية وضيق من كلماته تلك :

_ ليس هناك لقاء سيستمر للنهاية، مصيره أن ينتهي ولو كان بموت أحدنا..

_ أنت أكثر امرأة متفائلة علمتها في حياتي، لكن لا بأس ربما تنتهي بموتي أنا ..

وللعجب ارتجف صدرها لهذه الفكرة، يموت على معصيته؟! ورغم كل القيم التي يحتفظ بها لا يزال ملوثًا بدماء العديد من الأبرياء الذين شارك بشكل أو بآخر في ابادتهم.

أبعدت عيونها عنه تسأل ولاول مرة بصوت خافت متردد :

_ هل يمكنك اخباري سبب فعلتك تلك ؟! 

نظر لها نزار ثواني قبل أن يبعد عيونه عنها، لتقترب هي منه خطوات مترددة قربتها منه جسديًا لكنها في هذه اللحظة كانت بعيدة عنه كثيرًا إذ غادرت روح نزار جسده صوب ذكريات لا يفضل تذكرها، أما عنها فلم تتوقف عن التساؤل :

_ امير وطبيب وقائد جيوش دولة وولي العهد والملك المقبل لآبى بعد الملك آزار، غني وتمتلك زوجة وحياة هانئة، ما الذي كان ينقصك لتجلس يومًا وتفكر في الغدر بدينك ووطنك وشعبك !؟

نظر لها نزار نظرات الشخص المقيد والمعذب، ثم ابتسم بسمة صغيرة يهتف بصوت خافت وصل لها مجروح :

_ الشيطان لا يحتاج مبررات ليوسوس للإنسان، هو فقط سيستغل لحظات ضعفك ويدخل لك من ثغرات ما كنت تتوقع يومًا أنك تمتلكها، يدخل لك من نقاط ضعف ما ظننت يومًا أنك تحتويها داخل جسدك .

صمت ثم ابتسم بسمة مقهورة ينظر داخل عيونها هاتفًا :

_ أما عن سؤال المعلق السابق عما إذا كنت أعلم عدد الضحايا الذين ضاعوا بسبب غبائي أو كيف أنام ليلًا فأخبرك أنني لا أفعل، ليس الآن على الأقل، لن أنام مرتاح البال يومًا حتى أحقق ما أرنو إليه.

حدقت به ثواني قبل أن تتساءل :

_ وما هو يا ترى ؟! المزيد من الضحايا ؟؟

ابتسم نزار بسمة صغيرة سرعان ما انقلبت لضحكة صغيرة وهو يبعد عيونه عنها يمسح وجهه يهتف بصوت مقهورة :

- لا، يكفيني عدد الضحايا الذي نلته، لا أطمع بالمزيد في الواقع ..

_ ومن أخبرك أنه ليس هناك المزيد من ضحاياك ؟؟

نظر لها بعدم فهم وكأن جملتها لم تصل لخلايا عقله، وهي فقط ابتسمت بسمة مقتولة تهتف بصوت كان كالسياط يهبط عليه يجلده مرات ومرات :

_ هناك من رحلوا ودُفنوا بأجسادهم تاركين خلفهم المزيد يعاني بأرواحهم، ما يزال هناك أرواح عالقة في هذه الحياة بسبب ما حدث لهم على أيدي المنبوذين، منهم من يناضل لأجل روحه ومنهم من استسلمت روحه، هناك المئات يُقتلون يوميًا وهم على قيد الحياة نزار ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان الجميع مصطف أمام النعش يصلون صلاة الجنازة على الصغير الذي لم يبصر من الحياة سوى لمامًا، ثم ذاق من العذاب كؤوسًا حتى اختار الاستسلام للموت .

كان جميع رجال القلعة مجتمعين يصلون على الصغير وبعدما انتهوا، حمل أرسلان النعش من جهة والمعتصم من جهة وفي الخلف رجلين من قادة الجيش، في حين أن زيان كان يتبعهم بنظرات شاخصة وكأن قوته لم تساعده في حمل النعش، يشعر بنفس الوجع، ذات الوجع يوم حمل نعش ابنائه وزوجته، حينها كانت جميع أطرافه ترتعش وهو يقودهم صوب القبر .

ما يزال يتذكر ذلك اليوم وكأنه اليوم، ارتعشت يده وهو يسمع الجميع يدعو للصغير، وذكرى الدعوات لصغاره وزوجته ذلك اليوم يتردد، ما يزال يرى أمامه جسده الجالس أمام القبور بعجز بعد رحيل الجميع يفكر كيف سيحيا وحيدًا .

لكن الله حشاه أن يلقي له بحمل يعلم أن لن يتحمله، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ...

كل ذلك كانت تراقبه سلمى من نافذتها في الأعلى بأعين ممتلئة بالدموع، تودع الصغير الذي ربما لم تتصادف معه سابقًا إلا مرات قليلة لم تعلم حتى بها اسمه، لكنها تشعر بالوجع والانقباض بصدرها، فما بالك من عاشره وعلمه وتحدث معه سابقًا ولو مقدار نصف كلمة .

وصل الجميع لجزء المقابر الخاص بالقلعة، وتحديدًا رقعة القبور المخصصة للجنود و الشهداء، يشير أرسلان لهم أنهم سيدفنونه معهم ..

شرع الجميع يدفنون الصغير وأصوات الدعاء يرن صداها في المكان، وبالنسبة لرجال حرب اعتادوا أن يبصروا رؤية القبور والاجساد التي خلت من أرواح أصحابها، لكن القلب يومًا لم يألف الفقد أو الموت .

انتهى الجميع مما يفعل وقد كان أرسلان هو من دفنه، ثم استقام يراقب القبر وقد بدأ الجميع يتحرك ليقفون أمام القبر بهدوء شديد ليردد أرسلان قوي :

_ لا تنسوا أخيكم من الدعاء بأن يثبته الله فإنه يُسأل، وليلحقنا الله به في الجنات بإذنه...

ختم حديثه وشرع الجميع يدعون له بالثبات وارسلان يراقبه لمدة دقائق حتى بدأ الجمع ينتفض كل يتحرك صوب مسكنه بقلب مزخم بالاحزان، ليرحلوا واحدًا تلو الآخر تاركين أرسلان ما يزال يراقب القبر بأعين شاردة. 

والمعتصم في الخلف يتابعه بقلق يهمس له :

_ مولاي أنت بخير ؟!

هز أرسلان رأسه بنعم :

_ بخير يا المعتصم، بخير ...

انتهى من حديثه يتحرك صوب القبر ينتزع سيفه من ثيابه، ثم غرزه جوار القبر، واستقام يطالع القبر بنظرة حنونه وكأنه ينظر لوجه سيف الدين نفسه وليس قبره :

_ لن تحصل على مثل سيفي، بل ستناله نفسه سيف الدين، والله لا يستحق سيفي غيرك أيها البطل، ليتغمدك الله برحمته ويثبتك عند السؤال والحقنا بك وبالشهداء في جنات الفردوس. 

أمن المعتصم وزيان خلفه على الدعاء:

_ آمين .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت تجلس في منزلها تراقب الجدار أمامها بأعين زائغة لا تشعر بشيء حولها لشدة شرودها وكأنها انفصلت عن عالمنا واستبدلته بعالم آخر.

فجأة انتفض جسدها بسبب طرق عنيف على الباب، نظرت حولها برعب وهي تنادي والدتها :

_ أمي هل تنتظرين أحد ؟؟

لكن لم يصل لها صوت والدتها لتستوعب فجأة أنها خرجت منذ ساعات تاركة إياها وحدها، ابتلعت ريقها تتحرك صوب الباب بريبة تخشى أن يكون الملك قد غير رأيه وأرسل لها جنوده ليسحبونها صوب السجن مجددًا أو ليجلدها. 

لكن ما إن فتحت الباب وتفاجئت بوجه الزائر حتى ارتخت ملامحها شيئًا فشيء وهي تراه يبعد قلنسوة عن وجهه مرددًا :

_ مرحبًا سراي، كيف حالك خارج أسوار سجون مشكى ؟!

ابتسمت سراي بسمة واسعة وهي ترحب بذلك الشخص، لكن دون أن تتزحزح من أمام الباب :

_ مرحبًا بك، كيف ...كيف علمت اين أسكن ؟!

_ أنا أعلم كل شيء سراي، والآن دعينا من هذا الحديث، هل نفذتي ما اتفقنا عليه سابقًا !!

هزت سراي رأسها سريعًا وهي تردد بصوت منخفض :

_ أنا احرص على وضع الاعشاب في فطورها كل صباح، كما أنني حصلت على كل ما طلبته مني، لكنني لا أفهم حتى سبب كل ما تفعله الآن ؟! 

_ ليس شرطًا أن تفهمي كل شيء بقدر أن تعلمي أنني أفعل هذا لمصلحة مشتركة لنا .

_ حتى هذا أنا لا أعلمه، ما مصلتحك في خروج تلك الفتاة من مشكى أو حتى اذيتها ؟!

_ وهذا أيضًا ليس ضروريًا أن تعلميه، فقط نفذي ما أخبرك به، وحينما تنتهين يمكنك العثور عليّ محل اللحام الذي يقبع في السوق الجنوبي، هذا إن احتجتي لشيء .

نظرت له بجهل تحاول فهم ما يريده، لكن فقط تحدث بهدوء وهو يمد لها مخطوطة صغيرة بها خطوتها التالية:

_ أكملي ما أخبرتك له، وصدقيني إن اعجبت النتيجة سيدي فسوف تنالين ما لم تتخيلينه يومًا .

_ سيدك ؟! ومن سيدك يا ترى ؟! 

نظر لها نظرة غامضة قبل أن يهز رأسه هزة لا معنى لها ويتحرك بعيدًا عنها تاركًا إياها تراقبه بأعين مترددة وهي تشعر بانقباضة في صدرها، أشخاص لا تعلم هويتهم ولا غرضهم ولا حتى خطتهم، الأمر مرعب أن تتعامل مع أشخاص لا تعلم عنهم سوى القليل .

نظرت للأوراق بيدها والتي يذكرون بها خطوتهم التالية، ورغم قلقها المستمر إلا أن الشيطان استغل ترددها ما بين التراجع والاستمرار ليدفعها دفعًا صوب الهاوية .

قبضت على الأوراق تدخل المنزل مجددًا وهي تفكر في القادم والذي كان يستدعي زيارة قصيرة لمنزل نجوم والتي أضحت حاليًا عيونها داخل القصر ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ساعدت العاملات في إعادة الاطفال صوب أسرتهم متلاشين التحدث عما حدث وكم كان ذلك سهلًا فالصغار لعبوا حتى تعبوا مع موزي والآن انتهت من مساعدتهم وتحركات للنوم ساعات قليلة قبل الشروق ..

تحركت وما كادت تدخل غرفتها حتى توقفت أقدامها فجأة تتذكر ملامح أرسلان التي شطرت قلبها نصفين، ابتلعت ريقها تتحرك متراجعة تود الاطمئنان عليه قبل الخلود للنوم .

لم تعلم أين تبحث، لكنها وجدت نفسها تتحرك تلقائيًا صوب الشرفة التي اعتاد أن يقف بها، وكم سعدت حينما ابصرته يقف هناك شاردًا بأعين لا تبصر سوى الفراغ والظلام حوله.

ترددت في الاقتراب منه، لكنها في النهاية فعلت وهي تبتسم بسمة صغيرة لا تعلم أتخدع بها نفسها أم توهمه هو :

_ مولاي ...

اغمض أرسلان عيونه لثواني حين سمع صوتها يعلو خلفه، ولم يستدر لها ربما لشعوره أنه يرفض في عرض لحظات حزنه هذه أمام أحدهم، وخاصة إذا كانت هي ذلك الاحدهم .

اقتربت منه خطوات مترددة خوفًا أن تكون متطفلة، ولم تدري أنه في هذه اللحظة كان في أشد الحاجة لرفقة، لكنه لم يكن يأمل أن تكون هي هذه الرفقة وتشهد انهياره المختبأ خلف نظرات الثبات .

استدار لها ببطء يمنحها نظرة صغيرة، قبل أن يبتسم بسمة لا معنى لها يبعدها عن الأمر الذي تنطق به عيونها، فهو لا يود التحدث والافاضة بما يشعر به مع أحدهم في هذه اللحظة، وكما اعتاد كتم وجعه داخله يهتف :

_ هل وجودك هنا في هذه اللحظة يعني أنكِ سامحتني ؟!

اطالت سلمى النظر بعيونه ثواني قبل أن تبتسم بسمة صغيرة، ثم هزت رأسها هزة صغيرة تقترب من سور الشرفة أكثر تهمس له :

- الآن فقط فعلت حين أبصرت تلك النظرات التي تبدو كما لو أنك أنك تتوسلني لاسامحك .

رفع أرسلان حاجبه وقد بدا أنه انفصل عن حالة الشجن التي دخل لها لثواني، وقد على التشنج ملامحه مستنكرًا حديثها :

_ ماذا ؟! أتوسل ؟؟ أتوسل ماذا ؟؟ لم ولن أتوسل لأجل شيء في هذه الحياة، فلن آتي اليوم واتوسلك ولو بنظراتي حتى .

ارتسمت بسمة صغيرة على وجه سلمى والتي علمت يقينًا كيف تخرجه من الحالة التي كاد يسجن بها نفسه، تتنفس بعمق وهي مغمضة العيون تستقبل هواء المساء البديع بعد هذه اللحظات الثقيلة على الروح .

_ لا بأس جلالة الملك، لكل قاعدة شواذ ولكل حالة نهاية، وحالة الكبرياء التي تغرق بها الآن لابد لها من نهاية، وسيأتي اليوم الذي تتوسل به لأجل شيء ترغبه من اعماق اعماق اعماق قلبك .

كانت تتحدث وهي ما تزال بنفس وضعيتها، وهو فقط يراقبها بأعين متأملة شاردًا دون أن يجيب جملتها، ليس لأنه لا يجد ردًا كعادته، فهو يمتلك من الردود الكثير، لكن كل ذلك الكثير تلاشى في حضرتها ...

_ لم أرغب يومًا في شيء ولم أحصل عليه، يمكنني الحصول على ما أريد دون التوسل لأجله.

فتحت سلمى عيونها تبتسم بسمة صغيرة تناقشه بكل جدية :

- بالقوة إذن ؟؟ 

_ بل باللين آنستي .

نظرت له بعدم فهم ليوضح لها بهدوء شديد وببساطة :

_ ربما يعتقد الجميع أنني أنال ما أريد بالقوة ولربما تساعدهم نظراتي وهيئتي الخشنة في الأمر، لكنني لا استعمل القوة ابدًا مع ما أريد آنستي، فما أريده لا أحب أن يتحطم تحت وطأة قبضتي إن استعملت معه القوة وسيلة .

نظرت له سلمى بصدمة من كلماته التي أثارت داخلها مشاعر مجهولة لا تفهمها البتة، لكنها ابتسمت دون شعور وهي تهمس بصوت منخفض تنظر له :

_ من أخبرك أن هيئتك توحي بالشراسة التي تصفها جلالة الملك ؟؟ 

ضمت قبضتيه خلف ظهره يحرك كتفه هامسًا بكل هدوء : 

_ الجميع آنستي ..

ابتسمت بسمة صغيرة تبعد عيونها صوب السماء هامسة بصوت وصل له واضحّا وقد ارتعش قلبها للمرة التي لا تعلم عددها بعد سماعها ياء الملكية التي اضافها في حديثه : 

_ إذن اسمح لي بالقول أن الجميع يمتلك مشكلة بنظره مولاي .

نظر لها ببسمة لم يشعر كيف نبتت حتى على فمه، وهي هزت رأسها له تكمل حديثها الذي جعله يشعر أنه كان شفافًا أمام عيونها إذ لم يأخذ الأمر منها بضعة أسابيع لتكتشف ما يخفي داخل صدره، والبعض استمر معه سنوات دون حتى أن ينتبه لما يعتمر قلبه. 

_ أنت لا تظهر لي شرسًا، ولا تظهر لي متجبرًا كما يصفك البعض أو حتى متوحشًا حقيرًا كما كان يصفك كلٌ من صامد وصمود .

انكمشت ملامح أرسلان بتحفز يتوعد داخل صدره لهذين الاثنين بالويل إن ابصرهما، لتكمل هي بضحكة حين رأت انكماش ملامحه :

- أنت أكثر براءة ولين من كل تلك الصفات جلالة الملك. 

رفع حاجبه بضيق من تلك الأوصاف التي لم يستسيغها البتة لتكمل هي :

_ تعاملك مع الصغار ومع شقيقتك ومع شعبك لا ينبع من شخص خشن الطباع أو غيره، إن أردت الحق فوالدك هو من يحق وصفه بكل تلك الصفات .

تعجب أرسلان ما تقول يهمس بعدم فهم وصدمة :

_ والدي ؟! وما أدراكِ بوالدي ؟!

نظرت له سلمى نظرة خطرة تهمس بصوت منخفض :

_ أوه الكثير مولاي، أنا أعلم عنك الكثير فاحذرني فأنا اخطر مما أظهر في العادة لو كنت تعلمني تمام العلم لاتخذت ساترًا بعيدًا عني .

ختمت جملتها تضحك بخفوت وهي تعود للشرود بالسماء تحت نظراته المحدقة في وجهها وعلى طرف لسانه تقبع كلمات كبتها داخل صدره .

" وكأن تحذيرك تأخر بعض الشيء سلمى " 

كلمات لم يفضي بها، يبعد عيونه عنها بصعوبة ينظر صوب المكان حوله بشرود .

أخرجه من شروده صوتها وهي تهمس :

_ أنت بخير صحيح ؟!

ولم تسمع منه ردًا فقط أخذ ينظر للمكان حوله بأعين ضبابية تأبى التحرك صوب عيونها وكأنه يهرب من الإجابة، ولخبرتها الطويلة في هذه الأمور علمت أنه يتلاشي التحدث عما حدث وهي ستفعل المثل تعود بنظراتها للسماء وهو تحرك بعيونه نحوها حينما شعرت بأنها فكت حصار نظراتها عنه .

_ إذن لم تخبرني ماذا تفعل هنا عادة، أراك طوال الوقت تقف في هذه الشرفة .

ابتسم بسمة صغيرة يردد دون وعي وهو يراقب ملامحها :

_ اتأمل صنع الله ...

تعجبت سلمى كلماته وهي تستدير له ليبعد هو عيونه عنها بسرعة يدعي انشغاله بتأمل المحيط، وهي فقط رددت بصوت خافت :

_ يبدو هذا ....جميلًا .

نظر لها بتردد لتهمس هي بصوت خافت وهي تشرد في ملامحه :

_ أنت ألطف من الشخص الذي تحاول جاهدًا إظهاره جلالة الملك .

نظر لها ولأول مرة منذ بداية السهرة ينظران مباشرة بأعين بعضهما البعض، ولحظات هي لا يدركون عددها اطالوا التحديق في الأعين وكأن كل منهما يبحث عما فقده خلال حياتهما داخل عين الآخر..

وكان أول من أبعد عيونه هو أرسلان الذي شعر بفداحة ما يفعل يهمس كي يكسر حالمية هذه اللحظة مخافة أن يستغلها الشيطان ويحتسب نفسه ثالثًا في جلستهما. 

_ إذن أنتِ سامحتني على خطأي صحيح ؟!

_ نعم سامحتك ولم اغفر لك .

رمش أرسلان دون وعي لكلماتها :

- عفوًا وما الفرق ؟؟

_ سامحتك على كلماتك ولم اغفر لك فعلتك، هذا هو الفرق جلالة الملك. 

_ أنتِ يا امرأة ....

_ ها لا تثقل ميزانك لدي مولاي، فأنا غاضبة أكثر مما تتخيل وكلما فكرت بالتهاون معك تذكرت كلماتك التي كانت حادة كالسيف .

عض أرسلان شفتيه بضيق ينفخ بصوت مرتفع وهو يحرك نظراته للأمام بعيدًا عنها يبحث عن كلمات، حتى خرجت كلمات مغتاظة منه ساخرة من أحلامها الوردية بأن يسعى ويبحث عن طريقة لنيل غفرانها وكأنه يموت لأجل ذلك : 

_ وكيف أنال غفرانك جلالة الملكة سلمى ؟! 

وكم استشعرت بحلاوة اسمها من فمه، لكنها رغم ذلك تجاوزت عن ذلك اللقب واسمها الذي خرج منه دون شعور تقول :

- لا تطلب من شخص معرفة كيف تنال غفرانه عليك أن تنال ذلك بنفسك، يمكنك بذل بعض الجهد لأجل الأمر جلالة الملك لتعلم بما اهتم أنا لتحصل على ما ترنو له، يمكنك إرهاق عقلك بالتفكير لبعض الوقت، كما أرهقت لسانك بإهانتي 

ختمت حديثها تتحرك بعيدًا عنه تحت عينه التي لاحقتها حتى اختفت عنه ليتنفس بضيق شديد وهو ينظر صوب السماء يدعي عدم الاهتمام رافضًا إضاعة وقته في التفكير لطلب الغفران منها .

في نفس الوقت الذي سمع صوت المعتصم يقتحم المكان وهو يهتف بجديًا :

_ مولاي ...

استدار له ارسلان يبتسم له بسمة صغيرة تعجبها المعتصم إذ ظن أنه سيأتي ليراه يرثي ذاته وينهار، وفي الحقيقة هو كان هكذا قبل أن تقتحم هي صحراءه القاحلة تنشر زهورها وتوزع عبيرها في الإرجاء مخلفة خلفها حديثه مزهرة بدلًا من تلك القاحلة .

_ اقترب يا المعتصم .

تحرك له المعتصم بهدوء وهو يهتف بصوت منخفض :

- عساك بخير حال !!

_ الحمدلله ..

_ هل ...طلبتني ؟؟

تنفس أرسلان بصوت مرتفع وهو يهز رأسه، ثم قال بصوت خافت :

- نعم، كنت أريد منك أن تساعدني .

_ بروحي مولاي .

_ حفظ الله روحك يا المعتصم، أنا فقط أود أن.... أود بعض الأفكار لتعويض الصغار، هل تساعدني؟؟ أعني أريد أن أوفر لهم الكثير من الأشياء كالتعليم وغيرهم من الأشياء الواجبة .

نظر له المعتصم بعدم فهم ليبعد أرسلان عيونه يهتف بغضة استحكمت حلقه دون شعور :

_ فقط لا ...لا أريد أن أقف بين يديّ الله وأُسأل عن تقصيري في حقهم يا المعتصم .

هتف المعتصم بلهفة وكأنه يحاول نفض غبار الذنب الذي يتهيأ لأرسلان أنه يلوث ثوبه :

_ لكنك بالفعل لا تقصر مولاي، لم تقصر يومًا مع أحد هنا، وإن فعلت وقصرت فالشخص الوحيد الذي قصرت بحقه كان أنت نفسك .

ابتسم له أرسلان بسمة موجوعة :

_ سيكون هذا اهون عليّ من التقصير في حق غيري وخاصة لو كان هذا الآخر هو طفل لا ذنب له في الحياة بشيء، ساعدني لعلي اعوض الصغار عن القليل مما فقدوه .

ابتسم له المعتصم وهو يهز رأسه ليبتسم له أرسلان ثم هتف بعدما تذكر فجأة شيئًا ما :

_ صحيح لم تخبرني كيف هو حال فاطمة ؟؟

ابتسم المعتصم بسمة واسعة وكأن مجرد استحضار اسمها في جلسة يجلب له سعادة الدنيا وما فيها، وقد اشرق وجهه فجأة بشكل غير طبيعي جعل أرسلان يرفع حاجبه بعدم فهم .

لكن الصدمة كانت حين سمع صوت المعتصم يردد بلهفة :

_ أوه فيما يخص فاطمة فأنا كنت ...كنت أريدك أن تساعدني في .... أنا أريد الزواج بها .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت ساجدة تدعو ربها بكل ما يعتمر صدرها، وحينما فرغت من صلاتها أغمضت عيونها على وشك أن تحظى بنومة سريعة قبل أن تتكالب عليها اوجاعها أو تستيقظ همومها من نومها الخفيف .

لكن لم تكد تفعل الأمر، حتى سمعت صوت طرق على باب الغرفة الخاصة بها، رفعت عيونها تزفر بضيق تتعجب مقدرة ذلك الرجل على تحمل سُمية كلماتها، فهي منذ ساعة تقريبًا اسمعته من الكلمات أكثرها لذاعة، والآن يأتي بكل بساطة يطرق بابها .

_ ارحل نزار فلا قِبل لي بالتحدث معك في هذه اللحظة وقد اكتفيت لهذا اليوم .

فجأة وعلى عكس المتوقع وجدت الباب يُفتح ووجه شبه مألوف يطل عليها ببسمة غريبة استنكرتها توبة تهمس بضيق :

_ هذه أنتِ ؟؟

_ هل يمكنني الدخول ؟؟

رمقتها توبة طويلًا دون رد ولم تعلم ما الذي يجب فعله، فالمرأة أمامها ساعدتها أكثر مما تتوقع وهي تدين لها بالكثير، لكن مكانتها وما تفعله هنا يجعلها تحذرها، ما ادراها أن تكون مساعدة لأنمار ومعينًا له في أمر هي لا تدركه ؟!

ويبدو أن لطمات الحياة تركت أثرًا لا يُمحى داخل روح توبة والتي لم تكن تمنح ثقتها لأيٍ كان بسهولة :

_ هل هناك ما تحتاجينه مني ؟؟

حاولت صبغ صوتها بنبرة محايدة لا تظهر نفورها منها، وايضًا لا تظهر لينًا وهي لم تدرك بعد ما تسعى إليه تلك الفتاة الغريبة .

ابتسمت الفتاة وهي تقترب منها بتردد وقد شعرت براحة نسبية لسماع سؤال توبة :

- جئت اطمئن أنكِ بخير ؟! هل تحتاجين لشيء ؟؟

وحسنًا الأمر يزداد غرابة وهي لا تستطيع أن تأمن طرف المرأة، وظهر ذلك على ملامح وجهها وهي تحدق في وجه نازين بنظرات مرتابة، تراجعت خطوات قليلة للخلف جعلت بسمة نازين تتسع أكثر وهي تهمس :

– لا تخافي فأنا لن أضرك .

_ حتى إن اردتي ما استطعتي .

اتسعت بسمة نازين بشكل مريب جعل توبة تخشى أي غدر منها أكثر من ذي قبل، ونازين بمجرد أن أبصرت نظراتها حتى انطلقت ضحكاتها بشكل مريب تهتف من بينهم:

- هذا الكبرياء وهذه الشراسة تذكرني بأحدهم، حسنًا سمو الأميرة اطمئني فأنا لا انتوي كل هذا وإلا ما ساعدتك من الأساس. 

نظرت لها توبة بشك لتنظر لها نازين نظرة باردة وهي تستعيد كل ما حدث داخل عقلها، فمنذ وطأت المكان وهي تحرص على ألا يطال توبة أذى من أنمار.

تنهدت بصوت مرتفع :

- فقط أردت الأطمئنان واخبارك أن اليوم ستخرجين من هنا ولا تعاندي رجاءً، إن علمتي ما يحضر لكِ ذلك الحقير أنمار لهربتي إلى ما بعد القطبين منه .

صمتت ثواني ثم أكملت :

_ اطيعي سمو الأمير نزار فهو يتكلف الكثير هنا فقط كي يساعدك .

همست توبة بغضب ساخر بعض الشيء :

- يبدو أن الأمير نزار يعني لكِ الكثير لتشفقي عليه من امرأة مثلي .

اتسعت أعين نادين بصدمة من كلماتها، قبل أن تبتسم بسمة صغيرة لا معنى لها تهز رأسها رافضة :

- أوه نعم الكثير، لكن ليس بهذه الطريقة التي تفكرين بها، هو مجرد شخص ذو مروءة اساعده كما أساعدك.

_ اعذريني، لكنني لا أرى أحد هنا يحتاج مساعدة بقدرك، أنتِ تغرقين بالوحل يا ابنتي .

اتسعت بسمة نازين بقوة وقد التمعت عيونها بشكل مثير للرعب هاتفة بتصميم مريب :

_ أنا غرقت بالفعل، وتبقى فقط أن اسحب الباقيين معي للقاع.

ختمت حديثها تتحرك صوب باب الغرفة لتوقفها توبة سريعًا وهي تردد بجدية :

- مهلًا ما الذي تقصدينه وما غرضك من كل تلك المساعدة التي تعرضينها بسخاء ؟!

تحدثت نازين دون أن تتوقف حتى وهي تخطو للخارج بملامح مظلمة وبسمة لا معنى لها وصوت وكأنه خرج من اعماق سحيقة :

_ لنقل أنه حساب قديم يتم تصفيته مع ذكر الخنزير أنمار وسلالته أجمعين.

توقفت أقدامها فجأة حين سمعت صوت توبة تردد دون شعور منها :

_ هل ...اذاكِ أنت الأخرى ؟!

تنفست نازين وقد أصبحت عيونها حمراء بشكل مخيف تشعر يصدرها يشتعل :

_ بل قتلني، وقتل كل من يعني بي في هذه الحياة ...

ومن بعد تلك الكلمات تبخر طيف نازين وكأنها لم تكن موجودة حتى في المكان بأكمله، تاركة توبة تراقب أثرها وقد شعرت بقلبها يرتعش تحت وطأة الكلمات التي نطقت بها للتو نازين، تفكر في كلماتها .

إلى أي مدى وصل أنمار بحقارته معها ؟! 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ المعتصم هل أنت جاد ؟! تريد الزواج منها الآن ؟!

رمش المعتصم ويبدو أنه لم يفهم ما يقصد أرسلان واجاب بكل بساطة وهدوء وسطحية إذ لم يصل له المعنى المقصود من السؤال لشدة توتره وخجله من النظر حتى صوب أرسلان:

_ بالطبع ليس الآن اخطط للذهاب غدًا لوالدتها والتحدث معها فيما يخص مرضها، وايضًا التلميح لها بالأمر ورؤية ما ستكون عليه ردة فعلها ايزاء الأمر.

- المعتصم يا عزيزي، ليس هذا ما قصدته بسؤالي، بل أنا قصدت الآن وقبل أن تنتهي فاطمة من علاجها ؟!

صمت ثواني ثم هز رأسه يفكر في الأمر:

_ اعتقد انه عليك التحدث مع ابنة رائف وسؤالها عن الأمر، ومعرفة إن كان يمكنك الزواج بها وهي بهذه الحالة .

تعجب منه المعتصم ولم يتقبل تلك الكلمات يجيب بتحفز واستنكار شديد :

_ أي حالة تقصد ؟! فاطمة بخير، هي لا تعاني شيئًا مريبًا هي فقط تعاني ذكريات مريرة و....

وقبل إكمال جملته المتحفزة قاطعه أرسلان وهو يرفع كفه في وجهه يهتف بجدية :

_ حسنًا حسنًا أنا لم أقصد كل ذلك، فقط يمكنك التحدث مع ابنة رائف ومعرفته ما وصلت له مع فاطمة والتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام .

تراجع المعتصم فورًا عن تحفزة وكأن الإدراك ضربه فجأة لينتبه فجأة مع من يتحدث، اشتد إحراجه، يتراجع للخلف بهدوء وهو يهز رأسه متنحنحًا بصوت منخفض :

_ أنا لم أقصد ....لم اقصد ما قلته للتو وتلك الطريقة التي تحدثت بها لم اقصد أنا فقط لا أحب أن يتحدث أحدهم عنها بـ..... أنا أعتذر منك مولاي لم اقصد .

نبتت بسمة واسعة على فم أرسلان يطالع المعتصم بدقة، يربت على كتفه بهدوء وقد غامت عيونه بمشاعر لا يفهمها أو ربما يدركها لكنه يتجاهلها :

_ لا بأس يا المعتصم، إذن أخبرني هل زواجك منها نابع من مشاعر تجاه الفتاة أم هي مجرد شفقة ؟!

على الاستنكار ملامح المعتصم يردد الكلمة بنظرات غريبة وكأنه يبصقها بعدم استساغة، وقد أثارت تلك الكلمة استياءه ولولا ذرات عقله التي يحتفظ بها في ركن يعيد داخل رأسه، تحديدًا بعيدًا عن متناول أرسلان وفاطمة، لكان أجابه بإجابة لا تمت لأخلاقه بشيء.

 يصف كل عذابه وارقه ليالٍ طوال بكلمة شفقة ؟! 

أيا ليته صدق وتوقف الأمر عند حدود الشفقة لكان أهون عليه من فورة مشاعره التي تتحرك بجنون جوار فاطمة، كلما اهدته طبق حلوى، أو كلما منحته بسمة منها، أو كلما كافئته بنطقها اسمه بلهجة خاصة بها هي .

_ شفقة ؟! 

كانت نبرته مستنكرة بشكل جلب البسمة لوجه أرسلان الذي أبعد عيونه يحركها في المكان يدعي أنه يفكر في الأمر :

_ نعم ربما تكون شفقة على فتاة صغيرة تعرضت لـ...

فجأة توقف عن الحديث دون أن يستطيع إكمال ما علق داخل حلقه من كلمات وقد سافرت عيونه لإحدى الجهات بشكل مريب يضيقها يحاول فهم ما يراه، في حين أن المعتصم تعجب توقفه عن الحديث يتقدم منه صوب الشرفة :

_  تعرضت لماذا ؟! أنت تتحدث عن الفتاة وكأنها تـ ..

فجأة توقفت الكلمات الخارجة من فمه حين أبصر كف أرسلان يرتفع في وجهه وعيونه معلقة على شيء في الحدائق أسفلهم .

تغيرت مسار نظرات المعتصم وهو يحرك نظراته صوب الاسفل يبصر نفس المشهد الغريب يُعاد أمامهم، نفس الشخصين اللذين يقفان في معزل عن أعين الجميع وكأنهما لم يجدا أفضل من الحديقة لممارسة تلك الأفعال المقززة .

شخص يرتدي معطفًا وآخر يتضح من بنيته الجسدية أن رجل، يضم له الجسد الأول يرتكن به للجدار في عناق طويل وكأنه عاشق التقى معشوقه بعد طول انتظار .

وهناك في الأعلى كان يقف يراقب ما يحدث بأنفاس مسلوبة ووجه شاحب وقلب مضطرب، ابتلع ريقه بصعوبة يبصر شعاره الذهبي الخاص يتحرك بانسيابية مع حركة الجسد الذي يقبع بين احضان الشخص الآخر.

وقبل أن يأخذ عقله فرصته لرسم أفكاره الخاصة وكتابة وصف أسفل المشهد الذي يُعرض أمامه، سمع صوت المعتصم يخرج بضيق وغضب وقد نفر بعيونه عما يرى :

_ هذان مجددًا ؟!

ودون شعور خرجت كلمات أرسلان مصدومة وهو يشعر بالصورة تتحول لضباب أمامه:

_ مجددًا ؟! 

نظر له المعتصم يقص عليه ما أبصره في المرة الأخيرة، بينما ملامح أرسلان تحتد شيئًا فشيء، ولم يكد ينتهي مما يخبر به أرسلان حتى تحرك الأخيرة بخطوات شبه مهرولة صوب الأسفل وهو يرى جحيمًا يشتعل أمام أعينه في هذه اللحظة، يتحرك بخطوات متعجلة صوب ذلك الركن الذي أبصر به الاثنين، يحاول إقناع عقله أن كل ذلك ما هو إلا محض تراهات .

لكن وحين وصل للمكان لم يبصر سوى طرف أحدهم يركض بشكل مرعب وكأن موته يلحق به، اشتدت نظرات أرسلان وهو يركض خلفه وقد على التصميم عيونه .

وحينما خرج من ظلام الحديقة لضوء الساحة توقفت أقدامه وهو يدور حول نفسه متنفسًا بصوت صاخب وقد تبخر الظل الذي كان يطارده منذ ثواني وكأن صاحبه قد أمتلك غبارًا سحريًا يساعده في الاختفاء أو ما شابه .

ودون ثانية تفكير تحرك بسرعة كبيرة صوب مبنى الغرفة وهو يشعر بصدره يشتغل :

_ هذا ليس صحيحًا، هذا ليس صحيحًا .

ولا يدري السبب أو ربما يدري وينكر، لكنه في هذه اللحظة كان جحيمًا يتحرك على قدمين وهو يرى كل المكان حوله باللون الأحمر ينتظر همسة ليجز عنق ناطقها .

وصل واخيرًا لغايته، يتوقف أمام باب غرفتها يطرقه بقوة مرعبة ينتظر أن تطل عليه سلمى ويطمئن قلبه قبل عقله، أن ما أبصر لا يمت لها بصلة وأنه ربما يكون شخصًا آخر.

لكن ما إن فُتح الباب حتى أبصرها تقف أمامه بوجه شبه متعرق وانفاس مرتفعة كما لو كانت تركض لساعات، امال رأسه ببطء وريبة وهو يهمس :

_ ما بكِ ؟؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دخل عليها الغرفة بعد طرقات قليلة وهو يستغل الظلام الذي حل على الإرجاء وانشغال كافة سكان الجحر بالحفلة التي أعدتها نازين على شرف فسوقهم، وكأنها اتخذت فجورهم ذريعة لتقيم حفلة دون مناسبة تحييها هي بنفسها .

انتفض جسد توبة وهي تسمع صوت همسات في المكان دون أن تبصر من صاحبها سوى ظل خمنت هي أنها تعرفه وتعرف لمن يعود .

_ هيا توبة، سنرحل من هنا ..

نظرت له توبة بصدمة وهي تهمس بعدم فهم وقد بدأت شفاهها ترتجف :

_ ماذا ؟؟ هل....هل تتحدث بجدية ؟؟

_ لم أكن جادًا بحياتي بقدر ما أنا الآن، دعيني اخرجك من هنا قبل أن يشعر بنا أحدهم .

التمعت أعين توبة بالدموع وهي تنهض عن سجادة الصلاة وقد تناست عنادها وتناست نفورها منه وكرهها لما يفعل، نست كل شيء ولم تتذكر سوى أنها على وشك مغادرة هذا المستنقع .

مسحت دموعها تضم حجابها لها تخفي وجهها وهي تتحرك معه دون نقاش وقلبها ينتفض بقوة، تزامنًا مع ارتعاش جسدها تهمس بالدعاء وتتضرع لربها أن يخرجها من القرية الظالم أهلها .

خرجت من الكوخ الذي اتخذته مسكنًا طويلًا وهي تشعر بخلايها تنتفض فرحًا، تسير خلف نزار الذي كان يسبقها ويجذبها صوب طرقات لاول مرة تطئها في هذا المكان .

فجأة انتبهت لصوت غناء مرتفع يصدر من الجهة المعاكسة لتدرك صاحبة تلك الكلمات تهمس بصوت ملتاع :

_ نازين ؟!

_ نعم هي من أمنت لنا الطريق للخروج، علينا اخراجك من هنا بسرعة .

كان يتحدث وهو يتحرك أمامها يؤمن لها طريق الخروج وسيعود لهم لينتهي منهم، وإن أبى تلويث توبة سابقًا لغسل ذنوبه، فسوف يحيل حياتهم لجحيمًا، عسى ذلك أن يخفف من اثقال ذنوبه .

كان يتحرك وهو يرهف السمع حوله، لكن فجأة لم يشعر بأي خطوات خلفه ليتوقف مستديرًا صوب توبة التي توقفت تهمس برفض:

_ لا يمكننا تركها هنا ؟؟

نظر لها نزار بعدم فهم لتهمس توبة بخوف لم تعتقد أنها قد تملكه يومًا خاصة لتلك الراقصة التي كانت تشمئز منها منذ ساعات قليلة فقط .

_ نازين، لا يمكننا تركها، إن فعلنا فسوف يعلم أنمار ما فعلته ولن يرحمها، لا يمكننا تركها هنا نزار .

اتسعت أعين نزار وهو يقترب منها يصرخ بجنون وصوت غناء نازين المرتفع والقوي بصوتها المميز يصل لهم، وقد شعرت توبة بالوجع الساكن في صوتها .

_ لا يمكننا تركها، دعنا نعود لأجلها نزار .

_ هل تمزحين معي ؟؟ نعود لأجل من ؟! توبة دعيني اخرجك من هنا أرجوكِ، هناك من ينتظرك في الخارج وسوف يصطحبك صوب مشكى هي أقرب مملكة لنا، يمكنك أن تلجأي للملك أرسلان أو حتى لسفيد لدى الملك إيفان أو أبي حتى يمكنك اللجوء لأي مكان، لكن حذاري والاقتراب من سبز .

نفت توبة بإصرار مخيف وهي تتراجع للخلف تهمس بنبرة جادة :

_ لا يمكنني تركها له، لقد ...لا يمكنني أشعر أنني إن فعلت لن اسامح نفسي ما حييت، ارجوك نزار دعنا نعود لأجلها .

تنفس نزار بصوت مرتفع وهو يشعر بأعصابه بالكامل تحترق لشدة توتره هو من الأساس يخرجها من هنا بصعوبة، والآن تزيد من استحالة خروجهما وقد كانت نازين هي نفسها الشخص الذي سيشغل الجميع عنهم .

_ الأن ومنذ ساعات فقط كنتِ تنفرين الحديث عنها حتى؟! حقــــــــــًا؟!

نظر لوجه توبة والذي كان يعلوه الجدية والإصرار، ليسأل سيفه يهتف بشراسة ونبرة مرعبة :

_ ابقي هنا ولا تتبعيني، سمعتي ؟؟ إن تأخرت أكملي طريقك خارج هذه الحدود وستجدين من يساعدك في الوصول إلي مملكة تلجئين بها .

وبعد هذه الكلمات عاد بسرعة صوب الساحة التي تتوسط القرية والتي ترك بها نازين تؤدي فقرتها التي كانت تسلب أنفاس الجميع بعيدًا عنهم .

وصدره يشتعل بما يحدث، من الأساس هو يرفض ما تفعله نازين، يرفض أن ينجو بالمتاجرة بجسد امرأة، لكن نازين نفسها أخبرته أنها بوجوده أو لا ستفعل ما تريد، إذن فليستفد بما ستفعل ..

وصل للساحة يخفي ملامحه يحاول الاندساس بينهم يراقب نازين يتحين الفرصة المناسبة ليعلن لها عن وجودة ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ لم تستطع تنفيذ أمر واحد حتى، أنت بلا فائدة أصلان.

تحركت عيون أصلان صوب أنمار الذي كان يجلس على أحد المقاعد يمسك قطعة من القماش يجفف بها دماء وجهه المتخثرة والتي خلفها ورائه الملك آزار.

_ حقًا ؟! أنا من لم استطع أم رجالك الحمقى ؟! هل تتوقع مني الايقاع بجميع رجال الممالك وحدي ؟؟ 

صمت ثواني ثم أكمل بسخرية :

_ أنت وكنت مقابل الملك آزار وحده والذي هو مقارنة بك رجل طاعن بالعمر وقد جعل ملامح وجهك تختفي خلف الجروح، تطالبني بمقاتلة أرسلان وسالار وايفان ورجالهم وحدي ؟!

أطلق صوتًا ساخرًا :

_ في أحلام يقظتك أنمار.

رمقه أنمار بشر شديد، قبل أن تشتعل عيونه، ثم ابتسم بدون مقدمات يهتف بهدوء :

_ الاحلام خُلقت لتتحقق عزيزي أصلان، وهؤلاء الحمقى سيكونون تحت رحمتي، تمامًا كبارق العزيز .

حرك أصلان رأسه بسخرية وكأنه لا يتخيل ان يصل أنمار لهذه النقطة، وفي الحقيقة هو لا يهتم بأحلام وطموحات أنمار المبالغ بها، كل ما يهتم به هو الوصول للعرش وهذا ما سيعمل عليه .

_ إذن ما الخطوة التالية ؟؟

تحركت أعين أنمار في المكان، حتى هو لا يدرك ما التالي ؟! لقد ذرع أعوانه بكل مكان بالفعل وبنى خطته للإيقاع بهم، وتبقى له فقط التنفيذ، لكن حتى هذه الخطوة يشعر أن موعدها لم يحن بعد، ليس وهم بأوج قوتهم، ليس الآن على الاطلاق .

_ حين أقرر سأخبركم، والآن يمكنك الرحيل أصلان .

نظر له أصلان بكره شديد، لولا غايته ما تعاون مع ذلك النكرة الذي لم يكن يفقه في الحكم ولا الجيش سوى لمامًا، الأبله الذي كان يسخر منه كلما شاركهم أي جلسة الأن يأمره، لكن صبرًا حتى يصل لهدفه، ومن ثم سيعلقه على بوابة سبز أو يلف بشريط وردي ويرسله لأرسلان، لا عقاب اسوء من ذلك على حد علمه .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان ما يزال في النافذة يراقب ما يحدث متسع الأعين، ركض الملك خلف الأشخاص مجهولي الهوية، والاستنفار الذي حدث في الاسفل، كل ذلك وهو لا يحرك ساكنًا، لكن فجأة انتفض جسده حين سمع صوتًا خلفه يهتف .

_ يا المعتصم ..

رمش بعد استيعاب يستدير ببطء شديد يحاول التأكد أن ما وصل لمسامعه منذ ثواني ليس محض اوهام من عقله المسكين الذي يرتجي منها كلمة تطفئ نيران صدره .

استدار ببطء شديد يحاول التنفس بشكل طبيعي يبصر ملامحها قريبة منه وهي ترتدي ثيابها كاملة وكأنها على وشك الخروج أو ما شابه .

وذلك لم يكن فقط مجرد تخمين منه إذ فجأة فتحت فاطمة فمها تهتف بجدية :

_ جيد أنني أبصرتك قبل الرحيل يا المعتصم كنت أبحث عنك، أردت فقط اخبارك أنني سأعود للمنزل كي لا تخاف أمي، لذا بحثت عنك لاخبارك كي لا تقلق حينما لا تجدني في المشفى .

كانت تتحدث بكل هدوء ونبرتها خرجت هادئة جادة بسيطة، حتى شعر المعتصم أنه ربما كان يحلم بها، فهو متأكد أنه تركها في غرفتها، لا يعقل أنها تقف أمامه الآن بعد منتصف الليل تطالبة بالعودة للمنزل .

لكن فاطمة كانت مصرة على أن تصدم المعتصم في كل مقابلة وتنهيها بشكل مريب، إذ تبعت جملتها الاولى بسمة واسعة ثم رفعت كفها تلوح له :

_ إلى اللقاء، سوف اعود غدًا من أجل العمل .

تحركت بعد كلماتها هذه بكل هدوء وهي تدندن بعض الكلمات تحت أعين المعتصم المصدومة والذي كان متسع الفاه يراقبها تتحرك بتؤدة أمامه.

لكن فجأة توقفت فاطمة ليعتقد هو بكل براءة وحسن نية أنها واخيرًا أدركت ما يحدث حولها، لكنها فقط توقفت تستدير له تتساءل بصوت مرتفع بعض الشيء :

- هل تعتقد أنني يمكنني طلب إجازة غدًا ؟؟ أم تظن أن رئيسة العاملات ستعارض الأمر ؟؟ يمكنني أن أعمل اليوم الذي يليه وقتًا اضافيًا لتغطية مكاني هنا .

وحين ختمت حديثها أجابت نفسها ببسمة واسعة :

- يمكنني صحيح ؟! أنت حقًا رجل ذو مروءة، شكرًا لك .

ومن بعد هذه الكلمات اختفى طيف فاطمة من المكان بأكمله والمعتصم ما يزال واقفًا يرتشف كؤوس الصدمة التي القتها له منذ ثواني، وحينما أدرك عقله ما حدث منذ ثواني نظر حول نفسه بتعجب :

_ أيعقل أن كل هذا كان حلمًا ؟!

صمت ثواني وكأنه يبحث في عقله عن إجابة، ليجد أن لا إجابة منطقية سوى نعم، لذا تنهد وهو يتحرك صوب النافذة يكمل المراقبة التي كانت ....

وقبل أن يستكمل افكاره اتسعت عيونه يدرك أن ما حدث منذ ثواني لم يكن سوى واقعًا غريبًا يرى أمامه فاطمة تتحرك صوب بوابة الخروج بكل هدوء ورقة .

فرك المعتصم عيونه بصدمة كبيرة وهو يحاول إدراك ما يحدث قبل أن ينتفض جسده ويركض بسرعة كبيرة صوب البوابة يردد بصدمة :

_ لم يكن حلمًا ؟؟ لم يكن حلمًا ؟؟

وبعد ثواني استغرقها هرولة على الدرج وصل واخيرًا للساحة الأمامية ينادي بصوت مرتفع صاخب :

_ فاطمــــــــة توقفـــــــــي .

توقفت فاطمة بصدمة كبيرة ورعب حين سمعت تلك الصرخة تضم حقيبتها لها تخشى الاستدارة، وحينما وصل لها المعتصم توقف أمامها يهتف بأعين مشتعلة :

_ إلى أين تحسبين نفسك ذاهبة ؟؟

_ إلى المنزل .

_ الآن ؟! هل جننتي ؟؟

_ وما المشكلة في ذلك؟! يمكنني العودة وحدي لا تقلق .

ولم تكد تتحرك خطوة حتى وجدته يوقفها بسرعة وهو يتحرك بسرعة يقطع طريقها :

_ فاطمة توقفي عن جنونك، لا يمكنك المغادرة الآن في هذا الوقت والشوارع شبه خالية .

كان يتحدث بقلق شديد ابصرته فاطمة لتبعد وجهها عنه يخجل حين أبصرت نظراته لها، وهو فقط يطيل التحديق  بها دون شعور ولم ينتبه على نفسه إلا حينما أبصر احمرار وجهها بشدة ليبعد عيونه عنها بسرعة :

_ أنا ...غدًا سأذهب لاحضر والدتك بنفسك، لقد وعدتك .

حركت فاطمة نظراتها له مجددًا تقع في أسر نظراته بعدما فرت منها بصعوبة منذ ثواني :

_ لا يمكنني الانتظار أكثر لا استطيع النوم خارج أحضان أمي، بالتأكيد ستموت رعبًا عليّ رغم أنني اطمئننت عليها من العمة ألطاف حين زارتني، لكنني أدرك أنها الآن تجلس على جمر لعدم رؤيتي أمامها، لذا اعذرني لن استطيع الانتظار .

ختمت حديثها تتجاوزه بكل بساطة وهو ما يزال يقف مكانه يضغط على قبضته بقوة وغضب شديد يحاول تمالك نفسه قبل أن يبتسم بسمة المغلوب على أمره، قبل أن يستدير لها متسائلًا بجدية :

- تستطيعين ركوب الخيل ؟؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ارتفع حاجب سلمى بريبة دون فهم ما يعنيه سؤاله في هذه اللحظة او ما يعنيه حتى وقوفه بهذا الشكل على عتبات غرفتها بهذا الوقت .

_ عفوًا منك ؟!

_ ما بكِ ؟؟

ابتسمت بعدم تصديق لسؤاله ذلك والذي لم يكن يقصد به أرسلان سوى معرفة سبب تنفسها السريع هذا في هذه اللحظة تحديدًا بعدما كان يركض خلف الظل الذي يرتدي معطفه .

_ هل تمزح معي ؟! تقف على عتبات غرفتي لتتساءل ما بي ؟! لا تقل أنك أصبحت مراعيًا فجأة، فجئت تطمئن على صحتي قبل النوم؟! أنت لست بهذه الرقة صحيح ؟!

ختمت حديثها تضيق عيونها بشك من هذا الرجل المريب،  ليصدمها هو باندفاعه في الحديث دون تفكير :

_ هل خرجتي من غرفتك الليلة ؟!

أجاب سؤالها بسؤال آخر واعصابه تحترق على نيران متأججة في انتظار اجابتها التي يشعر أنها ستحييه أو تقتله ..

وهي ورغم أنها لم تدرك ما يريد إلا أنها أجابت بكل بساطة وهي تمد شفتيها بتفكير  :

_ نعم خرجت من غرفتي .

شعر أرسلان بتوقف ضربات قلبه وصوت قوي يرن داخل أذنه بشكل مريع، لولا كلماتها التالية التي أعادت له روحه التي كادت تغادره منذ لحظات :

_ألم أكن معك بالشرفة منذ دقائق، هل نسيت بهذه السرعة؟! 

منع نفسه بصعوبة عن تنفس الصعداء على مرأى منها يكمل كي يتأكد مائة بالمائة:

_ عدا ذلك ؟؟ هل خرجتي من غرفتك لمكانٍ ما هذه الليلة ؟؟

نفت سلمى برأسها بكل بساطة ولم تكد تتحدث بأي كلمة حتى بادر سريعًا يقترب منها خطوة ينظر لعيونها وكأنه يحاول اختراق أعماقها أو ما شابه، بينما هي تراجعت بريبة للخلف تنظر له بعدم فهم تحاول التحدث بكلمة واحدة فقط توقف تقدمه منها .

ليتوقف أرسلان بالفعل حين أصبح على بعد شعرة واحدة من كسر المسافة الآمنة والمناسبة بينهما، يمنحها بسمة غريبة يحاول قراءة عيونها ومعرفة مقدار صدققها، نظراته جعلت سلمى ترفع حاجبها وهي تردد :

_ حقًا؟؟ تمارس عليّ ضغطًا نفسيًا الأن ؟! هل تمزح معي ؟؟ هذه النظرات لن تؤتي ثمارها معي وقد طبقتها بالفعل على نصف مجرمي البرازيل .

اتسعت بسمة الساخرة تهمس له وهي تميل صوبه :

_ لا تنافس محترفًا في لعبته المفضلة مولاي .

اتسعت بسمة أرسلان أكثر، وهو يحرك عيونه يدعي الهدوء والحكمة والتي مان أبعد ما يكون عنها في هذه اللحظة في الواقع :

_ حينما خرجتِ لي منذ ثواني قليلة، كان تنفسك مرتفع، هل يمكنك تفسير الأمر لي ؟!

_ انصحك بقول ما تريده مباشرة دون عرض مهاراتك في التحقيق .

رفع حاجبه وكأنه ما يزال ينتظر اجابه وهي زفرت بضيق شديد، ورغم عدم فهما لسبب سؤاله هذا إلا أنها هزت رأسها ببساطة تردد :

_ نعم كنت أمارس بعض الرياضية المسائية فأنا بدأت أشعر أنني اكتسبت بضع الكيلو جرامات في الآونة الأخيرة بسبب الطعام هنا على ما اعتقد .

ختمت حديثها تنظر صوب جسدها تلقائيًا بعد كلماتها، وكأنها تقيم ما وصلت له بالفعل خلال فترة إقامتها هنا، لتتحرك عيون أرسلان معها دون وعي وبعدم فهم وكأن حديثها تحكم بها لكن قبل أن يبصر حتى طرفها انتفض للخلف بشكل مرعب حين استوعب ما كاد يفعل منذ ثواني، انتفاضة جعلت جسد سلمى ينتفض بالمقابل بشكل مفزع وهي تتحدث بصوت مصدوم من انتفاضته القوية :

_ ماذا ؟! 

أبعد أرسلان عيونه عنها بصدمة من حاله كيف لم يستوعب ما كاد يفعل، لترتفع صوت استغفاراته وهو يتحرك بعيدًا عنها بسرعة كبيرة وقوة يتمتم ببعض الكلمات التي لم تصل لها، وهي ما تزال تقف مكانها لا تفهم ما يحدث .

بينما أرسلان كان لا يدرك ما يحدث حوله، من ذلك الشخص الذي كان يرتدي معطفه ومن الذي كان معه ومن أين أحضر معطفه من الأساس، مئات الأسئلة ترن داخل عقله محاولًا البحث عن حل لها، ومن بين تلك الأفكار أبصر حلًا مؤقتًا يتحرك أمامه بكل سلام وهدوء لتلتمع عيونه بقوة وهو يهمس بنبرة خطيرة :

_ زيان العزيز مرحبًا ....

توقفت أقدام زيان والذي كان خارجًا من أحد المباني يحمل كوبًا من الحليب الدافئ يردد انشودة قديمة بهدوء شديد وشرود ..

_ مولاي، مساء الخير .

اتسعت بسمة أرسلان بشكل مريب جعل زيان ينظر حوله بعدم فهم وكأنه يبحث عن سبب تلك البسمة الشريرة التي ارتسمت على فمه .

_ ماذا؟! لماذا تنظر لي بهذا الشكل ؟!

اقترب منه أرسلان يضمه من كتفه بهدوء يتحرك به دون أن يعلم نزار إلى أين يتحرك، هو فقط وجد أقدامه تتحرك وفق تحركات أرسلان.

_ سوف نقضي وقتًا ممتعًا سويًا، فأنا لا أشعر بالنعاس .

نظر زيان صوب كوب الحليب الخاص به يرمش بعدم فهم وحينما أبصر ساحة القتال تلوح له حتى توقف يحاول الفرار من بين يد أرسلان :

_ لكن أنا... أنا أشعر بالنعاس لقد كنت على وشك النوم وأنا اسير حتى .

_ توقف عن الكذب زيان، إن كنت تشعر بالنعاس حقًا ما ذهبت لتحضر بعض اللبن لنفسك .

_ هذا ليس لي، بل ....بل لقطتي نعم هذا لبرفى القطة الصغيرة التي تجلس معي في غرفتي، أتيت لاحضره لها .

نظر له أرسلان بحدة وغضب :

_ الحق بي للساحة زيان .

نظر له زيان وهو يقاوم التحرك معه، يتشبث بكوب اللبن الخاص به بقوة :

_ لكنني أود النوم بعظام صحيحة مولاي .

جذبه أرسلان معه بشر وهو يتحرك صوب الساحة بأعين تضئ بشكل خطير .

في حين أنه وفي الأعلى كانت سلمى تراقب ما يحدث مع أرسلان تبصر تحركه بعنف صوب الساحة لتدرك أنه ذاهب لتفريغ غضبه بأحد المساكين، لذلك ارتدت الاسدال الخاص بها بهدوء شديد :

_ ذلك الرجل لن يتوقف عن أفعاله هذه حتى اعرضه لجلسات كهرباء مكثفة .

زفرت بضيق تتحرك بسرعة صوب الباب ولم تكد تفتحه حتى وجدته فُتح بواسطة شخص مجهول وجسد يدفعها للداخل بعنف جعلها تتراجع دون أن تتحكم في حركة جسدها لتسقط ارضًا ترفع رأسها وهي تهتف بصوت مرتفع :

_ مـــــــن أنـــــــــــــــــت ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت ترقص بقوة وهي تدور في المكان تشعر بجسدها يطوف في الهواء الوجوه تتحرك حولها بشكل سريع حتى بدأت تشعر بهم يندمجون مكونين صورة غير مفهومة، وهي تؤدي رقصتها بسرعة كبيرة وعلى أطراف عيونها تقبع دمعة تقاوم للنزول وهي تشعر بالروح تطوف داخل منزل محطم بالكامل والجسد ينازع للنجاة وأصوات الصرخات تحيط بها .

صور من ماضي نازين بدأت تتلاحق أمام عيونها، صور جعلت جسدها يزداد في حدة حركاته وكأنها تحارب وليست ترقص، والأصوات حولها تزداد حماسًا لأجلها، وهي تكمل رغبة في تشتيت الإنتباه عن الهاربين .

تغني بصوت قوي وهي تحرك كتفيها ومن ثم خصرها بانسيابية عجيبة، وتلك ربما كانت الموهبة التي جعلتها تنجو من مصير اسود في المكان، فالفتاة هنا إما أن تكون ضعيفة وتصبح ممسحة للأقدام ومرتعًا للرجال، أو تكون قوية موهوبة وتصبح راقصة وفاسقة، وهي لم تكن فقط راقصة، بل كانت راقصة وحقيرة لتجعل الرجال هنا ممسحة لقدمها هي .

اتسعت بسمتها وهي تبصر وجوههم القذرة يكاد اللعاب يسيل من أفواههم، ومن بين حركاتها تلك توقفت عيونها على جسد يتخفى بين الجمهور يشير لها إشارات ادركتها في ثواني، وهي تتوقف عن الحركة فجأة بشكل أثار الإنتباه لتردد ببسمة صغيرة .

_ استراحة صغيرة ونكمل حفلتنا. 

أشارت من بعدها لفتاة أخرى لتتقدم من المكان وهي تتولى أمر الرقصات وتحركت هي بعدها صوب غرفتها تشير بعيونها صوب نزار ليلحق بها، وبمجرد أن شعرت باختفاء جسدها عن الأعين حتى توقفت تنظر ظهور نزار والذي بمجرد أن لمحته تحدثت بلهفة :

_ هل ...هل اوصلتها ؟؟

توقف نزار وهو ينفي برأسه تخمينها ليتوقف قلب نازين تردد بصوت خافت :

_ لا تقل أن هناك من اعترض طريقكم لقد امنت للطريق جيدًا ؟!

_ لا، لكنها ترفض الرحيل إلا بشرط واحد .

نظرت له نازين بعدم فهم، شرط ماذا ؟! الآن تضع شروطًا لتخرج من مستنقع كانت تصرخ يوميًا أنها تود الرحيل عنه ؟! اي نوع من النساء هذه المرأة ؟!

وعلمت نازين أي نوع هي توبة حين سمعت باقية جملته المعلقة وهو ينظر لعيونها يقول بجدية :

_ هي تنتظرك وترفض الرحيل وتركك هنا، لذا عدت لأخذك معنا .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان صدى ضحكتها يتردد في المكان وهي تحتضن رقبة ما الحصان بقوة خشية السقوط، في حين أن المعتصم كان يمسك اللجام لها كي يتحكم في الحصان الخاص بها بعدما رفض أن ترحل سيرًا كل هذه المسافة وهي ما تزال مريضة بالفعل .

وحين اوشك على بلوغ المنزل الخاص بها سمع صوتها يهتف بسعادة كبيرة :

_ الأمر ممتع كثيرًا، لطالما كنت أتساءل عن شعور الجميع حين يمتطون حصانًا، ربما يومًا ما احصل على حصان ابيض بشعر ابيض كثيف .

ابتسم لها المعتصم وهو يكمل طريقه بهدوء شديد يستمتع باحلامها البريئة وكأن عالمها وحياتها بنقاء الثلوج، وكأنها لم تواجه صعوبات يومًا، وهذا جعل بسمته تتسع وهو يدون كل كلمة تنطقها في عقله، ينتظر فقط وقتًا تسمح له الحياة بتحقيق أحلامها .

تنفس يوصت مرتفع يردد بصوت خافت هادئ :

_ ربما يومًا تحصلين على مثل هذا الحصان الذي تحلمين به، من يدري ؟؟

رفعت عيونها له وهي ما تزال ممسكة بالحصانة في قوة شديدة والغريب أنه لن يغضب أو يتصرف بعدوانية، حتى الحصان استكان لسحر فاطمة.

أي سحر تمتلك تلك المرأة ؟!

كان شاردًا في ملامحها مبتسمًا حتى انتقض فجأة على صوتها وهي تهمس بصوت مصدوم :

_ حريق ...حريق في منزلي .

تغضنت ملامح المعتصم وهو يرى ملامحها قد شحبت فجأة وبشكل مريب، ليعلم أن نفس الكابوس الذي يظهر يوميًا على وشك الظهور:

_ فاطمة ليس هناك حريق لا ....

وقبل إكمال جملته اتسعت عيونه برعب وهو يبصر الحريق يخرج من عقل فاطمة ليتمثل واقعًا أمام عيونه في هذه اللحظة .

حريق هائل يأتي من الشارع الذي يقبع به منزل فاطمة  وصوت فاطمة جواره يصرخ بشكل مرعب :

_ عائلتي....عائلتي.

وكأن عقلها في هذه اللحظات أدرك واقعًا تهرب منه، لذا من بين جميع أفراد عائلتها والذين تتعامل معهم على أنهم واقعًا، لم يتعرف عقلها ولم يستغيث سوى باسم الشخص الوحيد الذي يعلم يقينًا أنه حي .

_ أمــــــــــــــي، أمـــــــــــــــي بالداخـــــــــــل ........

ــــــــــــــــــــــــــــــ

ذكريات تحترق ورماد يتناثر، مؤامرات تُصنع ومكائد تُحضر.

حب وحرب والغلبة لمن ؟؟


تعليقات