رواية ليلة في منزل طير جارح
الفصل الرابع4
بقلم ياسمين عادل
"وكأن الفخّ إنسان خبيث، يبتسم مُهيئًا لك نعومة أظافرهِ؛ حتى يبتلعك بين ظُلمات أعماقهِ المُضمحلة."
___________________________________
كان رجلًا جادًا حازمًا، لا يليق عليه أن يتمسك بفتاة في مثل عمرها الصغير لكي يدللها ويداعبها؛ لكنها كانت مشاكسة شقية، تجذب الحجر الأصمّ إليها بأقل مجهود. تركها "مراد" بين يدي "حِراء" وهو يهتف بـ :
- خلي بالك منها.
عبست "ليلى" وهي تشيح نظراتها عنه :
- لحقت تزهق مني يا مُراد!.
ابتسم "مراد" وهو يضم كفها الصغير بين راحتيهِ قائلًا :
- أنا أقدر برضو يا لوليتا.. أنا بس لازم أسافر دلوقتي، المرة الجاية هنقعد مع بعض أكتر من كده.
اقتنعت بسهولة، بعدما وعدها بقرب اللقاء القادم، وقبيل أن تذهب "حِراء" بها كان "مراد" يسألها :
- هو هاشم راح فين؟.
- في مكتبه.
نظر "مراد" لساعة يده وهو يقول :
- طب بلغيه إني مشيت، مفيش عندي وقت.
أومأت رأسها مجيبة :
- تحت أمرك.
دخلت "حِراء" وهي تحمل الصغيرة بين يديها، فصادفت "رحيل" بطريقها، وفي عينيها فصول غريب لرؤية الصغيرة، حتى إنها تأثرت برقتها وجمالها الطفولي ووجهها الحسن، وبتلقائية شديدة كانت تمد يدها نحو وجهها لتداعب وجنتها قائلة :
- إيه العسل ده!.. انتي عسولة خالص.
ابتسمت "ليلى" بسعادة من إطراءها، ثم سألتها :
- انتي اسمك إيه؟.
فتحت "رحيل" كفها أمامها لكي تصافحها :
- أنا رحيل.. وانتي؟.
- أنا ليلى.. تعرفي تعمليلي ضفيرة كبيرة في شعري؟.
رحبت "رحيل" بشدة وهي تحملها عن "حِراء" :
- طبعًا.. هعملك أحلى ضفيرة.
تنحنحت "حِراء" بتحرجٍ وهي تحاول إعفائها من ذلك المجهود :
- آ.. متتعبيش نفسك يا ست رحيل، أنا هعملها.
تدخلت "ليلى" رافضة ذلك :
- لأ يا حِراء.. الضفيرة بتاعتك مش حلوة.
ضحكت "رحيل" وهي تدخل بها للباحة الفسيحة التي تنتصف القصر، ثم جلست بها وهي تقول :
- هاتيلي مشط وتوك ياحِراء من فضلك.
هزت "حِراء" كتفها بقلة حيلة قبل أن تذهب لجلب ما تريد :
- من عيني.
أجلستها "رحيل" على فخذيها، ثم بدأت بتفكيك شعرها وهي تسألها :
-قوليلي بقى يالولو.. عندك كام سنة؟.
كان أول ما قالته الصغيرة هو تعبيرًا عن اعتراضها على الأسم الذي لم يرق لها :
- قوليلي يا لوليتا.. دادي ومراد بيقولولي كده.
ابتسمت "رحيل" مستجيبة لرغبتها :
- حاضر يا لوليتا.
فتحت "ليلى" أربعة أصابع على يدها وهي تشير :
- أنا عندي Four.. وانتي؟.
- أنا عندي twenty eight.
خرج "هاشم" عليهم فجأة، بدون أن تنتبه "رحيل" إنه يتطلع لذلك المشهد الذي راق له، وبدون أن يتدخل أو يقاطع جلستهم الودودة. حملت نظراتهِ مغزى غير مفهوم، وهو يرمق ضيفتهِ بعينان متفرستان، يستمع لصوتها العذب الرقيق وهي تتحدث لغاليتهِ الصغيرة، نبرة لم تتحدث بها أمامهٍ قطّ، كأنها زقزقة صغير الكناريا، وهو يسبح بين أروقة الهواء الطلق. ظل هكذا واقفًا لدقائق قليلة، حتى حضرت "حِراء" ووقفت إلى جوارهِ تبرر تشبث الصغيرة بـ "رحيل" :
- أنا قولتلها هعملك أنا الضفيرة لكن هي مرضيتش أبدًا.
مازالت عيناه عليهما يراقبهم عن كثب وهو يقول :
- سيبيها يا حِراء، انتي عارفه ليلى مش سهل ترتبط بحد.. معنى إنها راحتلها يبقى ارتاحت ليها.
التفت إليها "هاشم" فرأى المشط ومشابك الشعر بين يديها، فتح لها يدهِ لكي يأخذهم منها و :
- روحي انتي ياحِراء.
- حاضر.
تقدّم "هاشم" منهما وفي عيناه نظرات الإمتنان وهو يقول :
- تعبتي نفسك ليه يا هانم!.. حِراء كانت هتعملها اللي هي عايزاه.
تحسست "ليلى" جديلتها الجميلة لتشعر بسعادة شديدة وهي تقول :
- لأ مش عايزة حِراء تعملها.. رحيل عملتها أحلى.
ابتسمت "رحيل" وقد أسعدها فرحة الصغيرة :
- مفيش تعب ولا حاجه.. ربنا يخليهالك عسولة أوي.
مد لها يدهِ بمشابك الشعر و :
- شكرًا ده من لطفك.
ثم انحنى للصغيرة وهو يتحسس شعرها بإعجاب :
- تصدقي حلوة فعلًا.. إيه القمر ده؟.
ثم انتصب في وقفته لينظر إلى ضيفتهِ الرقيقة وسألها :
- فكرتي في عرضي يا هانم؟.
أومأت رأسها بالإيجاب متحاشية النظر لهيبة عيناه التي تشعرها بقشعريرة، ثم هتفت بـ :
- أه.. بس أنا مش عايزة حد منهم يتأذي، أنا عايزة تساعدني آخد حقي بس.
جلس في مقابلتها وقد ملأ المقعد بجسدهِ العريض، ومن بين حاجبيه المعقودين بإندهاش سألها :
- ومين قالك إني هأذي حد!.
توترت من سؤاله، والذي بدا كأنها تسرعت فيه وفي حكمها على عرضهِ الذي كان أشبه بتحالف ضارّ لأهلها، وبررت ذلك قائلة :
- يعني عشان قولتلي إنك مجرد ما هتتدخل هما مش هيعرفوني تاني.. فـ أنا آ.....
قاطعها مستكملًا التبرير حتى نهايته :
- فـ افتكرتي إني بكده هأذيهم مثلًا؟!.
لم تجبه، فـ نظر "هاشم" لصغيرتهِ التي كانت تتابع حوارهم بدون أن تفهم منه شيئًا، وابتسم لها وهو يقول :
- إيه رأيك يا لوليتا تطلعي تجيبي اللعب الجديدة عشان تلعبي بيها مع aunt رحيل ؟.
قفزت "ليلى" من على ساقيها بعدما دبت الحماسة في أوصالها وهي تسأل متحفزة :
- إنت جيبتلي ألعاب جديدة؟.
- طبـعًا.. أنا أقدر أتأخر عن ليلى روح قلب دادي.
ركضت "ليلى" لتصعد إلى غرفتها التي تعرف مكانها جيدًا، لكي تسمح لهم ببعض الخصوصية بعيدًا عن مسامعها، وحتى يكون "هاشم" أكثر أريحية أثناء الحديث :
- أنا عارف إنك متعرفنيش كويس.. وواضح إن خلفيتك عني مش أحسن حاجه؛ لكن خليني أقولك إني مش ممكن أتسبب في أي أذى لحد إلا..
صمت ثانيتين وهو يشير بسبابتهِ كنوع من الإخطار شديد الأهمية ثم تابع :
- إلا لو اللي قدامي هو اللي بدأ معايا بالأذى.. ساعتها هو اللي بيندم مش أنا.. عايزك تطمني خالص، إحنا هنبدأ معاهم بطريقة سلمية جدًا، وأنا هثبتلك إنهم هما اللي مؤذيين من انا.
هزت رأسها بتفهم لكل ما قاله، حينما كان يشعر تو بإهتزاز هاتفهِ بجيبه فأخرجه وهو يسألها :
- ها.. أكلم المحامي ييجي عشان تقعدي معاه وتحكيله بنفسك كل حاجه؟.
لم تتردد في تلك الخطوة التي ستبدأ بها للحصول على حقوقها المهدرة، معتقدة أن ذلك هو السبيل الآمن الوحيد الذي ستتخذه ضدهم، لحماية نفسها ووالدتها من ذلك البطش الأرعن الذي سلكوه معهن :
- آه.
نهض عن مكانهِ وهو يبتسم لها في مجاملة :
- حالًا هكلمه، عن أذنك.
أجاب "هاشم" على مكالماتها المتكررة كي يتخلص من الإلحاح المستمر، فـ استمعت "رحيل" لصوت أنثوي يكاد يكون صراخ آتيًا من سماعة الهاتف؛ لكنها تجاهلت ذلك وكأنها لم تستمع شيئًا، بينما خرج هو ووضع الهاتف على أذنه يستمع لثرثرتها العالية، بكل فتور وهدوء، حتى صمتت هنيهه، فسألها برتابة جعلت الدماء تفور في عروقها گغليان القدر بماء شديد الغليان :
- خلصتي؟.
هدرت بصوتها غير متحملة ذلك البرود في نبرته :
- إنت إيه معندكش إحساس؟؟.. رد عليا إزاي تخطف بنتي من بيت جدتها هي الدنيا إيه؟!.. سايبة ؟!.
- مش محتاج أفكرك إنها بنتي أنا كمان.
- والله كنت فكرت في الكلام ده قبل ما تهملنا وتواصلنا للحالة دي.. رجعلي بنتي دلوقتي حالًا ياهاشم وإلا آ......
لهجتهِ الحازمة ردعتها عن استكمال تهديدها الضعيف :
- أحسبي كلامك قبل ما تقوليه يا ست هانم.. ولما تهدي نبقى نكمل كلامنا.
أغلق المكالمة أثناء تحدثها، وزفر أنفاسهِ دفعة واحدة وهو يهمس بـ :
- خليكي كده على نار، أنا هعرف إزاي أربيكي.
*************************************
كادت تختنق من ضيق صدرها، وتحشرج صوتها في حلقها بتألمٍ، بينما كانت والدتها تواسيها :
- أهدي يا كاميليا.. متعمليش في نفسك كده.
سحبت شهيقًا لصدرها بصعوبة وهي تردف بـ :
- عديم الضمير والرحمة خطف مني بنتي وبتقوليلي أهدي يا ماما.. انا حاسه إن روحي هتروح مني.
مسحت السيدة "هداية" على ظهرها برفق وهي تقول :
- متخافيش يا حببتي هترجعلك، هو بيساومك عليها بس، ليلى متقدرش تستغنى عنك يا كاميليا.
انسابت الدموع على وجنتيها گالشلالات، وهي تنفي تلك الكذبة :
- لأ ياماما.. البنت متعلقة بأبوها أوي وزمانه أكل دماغها، مش عارفه أعمل إيه.
حاولت" هداية" تحريضها كي تتخذ خطوة رسمية قانونية ضد "هاشم" :
- نروح نعمل بلاغ ونثبت إنه خد البنت منك بالقوة.. كفاية إنه خلى الحيوانات بتوعه يتهجموا على البيت واحنا مش موجودين.
للحظة فكرت "كاميليا" في ذلك، ولكن سرعان ما عدلت عن تلك الفكرة وقد تذكرت للتو من هو "هاشم العزيزي" :
- لأ ياماما.. هاشم جواه شيطان متسلسل، لو فكه بس أنا أول واحدة هتأذي ويمكن مشوفش بنتي تاني.
زجرتها "هداية" بنظرات محتقنة، رافضة بقوة ذلك الضعف التي عليه :
- ضعفك قدامه وقلة حيلتك هي اللي خلته يتمرد علينا.. وبكرة أفكرك لما يحرمنا من ليلى طول العمر أو يجبرك ترجعيله تاني.
أجهشت "كاميليا" بالبكاء غير متحملة تلك الفكرة المميتة، وصرخت في وجه والدتها قبيل أن تفرّ من أمام والدتها :
- بـس يا ماما أرحــمينـي بقى.
هربت من حديث والدتها الذي كان گالسم في آذانها ولم تعد تتحمله، متفردة بنفسها في غرفتها لتبكي وتصرخ بكل أريحية، شاغلها الشاغل هو كيف تستعيد ابنتها الغالية بأقل خسائر ممكنة، وبدون أن تشعر صغيرتها بأي شئ قد يُفسد نفسيتها.
**************************************
خرج "حسين" من غرفة زوجته الثانية، ممسكًا بمنشفتهِ وهو يتمطى، فصدمتهُ "منال" برؤيتها واقفة هكذا وكأنها ملك الموت وأتى ليجذرهُ. انتفض "حسين" متفاجئًا وهو يرى نظراتها الحادة إليه، ثم هدر فيها قائلًا :
- واقفة كده لـيه زي غراب البيت عـ الصبح!.. في حد يقف على الأبواب كده ياولية؟ ؟.
وضعت "منال" يدها في خصرها وهي تردف بسخرية :
- خلاص راضيت السنيورة بتاعتك على قفايا!!.. هو ده عدل ربنا يعني!.. تقعد معاها ليلتين وتسيبني؟!.
تأفف "حسين" مشيحًا بوجههِ :
- ماانتي عارفه اللي فيها يامنال.. البت هدير هتموت من القهرة بسبب موضوع الجواز وكان لازم ألين راسها حبتين.
عقدت "منال" ساعديها أمام صدرها بغير اقتناع :
- لا والله!.. وانا إيه مش مراتك انا كمان ولا إيه؟.. أتكسف ياراجل ده انا الأولى.
وأمسكت بذراعهِ لتسحبه معها قائلة :
- وحياة ديني لتقعد معايا باقي الأسبوع كله.
سحبت ذراعه منها بصعوبة وهو يصيح :
- انتي اتجننتي في دماغك ولا إيه يا منال؟.. هو انا فاضي لشغل الحريم ده!.. وسعي من سكتي كده إيه الاصطباحة اللي زي الزفت دي!.
وتجاوزها ليهبط الدرج، بينما عيناها اللاتي گالشعلتين المتقدتين ترمقهُ بغيظٍ شديد، حتى اختفى بالردهه المؤدية لغرفة المجلس الذي يمكث فيها "حمدي" أغلب الوقت، ليدخل إليه ملقيًا عليه الصباح :
- صباح الفل يا حج.
وانحنى يُقبل يده قبل أن يجاوره في جلسته :
- في جديد؟.
ضرب "حمدي" الأرض بعصاه وهو يردف بـ :
- عثمان الحبشي..
تحفزت حواس "حسين" وهو يسأل :
- ماله!.
- بيجمع رجالة دلوقتي.. شكله هيهجم علينا تاني يا حسين، لازم نتصرف بسرعة.
تأفف "حسين" مضجرًا من نبرة والدهِ القلقة، فقد أصبح هشًا بعد مقتل "حسن الطحان" غدرًا في تلك الليلة المشؤومة، وباتت كل همومه هو فضّ النزاع بينه وبين تلك العائلة السامّة :
- أنا هروح المركز تاني عشان أشوف المأمور عمل إيه في طلبي.
ضرب "حسين" كفًا بكف، فهو غير راضي بالمرة عن ذلك الصلح :
- ياحج ده احنا موقعين منهم ٥ رجالة وحق الغالي أترد وارتاح في تربته.. عايز توطي راسنا ليهم ليه؟.
صاح فيه "حمدي" :
- أخرس.. أنا عايز أحافظ على الراجلين اللي حيلتي، مش عايز واحد منكم يتاخد من قصاد عيني.. كفاية اللي راح.. المرة دي لو قامت العاركة هياخدوا مني باقي عيالي، لازم الصلح ده يتم بأسرع وقت.
قذف "حسين" منشفتهِ بغضب، مستصعبًا فكرة تقديم كفنهِ لعائلة الحبشي من أجل الصفح عنهم في حق الموتى الذي سقطوا لديهم :
- وانا مش هقدم أكفان يا حج.. أنا راجل وأقدر أقف قدام أي ×××× من غير ما أخاف منه.
تحرك "حسين" للخروج وهو يتمتم بكلماتهِ المعترضة، فصادف والدتهِ التي كانت راضية تمامًا عن موقفه العدائي:
- جدع ياواد.. أبوك عايزنا نوطي راسنا على آخر الزمن.. أوعاك تسمعله.
تأفف "حسين" وهو يدير برأسه للإتجاه الآخر :
- متخافيش ياما.
عادت "سعاد" تدس السم في أذنه من جديد بخصوص إبنة عمه المختفية :
- لازم تدور على بت عمك يا حسين.. انا مش هرتاح غير لما أشوفها في عصمتك وتحت طوعك.
أومأ "حسين" رأسه بالإيجاب :
- هيحصل ياما.. يعني هي هتروح فين، ولا ليها اهل غيرتها ولا حيلتها فلوس، هترجع هترجع.. بس طولي بالك.. أنا طالع أغير هدومي.
- أطلع يابني أطلع.
صعد "حسين" الدرج، ليصادف "جليلة" في طريقه، فرمقها بإستنكار وهو يسألها :
- على فين كده يا مرات عمي؟.
تجاهلتهُ وتابعت نزول الدرج، فـ استوقفتها "سعاد" وهي تتأمل هيئتها المنمقة متسائلة :
- رايحة على فين ياأم رحيل؟!.
تأففت "جليلة" بإنزعاج وهي تهتف بـ :
- وانتي حاشرة نفسك فيا ليه يا سعاد؟.. ما تشيليني من راسك يا ختي.
ابتسمت "سعاد" بسخرية من جانب شفتيها وهي تقول :
- مقدرش يا سلفتي.. انتي ضيفتي والضيف لازم يقعد بأدبه.
علت نبرة "جليلة" مستنكرة تلك الإستضافة الطويلة التي تحولت لسجن حقيقي يمنعها حتى من الحركة بالخارج :
- أعفيني انا وبنتي من حسن ضيافتك وخليني أمشي.
جاء صوت "حمدي" من الخلف وهو يتدخل في حوارهم :
- ما قولنالك ياأم رحيل برا مش أمان عليكي.. مش كفاية بنتك اللي طفشت ومنعرفش طريقها فين!.
ثم اقترب منها وسأل بخبث :
- ولا انتي تعرفي طريقها فين ومدارية علينا.
أجابت "سعاد" نيابة عنها وكأن الشك تحول ليقين بداخلها :
- طبعًا عارفه.. أمال هتكون خارجه على فين بمنظرها ده!.
عقدت "جليلة" حاجبيها مستهجنة ذلك التعبير المهين :
- ماله منظري! شيفاني لابسة بدلة رقص لا سمح الله؟! ما تخلي بالك من كلامك ياأم حسين في ايه؟؟؟.
أنهى "حمدي" المشاجرة قبل أن تحتدم بينهن، وتدخل فاصلًا أمر خروجها من المنزل :
- نهايته.. مفيش خروج ياأم رحيل الدنيا لبش برا، انتي برضو أمانة المرحوم أخويا وأمانك واجب علينا.
اهتاجت لمجرد سماع كلمة (أمانة)، تلك الصفة التي لم يحافظ عليها أو يؤديها، بل إنه أهدرها :
- أمانة إيه ياحج؟ ؟.. ده انا مخدتش جنيه من مال جوزي الله يرحمه، كل اللي اديتهوني شهرية من إيجارات المحلات والدكاكين، وأنا سكت وراعيت العشرة والأصول وفوضت أمري لله، إنما تيجي على بنتي كمان يبقى لأ.. لازم يبقى في وقفة.. كفاية علينا ظلم لحد كده.
ضرب "حمدي" عصاه بالأرض گعادتهِ المنفعلة المعتادة، ثم هتف مصرحًا لآخر مرة قبل أن يذهب من أمامها :
- هي كلمة واحدة ياأم رحيل.. مفيش خروج لحد ما نلاقي المحروسة بنتك وخلص الكلام هنا.
شبكت "سعاد" أصابعها معًا وهي ترنو إليها بنظرات متشفية شامتة، ثم هتفت بـ :
- يلا يااختي أطلعي اوضتك استني الفطار لما يجهز وابقي انزلي، ولو مش عايزة تفطري زي عادتك يبقى أحسن برضو.
التفتت مولياها ظهرها وهي تغمغم بـ :
- ناس تخاف متختشيش.
ابتلعت "جليلة" ريقها بصعوبة، وأحست بحرارة الدموع المتكومة في جفونها المتعبة من كثرة السهر، منعت نفسها لئلا تُظهر ذلك الضعف الذي ينتابها؛ ولكن ملامح القهر لم تغيب عن وجهها أبدًا، تخيم عليه بصورة دائمة وكأنه كتب عليها هي وابنتها عيش مصير لا نهائي من الظلم.
- ياترى روحتي فين يا رحيل؟.. ولو كنتي بخير إزاي أوصلك بس؟!.
**************************************
استقبل "هاشم" ذلك المحامي المخضرم ذا الصيت العالي في مصر كلها بحجرة مكتبهِ، حينما دقّت الساعة الحادية عشر والنصف صباحًا. أجلسهُ أولًا ثم نظر للخادمة قائلًا :
- شوفي الهانم كده وبلغيها إني عايزها.
أومأت "عبير" رأسها وهي تمضي :
- حاضر يا بيه.
جلس "هاشم" أمامهُ وهو يرحب به :
- نورت ياسعد.. إيه أخبار الشغل.
- كله تمام.. قولي بس إيه الموضوع بإيجاز لأني مفهمتش حاجه في التليفون.. أنا تصورت إنك عايزني عشان موضوع كاميليا!.
مطّ "هاشم" شفتيهِ نافيًا ذلك :
- لأ.. في موضوع تاني أهم بالنسبالي دلوقتي.
طرقت "رحيل" الباب وهي تمسك بطرف عبائتها الطويلة، فوقف "هاشم" عن جلستهِ يستقبلها :
- صباح الخير يا هانم.. أتفضلي.
وأجلسها مكانهِ، في مشهد لفت إنتباه "سعد" وجعله يركز معه محاولًا تحليل الموقف :
- رحيل هانم هتشرحلك مشكلتها ياسعد وبعدها تقولنا هنتحرك إزاي وفقًا للقانون.
تفحص "سعد" وجهها جيدًا، قبل أن يقدم نفسه إليها، بنبرة حملت بعض الغرور :
- أنا سعد الكيلاني المحامي.. ممكن أتشرف بيكي؟.
رفعت رأسها ما أن سمعت بأسمهِ، ونظرت إليه في ذهول وهي تقول :
- أزيك يادكتور سعد، أكيد مش فاكرني!.
قطب "سعد" جبينهِ محاولًا تذكرها، بينما عينيِّ" هاشم" توزع النظرات بينهما :
- معلش أعذريني مش مركز أوي.
- أنا كنت بتدرب في مكتب حضرتك في القاهرة.. بس آ.....
فسألها "هاشم" بفضول :
- بس إيه؟؟.. لو انتي محامية ليه آ.....
قاطعت "رحيل" فضوله مبررة نفسها أمامهم :
- مكملتش جامعة.
لم يود "سعد" الدخول في التفاصيل لأكثر من ذلك، وبدون إهدار للوقت سألها :
- قوليلي إيه المشكلة والحل عندي أكيد.. بس ياريت بإستفاضة، أصغر تفصيلة بتفيدنا نخرج الثغرات اللي تهمنا.
**************************************
أمسى الليل وهي مازالت في عيادتها الخاصة بداخل أحد مراكز التجميل الشهيرة، تهلك نفسها في العمل لتقتل ذلك الشوق الذي يشتعل بصدرها لصغيرتها الغالية، ورغم حالة العمل المتواصل التي كانت عليها؛ إلا إنها كانت منطفئة أغلب اليوم، مهمومة وتعيسة، على وجهها تعابير الإرهاق والتعب. خرجت آخر حالة كانت تتابعها من العيادة، فرفعت سماعة الهاتف لتتحدث بها :
- أيوة يا هاجر.. في حد تاني برا؟.. طب كويس أوي، أنا دماغي فصلت اطلبيلي قهوة مظبوط من فضلك.
ثم أغلقت الهاتف ونظرت للفراغ المعتم.
رنّ هاتفها، فنظرت إليه بإنعدام رغبة، وفجأة انتفضت من مكانها وهي تلتقطه، ما أن لمحت أسم "هاشم" ينير الشاشة :
- أيوة ياهاشم.. قفلت تليفونك من امبارح ومش عارفه أوصلك!.
أتاها صوته المقتضب وهو يقول :
- أنا تحت المركز.. أنزلي.
تحركت بعشوائية تبحث عن حقيبتها وهي تسأله بتلهفٍ :
- ليلى معاك؟.
- بقولك أنـزلـي...
وأغلق الهاتف، فنزعت عنها معطفها الطبي الأبيض، وخطفت الحقيبة لتركض من بعد ذلك بأقصى سرعة تمتلكها. رأتها "هداية" على تلك الحال، حاولت أن تستوقفها وقد أصابها القلق :
- في إيه يا كاميليا؟.
- هاشم تحت لازم أنزله.
تأففت "هداية" وهي تراها تركض هكذا، وتمتمت بإنزعاج شديد :
- يارب يكون جاب البنت معاه عشان ترتاحي شويه يا كاميليا.
خرجت "كاميليا" من بوابة المركز، نظرت يمينًا ويسارًا حتى ترآى لها سيارتهِ، فهرولت إليها وراحت تنظر بالخلف أولًا، فلم تجدها. خمدت حماستها، وتهدّلت أكتافها وهي تفتح الباب الأمامي. استقرت بجوارهِ وقد عادت انطفائتها، ثم سألته بهدوء يُناقض الحريق الناشب بين ضلوعها :
- ليلى فين يا هاشم؟.
أدار المحرك وانطلق بسيارتهِ، لم يعيرها اهتمامًا أو يرد عليها، فلم تكرر سؤالها، كلاهما يعرف الآخر جيدًا، ولذلك ساد الصمت إلى أن يقرر "هاشم" متى يكون الحديث.
اصطحبها إلى أحد الأماكن العامة المشهورة بالهدوء والخصوصية، مكان لا يدخله سوى الفئات الأرستقراطية. سحب لها مقعدًا وأجلسها بكل رقيّ، كأنه لقائهم الأول ويريد ترسيخهِ في ذهنها، ثم جلس في مكانهِ قبل أن يشير للنادل :
- هات ٢ اسبريسو.
- أي أضافة تانية يافندم.
- شكرًا.
كان تنظر إليه بنظرات ضعيفة، هي لا تملك أن تفعل له شيئًا، خاصة وإنها لا تملك الدليل على إنه اختطف ابنتها، وإن تجرأت لتحرير محضر ضده قد يتهمها بالإهمال ويطعن في قدرتها على حضانة الطفلة، وهذا ما يريده بالفعل.
تنهدت "كاميليا" وهي تستندت بذراعيها على الطاولة، ثم سألته :
- عايز مني إيه يا هاشم؟؟.. بتستخدم بنتي عشان تضغط عليا في إيه؟.
قطب جبينه بإستنكار لذلك التعبير الأخير، ثم هتف بـ :
- أنا مستحيل استخدم بنتي عشان أضغط عليكي في حاجه.. البنت بنتي أنا كمان ومن حقي أقضي وقت معاها، ودي حاجه اتفقنا عليها لما اتطلقنا.
- بس متفقناش إنك تخطفها يا هاشم.. لو جيت وطلبت البنت هديهالك تقضي معاك اليوم وترجعها.
وضع ساق على أخرى، وكأنه يعلن إنه صاحب الموقف الأقوى في الأمر، ثم أردف متعاليًا :
- مش كفاية.. أنا عايز وقت قد الوقت اللي بتقضيه معاكي على الأقل.
تغضن جبينها بإستنكار وهي تقول :
- وانت فاضي أصلًا عشان تقعد معاها!.. انت بتدور على حاجه تعند بيها معايا وخلاص؟!.
- والله دي حاجه ترجعلي.. فاضي مشغول ده ميخصكيش، المهم نتفق، لأني مش هسمح بنتي تتربى بعيد عني.. وده اللي سيادتك معملتيش حسابه لما جيتي وطلبتي الطلاق.
وضع النادل فناجين القهوة على الطاولة ثم انصرف، فتناول "هاشم" خاصتهِ وبدأ يتشمم رائحتهِ الذكية وهو يتذوقه :
- أنا رأيي نتفق بدل ما البنت تكبر وسط اتنين مش عارفين يتفاهموا حتى في تربيتها، أنا من مصلحتي ليلة تكون سوية.
أشاحت بوجهها عنه وهي تقول :
- هتكون سوية لما تتربى مع أمها.
- وأبوها... أمها وأبوها ياهانم.
بدأ الغضب يرتسم على وجهها، فـ صاحت فيه بدون تروي:
- انت عايز بالظبط؟؟ لو دي وسيلة بتضغط بيها عليا عشان نرجع أحب أقولك آ....
قطع عليها ذلك الطريق نافيًا ترجيحها :
- مستحيل.. انا عمري ما أرجع عن خطوة خطيتها، ولا ببص ورايا أبدًا.. ماانتي عرفاني.. انا جاي النهاردة عشان أتفق معاكي إزاي البنت تتربى بينا، ومعنديش مانع أسيبك تفكري في مقترحات لو عايزة، لكن في النهاية متظلمنيش، أنا برضو أب.
ترك "هاشم" قهوتهِ على الطاولة ثم ترك مبلغ مالي يسدد الفاتورة وأكثر، ثم هتف بـ :
- البنت هتجيلك بكرة، ولما أجيبها وآجي تكوني جهزتي الرد على سؤالي.. إزاي هنربي البنت بينا؟.
وقف عن جلستهِ وأغلق زر معطفهِ، ثم مسح على وجهها بأصابعهِ الخشنة على بشرتها، وابتسم قائلًا :
- سـلام يا كاميليا.
تركها وخرج بدون أن ينظر خلفه مرة أخرى منتقلًا نحو سيارتهِ، جلس بها مستخدمًا هاتفهِ وعيناه تلمع بغرابة شديدة. وضع الهاتف على أذنهِ وانتظر الرد، وهو ينظر لباب المقهى الذي لم تخرج منه بعد، حتى آتاه الرد خلال ثوانٍ :
- أيوة.. إيه الأخبار، حلو أوي.. بكرة يكون الموضوع ده خلصان يا مُراد، أنا عايز ليلـى تفـضل معايا للأبـد...