رواية في قبضة الشيخ عثمان
بقلم سمية رشاد
الفصل الاخير
بعد مرور أسبوعين كاملين
جلست على فراشها جلسة اعتراف واستيعاب، استيعاب لكل ما مر عليها الفترة السابقة من أحداث برفقته وما تبعه من مشاعر بدأت تنبت شيئًا فشيء حتى صارت شجرة مشاعر متفرعة تزينها أوراق مكتبوب على كل ورقة منها موقف من مواقفه ساعد على نمو الشجرة في وقت قياسى حتى أنها باتت تعد من أسرع الأشجار نموًا في العالم، اتسعت ابتسامتها بقوة وعقلها يشرد في ذكرى موقفه مع والدها حينما قدم مع شقيقها في مرة وحيدة بعد زواجها بأسبوع، لم تطل زيارة والدها التي كانت تحمل همَّها وكانت أكثر من متخوفة أن يقلل منها أكثر أمام عثمان ولكن العجيب أن والدها لم يتحدث سوى ببعض كلمات الاطمئنان والمباركة لهما وجلس قليلًا وأصرَّ على شقيقها الذي كان لا يترك يدها بالمغادرة فورًا كي لا يضيق على شقيقته وزوجها حديثي الزواج.
كان أبوها شاردًا ومراعيًا على عكس طبيعته فهي لن تنسى أبدًا عناقه القوي الذي غمرها به وتلك النظرة التي كان يهديها لها كلما نظر إليها وكأنه يعتذر منها، أهكذا يتبدل الآباء بعد تزويجهم لبناتهم فيبدون في معاملتهم أكثر حنانًا وراحة لابتعاد الهم عنهم؟! راحت بتفكيرها إلى عثمان الذي عانقها بحنان بعدما بكت فور رحيل أبيها وسرعان ما شقت الابتسامة ثغرها وهي تتذكر مغازلته لها التي باتت صريحة عقب تلك الليلة التي ذهبوا فيها إلى نزهة وما لبثت أن شهقت بفزع وهي تسمع صوته يهتف باسمها
- مارية.. مارية
أسرعت تخرج إليه لتجده جالسًا على أحد المقاعد بينما يداه تحملان باقة ورود كبيرة لا تحتوي سوى على الورود الحمراء فقط بينما غلافها الخارجي من اللون الأسود، تقدمت إليه سريعًا وسبقتها يداها لتلتقط الباقة منه بسعادة كبيرة وعقلها يتساءل كيف عرف بعشقها للورود، فلم يعلم بحبها هذا سوى أبيها وشقيقها اللذان كانا أحيانًا يأتيان إليها بوردة واحدة أو وردتان تفوح منها رائحتها الخاطفة للأنفاس أما الآن فهي تقف أمام باقة كاملة تستطيع أن تدفن وجهها لاستنشاق أريجها حتى الصباح.
ابتسم على ردة فعلها الكبيرة والذي لم يكن يتوقع أن تكون بكل هذا الجمال، فهو قد أدرك بتلك المرة التي تنزهوا بها حبها للورود أثناء تحديقها وانبهارها بمحل الورود الذي كان يقع بجانب الطريق.
تلقائيًا انحنت ببدنها لتحتضن كفه الكبير بين راحتيها الصغيرتين ثم قبلته بهدوء قبلة رقيقة أشعلت بداخله جميع مشاعره التي يكبتها بداخل قلبه ففعل هو الآخر مثلما فعلت ليسألها ببراءة مصطنعة
- هل من الممكن أن أنام بجانبك الليلة؟
لتنظر إليه بخجل وتوتر فأكمل مصطنعًا الحزن
- ففراشي صغير للغاية وقدماي تخرجان منه، كما أننى أخشى النوم وحدي في غرفة بعيدة عنكِ.
نظرت إليه بتفكير وشفقة شعرت بها تجاهه وسرعان ما قالت بتحذير
- ولكن ستنام مؤدبًا وستُبعد عن عقلك أمر القبلات المختلسة التي أصبحت أتغاضى عنها مؤخرًا
كادت ضحكته أن تصدح لتفضح تمثيله الذي كان يتفنن فيه قبل ثواني إلا أنه أحكم السيطرة عليها ليوميء برأسه ببراءة خارجية تغطي عن عبثه ومكره الذي ينتويه لها فابتسمت إليه تسأله والشعور بالذنب يغازل مشاعرها الأمومية
- لما لم تخبرني سابقًا عن أمر خوفك وعدم راحتك هذه فكنت سأسمح بأن تضمنا غرفة واحدة مادام الأمر هكذا
تصنع التفكير واليأس فوضعت يدها على كتفه تقول بمواساه
- حسنًا مرّ كل هذا ومن الآن لا خوف
أومأ إليها يطالعها بامتنان وشكر فنهضت واقفة لتقول
- سأحضر الطعام لنتناوله بالأسفل برفقة "أبي الحاج" كما صرنا نفعل في الأيام السابقة
أومأ إليها لتغادر إلى المطبخ فضحك بخفوت لا يتماشى مع الرقصات الصاخبة التي يفتعلها قلبه بالداخل على نجاح ما خطط إليه فهو يعلم أن بانتقاله إلى غرفتها قد بدأ في هدم الحاجز الأخير الذي يقف سدًا بين علاقته بها كزوج لها.
راودت عقله ذكرى المرة الأولى التي طلب منها أن تقبِّله ليصالحها فأخبرته ببرود أن يبقى غاضبًا، فعلى الرغم من صدمته بها في ذلك اليوم إلا أنه قد علم منها بعد ذلك أن والدها كان من ضمن تعليماته أن ترفض لمس أي رجل لها دون استثناء الزوج فقام هو بهذه المهمة وأفهمها أن الزوج حالة استثنائية وكم كان أكثر من سعيد وهو بنفسه يعلمها هذا الأمر الذي أخطأ فيه والدها.
بعد عدة دقائق
كانا يجلسان بمقابل بعضهما وهما يتناولان الطعام بالدور الأول الخاص بوالده، كانت عيناه تتابعها وهي تهتم بأبيه وتقطع له الطعام بيديها وتكاد تطعمه في فمه وكأنه صغيرها، لقد بات يشعر أن والده أصبح يفضلها عنه فلم تمضِ مرة من المرات التي كان يمر على والده بها إلا وسأله الأخير عنها بل وكان يتذمر حينما تتأخر في النزول إليه، فمن يصدق أنه أحيانًا ما يشعر بالغيرة من أبيه لتدليلها له، فهي تعامله كطفل صغير وكأنها خبيرة في معاملة الكهول وكم بدت هذه المعاملة تروق والده الذي يستغل دلالها له ويفرح به كطفل تخصه والدته بلعبة جديدة دون إخوته، فاق من غوصه في بحرها على صوت أحد الرجال الذي يتعالى خارج البيت لينتبه إلى فزعها من هذه الأصوات فقال إليها مهدئًا وهو ينهض واقفًا ببرود لا يتناسب مع الضجة في الخارج
- انفضِ خوفك عنك.. وهذه الأصوات ستعتادين عليها.. فأحيانًا ما يأتي أهل القرية إلى هنا لأفض النزاع بينهم حينما لا أكون في بيت الحُكم والأمر لا يستدعي كل هذا الخوف.. أكملي طعامك ولا تخافِ
أومأت إليه بإيجاب بينما ظل في قلبها بعض القلق لتنتقل بنظرها إلى والده الذي يجلس هو الآخر بهدوء فحاولت نفض الخوف عنها ولكنها لم تفلح.
شعرت بحركة كثيرة خارج الغرفة ليبادر والد عثمان بالقول هذه المرة
- سينتقلون إلى الغرفة الخارجية الملحقة بالبيت لحل النزاع فيها
ليتابع بفخر
- عثمان أكثر من قادر على حل الأمور بينهم فهم يهابونه وقبل الخوف يحترمون كلمته بشدة
أومأت إليه بإيجاب مبتسمة ابتسامة لم تصل لعينيها وسرعان ما نهضت واقفة وتركته يتابع طعامه ثم اقتربت من الشباك القريب من الغرفة التي يجلس الرجال بها
نظرت من سلك الشباك الفيبر المخرم دون أن تضيء قبس الغرفة فجعلها قادرة على رؤية الرجال بينما هم لا يرون من خلف الشباك سوى الظلام.
شعور بالرهبة نبت في قلبها وهي ترى عثمان يتوسط مقعد كبير بالغرفة بينما أربعة رجال وامرأة يجلسون أمامه وبعضهم يتابعه بتوتر وخوف شديد.
ابتلعت ريقها بعدما أحست بجفاف حلقها وهي تراه يقول بقوة
- ما الأمر.
لتبادر المرأة باندفاع تصرخ بقهر
- هذا ولدي يا شيخ عثمان رفع يده عليّ، لطم أمه على وجهها كي يرضي امرأته.. ولدي الذي أفنيت سنين عمري في تربيته ضربني ليرضي زوجته.. آه يا قلبي ويا حسرتي.
ليقاطعها أحدهم بغضب وقد بدا من كلامه أنه من لطم أمه
- هي ضربتها أولًا يا شيخ فلم أفعل سوى أن رددت اعتبار زوجتي.
- اصمت
صرخ به عثمان ليزفر بعنف قبل أن يقول
- حتى وإن فعلت تضرب أمك؟ اترك أمر زوجتك جانبًا فهذا أمر آخر نتحدث به في حضرتها أو في وجود من ينوب عنها غيرك فأنت فاسق ولن أرتضي بك شاهدًا
- لست فاسقًا يا شيخ هذه الحرباية هي من تتلون أمامك الآن.
غلت الدماء في عروق عثمان ليزعق بقوة في أحد الخفر الذي تعينهم الحكومة لمساعدته
- سلامة.. يا سلامة
هرول إليه سلامة الذي كان بالفعل واقفًا أمام الغرفة ليقول عثمان
- خذ هذا العاق من أمامي إلى المأمور.. وأخبره أن الشيخ عثمان حكم بسجنه أربع سنوات والله لولا أنني أعلم أن هذا الأمر سيشق على أمه هذه حينما تهدأ لحكمت بأكثر من ذلك.. خذه من هنا كي يتعلم أن احترام الأم فوق كل شيء مهما فعلت حتى وإن كانت كافرة ليس له أن يضربها أو يسبها..واعلن الأمر في القرية كلها كي يكون عبرة لكل من تسول له نفسه تقليل احترام والديه.
أخذ سلامة الرجل الذي ظل يردد على أمه عبارات السب لتنظر إليه أمه بتشفى علم منه عثمان أنها ليست هينة فقال موجهًا كلامه إليها
- الحكم على ابنك بالسجن لا يعني أنك على صواب.. فأنت الأخرى سننظر في أمر ضربك لزوجته وسيكون لكِ العقاب المناسب إن كنتِ مخطئة.
شهقت المرأة بصدمة فهي التي كانت تشعر بالتشفي في ولدها قبل قليل ليقول عثمان للخفير الآخر وهو ينهض واقفًا
- احتفظ بها إلى أن تأتي زوجة ابنها أو رجل عدل ينوب عنها.
في ذات الوقت كانت مارية مازالت على صدمتها من هؤلاء الأشرار بالنسبة لها والتي تراهم للمرة الأولى ومالبثت أن التفتت لعثمان الذي قال مازحًا وكأنه آخر غير الذي كان يثور قبل قليل.
- إذا صدق حدثي وأنا الذي كنت أعتقد بأنني مراقبًا من أحدهم.. لم أكن أدرِ أن ذاك الأحدهم جميل إلى هذا الحد
لم تكن في مزاج رائق فلم تبتسم لمزحته فتبدلت نبرته إلى الجدية وهو يقول
- هذا الأمر وارد الحدوث بين البشر.. وبما أنك زوجتي فستواجهي ما هو أفظع مما رأيتِ فكونِ قوية وتعاملِ مع الأمور ببساطة.
أومأت إليه بإيجاب مبتسمة بهدوء فاقترب مقبلًا جبينها ثم تركها مغادرًا يقول
- ثم لن أسمح لك بالوقوف خلف هذا الشباك الذي يكشف لك الرجال مرة أخرى فأنا رجل أغار.
قالها بلهجة مازحة وإن كان قاصدًا لكل كلمة قالها لتوميء بطاعة فعلى كل الأحوال هي قد عزمت ألا تقف هنا مرة أخرى بعد كل هذا السوء الذي اكتشفته في البشر.
بعد مرور ثلاثة أشهر
عاد عثمان ليلًا إلى بيته وشعور بالراحة يراود قلبه بعدما حضر مسعود اليوم إلي لقاء الجمعة الأسبوعي الذي قد دعاه إليه منذ فترة لتغيير بعض المعتقدات الخاطئة إليه، فهو يعلم أن وجوده في هذا اللقاء يعد بمثابة اللبنة الأولى التي انتزعها من حائط منيع يفصل بينه وبين الطريق الصحيح.
دلف إلى غرفته التي يشارك مارية بها وسرعان ما ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغره وهو يتذكر كيف بدأ يتقرب منها شيء فشيء حتى أتمَّ زواجه بها، تذكر كيف استيقظت ومعالم وجهها تتحدث بما تعانيه من اضطراب لمرورها بأشياء لم تعلم عنها شيء قط، ولكنَّه لم يقصر في اقتلاع الخوف من جذوره حتى اعتادت عليه شيئًا فشيء.
عقد حاجبيه بقلق وهو يراها تجلس على الفراش والألم يتشكَّل على وجهها ليهتف بخوف
- ما بكِ مارية
فأجابته بتعب
- يبدو أن ألم معدتي قد عاد إلىَّ مرة ثانية ولكنه هذه المرة أقوى بل ويصحبه صداع الرأس.
ظهرت الشفقة على وجهه ليقول
- ارتدِ ثيابك وهيا لنذهب إلى الطبيبة
طالعته بتردد وقلق فطمئنها بتظرته وهو يساعدها في الوقوف ثم أخرج إليها رداء مناسب ومريح وساعدها في ارتدائه
بعد ساعة
كانا جالسان أمام الطبية بانتظار قولها لنتيجة الفحص ولم يطل انتظارهما والأخرى تبشرهما بابتسامة
- يبدو أن صغيركم أصدر صخبًا في رحم والدته كي تلتفتوا إليه وتعلموا بقدومه
لم تفهم مارية قولها إلا أن عثمان أفهمها وهو يصيح بسعادة
- هل مارية حامل؟
أومأت الطبيبة برأسها ليلتفت إلى مارية يطالعها بقلب يرقص فرحًا بينما الطبيبة بدأت تدون بعض التعليمات على الورقة فأخذها منها وخرج معها بسعادة غامرة
خرجا من غرفة الفحص يساعدها بشكل مبالغ فيه على المشي فارتسمت الضحكة على وجهها هي الأخرى وسعادتها بجنينها تفوز في إخفاء ذاك الخوف والترقب اللذان كانت تشعر بهما ليضم عثمان راحتها وهو يتمتم بخفوت
- كنت جائعًا بل فقيرًا ألتمس الدفء خلف ابتسامة كل عابر سبيل دون القدرة على البوح، حتى جئتِ أنتِ فتبدل فقري إلى غنى فغدوت أسبح في بحور يملؤها دفء قلبك وحنان نظراتك.