رواية صرخات انثى الفصل الواحد والسبعون71 بقلم ايه محمد رفعت

رواية صرخات انثى

 الفصل الواحد والسبعون71

 بقلم ايه محمد رفعت



طرق باب الشقة، وتمنى أن تفتح هي الباب، فلبت نداء قلبه المشتاق، حينما طلت من أمامه، ابتهجت معالم "آيوب" حينما رآها أمامه، بينما رددت "سدن" بابتسامة هادئة: 

_آيوب! 

منحها ابتسامة جذابة وقال وهو يضع أكياس المشتريات جانبًا: 

_عاملة أيه يا سدن؟ 

رددت بنبرتها التي بات يعشقها:

_الحمدو لله، أنا كويس أوي، وإنتي عامله أيه؟ 


اتسعت ابتسامته وانقلبت لضحكةٍ جعلتها تتابعه بابتسامة يتلألأ بها حبه الساكن بين مُقلتيها، استعاد اتزان نبرته المرتشعة من الضحك وقال: 

_الحمد لله بخير، أينعم مطحون في المذاكرة بس بخير، هسافر بعد يومين إن شاء الله عشان امتحاناتي. 


تلاشت ابتسامتها ، بل شحبت تعابيرها وتجمدت، لدرجة جعلتها تتمسك بكف يده وتتساءل بدهشةٍ: 

_هتمشي وتسيب سدن هنا! 

خفق قلبه طربًا، لمستها جعلت جسده ينتفض من فرط مشاعره، تعمق بحدقتيها وقال يهمس لها: 

_لازم أسافر عشان امتحاناتي يا سدن، ومينفعش أخدك معايا، لسه حوار عمك متنساش. 


سحبت كفها منه وبعصبيةٍ رددت بالانجليزيه ما يعني وصولها لذروة غضبها: 

_وكأنك تكثر من حجتك بما حدث، فلتكن صادقًا آيوب أنت تريد الذهاب بمفردك، لقد أخبرني الشيخ مهران أن الكذب من المعاصي والمحرمات ومازلت تلجئ لحجتك الكاذبة كلما رأيتني. 


واستطردت ودموعها تنهمر من مُقلتيها: 

_قول إنك عاوزة تبعدي عن سدن، بس مش تكذبي آيوب حرام عليكي الكذب حرام. 


وتركته وغادرت لغرفته، بينما يتابعها هو في صدمةٍ وعدم استيعاب، دفع "آيوب" باب الشقة بيده وتفحص الردهة بحرجٍ، يخشى الولوج للداخل بوجود "خديجة"، ابتسمت من تراقبه من على بعدٍ، فتركت المنشفة والملعقة من يدها، واتجهت له تخبره: 

_تعالى يا قلب أمك، هو أنت غريب! 


استدار تجاه الرواق؛ فوجد والدته تتابعه ببسمةٍ خبيثة، أوحت له بسماعها لحواره مع زوجته من البداية، تنحنح بخشونةٍ وهو يشير لها على الأكياس المركونة خلف باب الشقة: 

_يونس جابلك الطلبات اللي بعتيها مع فارس بالورقة يا حاجة، إتاكدي إن مش ناقصك حاجة، لو كده هنزل أجبها من المحل. 


ربعت يديها أمام صدرها وهدرت بسخريةٍ: 

_بتتماكر على أمك يابن الشيخ مهران. 

وأشارت على نفسها باعتزازٍ: 

_ده انا اللي مربياك وأفهمك من نظرة يا بشمهندس. 

واستطردت وهي تشير له: 

_هات الحاجة وادخل، خديجة طلعت تهوي الشقة بتاعت أمها، وقررت إنها هتنقل فيها بعد ما الدكتور طمنا أنها بقت أحسن. 

وأضافت بمكرٍ: 

_يعني تقدر تدخل وتطلع براحتك، مفيش حد غريب. 


حمل الأغراض ووضعها بالمطبخ وهو يتهرب من عينيها بحرجٍ، فغادر يتجه لباب الشقة قائلًا: 

_طيب هطلع أكمل مذكرة أنا بقى. 

إهتز بوقفته فزعًا حينما صرخت به: 

_استنى عندك يالا!! 


استدار للخلف لها، فوجدها تسرع إليه، انتشلته الحاجة" رقية" وأبعدته من أمام باب الشقة الذي أغلقته بغضبٍ، ووقفت قبالته تصيح بغيظٍ: 

_واد يابن الشيخ مهران إنت، ارحمني أنا عندي الضغط. 

ارتاب آيوب من أمرها، وقال: 

_ألف سلامة عليكي يا حبيبتي اطلبلك دكتور؟!

راقبته بصدمةٍ، بينما يتابع بفزعٍ: 

_أكيد نسيتي تأخدي الحباية بتاعت الضغط النهاردة صح! 

واستطرد وهو يتجه لغرفتها: 

_حالًا هجيبها لحضرتك. 

جذبتها بعصبيةٍ وانفجرت به: 

_إنت اللي هتجلطني، بقولك محدش هنا ومفيش حد غريب، اتلحلح وادخل صالح مراتك، أنا شوفتها وهي بتجري كانت بتعيط!! 


اعتلاه الحرج، وتمكن منه لاقصى درجة، فقال بارتباكٍ: 

_ميصحش أدخل وحضرتك موجودة. 

طرقت جبينها بقوةٍ ورددت بتعبٍ: 

_عوض عليا عوض الصابرين يا ررب، أقوله أيه ده!! 

وتابعت بنزقٍ: 

_يابني  الله يحفظك افهمني، تربية الشيخ مهران دي مش هتنفعك مع مراتك صدقني، اتحرك وكده وخليك زي الشباب الروشة، دي مراااااتك مراتك على سنة الله ورسوله، فاهمني! 


أسبل بجفنيه بصدمة مما توحي به وقال: 

_يعني حضرتك عايزاني أعمل أيه؟  الشيخ مهران لو رجع من المحل ولقاني هنا هيتضايق مني، سبيني أطلع شقة يونس قبل ما يرجع. 


نزعت الحاجة "رقية" حجابها، وعصبت به رأسها وراحت تردد في تعبٍ: 

_عوض عليا عوض الصابرين يارب! 


أحاطه القلق فأمسك يدها وسألها بخوف: 

_مالك يا ماما، إنتِ مش طبيعية النهاردة. 

شملته بنظرةٍ محتقنة، وهتفت بسخريةٍ: 

_والله يابني ما حد عارف مين فينا اللي مش طبيعي. 

ونادته ببسمة مغتاظة: 

_آيوب. 

اجابها بلهفة: 

_آيوه يا أمي، قوليلي بس حاسة بأيه وأنا هتصرف. 

أجابته بصدر رحب: 

_حاسة بمرارتي هتفرقع في وشي وشك بعد شوية يا روح قلب أمك! 

وسحبت كفها بعنفٍ من بين يديه، وصرخت بانفعال: 

_اجري من وشي روح صالح مراتك وثبتها بكلمتين من بتوع الشباب بدل ما أقلب عليك قلبة القطة على عيالها، وأحرمك من كفتة الرز اللي مهدود حيلي فيها لبكره دي. 


جحظت عينيه صدمة، فرمش بعدم استيعاب، وراح يتساءل: 

_يعني إنتِ كويسة،  مش حاسة بأي تعب؟ 

رمقته بنظرة شرسة واستدارت تبحث عن أي شيء يجاورها، جذبت المكنسة اليدوية، وهرعت إليه تصرخ: 

_روح صالح البت هتجلطني بتربيتك دي!  


ركض آيوب تجاه غرفته ضاحكًا، بينما تابعت "رقية" بغيظ: 

_ده الشيخ مهران رومانسي وبيفهم عنه! 

على ذكر محبوب قلبها، جلست على مقعد السفرة، تهيم به مستندة على ذراعها، وقالت ببسمة هائمة: 

_ربنا يباركلي فيه ويحفظهولي يارب! 

  

بينما بداخل غرفة "آيوب". 

ولج للداخل يكبت ضحكاته بصعوبة، لقد أجاد تمثيل دور العفاف على والدته جيدًا، بينما بداخله يتراقص فرحة ويتمنى أن تصر على دخوله لها، ليضمن إن تم القبض عليه من قبل الشيخ مهران فيخبره بصدق أنها من دفعت به إلى ذلك، دون اللجوء إلى الكذب. 

بحث عنها آيوب فوجدها تجلس على الأريكة القريبة من الشرفة، تميل على ذراعيها وتبكي بخفوتٍ، وما أن شعرت بحركة خلفها حتى رددت ببكاء: 

_آيوب عاوز يسيب سدن ويمشي لندن وحده خديجة، أنا قولت ليك إنه مش يحبني، هو عمل كده عشان محمد. 


أتاها صوته الحنون ينفي اتهامها: 

_سبكتي التهمة على مقاسي يا سدن! 

استدارت خلفها، فتفاجئت به يقف قبالتها، نهضت تبحث عن حجابها وهي تردد بغضب: 

_إنتي داخله هنا ليه، امشي بره، أنا مش لابس! 


ضحك رغمًا عنه على مظهرها المضحك وهي تبحث عن اسدالها، فكانت تجلس ببيجامة من اللون الأسود، وشعرها الأصفر يندرج من خلفها بحريةٍ، بينما وجهها يضربه حمرة البكاء فجعلها فاتنة بكل معنى الكلمة. 

تركها آيوب ترتدي اسدالها ولم يرغب في مضايقتها، بل استدار عنها حتى انتهت من عقد حجابها، وفور أن انتهت هتفت بحنقٍ: 

_كيف تجرأ على الدخول إلى هنا؟  هيا انصرف قبل عودة الشيخ مهران! 


دنى إليها مبتسمًا، وقال ببساطة: 

_ولو حضر العالم بأكمله إلى هنا لا يعنيني، إنتِ زوجتي سدن!  هل تعي ذلك؟ 


وقال بثقة يشير لها من حيث وقوفه: 

_اقتربي مني! 

زوت حاجبيه باستغراب، ومع ذلك اقتربت، أمسك يدها المضمومة على الأخرى وقال وفيروزته  تحاوطها: 

_لم أكن يومًا كاذبًا، أقسم بالله أن قلبي إنفلت زمام الأمر عنه وبات سجينًا داخل قلعتك، أنا أحبك وإحتسبتك زوجة لي من اللحظة التي أعتنقتي بها الإسلام. 

وتابع بحبٍ: 

_كل ما في الأمر أنني أريد الأمان لكِ، وسفرك الآن برفقتي ليس لصالحك. 

ومنحها ابتسامة هادئة، ريثما يردد بعاطفة: 

_أتركِ من خلفي وما أنتِ بمنسية، وضعتك داخل قلبي ووهبتك كل ما تمنيت أن أمنحه لمن ستكون زوجة لي، ومع ذلك مازلتِ تشككين بحبي لكِ! 


انهمرت دموعها عن مُقلتيها، بينما يدها ترتعش بين كفيه، جذب كفه برفقٍ إليه، فانساقت من خلفها، أزاح دموعها وقال: 

_طيب أفهمك بأي لغة تانية إني بحبك!  

وأضاف مازحًا: 

_ده الحاجة رقية لمحتها من على بعد ومدخلاني ليكي بإيد المقشة! 


ضحكت رغمًا عنها وهو يمنحها نظرة دافئة، وابتسامة لا تفارقه، أحاطها إليه، وضمها بحنانٍ، فتعلقت به بقوةٍ وقالت: 

_مش تتاخري ماشي؟ 


انفصل عن لحظة رومانسيته ومال على كتفها يضحك بصخبٍ، وهو يخبرها بصعوبة: 

_خلي الشيخ مهران يعلمك الفرق بين المذكر والمؤنث عشان الوضع ده مش نافع بأي شكل! 

ابتسمت وهي تخبره على استحياء: 

_لا تقلق آيوب، السيدة رقية تبذل قصارى جهدها. 


مازحها ضاحكًا: 

_جهودها منطلقة في كل الاتجاهات ست الكل خيرها مغطي! 

تلونت عينيها حزنًا، وقالت بحياءٍ: 

_سأفتقدك أتعلم ذلك؟ 

اتسعت ابتسامته، وبعشقٍ قال: 

_يارتني أقدر أترجم مشاعري ليكِ، بس أنا واثق إن لما يجي الوقت اللي نشهر فيه جوازنا هتقدري تكتشفيني بالشكل اللي أنا عايزه. 


واستطرد بمشاكسةٍ جعلتها تضحك من قلبها: 

_هطلع قبل ما الشيخ مهران يقفشني معاكي هنا، هيحرمني من الامتحانات وفيها اعادة سنة تأديب واصلاح وأنا عايز أنجز عشان أدخل دنيا! 

واتجه ليغادر هاتفًا بحنان: 

_قبل ما أسافر هنخرج انا وأنتِ وهنلف بالسكوتر بتاعي للصبح، على فكرة مخدتش حد قبل كده ورايا. 

غمز بفيروزته يشاكسها: 

_انتي هتبقي الأولى. 

                               ****

أغلقت باب شقتها، واستعدت للهبوط وابنها يتشبث بيدها، مرت من طابقها واتبعت الطابق الآخر، فسحب ابنها كفها منها فور أن رأى ذلك الذي كان بطريقه لشقته، ركض الصغير اليه وهو يناديه بلهفةٍ: 

_بــــابـــــــا. 

حمله "يونس" بين ذراعيه بفرحةٍ، وضمه إليه، وعينيه تراقب من تقف على بعدٍ منهما، حمله واتجه إليه يتساءل باستغرابٍ: 

_رايحين فين بالوقت ده؟ 


أجلت أحبالها وعينيها تتهرب من لقائه: 

_نازلين محل البقالة اللي على رأس الشارع نجيب شوية طلبات. 

وما كاد بالحديث حتى قال فارس: 

_أنا طلبت من ماما تعملي سندوتشات لنشون وسحلب سخن فقالتلي هننزل نجيب ونرجع. 


ترك الصغير عن ذراعه، ونهض يستقيم بوقفته، يعاتبها بضيقٍ: 

_مش أنا قولتلك لما تعوزي أي حاجة أبعتيلي رسالة وأنا هجبلك طلباتك، بتكسري كلامي من أولها يا خديجة؟! 

ردت عليه من خلف نقابها الأسود: 

_أبدًا والله، بس محبتش أشغلك عشان طلب بسيط زي ده، أنا قولت هنزل بسرعة وهرجع. 


إحتدت نبرته غضبًا: 

_ونازلة من غير إذن! 

قرأ بعينيها تكدس حديث لا تستطيع البوح به، لكنه بارعًا بقراءتها، لطالما كانت كالكتاب المفتوح إليه منذ أن كانت بالعاشرة من عمرها، وما أزعجه الآن بقراءته، التفت "يونس" لصغيره وقال: 

_انزل عند آيوب تحت يا فارس، شوية وجايلك. 


هز الصغير رأسه وهرع للاسفل، بينما اقترب "يونس" منها يتفوه بعصبيةٍ: 

_إنتِ مراتي وفي عصمتي وملزومة مني غصب عنك وعن الكل، الفاصل بينا فترة عدتك واللي بتمنى آنها تخلص وتنتهي لأنها بتفكرني بأسوء ذكريات بتمنى أنساها وتتمحى من ذاكرتي. 


رفع اصبعه يشير لها بغضبٍ: 

_نظرة الانتظار اللي في عينك دي بتقتلني أكتر من اللي فات ده كله، مسؤوليتي معاكي مش شفقة مني ده واجب عليا لانك مراتي حتى لو فاضل كام يوم على كتب كتابنا. 


كسى الحزن تعابيره، وتشربته نبرته حينما أردف: 

_أنا لحد اللحظة دي مش مستوعب إننا افترقنا وإنك بقيتي لغيري، لسه شايفك مراتي اللي اتحرمت من حضنها، طول السنين اللي فاتت دي كنت بعد الأيام عشان أطلع وأرجع هنا يقولولي إن كل ده وهم، خديجة مستنياك، كل ده كدب ومحصلش. 

واستكمل بعجزٍ شعرت به: 

_اللي فات ده مش هيرجع تاني يا خديجة، هترجعي تكوني ملكي وحلالي، والمرادي مش هيفرقنا غير الموت. 


انهمرت دموعها تباعًا وهي تتطلع إليه، وكسرت صمتها، حينما هتفت بانكسار: 

_أنا اتبهدلت أوي من غيرك يا يونس، كل اللي بتمناه إنك تاخدني في حضنك وتطبطب عليا زي زمان. 

ابتسم وهو يتطلع لها بحبٍ، وقال: 

_أول حاجة هعملها بعد ما المأذون يكتب الكتاب. 

وأشار بعينيه للدرج قائلًا بحزمٍ: 

_ودلوقتي على فوق ومتخطيش السلم ده برجليكِ من غير إذن، طاوعيني أنا مش عايز أبتديها بزعل من أولها يا ست البنات! 


ضحكت من قلبها، وازاحت دموعها التي أغرقت نقابها، مرددة بفرحةٍ: 

_لسه ست البنات في عيونك يا يونس؟ 

انتعش بنطقها لاسمه وقال بحب: 

_في عين يونس وقلبه ست الهوانم كلها يا خديجة. 


تاهت بعينيه وابتسامتها الخجولة ترفرف بالارجاء، فمازحها ببسمة جذابة: 

_أنا بقول كفايا ذنوب كده وتطلعي فوق يام فارس، وانا هنزل أخده واجيبله اللي هو عايزه وهطلعلهولك تاني. 

أومات برأسها بخفة وصعدت للأعلى بملامح مبهجة، تتشرب الحب بعد جفاء، فارتوت أرضها القاحلة وأينعت بثمارها. 

                            *****

لم يصدق أنه هو نفسه الذي قام باختطافه، وقف يطالعه بغرابةٍ بينما يحدجه الطاووس بنظرة متعالية لا تليق الا به، وببرودٍ قال: 

_قولتلك قبل كده إن العيلة اللي مفهاش صايع حقها ضايع، وأنا فاضيلك ومعاك للآخر يا نعمان، كل اللي عملته في حياتك وعدتهولك كوم واللي عملته معايا ومع جمال ده كوم لوحده. 


احتقنت معالمه وبعصبيةٍ صاح: 

_إنت ليك عين تقف وتهددني، مسلط بلطجية يخطفوا خالك يا عُمران!! 

منحه بسمة ساخرة، وببرودٍ قال: 

_عادي يا خال ما أنت سلط نفس البلطجية عليا وخلتهم يعملوا اللي إبليس ميفكرش فيه! 

وأضاف ساخطًا: 

_ مش كل اللي مسك طبلة ورا العالمة بقى طبال يا نعمان، كنت فاكر إنك طلعتني المسرح جنبها بس أنا اللي طلعتك وبلبسها.


كبت آدهم ضحكاته بصعوبةٍ، صمد لدرجةٍ غير معقولة حتى لا تتوارى عنه، بينما هتف نعمان بعصبية: 

_أنت بتتخطى حدودك معايا، صدقني مش هعدهالك يابن فريدة. 


رنا إليه بخطواتٍ متهدجة، يطالعه ببرودٍ لحق نبرته الواثقة: 

_هات أخرك وأنا جاهز وهديك اللي فيه النصيب يا خال. 

واستطرد بعدائية شديدة: 

_خروج من هنا انسى، إنت نزلت من نفسك باللي عملته معايا، وعشان إنت للاسف الشديد حامل نسل الغرباوي، مضطر أنزل لمستواك وأعيد تربيتك الناقصة من تاني. 

وقبل أن يترك له مجال الحديث، صاح بخشونة: 

_مغرفة!


هرول إليه أحد الرجال يجيب: 

_أمرك يا باشا. 

قال ومازالت رماديته تحيطان بنعمان: 

_اهتم بالخال ووجب معاه عشان اللي جاي سواد على دماغه. 


وتركه دون أي كلمه وغادر على الفور، جحظت أعين نعمان صدمة، فصرخ به يوقفه وهو يصيح بانفعال: 

_هتدفع التمن غالي يا عمــــــرااان مش هسيبك سااااامع! 

                         *****

طرق الباب للمرة الثانية والعرق ينهمر على وجهه من فرط مجهوده المبذول، فتحت الخادمة الباب وقالت بابتسامة واسعة: 

_بشمهندس آيوب البيه بانتظارك جوه. 


أومأ برأسه بخفة، واتجه سريعًا للداخل، قاصدًا غرفته، وجده يتمدد على الفراش والتعب يجول ملامحه كالوحش الكاسح، أشار له بيده وهمس: 

_آيوب تعالى يابني! 


رنا إليه متلهفًا وهو يردد: 

_ألف سلامة على حضرتك يا عمي، أول ما كلمتني سبت كل حاجة وجتلك، تحب أطلب الدكتور؟ 

تمعن به مصطفى بنظرةٍ حزينة، وقال: 

_لا يا حبيبي أنا خدت أدويتي وهبقى كويس. 

وبحرج قال: 

_معلش ازعجتك في وقت متأخر زي ده، أنا كنت فاكر عمر معاك موبيله مقفول وبحاول أكلمه من الصبح. 


ابتسامته البشوشة تشكلت على وجهه وهو يجيب: 

_مفيش إزعاج ولا حاجة، مش انا زي آدهم ولا أيه؟ 


تدفق الدمع من عينيه وهو يطالعه بنظرة شملت كل آلآمه، تفاجئ آيوب باشارة يده التي تطالبه بالاقتراب، فترك مقعده ودنى إليه. 

اعتدل مصطفى بجلسته وضمه إليه يبكي كالطفل الصغير، اخترق سهام الألم قلب آيوب وبات عاجزًا عن التصرف أمامه، فرفع ذراعيه يحيطه والقلق يعتلي ملامحه، تحرر مصطفى عن صمته أخيرًا، وقال: 

_سامحني يابني، حقك عليا يا آيوب، مش عايز منك غير السماح والغفران على ذنبي!


ابتعد عنه آيوب يقابله بنظرة حائرة: 

_مش فاهم حضرتك بتتكلم عن أيه؟  أسامحك على أيه بالظبط؟! 

                             ******

عاد علي للقصر بعد يوم عمل طويل، ولج جناحه يحرر جرفاته وينزع جاكيته بارهاقٍ، صوبت نظراته تجاه فراشه، وهو يتوقع رؤية ملاكه يغفو بسكون، زوى حاجبيه بذهول حينما وجده فارغًا. 


اضاءت المصباح المجاور لمقعدها، فاستدار علي للخلف، فوجدها تجلس بانتظاره، اقترب منها فتفاجئ بآعينيها المتورمة من أثر البكاء، انقبض قلبه من رؤيتها هكذا، فأسرع اليها ينحني أسفل مقعدها، يناديها بلهفة: 

_فطيمـة! 


رفعت عينيها ببطءٍ له، وقالت بصوتها المبحوح: 

_أنا آسفة. 

ابتلع ريقه بارتباكٍ وتساءل: 

_على أيه يا فاطمة؟ 


انتقلت ببصرها للخزانة المفتوحة على مصرعيها، فتطلع لما تتأمله، فوجدها تتأمل علبة مجوهراتها المغلقة، ضم شفتيه بغضب لتذكره أنها كانت مفتوحة وقام هو باغلاقها بنفسه، بالتأكيد علمت بأنه قد رآها،  استمد ثباته ورزانته، وقال: 

_مفيش حد يملك القرار ده غيرك يا فاطمة، أوعي تعتذري أبدًا، إنتِ مغلطتيش. 


هزت رأسها نافية، وقالت: 

_لازم أعتذرلك ألف مرة، علي أنا مش هقدر أجبلك الابن اللي بتتمناه، لاني ببساطة مش عايزة أكون أم، ولا إنت هتكون أب لاني هكون أنانية ومش هسمحلك تتجوز عليا ولا يكونلك أولاد من غيري ســـــامع!! 

                               *****

صعد الجوكر على متن الطائرة يموج غضبًا من أخيه، يتمنى لو يعود لمبنى الجهاز ويقتله بدم بارد، عساه يحصل على الراحة الابدية من شخصًا برأسٍ سامة مثل "رحيم زيدان"  ، وبينما كان منشغلًا بأفكاره الاجرامية، انتباه صوتًا يجاوره، يهتف بحنقٍ: 

_اشتقتلي يا شريك؟! 



اتسعت زُرقته بصدمة من رؤيته يجاوره على متن الطائرة، بينما الآخير ينزع نظارته السوداء، ويمرر منديله الورقي يمسحها وابتسامته لا تفارق وجهه، بل أضاف لجملته: 

_بقالنا كتير مطلعناش مهمة مع بعض، شامم ريحة  افتقادك ليا من مكاني. 


تخلى "مراد" عن صبره، نزع حزامه ونهض يلف يده حول رقبته بقوةٍ وإحكام أدهشت الآخير الذي ردد باختناقٍ: 

_عيب، في حد يقابل أخوه بعد كل 8 ساعات فراق بالقسوة دي! 


تحرر عن هدوئه وصرخ به: 

_رحيـــــــم إتقي شري أحسنلك، أنا خلاص مش باقي على حاجة وشكلك كده هتتصفى هنا وقبل ما نتحرك لأي مكان. 

حاول أن يخفف حدة يده عن رقبته، متمتمًا: 

_إنت أد المسكة دي؟ 

منحه نظرة ساخرة، وهتف بتحدٍ واثق: 

_فك نفسك لو عرفت! 


ابتسم في سخطٍ، وهتف مغتاظًا: 

_بتستغل إني معنديش خبرة في التعامل مع مسكاتك يعني؟ 

ضحك وانحنى يهمس له ساخرًا: 

_مش مفتقد الخبرة يا اسطورة، مفتقد المصدقية، خليك صادق مع نفسك وللمرة الاولى اعترف إنك ضعيف ومبتقدرش تحرر نفسك من أي تثبيتة بثبتك فيها. 


اعتلى الغضب زيتونة عينيه، ومع ذلك منحه بسمة هادئة، وببرود قال: 

_على فكرة احنا مسافرين على طيارة 90 في المية منهم سياح راجعه بلدهم، بتختملهم الزيارة بصورة مش تمام عن مصر، يرضيك يا سيادة العقيد؟ 

رمش بعدم استيعاب، استدار من حوله، فوجد الجميع يتابعون ما يحدث بصدمة وذهول، كان مراد يثبت ركبتيه بمنتصف مقعد "رحيم " المجاور لنافذة الطائرة، بينما ذراعيه تلتف من حول رقبته بحركة خبيرة، فشل الاغلب باحكام عقدته أو حلها من الجهاز، جسده العلوي ينحني فوق رحيم، حتى أخفاه كليًا عن الأعين. 


انتزع يديه من حوله، وانتصب بوقفته بشموخٍ يخفي من خلفه غضبه الساخط، عاد يعتلي مقعده المجاور له وقبضته تعتصر ذاتها بغيظٍ. 

اعتدل "رحيم" بجلسته، وابتسامة الغموض تحفل على وجهه، استدار إليه "مراد" فوجده يتطلع لمقعد أحد المسافرين القابع على بعدٍ منهما، فسأله بريبة: 

_في أيه؟ 

أرخى رأسه لخلف المقعد، وأغلق عينيه باسترخاء بينما يخبره بجمودٍ: 

_نجحنا نلفت الانتباه لينا، مبروك نجاح أول جزء من خطتنا. 

عبث بحاجبيه بدهشةٍ: 

_خطة أيه؟  ونلفت انتباه مين؟؟


فتح نصف عين يطالعه بابتسامة زادت من قلق مراد حول ما يخطط له أخيه، وخاصة حينما أخبره: 

_هو إحنا طالعنا رحلات استجمام قبل كده يا جوكر؟  

وتابع وهو يغلق زيتونيته من جديد: 

_فكرني أول ما نوصل نروح مكان كويس نعمل مساج وجاكوزي! 

                            ******

هرول الشرطي تجاه المقر السري،  يقدم تحيته بكامل الوقار، يبلغه باحترامٍ: 

_الطيارة جاهزة وفي انتظار معاليك يا باشا. 


أشار له "عدي" واستدار يتفرس بمن يجاوره بصمتٍ، وشاحه الأسود مازال يخفي معالمه، لا يبدو منه سوى بندقية عينيه، تنحنح يجذب انتباهه، قائلًا: 

_ده أنسب وقت نتحرك فيه، مراد ورحيم نجحوا يشتتوا العين عننا. 


مازال الآخير يتطلع أمامه بصمتٍ، بدد غيظ الاخير، فقال بنزقٍ: 

_ممكن نتحرك؟! 


نهض عن المقعد يتحرك بخطواتٍ رزينة، للطائرة التي تقف على بعدٍ من المقر السري، سحب عدي نفسًا طويلًا ولفظه على مهلٍ، هاتفًا بضجرٍ: 

_اختيارات مثالية يا أسطورة، مردودلك وفي وقتها.


رفع قبعة جاكيته الأسود على رأسه، واتبعه للخارج، وفور صعوده للطائرة نزعها عنه، وجلس بمقعده المخصص، لفت انتباه "عدي" عُقاب الذي يعتلي كتف "ليل"، حاول التحكم بصمته مطولًا ولكنه فشل، فتساءل بشيءٍ من السخرية: 

_هو الاستاذ عُقاب طالع معانا المهمة دي بردو ولا أيه؟ 


انتقلت بندقيته إليه، يتطلع له ببرودٍ، شقه صوته النافذ: 

_فريقي مكتمل بيه، أعتقد أنا أولى بتحديد مين المهم في فريقي ومين كمالة عدد ولا أيه يا باشا؟

 

كاد أن يهشم فكيه من فرط ضغطه على أسنانه، سدده بنظرةٍ قاتلة، لاحقها قوله المستهزأ: 

_باشا أيه بقى!  


وتابع بحدةٍ: 

_هو مش المفروض إني أعلى رتبة منك وواجب عليك احترامي ولا أنا بقيت بنسى! 


رفع ذراعه يلتقط عُقاب على معصمه، وبيده الاخرى يمررها على جسده ببطءٍ، وردد بعد فترة صمته: 

_أنا مش جاي عشان نتنافس على مين رتبته أعلى من التانية، الغريب إنكم تلجئوا لشخص بالنسبالكم بقى خارج عن القانون، فده اجابة صريحة على سؤالك وتأكدلك إن الجهاز معترف باللي أقدر أعمله حتى وأنا براه. 

ورفع عُقاب ليجوب الطائرة، بينما تتمركز بنية عينيه تجاه عدي، وهدر برزانة ماكرة: 

_لما حد بيخرج من بينا بنصفيه عشان نضمن أن آسرارنا مدفونة تحت التراب، محدش قدر يعمل كده معايا، مش لإنهم ميقدروش علي، لآنهم عارفين إن هيجي وقت يحتاجوني فيه. 


ابتسم يردد بتهكمٍ: 

_عندك حق، هيجي الوقت يختاروا شخص خارج عن القانون!! 


لم يهتز ثبات "ليل" قبالته، بل صحح له باسلوبٍ إستفز عدي: 

_وجي نفس الوقت اللي اضطروا فيه يلجئوا لحد خارج مجالنا ، زيك كده يا باشا! 


وأضاف ببسمة خبيثة: 

_المستحيل لو هيخدم بلدنا وهيكون في الصميم بيتعمل بدون أي نقاش، زي جمعتنا كده يابن الجارحي! 


زفر في سئمٍ، وتمتم: 

_شكلك أبرد من رحيم زيدان! 

                               *****

ترك عُمران بالأسفل، وهرول للأعلى راكضًا فور أن أخبرته الخادمة بوصول "آيوب"  ، اقتحم الغرفة  ملتقطًا أنفاسه بصعوبة، انفصل خناقهما، واستدروا تجاه "آدهم" الذي استطاع السيطرة حدة أنفاسه، وقال راسمًا بسمة هادئة: 

_آيوب! 


جملة "مصطفى" مازالت تشغل خاطره، استدار تجاهه مجددًا متغاضيًا عن وجود آدهم، وسأله بحيرةٍ: 

_حضرتك تقصد أيه بكلامك ده؟


تعلقت آعين مصطفى بابنه، يتوسل له أن يتركه يخبره الحقيقة، ولكنه أعرض عن ذلك باشارة رأسه الحازمة، عادت مُقلتيه الحائرة تسكن بأعين آيوب المتلهف لسماع رد سؤاله،  ابتلع ريقه الجاف وقال وهو يزيف ابتسامة: 

_قصدي إني تقلت عليك، وجبتك على ملى وشك في وقت متأخر زي ده حقك عليا. 


شعر وكأن هناك شيئًا غير الذي يخبره به، وكأنه يخفيه عمدًا لوجود "آدهم" بذلك الوقت، رنا إليهما آدهم يردد بتوترٍ:

_آيوب إنت هنا من أمته؟ 


نهض عن الفراش يقابله، وأجابه: 

_لسه واصل من شوية.

واستطرد يوضح له سبب وجوده بوقتٍ متأخرًا كذلك: 

_قلقت لما سمعت صوت والدك، فجيت أطمن عليه. 


ربت "آدهم" على كتفه بحنان وقال: 

_تسلم يا آيوب. 

شعر آيوب بتوتر الاجواء بين آدهم ووالده من نظراتهما المتبادلة، فتنحنح بحرجٍ: 

_هنزل أشوف عُمران عايزه في حوار كده. 

أومأ برأسه له، فهبط للأسفل تاركهما بمفردهما، أسرع آدهم إلى الدرج يتأكد من هبوطه، ثم عاد يعاتب والده بغضب: 

_هو أنا مش قولت لحضرتك إننا هنأجل الموضوع ده لبعد امتحانات آيوب، ليه مصر ترجعنا لنقطة الصفر! 


تدفق الدمع من عينيه، كيف يخبره بكل ما احتبس بداخله، ردد بصعوبة بحديثه: 

_حاضر يابني هصبر ومش هعمل حاجة، بس عشان خاطري متخليهوش يبعد عني تاني يا عمر. 


شحب صدى صوته الهادر: 

_أنا موافق على أي حاجة، مش مهم يعرف، المهم إني أشوفه قدامي، أخده في حضني وأشم ريحته. 


شعوره بالعجز يكاد يقتله، لم يعد بامكانه التحمل أكثر من ذلك، يشعر بأنه ضعيفًا لدرجة أفقدته توازنه، جلس على حافة الفراش، وانحنى يستند بيده على ساقيه، يترك العنان لدموعه، عساها تهون عنه ما يمر به ويجعله بهذا العجز، تألم مصطفى حينما رأه بتلك الحالة التي وضعه بها اجباريا، زحف إليه، أحاطه من الخلف ومال على كتفه، يردد ببكاء: 

_حقك عليا والله ما هتصرف بأنانية تاني، متزعلش مني يا عمر، متزعلش مني يا بني! 


استدار إليه يضمه إليه وقال بحزنٍ:

_بابا كفايا تزود احساسي بالعجز، كفايا عشان خاطري، والله بعمل اللي بقدر عليه عشان اجمعك بيه،بس بلاش دلوقتي، على الاقل لما يمتحن  . 


مسح على ظهره وقال: 

_ولو معرفش خالص مش مهم، المهم إنك جانبي يا عمر، أوعى تكون الدين اللي هدفعه، وتتخلى عني زي ما اتخليت عن آيوب زمان 


وببكاء ردد له: 

_كنت مجبور والله، كنت ضعيف ومش أد المواجهة، لكن إنت غيري ومش شبهي يا عمر، أوعى تتخلى عني. 


انحنى يقبل كف يده وجبينه بحب، وردد بانكسارٍ: 

_كفايا توجع قلبك وقلبي عشان خاطري. 


مال على كتفه تاركًا عبراته تتطهر ذنوبه وما ارتكبه من ذنبٍ،  بحق أقرب أناسًا لقلبه، سدد فاتورته طوال تلك الأيام ومازال يسدد ثمنها إلى الآن، لم يهنئ يومًا على فراشه، حتى مذاق الطعام كان كالعلقم بفمه، كان يخشى أن تمتليء معدته بالطعام بينما صغيره لا يعلم هل تناول طعامه أم بقي جائعًا! 

                           ******

قربها إليه، يرويها من حنان ضمته، بينما ابتسامته لا تفارقه، مضت الدقائق ومازالت ترتكن على صدره، بينما يده تنغمس بخصلاتها، يميل مقبل أعلى جبينها بكل حبٍ، وهو يهمس لها بعشقٍ: 

_اللي قولتليه من شوية ده شفى أوجاعي كلها يا فطيمة. 


مالت للخلف تقابل عينيه، فضم وجهها بكلتا يديه وقال بابتسامته الجذابة: 

_زي مانتِ كلك تخصيني أنا كمان أخصك إنتِ بس، ومستحيل أكون لواحدة غيرك حتى لو كان بارادتك. 


تدفقت عبراتها على وجنتها بانهيار، وبوجع لمسه بنبرتها قالت: 

_أنا آسفة إني خبيت عليك حاجة مهمة زي دي يا علي، بس غصب عني أنا مش هقدر أجيبلك أولاد، مش هقدر صدقني. 


واختبأت بين لائحتها تبكي بانهيارٍ، أبعد علي خصلاتها للخلف وأعادها لمواجهته مجددًا، وبصوته الهادئ قال: 

_ليه يا فطيمة؟   مش حابة يكون عندك أولاد مني! 


أجابته بصوتها المبحوح عما يكمن داخلها: 

_أنا مستعدة أتنازل عن قراري وأرمي الأدوية دي كلها، بس تكون ضامن ليا.


قوس حاجبيه بعدم فهم، وتساءل بفضول لمعرفة ما يكمن داخل رأسها:

_ضامن لأيه يا فطيمة؟


تمعنت برماديته بآنينها الصامت، وهمست له بانكسار: 

_إضمنلي لو ربنا كرمنا ببنت إنك هتحميها ومش هتخليها تتعرض للمصير اللي أنا اتعرضت ليه، ولو كرمنا  بولد اضمنلي إنه ميكنش زي الديابة اللي نهشت لحمي، أضمنلي ده يا علي وأوعدك أنك لما تقنعني أنا بنفسي هرمي الأدوية كلها حالًا. 


شق السكين صدره وانتزع عنه قلبه دون رأفة، ثمة خناجر تستهدف أطرافه دون رأفة، ومع ذلك رسم بسمة باهتة، وازدرد صوته الهادر: 

_مش صامن بس عندي ثقة كبيرة في ربنا عز وجل، عندي ثقة إني هقدر أربي ابني كويس،  عندي ثقة اني هقدر أقدم الحماية الكافية لبنتي، عندي كل الثقة إني هكون أب مثالي وإنك هتكوني أحلى مامي بالدنيا كلها، لإن مفيس في نقاء قلبك وطيبتك يا فطيمة. 


وتابع وهو يعيدها لصدرها بكل حب: 

_وبعدين مين قالك إني عايز أولاد دلوقتي، أنا عايز أشغل وقتك كله وميكنش معايا شريك، مش مستعد في الوقت الراهن لكن بعد كده الله أعلم الكلام هيبقى على أيه! 


أحاط الأمر ببراعة، بعد سماعه لسبب تخبئتها عنه الأمر، كطبيب يعلم أن حملها الأن ليس القرار الصائب، لذا دعمها دون أن يتطرف لتحليل حالتها، تعلقت فاطمة به ومالت تسترخي، استعدادًا للنوم، بينما تهمس له براحة غمرتها بعد مشقة: 

_أنا بحبك أوي يا علي. 


غمسها داخل رقبته بحنان وهمس بحب: 

_ربنا ما يحرمني من حبك وقربك يا روح قلب علي من جوه! 

                            ******

الراحة النفسية التي شعر بها عُمران بمنزل آيوب لا تقدر بثمن، بل كانت السبب الأساسي في اقتناعه بالحاح آيوب عليه بأن ينتقل معه إلى شقة يونس، فشل آدهم بإبقائه برفقته، وحتى لا يحزنه عمران، حمل حقيبة صغيرة من ملابسه وترك أغراضه كاملة بمنزله. 


استقرت سيارة آدهم أمام حارة الشيخ مهران، هبط منها آيوب وعمران الذي قال بابتسامة جذابة،ونبرة مرحة: 

_تُشكر يا ذوق. 


انفجر آدهم ضاحكًا، وقال بتعجب: 

_دول كام ساعة لحقت تقلب؟! 

ابتسم عمران وشاكسه: 

_بمزاجي، كله بيحصل بمزاجي يا حضرة الظابط. 

وتابع مشيرًا له: 

_يلا ارجع إنت الوقت اتاخر ومينفعش تسيب والدك لوحده وهو تعبان كده. 


هز رأسه بتفهمٍ وعاد لسيارته، بينما صعد عُمران برفقة يونس الذي كان بطريقه للصعود لمنزله بعد عودته من العمل متأخرًا اليوم، كاد أدهم يتحرك بسيارته، ولكنه تفاجئ بـ آيوب ينحني لنافذة سيارته ويقول بلهفة: 

_إبقى طمني عليه يا آدهم. 


احتبست اوجاعه داخل مُقلتيه، وقال يجيبه: 

_حاضر يا آيوب.. 

واضاف راسمًا بسمة صغيرة: 

_يلا اطلع الوقت اتاخر جدًا. 


أومأ إليه وصعد للأعلى، بينما غادر آدهم على الفور، كان آيوب بطريقه للصعود، بعد أن مر من أمام شقة والده، وبمنتصف مسافته من الدرج، وجد الباب يُفتح وطل من أمامه الشيخ مهران الذي صاح غاضبًا: 

_ما بدري يا بشمهندس! 


عبث بمقلتيه بدهشةٍ، ما بال والده يحدثه وكأنه فتاة تأخرت بالعودة لمنزلها، والمقلق أنه يعلم أين كان؟ 

هبط الدرج وإتجه يقابل محل وقوفه، قائلًا باحترام: 

_حقك عليا يا حاج، أنا كنت بستنى آدهم لحد ما يرجع، مهو ميصحش أسيب والده لوحده وهو تعبان كده. 


خرج عن رزانة اعتاد التعامل بها، ولكنه بشريًا بنهابة الأمر، فقال بعصبية مبالغ بها: 

_وتاعب نفسك في الرجوع ليه، خليك جنبه يومين تلاته لحد ما تطمن عليه براحتك. 


زوى آيوب حاجبيه بدهشةٍ، لوهلةٍ شعر وكأنه تخبط بالرجوع لمنزل أخر غير منزله، فهمس بذهولٍ: 

_بابا! 


غلبته مشاعره وخوفه من القادم، كان يعد الساعات لعودته، لا يتقبل أنه ذات يومٍ قد يفارقه، سحب أكثر، من نفسًا يهدئ به البركان القابع داخله، ثم قال بهدوء: 

_متتاخرش في الرجوع تاني يا آيوب، وأوعى مهما حصل تبات بره بيتك، ده بيتك يا ابني فاهم؟ 


مال كل الاشخاص من حوله غامضون اليوم لتلك الدرجة، دنى إليه متلهفًا: 

_حضرتك كويس؟! 


أخفى ارتباكه وقال بابتسامة زرعها بالكد: 

_أنا بخير يا حبيبي قلقت عليك بس مش أكتر. 

وأضاف قبل أن يطرح سؤالا أخر: 

_يلا اطلع ريح ساعتين قبل صلاة الفجر. 


هز رأسه بطاعةٍ رغم حيرته، صعد للأعلى ومازالت نظرات الشيخ مهران تلاحقه، لا يعلم كيف تغلب على السيطرة على أعصابه، طوال تلك الساعات كان يراقب الشارع من شرفته، يخشى ألا يعود آيوب إليه!!  يعلم أن كشف الحقيقة اقترب وما باقترابه الا وجعًا يتوسط صدره، وخوفًا يبتلعه بجوفه حتى تلك اللحظة الغير محببة! 

                                 ****

اختلى عُمران بالغرفة التي منحها يونس له، جلس على سجادته يقيم الليل كما اعتاد، ودعى من قلبه أن يجمد نيران قلب صديقه، كلما استلم رسالة منه على هاتفه يزداد شعور حزنه عليه، اتجه عمران للفراش تمدد من فوفه بارهاق، ولم يعلم كيف غرق بالنوم، حتى شعر، بيد آيوب تحركه وهو يناديه: 

_عُمــــــــران!   اصحى يلا. 


فتح عينيه بانزعاجٍ، وبصوت الناعس قال: 

_خير يا آيوب، لسه ساعة عن الفجر بتصحيني ليه! 

ابتسم بسعادة وهو يخبره ما يخطط له: 

_أنا أخدت مفتاح المسجد من بابا وهنأخد يُونس ونروح نفتح المسجد ونستنى لحد ما بابا يجي يرفع الآذان. 


مال على الوسادة بتعبٍ: 

_ماشي روحوا وأنا قبل الفجر بدقايق هحصلكم بإذن الله. 


جذب الغطاء عن جسده وجذبه بحماسٍ: 

_لا ما أنت لازم تكون موجود. 

رفع رأسه إليه من فوق كتفه متسائلًا بحيرةٍ: 

_ليه يابن الشيخ مهران؟  ناوي على أيه بالظبط! 


حرك كتفيه ببراءة وحزن خبيث: 

_ده بيت ربنا هكون ناوي على أيه يعني! 


واسترسل بابتسامة واسعة أقلقت عُمران: 

_نويت والنية لله أسمع الناس صوتك اللي يسحر ده. 

اعتدل بنومته بصدمةٍ، وبات متخبطًا باختيار ما سيقول، فردد بذهول: 

_عايزيني أرجع للغنى تاني وفي المسجد يابن الشيخ مهران!   هي لسعت منك على الفجر ولا أيه؟ 


أجابه وهو يتجه لخزانة الغرفة، يبحث عن ملابس مناسبة لعُمران: 

_مش بالظبط.. متقلقش! 


أزاح الغطاء كاملًا ونهض إليه يتساءل بشكٍ: 

_أمال أيه؟ 

واستطرد وهو يجذبه بعيدًا عن الخزانة بغضب: 

_وبعدين مالك بهدومي أنا مبحبش حد يلعب في أغراضي الشخصية! 


شمل خزانته بنظرة ساخرة، وبفتور قال: 

_دي مفهاش أي جلبية بيضة تليق على الطقم اللي هنضربه، يلا مش مهم هجبلك واحدة من عندي ومتقلقش مكوية ونضيفة ومتعطرة وزي الفل. 


فقد السيطرة على هدوئه، فأحاط عنقه برفقٍ وهو يهدده: 

_هتنطق وتقول بتخطط لأيه تاني ولا أكمل اللي بعمله وتتكل من الدنيا خالص!!  أنا ما صدقت أريح دماغ أمي ساعتين كل دقيقة تنطلي!!


وزع نظراته المندهشة بينه، وبين الكف المحاط لرقبته وبحزنٍ قال: 

_ الجلبية يا عُمران، الحاجة رقية بقالها ساعة بتكوي فيها، الله يسامحك يا أخي!! 


زفر بمللٍ، واتجه لفراشه يريح قدميه بقلة حيلة من مجابهة آيوب بعد نسخته المعدلة الاخيرة التي باتت تقربه لحدٍ صادمًا. 

انفتح الباب وولج يونس بابتسامته البشوية يتساءل: 

_ها جاهزين يا شباب؟ 


طالعه عُمران فوجده يرتدي نفس الجلباب الأبيض الذي يرتديه آيوب، وما جعله مذهولًا حينما انضم لهما إيثان يرتدي جلباب أبيض ويهتف بحماس: 

_حضرتلك على الفون الابتهال اللي طلبته يا آيوب! 


رمش عُمران بحيرةٍ، وهتف باستنكارٍ: 

_ابتهال أيه!   والواد ده مش مسيحي لابس كدليه!!    


أجابه ايثان بضحكة مستفزة: 

_أه إنت تقصد الجلبية يعني، شحتها من يونس عشان أجي بنفسي وأتفرج عليك وأسجلك صوت وصورة وإنت بتغني. 


_أغني أيه!!  أنا مش فاهم أي حاجة؟ 

لف آيوب يده من حول كتفه الذي يفوقه طولًا وقال: 

_ما أنا قولتلك هخلي الناس تسمع صوتك العذب ده، إيثان حضرلك كلمات الابتهال ويونس هيظبطلك الميكرفون بتاع المسجد وكله هيبقى تمام متقلقش. 


برق بذهولٍ: 

_مقلقش!!   إنت أكيد اتجننت أنا مقدرش أعمل كده أبدًا...مستحيـــــــل! 


بعد عشر دقائق بالتحديد، انطلق صوت عُمران يردد الابتهال وعينيه متعلقة بهاتف إيثان لدرجة قشعرت بدنه.. فأعاد لسانه قول 

«مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي..

مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟

أقُوم بالليّل و الأسّحار سَاهيةٌ

أدّعُو و هَمّسُ دعائي.. بالدموع نَدى

بنُور وجهك إني عائد و جل..

ومن يعد بك لَن يَشّقى إلى الأبد..

مَهما لقيت من الدُنيا و عَارضها..

فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي..

تَحّلو مرارة عيش رضاك..

و مَا أطيق سخطاَ على عيش من الرغد..

من لي سواك..؟ و من سواك يرى قلبي؟

و يسمَعُه كُل الخلائق ظل في الصَمد..

أدّعوك يَاربّ فأغّفر ذلّتي كَرماً..

و أجّعَل شفيع دعائي حُسن مُتَقدّي

و أنّظُر لحالي..في خَوّف و في طَمع..

هَلّ يرحم العَبّد بعد الله من أحد؟

مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي..

مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟» 


وما أن انتهى حتى سقط أرضًا، فاقدًا كل قوته، مهما بدى قويًا، صلبًا، حتمًا ستأتي لحظة ضعف تضربه في مقتلٍ! 

                            *****

نهضت باكرًا ترتب المنزل، وتعد الطعام كعادتها كل صباحٍ قبل ذهابها للمركز، انتهت ليلى من صنع الطعام وولجت لغرفة نومها لتبدل ثيابها، كانت تود الذهاب برفقة زوجها كعادتها كل يومٍ، ولكنه اضطر أن يتجه للمركز منذ ساعتين لحالة ولادة طارئة. 

ارتدت فستانها البنفسج، ووقفت تبحث عن شالها الصوف فور أن شعرت بالبرودة، رفعت رأسها للخزانة العلوية وهي تردد بحيرة: 

_أنا كنت شايلاه فين؟  ممكن أكون حطيته هنا ونسيته بالزهايمر اللي عندي ده.


جذبت المقعد الخشبي، قربته بمسافة معقولة من الخزانة، صعدت ليلى فوقه تحاول الوصول لحقيبة السفر التي تحوي على بعض من ملابس الشتاء الثقيلة، سحبتها بكل قوتها للخلف، فاختل مقعدها سقطت أرضًا والحقيبة من فوقها، اجتاحها الألم بشكلٍ جعلها تصرخ بجنونٍ. 


أبعدت الحقيبة عن نصفها السفلي، وهي تبكي بوجعٍ اجتاح ساقيها وبطنها، أحاطت موضع جنينها وهي تردد بانهيار: 

_ابني!!  لأااا. 


أصابها ذعرًا من أن يكون مسه ضرًا، بكت بوجعٍ وهي تحاول النهوض على ساقيها لتبحث عن هاتفها، ولكنها فور أن احتملت عليها سقطت أرضًا من جديد. 


زحفت أرضًا حتى وصلت لحقيبتها، أخرجت هاتفها واتصلت بيوسف على الفور، ولخيبة أمالها هاتفه خارج نطاق التغطية. 

تركت الهاتف عنها وبكائها يزداد، كلما ازداد الألم بحدته، لم تجد ملجئ سوى شقيق زوجها، زحفت ليلى وبصعوبة فتحت باب شقتها، واصلت الزحف حتى وصلت أمام شقة سيف المجاورة لها، ضمت موضع جنينها بألمٍ، فسكبت النيران من فوقها فور أن لمحت بقعة الدماء تحتل فستانها بوضوحٍ، ازداد نحيبها ومع طرقات استغاثتها على باب شقة "سيف"  . 


تململ بمنامته على صوت طرق باب شقته، انتفضت زينب عن فراشها تتساءل بقلق: 

_مين اللي بيخبط بالشكل ده؟  


هز كتفيه بحيرةٍ، نهض يرتدي ملابسه وهو يجيب: 

_هشوف مين وراجع. 

انقبض قلب زينب، فأسرعت إليه تمنعه من الخروج: 

_متفتحش يا سيف مين اللي هيجيلنا الساعه 6 الصبح ومرنش الجرس ليه، أنا خايفة! 


مرر يدها على طول ذراعها بحنان: 

_حبيبتي مفيش حاجه تستدعي القلق ده، يمكن حد من سكان العمارة ابنه تعبان ولا حاجة، أنتِ ناسية اني اتعينت رسمي خلاص. 

وابعدها عنه قائلًا بتحذير: 

_خليكِ هنا هخرج اشوف مين وراجعالك. 


هزت رأسها إليه، وفور خروجه اختبأت خلف باب الغرفة تراقب ما يحدث باهتمام، فتح سيف الباب ليرى من الطارق؟  فصعق حينما وجد زوجة أخيه تجلس أرضًا، تضم بطنها بشكلٍ أثار ريبته. 


رفعت ليلى رأسها إليه ببطءٍ، وبصعوبة رددت وهي تحارب الدوار الذي انتابها: 

_الحقني يا سيف، ابني! 


انحنى إليها يتساءل بلهفةٍ: 

_أيه اللي حصل؟ 

اجابته بينما عينيه تتغلق استسلامًا للغشاوة: 

_وقعت، ابني أرجوك! 


هرولت زينب للخارج فور أن رأت ما يحدث، مالت إليها تساندها وهي تناديها بذعرٍ: 

_ليلى! 


ركض سيف للداخل يجذب هاتفه، يحاول الوصوب لاخيه أكثر من مرة، زفر بغضب حينما وجده خارج نطاق التغطية، سحب مفاتيح سيارته واسدال الصلاة الخاص بزوجته، وخرج يركض إليهما. 

منحها ما بيده وقال: 

_البسي بسرعة يا زينب لازم ننقلها المركز. 


أومات له ونهضت ترتديه فوق بيجامتها الحرير، بينما انحنى سيف يتفحص نبض ليلى بقلق، لطم وجنتها وهو يناديها بخوف: 

_ليلى سامعاني!!  ليلى فووقي. 


جحظت عينيه صدمة فور أن رأى فستانها المبلل بالدماء، على الفور حملها وصرخ بزينب من خلفه: 

_حصليني يا زينب، أنا مش هعرف امشي وأسيبك هنا لوحدك. 


بالرغم من أن حديثه يبرهن علمه بما يحدث لها، ويوضح خوفه الصريح من تركها بمفردها لهذا الشيطان، الا ان الحالة المربكة جعلتها لا تعي ما يقول، سحبت زينب باب شقتها وهرولت للجهة الاخرى تسحب باب شقة ليلى، واتجهت للاسفل من خلفه. 


وجدته يضعها بالمقعد الخلفي للسيارة، فصعدت جوارها، تحرك بهما سيف وتطلع لها بالمرآة يخبرها بحزمٍ: 

_خلي رأسها تحت وحاولي ترفعي رجليها عشان نقلل النزيف. 


على الفور نفذت ما طلبه منها، بينما اسرع سيف تجاه إحدى الصيداليات، تركهما بالسيارة وهبط للداخل، وعاد اليهما بعد دقيقتين، فتح الباب الخلفي وانحنى تجاه زوجة أخيه. 


وجدته زينب يملأ أكثر من إبرة، ويجمعهما بواحدة ضخمة، فسألته بقلق: 

_سيف إنت بتعمل ايه؟  إحنا لازم نتحرك للمركز حالا النزيف مش راضي يقف. 


اجابها وهو يجذب ذراع ليلى باحثًا عن وريدها: 

_مش هستنى لحد ما نوصل ليوسف، هحاول أوقف النزيف، على الأقل لحد ما نوصل المركز، والا هتكون للأسف اجهضت. 


هزت رأسها بتفهمٍ بينما دموعها تتساقط عن مقلتيها وهي تتطلع إلى ليلى بشفقةٍ، نجح سيف بحقنها بالوريد، كأنها خضعت لجرعة كاملًا بتأثير ما فعله،تركها وعاد لمقعده يسرع من القيادة للطريق الرئيسي، حتى يصل للمركز الخاص بـ "علي الغرباوي"، وبينما هو يقود عاد يسأل زينب: 

_النزيف وقف؟ 


تفحصتها جيدًا، وأجابته ببكاءٍ: 

_لا لسه بتنزف،  سوق بسرعة يا سيف!! 


زاد من سرعته القصوى، وهو يسارع للوصول للمركز البعيد عن منزلهما ما يقارب الخمسة وأربعون دقيقة، وبينما هو يسابق الزمان لنجاة زوجة أخيه إذ يعترض طريقه سيارتين تحاوطان سيارة سيف بشكلٍ ملحوظ. 


اتقبض قلب زينب المتنبأ بتلك الاحداث كل يومٍ تقريبًا، ابتلعت ريقها مرارًا وهي تجاهد لخروج صوتها المرتعش: 

_هو فيه أيه يا سيف؟ 


لم يجيبها بل لكم الدريكسيون وهو يصيح بعصبية بالغة: 

_مش وقتك يا حيوان. 


سحب هاتفه وأرسل برسالة نصية، قبل أن يخبئه داخل قميصه، بينما يتابع قيادته لنجاة زوجة أخيه وابنه، فاذا بسيارة ثالثة تشق الطريق فجأة، على ما يبدو بأنها كانت تنتظره هنا، تاركة زمام الامور للسيارتين التي اجبرته على اتباع طريقهما. 


صرخت زينب بجنون وهي ترى ما يحدث: 

_سيف في أيـــه!! 


تلاشى صوتها عن حنجرتها فور أن انفتح باب السيارة الثالثة وخرج منها أسوء شيطان مقتته بحياتها، لم يكن مجرمًا عاديًا أبدًا، بل مجرمًا نجح بالفرار من حكم الاعدام الذي تلاقاه بمصر، وبالفرار من أكثر من دولة نال بها أحكام دولية، لم يكن شخصًا يسهل التغلب عليه بالمرة، وها هو الآن بمواجهة سيف. 


تحرر لجمة لسانها الثقيل هاتفًا بحروف مرتجفة كحال جسدها: 

_يمان!

                 الفصل الثاني والسبعون من هنا

تعليقات