رواية في قبضة الشيخ عثمان الفصل الاول1بقلم سمية رشاد



رواية في قبضة الشيخ عثمان
 الفصل الاول1
بقلم سمية رشاد


ارتفع صوت الرجال بأحد البيوت الريفية الواسعة ذات التراث القديم والتي طغى على أساسها العتيق اللون البني الداكن بينما كان هو يجلس بهدوء ممتنعًا عن الحديث حتى ينتهى الرجال من كلماتهم التي أشعلت غضبه، يحاول السيطرة  على ما يشعر به من ضيق بسبب عدم احترمهم له وتدخلهم في أمور لا يفقهون عنها شيء، شعر بالبعض يلتفتون إليه ثم يصمتون بتوتر بعدما ينتبهون إلى صمته الذي يهابونه، لا يعلم كيف لرجال مثلهم أن يخشونه بسبب صمته ولكن هذا ما وجد عليه أبناء القرية في معاملتهم له منذ اللحظة الأولى التي أصبح كبيرهم فيها، وكأن الخوف ملازمًا لكلمة الكبير فبينما وجدت هي نرى الخوف متشبثًا بثيابها ويزرف بدل الدموع دمًا إذا حاول البعض انتزاعه. 

سكن الهدوء المكان بعدما أدرك الجميع صمته فالتفت إلى الرجل الباكي الذي يقف أمامهم ثم سأله بحزم
- ما الذي جاء بك إلى هنا؟ وأي مصيبة نزلت بك لأراك على حالك هذا؟

انفجر الرجل بكاءً لمجرد استماعه إلى كلماته ثم أخبره بقهرٍ أجاده قائلًا
- زوجة أخي وابنتيها سرقتا ورثي عن أخي ولم  يتركا لي سوى أقل القليل وأنا جئت إليك لتنصفني وترد إليّ حقي، فأنا أعلم أنك لن تردني خائبًا.

ضيق ما بين حاجبيه بطريقة لا تليق سوى به ثم أجابه بتقرير
- إن كان لك حق فحتمًا ستأخذه، فلا يوجد في قريتي من يأكل أموال الناس بالباطل ائتوني برجلٍ ينوب عن زوجة أخيها وابنتيه في الحال ولا تأتيا بالنساء لمجلسنا إلا إذا اقتضى الأمر.

دقائق قليلة قد مرت قبل أن يقف أمامه شقيق المرأة والذي تبادل النظرات الضائقة مع الرجل الباكي.

وزع الكبير نظراته بين الاثنين بالتساوى ثم أشار إليهما برفق
- اجلسا

جلس الاثنان في مقابل بعضهما ثم تحدث الكبير موجهًا حديثه لشقيق المرأة
- ادَّعى هذا الرجل أن شقيقتك وابنتيها قد أكلتا أمواله فاشرح لي الأمر ولنستمع إليه من الطرفين 

هز الرجل نظراته برفض لما قاله خصمه ثم هتف للشيخ بنبرة صادقة
- يا شيخ عثمان، أقسم أمامك أننا لم نقسم التركة سوى بحكم الله فزوج شقيقتي كان قد ترك سبعة أفدنة من الأراضي الزراعية وليس له من الأقارب سوى زوجة، وابنتين، وأخوه هذا فلجأنا إلى حكم الله لنجد أن للبنتين الثلثين ولأمهما الثمن ولهذا الرجل الباقي ولكنه لا يرضى بنصيبه ويطلق علينا الشائعات أمام جميع أهل البلدة.

هز الشيخ عثمان رأسه موافقًا على ما استمع إليه وراضيًا بما قد قسموه فالتفت إلى الرجل ليسأله 
- لقد قسمتما تركة شقيقك بما قد قسمه الله فما هي شكواك؟

برقت عيني الرجل بصدمة مما استمع إليه، فقد ظنَّ أن الشيخ سينصفه بعدما يستمع إلى النسبة القليلة التي ألقوها إليه فكيف له أن يراه راضيًا بما فعلوه به، مما جعله يهتف بصدمة
- كيف تسألني عن شكواي؟! ألا ترى الظلم الواقع علىّ بهذا النصيب الضئيل الذي قد حكموا لي به؟ بل كيف تقبل أن تأخذ البنتان أكثر مني؟ الطفلتان تأخذان الثلثان؟ وماذا تبقى لي إذا ما هذا الهزل؟ 

غزى الاحمرار وجه الشيخ عثمان بشدة ثم طرق على الطاولة أمامه بضيق ليبين شدة غضبه قبلما يقف صائحًا بانفعال
- من أنت لتصف كلام الله بالهزل؟ كيف طاوعك لسانك بنطق هذه العبارة؟ إن كنت قد أخطأت في حقي لكنت عفوت عنك لكن كلام الله لا أتهاون فيه ولن أسامحك أبدًا على ما اقترفت.

-كيف أخطأت في حق الله؟ أنا لم أفعل شيء
صاح بها الرجل متعجبًا فأجابه الشيخ برفق مخالف لغضبه السابق

"فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك"
 " فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" 
ثم أردف بعدما انتهى من سرد كلمات القرآن 
هذا كلام الله الخاص بحال فقيدكم وهذا ما أسميته بالهزل وبحكم الله أنت ليس لك سوى الباقي منهن  ولن أعاقبك هذه المرة على خطأك خشية من أن تكون حقًا لا تعلم أن الحكم كان لما جاء في القرآن فأعاقبك على ما تجهله، انتهت الجلسة.

صاح بها بعنف ثم ترك الجميع و توجه إلى الخارج ليذهب إلى بيته ويحاول تهدئة عقله بعدما أثاره هذا الرجل.

نظر الرجل في أثره بضيق ثم تمتم بصوت لا يسمعه سواه 
- لا أعلم من أين قدمت هذه المصائب التي لا نعلم لها أصل بيننا، لا سامح الله من جاء بمن هو بعمر أولادنا وجعله كبيرًا علينا.

دلف إلى أحد المنازل الصغيرة نوعًا ما عن ما كان يجلس فيه بحضرة الرجال وفي أقل من الدقيقة كان يرتمي تحت أقدام أحد الرجال الكُهول مقبلًا قدميه بينما الرجل قد أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى مدعيًا الضيق منه، اتسعت ابتسامته لينهض ويقبل جبينه بحنان فائق لو رآه الرجال الذين كان بحضرتهم لما صدقوا أبدًا أن كبيرهم الذي يخشون كل صغيرة تصدر عنه يهدهد أبيه بهذه الطريقة التي تسر الناظرين.

- أمازلت غاضبًا مني بعد رؤيتك لهذا الوجه الحسن!

زاد أبيه من تدلله عليه فاقترب منه أكثر بأعينٍ ماكرة يعلمها والده جيدًا  ثم بدأ في دغدغته برفق لترتفع ضحكات أبيه بشدة اختلطت بتأوهات إرهاقه.

توقف عمّا يفعل بعدما شعر بلين قلبه من ناحيته فهمس بخفوت محاولًا مراضاته 
- يا أبي، أنت تعلم بأني لم يؤخرني عنك سوى الأمور الهامة فلما تتذمر الآن؟ ألم نتفق على هذا من قبل؟!

نظر أبيه إليه بضيق ثم همس 
- ولكنك تأخرت عليّ كثيرًا اليوم، وقد مللت حد السماء من الجلوس بمفردي.

اغتمت عيناه بشفقه على حال والده، هو لا يعلم ماذا عليه أن يفعل، فهو كهل  في الثمانين من عمره أرهقه الكبر حتى صار لا يستطيع الحركة بمفرده، ولا يملك  ابنًا سواه هو، فقد رزقه الله به بعد طول عقمٍ وهو في الخامسة والأربعون من عمره وتوفت والدته بعد ولادته بثمانية أعوامٍ فقط ليحيا هو وأبيه بمفردهما ولا ثالث لهما سوى الوحدة. 

فاق من شروده على نظرات أبيه المتفحصة لوجهه فابتسم إليه بحنان وسرعان ما باغته الآخر بسؤاله الذي لا ينفك عن قوله
- أخبرني متى ستتزوج وتأتي لي بأحفادٍ يقتلون وحدتي، لقد شارفت على الثلاثين من عمرك؟

- حينما يأذن الله 
تنهد بقوة قبل أن يجيبه بإجابته المعهودة وعقله يبتسم على ذلك العمر الذي نسبه إليه والده ويراه بهذا قد تخطى العمر المناسب للزواج فكيف سيفعل إذًا إذا علم أن ولده قد أتم الخامسة والثلاثون قبل أسبوعين من اليوم.

نهض متجهًا إلى الداخل وهو يخبر والده بأنه سيحضر الطعام الذي كان قد ابتاعه جاهزًا  وسيأتي إليه ليتناولاه معًا.

في إحدى غرف أحد البيوت الطينية المتهالكة التي أوشكت على السقوط، الذي يراه للمرة الأولى يعتقد بأن هذا البيت لا يسكنه أحد ولكن بداخله كانت هناك فتاه تنحنى بضعفٍ أمام أحد الأفران البلدية وتخرج الخبز منه بيدها بينما ذراعها ترفعه قليلًا على جبينها لتمحى بأكمامها قطرات العرق التي تملأ وجهها، بينما تبتلع ريقها بإرهاق شديد وهي تشعر بالعطش يهبش بدنها، وكيف لا وهي تصوم منذ فجر اليوم دون سحور قبله فلم تهنأ معدتها في اليوم السابق سوى بلقيمات قليلة قد تقيأت بها حينما أخبرها والدها بأن زواجها سيكون لأول رجلٍ يتقدم لخطبتها، تشعر بالندم يتمكن منها بسبب تلك الحمرة التي قد زينت بها وجهها ولسوء حظها دلف إليها والدها وسرعان ما باغتها بالركلات القوية ناعتًا إياها بقليلة الحياء  بل وحكم عليها بالصوم لمدة أسبوع كامل كعقاب لها على الذنب الذي اقترفته بالنسبة له بل وأخبرها غاضبًا بتعجيل زواجها، لا يعلم بأن ما فعله معها ليس سوى تحريم لما أحله الله لعباده فإن كانت الزينة محرمة للنساء في بيوتهن أمام محارمهن فلمن تحلُّ إذًا؟! 

نهضت بعدما انتهت من تسوية جميع العجين الذي كان متراكم أمامها قبل ساعات لتشعر بجميع بدنها يتألم بعد وقوفها وكأنه يشكو لها عما تفعله به دون رحمة، نظرت إلى تلك الساعة المعلقة بالحائط لترى الساعة ولكن الإحباط قد أصابها وهي تجدها مازالت الثالثة عصرًا والمغرب لم يحن أوانه بعد.

 استمعت إلى طرقات هادئة على باب المنزل فالتفتت تتجه إلى الخارج  لترى من الطارق ولم تكن تسير خطوة واحدة حتى وجدت شقيقها ذو الخامسة عشر من عمره يدلف بعدما أهداها ابتسامة حانية، تلك الابتسامة التي تجعلها تحتمل الكثير والكثير مما تعانيه من قسوة أبيها، تأملها شقيقها قليلًا قبل أن يسألها برفق مصحوب ببعض القلق
- ما به وجهك مارية؟ لما أشعر بالشحوب يتحدث نيابة عنه 

ابتسمت بهدوء وهي تهز رأسها قبل أن تجيبه
- لا تقلق، ربما يشوبه بعض الإرهاق بسبب الصيام بعد ما عانيته طوال الليل من ألم معدتي.

هز شقيقها رأسه بضيق شديد وهو يسألها 
- فعلتِ ما أمرك به أيضًا ولم تستمعِ إلى قولي أنا، حبيبتي افهمِ ما أقول هذا الصيام ليس واجبًا عليكِ، ما فعلته ليس حرامًا، كما أن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا بالصيام لأسبوع إن أخطأنا، فالله تعالى لم يضعُ  للتوبة شروطًا لنهرع إليه تائبين كلما قصرنا في حقه دون الشعور بالعجز فلما تستمعين لكلمات أبيك التي أخبرتك بأنها تتعارض مع تعاليم الإسلام.

نهرته بشدة على ما قال في حق أبيها معتقدة أن شقيقها يشعر بالنقمة على والدها لتقييدة في بعض الأمور التي يحبها إن لم يكن جميعها فيأمرها هي الأخرى بمعارضته بل ويحاول إقناعها بحجة أنه يدرس بالأزهر الشريف ويرى والده يأمر بما لم نؤمر به.

هز محمد رأسه بحزن على حال شقيقته التي يراها تنصاع خلف جهل والدهم الذي يصنع الأحكام من رأسه ثم دلف إلى إحدى الغرف وهو يعلم أن لا جدوى، فشقيقته التي ظلت لسنوات تتشرب تلك التعاليم من والدها لن يستطيع هو انتزاعها منها بمجرد كلمات درسها مخالفة لما شابت عليه.

نظرت إلى أثر شقيقها بأسفٍ عليه ترى أن ذاك الشيطان الملقب بالمراهقة هو ما يوسوس له ويجعله يكره تحكمات والده التي تعيده إلى الطريق السويّ، ولكن هناك ما طرأ بعقلها فجأة وجعلها تفكر، ماذا لو كان شقيقها محقَّا ووالدها فعليًا من أولئك الذين يغالون في أحكام الدين، فهي منذ المرة التي استمعت فيها عبر إذاعة القرآن الكريم لذاك الداعية الذي يقول بعض الأحكام المخالفة لوالدها وهي أحيانًا ما تراودها بعض الأفكار التي تدين والدها. 

جلس محمد على فراشه واضعًا رأسه بين يديه وهو يشعر بالشفقة الشديدة على شقيقته، فهو يراها تعاني بشدة وليست أي معاناة، فهو دائمًا ما يراها صائمة ليس برغبتها ولكن بسبب إجبار والدها لها على خطأ ارتكبته وربما لم يكن خطأ أصلًا في الشرع الإسلامي بل في شرع والده فقط، فأي شرع هذا يأمر الإنسان بأن يصوم أسبوع أو يصلي سبعون ركعة على خطأ ارتكبه وليته أي إنسان فشقيقته المسكينة تعاني من الأنيما الحادة ومن الممكن أن تضيع منهم بأي وقت بسبب الجهل الشديد الذي يتشح والدهم بعبائته ويأبى انتزاعها.

حقيقة بات في الأونة الأخيرة يفكر بجدية في الذهاب إلى كبير البلدة وشكوة أبيه له، فلطالما سمع أنه رجلٌ يحكم بالعدل ولا يرضى بالظلم ويفقه جيدًا بأحكام الدين فلربما استدعى والده وأفهمه بهدوء تلك الأخطاء التي يعذب نفسه وأبناءه بها ولكن كيف يمكنه فعل ذلك وهو يخشى أن يعرف أحد بفعلته فيشيع في البلد خبر شكوته لأبيه ويفتضح أمره فهو مهما كان والده ولن يرتضي له أن تنحنى رأسه بسببه. 

تنهد بتيه وهو لا يعلم ماذا عليه أن يفعل ولكن بعد تفكير عميق هداه عقله إلى السكوت هذه المرة ولكن إن تطاول والده أكثر عما يفعل فلن يرده أحد عن الذهاب للشيخ عثمان. غير مدركًا بأن القدر ربما جعل هذا الذهاب وشيكًا للغاية ولن يفصله عنه سوى وقتٍ تفوقه الشعرة قوة. 

في الوقت الذي يضحك فيه القمر مختالا بجماله على الشمس التي تتوارى خلفه ويخبرها بأنه رغم ظهوره ليلًا إلا أن الجميع يحب تأمله على عكسها هي فعلى الرغم من كثرة من يمرون تحتها إلا أن ضوؤها ينفر الكثير من النظر إليه، كان عثمان جالسًا فوق بيته على تلك الأريكة المتهالكة بينما عيناه لا تشيحان عن القمر وكأنه يتابع عراكه ذاك مع الشمس، يفكر في حاله وحال أبيه والحيرة تأبى مفارقته وتتشبث بالجلوس برفقة عقله، وحدته تلك تجعله يفكر في السبب الأساسي من ابتعاده عن الزواج رغم حاجته الشديدة إليه، وكيف لمن عاصر ما عاصره هو أن يرغب في الزواج وهو يشعر بما حدث معه  في السابق ينغرس بقلبه كما السكين البارد، تلك الفتاة التي تدعى ضحى من خطبها واكتشف بعد شهران فقط أنها تتحدث مع الشباب عبر الهاتف وحجتها أن خطيبها لا يحادثها إلا القليل متعللًا بضوابط الخطبة فلم يكن بالنسبة لها رجلًا كافيًا بينما أولئك الذين كانت تحادثهم هم أسياد الرجال، أغمض عينيه بشدة وهو لا يدري ماذا عليه أن يفعل، هو يعلم أنه إن تقدم لإحداهن في البلدة فلن يرفض أحدهم له طلبًا ولكن كيف يقنع عقله عن الثقة بأي فتاة بعدما حدث معه، حينما يقص لوالده عن مخاوفه مدركًا أنه سينسى هذا الحديث فيخبره أن يثق في الله وكيف يشعر بذالك وهو رجل يعرف الله وهو حقًا يحاول أن يفعل كما يخبره  أبيه إلا أنه في النهاية بشر ولا يستطيع أن يزيح تلك الوساوس عن رأسه. 

نهض بضيق متجهًا إلى الأسفل تاركًا التفكير في هذا الموضوع منتظر أن تأتي الفرصة إليه دون عناء فقد أرهقه التفكير، غير عالمًا بأن الله كتب له ما سيجعل عيناه تخر فرحًا بلقائه، بل وبات هذا اللقاء قريب للغاية قرب نبضات القلب.


                   الفصل الثاني من هنا

تعليقات