رواية العمدة وبنت العم الفصل الاخير بقلم خديجة السيد


رواية العمدة وبنت العم 
الفصل الاخير 
بقلم خديجة السيد




جرف الحنين سراج إلى أشياء افتقدها كثيرًا، مثل سماع صوت ابنته الشقية ورؤية زوجته، والتمتع بحضن طويل دافئ منها بالإضافة إلى الاشتياق إلى أشقائه الذين رحلوا دون ذنب.. تنهد تنهيدة محملة بالشوق والرغبات التي يعلم جيدًا أنها لن تتحقق، لذا كبتها سراج مكتفيًا بشعوره بها في داخله وفي تلك اللحظة، دخلت والدته وهي تعلم أنه بين الحاضرين يشعر بالحيرة ويحتاج إلى يد تعينه على تخطي لذا أرادت استغلال ذلك لصالحها، وهتفت باسمه بشيطانية

= سراچ يا أبني رايداك في كلمتين 

أتى رده موجزًا ومباشرًا

= بعدين ياما انا مش فايق لاي حد دلوج، وفيا اللي مكفيني ومش طايق حد اجلي اي حديد بعدين 

نظرت له شزرًا قبل أن تسأله بسِحنة منقلبة

=هو انا كل ما اجي اكلمك هتقولي مش فاضي وبعدين، كنت متاكده انك هتتحجج باي حاچه عشان خابر اني هاكلمك في حالك اللي مش عاجبني ديه 

لاح على قسماته تكشيرة عظيمة، ثم رد بنبرة معاتبة وهذه النظرة الحزينة تطل من عينيه

= تعبان ياما ومش طايق اي صوت جنبي، ابوس يدك حسي بيا مره واحده بس وسيبيني في حالي وهمليني . 

مصمصت شفتيها متمتمة وقالت متباهية بما حدث لتزيد من تحطيم ذاته

= كل ديه عشان غالية ما في ستين داهيه بكره يچي غيرها من قله البنته.. والله يا ابني هي اصلا ما كانتش تنفعك وما كنتش مرتاحه لها من الأول وبكره ربنا يوعدك باللي احسن منها، عارف انت لو تسمع حديدي وتتجوز تاني 
هتحرق قلبها اكتر وتقهرها  

ظل على هدوئه معها، فحذرها بتقاسيمٍ اكتسب لونًا عدائيًا

= ابوس يدك بطلي كل شويه تفتحي معايا الموضوع ده هو انتٍ شايفاني دلوج فايق لجواز، بعدين هو انتٍ خلصتي من حكايه التار هتطلعيلي في چوازي ريحي نفسك انا عمري ما هتجوز علي غالية وزينب انتٍ عارفه زين سبب جوازي منها واهي راحت لحالها خلاص، يعني هي كانت مستحملاني وانا مش بخلف اقوم اتجوز عليها علي حاچه مش مستاهله 

جزت علي أسنانها وراحت تخبر إياه في استهجانٍ

= خلاص خليك اكده وهي جايبه لنا العار والفضيحه بقعدتها في دار ابوها وهي على ذمتك وانت مش قادر تفتح بقك معاها، انا عارفه البنت دي سحريه لك ولا ايه؟ 

اعتلت زاوية فمه ابتسامة مؤلمه قبل أن يرد بلؤمٍ

=عشان عذرها ياما اللي حصل لبنتها من تحت راسنا مش سهله عليها تستحمله، ومتاكد انها 
هتاخدلها فتره وربنا يهديها وهترجع من نفسها
عشان اكده انا سايبها براحتها دلوقيتٍ تاخد فتره زعلها براحتها عشان تصفى من ناحيتي

لوت شفتاها باستخفاف وهي تقول بنبرة ساخرة 

= دلع ماسخ! صحيح حد يلاقي الدلع و ما يتدلعش خليك انت اكده.. سايبها براحتها وكل حاچه ماشي وحاضر وهي ما بتغلطش لحد ما هتركب وهتخليك فرجه وسط الخلق!. 

ارتعش جسده وأحس بوخزاتٍ حادة تتفشى فيه، لينظر عليها بحسرة مجيبآ 

=ده مش دلع ياما دي ام قلبها محروق على ضناها، وحتى لو بنت كيف ما انتٍ عماله كل شويه تقولي برده دي حته منها وحقها تزعل عليها.. وبعدين غاليه ياما شالت عننا كتير ما يبقاش ده جزاتها ونقفلها على غلطه واحده منها وما نستحملهاش ومعاها عذرها فيها.

وقبل أن يتحدث أحد منهم مجدداً، تفاجأت فردوس من اقتحام تهاني السافر عليها فعنفتها في غيظٍ

= انتٍ اتخبلتي يا بنت كيف تخشي علينا أكده من غير استئذان؟!. 

لم ترد عليها بل ركضت تهاني نحو سراج فاستنجدت به بصوتٍ واهن للغاية

= سي سراچ بيه.. سراچ بيه.. كويس انك اهنا الحق بسرعه ست غاليه هتسقط نفسها؟!. 

عقد حاجيبة بعدم فهم وهو يسألها باندهاشٍ متعجب

= تسقط نفسها كيف أنا مش فاهم حاچه منك في ايه؟ 

ازدردت ريقها وهي تردد بصوتٍ متقطع

= ست غاليه طلعت حامل وربنا كرمها من غير عمليه المره دي، بس هي خافت لا يحصله حاچه عفشه كيف بنتها بسمله فطلبت مني اتفق لها مع خالتي الدايه عشان تسقطها وما تقولش لحد، حاولت والله امنعها كتير لحد ما النهارده الصبح لقيت خالتي چايه من نفسها وطلعت ست غالية هي اللي اتصلت بيها.. سبتهم و طلعت اچري عشان تلحقها.

شُل تفكيره لحظيًا من هول الصدمة وحينما استفاق من جموده رد قائلًا بصوت مصدوم

= يعني غالية حامل مني وهتسقط نفسها!. 

هزت تهاني رأسها بإيجاز وردت موضحة بحدةٍ

= هفهمك التفاصيل بعدين المهم انك تلحقها قبل ما تسقط نفسها ولا يحصلها حاچه

مرت ثواني علي فردوس تستوعب الحديث هي الأخري! بدت غير قادرة على التماسك لمجرد تخيل غالية حامل في صبي! فارتجفت كليًا عندما أملت بأن سيكون ذلك المولود صبي بالتأكيد، لكن غاليه ستقتله قبل ان تراه! 
لذلك دون أدنى صرخت فيه بذعر بالانهيار عصبيًا 

= يا مرارك الطافح يا فردوس الولد اللي كنتي بتتمنيه من الدنيا مرات ابنك هتموته، روح بسرعه يا سراچ معاها قبل ما تعمل في روحها حاچه ويموت حفيدي.. الولد اللي كنت مستنياه من صلبك كل السنين دي كلاتها هيموت بسبب مرتك.. الحق حفيدي يا سراچ !!؟. 

❈-❈-❈

تخلله موجات من الخوف الممزوج بالغضب فركض دون مقدمات إلي منزل والد غاليه بلا تفكير قاصداً اللحاق بها، آملة في نفسه أن يكون ما أخبرته به تهاني مجرد أكذوبة حمقاء، صنعتها غالية لتثير غضبة لا أكثر...

وعند وصوله الى المنزل فتحت له الخادمه تهاني وتركته، تقدم بتؤدةٍ واتجه إلى غرفة نومها كان الباب مغلقًا فانقبض قلبه بقوة وتوجس خيفة من وقوع الأسوأ تسلل ماشي حتى أصبح أمام الباب الخشبي الذي يخفي خلفه ما يدور بالداخل! هل تم الأمر وأجهضت طفله أم تراجعت، لكن في الحالتين لم يصدق بانها تلك نفسها غالية التي أحبها تسعى الى ذلك، لقتل طفل ليس له ذنب.. 

دون تفكير استجمع شتات نفسه وفتح ليتفاجأ بغالية جالسه فوق الفراش شاردة عينها تبكي بصمت ذبلت وضعفت، لم تنتبه لوجود سراج رغم أنها كانت تنظر تجاهه ومع ذلك بدت وكأنها لا تراه وذلك لم يكن جواب واضح بالنسبه له لذلك تقدم أكثر.

أحست غالية بشيء يظللها فرفعت بصرها للأعلى لتجد زوجها أمامها، تفاجأت بوجوده واعترتها ربكة موترة، خاصة أن ذلك هو لقائهما بعد فترة من الغياب الطويل، لذلك انطلق لسانها يسأله في شيءٍ من الإنكار

=إنت بتعمل إيه اهنا؟

تنهشه بعمقٍ التوجس وتزيد من إحساسه بالخوف والقلق وهو يصيح بعتاب حاد 

= جي أشوف المصيبه اللي انتٍ عملتيها، انتطقي قولي اي حاچه.. قوليلي انك ما عملتهاش يا غاليه قوليلي انك ما قتلتيش ابننا اللي كنا بنتمناه من الدنيا، قوليلي انك مش هتكسريني بالطريقه دي ولا هتطعنيني في ظهري زيهم.. إلا انتٍ يا غاليه اللي مش هستحمل الغدر منك.

رمش بعينيه قبل أن يأتيه منها تعليقه نزقًا وصادمًا له على كافة الأصعدة

= ما انا استحملته من الغريب قبل القريب يا أبن عمي! اشمعنا انا افضل اتعذب لوحدي 

حدجها بهذه النظرة الساخطة، فما أمامه ليس بامِرئ طبيعي زوجته التي عشقها، إنما شبها جالسه فوق أعناق ضحاياه وهي نفسها للأسف إحداهن، فأخبرها بقليلٍ من التجهم

=تقومي تقتلي ابني اللي ما لوش ذنب! عملك ايه العيل الصغير ده اللي لسه ما جاش على الدنيا؟!. 

بهتت ملامحها و فرت الدماء من وجهها ازدردت ريقها بقهر وهي تجاوبه بانفعال 

=ويعني بنتي اللي كانت عملتلكم حاچه؟ ذنبها ايه هي كومان عيله زيها تتحرم من حياتها وهي في سن كيف ده وما تقدرش تتحرك وتجري زي العيال.. بكفاياك تغمض عينك عن الظلم اللي بنشوفه من عيلتك يا سراچ انا لو كنت بفوت حديد امك ليا سنين طويله فـ لحد بنتي ومش هسكت. 

حز في قلبه استهانتها بقتل طفله، فنظر لها بخيبة أمل هاتفا في سخطٍ 

= وانتٍ شايفه بالطريقه دي عرفت تنتقمي مني يا غاليه، ما لقيتيش غير ابننا اللي كنا بنتمناه من الدنيا يروح اكده من غير ما اعرف ولا افرح بيه.. بس لو كان هو ده انتقامك بحق فانتٍ انتقمتي فعلا بأبشع طريقي ممكن تتخيليها يا غاليه وضعفتي النار اللي چوايا.

ابتسمت بسخرية مريرة وأجابت في نفس اللهجة المستنكرة

= مش قد النار اللي چوايا يا أبن عمي، من اول ما اتجوزتك وانت قلتلي هعيشك كيف الملكه محدش هيدوسلك على طرف اللي انتٍ عاوزاه كله هيكون تحت رجليك، اطلبي و اتامري براحتك يا غالية.. ومن اول ما خطيت رچلي في الدار وانا شفت ظلم وافتره من امك كتير بس ما كنتش بشتكي وقولت لنفسي كفاية يا بنت أنه بيعاملك كويس عاوزاه ايه اكتر من اكده بلاش تطمع.. 

اندفعت غالية للأمام تجاهها وواصلت صياحها المستهجن

= حتى لما اتاخرنا في الحمل من غير تفكير قالتلي العيب منك وبقيت تسمم بدني في الرايحه و الچايه بحديد محدش يستحمله.. دي وصلت انها كانت بتوريني وتاخد رايي في نسوان عاوزه تجوزهملك وتقولي خليكي ناصحه واطلبيها انتٍ من جوزك وبلاش انانيه، 
وانا محدش كان بيفكر في مشاعري ولا يهمه حالي! و برده حطيت جزمه في بقي وسكت لدرجه قلتلك لو عاوز تفهمها أن العيب فيا اعمل لكن ما اشوفكش مكسور، ولا العذاب والمعايره اللي شفتها لما جبت بنت.. وكل ده والحق عليا وانا اللي غلطانه 

نظر إليها و بدا وكأنه يحقق معها بنظراتٍ مشوشة، فعلق بزفيرٍ ثقيل أظهر مدى إعيائه

= كل ديه انا عارفه كويس من غير ما تشتكي عشان اكده شايلك فوق راسي! لكن قسوه قلبك دي جبتيها منين عليا.. تحرميني من ابني من غير ما أشوفه لــيــه.

مسحت بقايا دموعها براحة يدها ثم احتجت على تبريره قائلة بشيءٍ من الهجوم

= قسوه قلبي دي انا شربتها من عيلتك شفت وصلتوني لايه؟ من كتر حبي في ابني كنت عاوزه اقتله وفاكره نفسي اكده بحمي منكم! كنت هبقى قتلت قتله زيكم.. انا اعصابي تعبت منكم وما بقيتش عارفه بعمل ايه؟ ولا أكده صوح ولا غلط 

قليل من الاطمئنان تسرب إليه، وتسأل بسرعه بلهفة شديدة 

= كنتي هتقتلي؟؟ يعني معنى اكده انك ما قتلتيش ابننا يا غاليه انطقي و ردي عليا انتٍ لسه حامل! 

تلبكت وترددت وظهر ذلك بوضوحٍ على قسماتها ونظراتها لكن لا مفر من الحقيقة، وإن كانت مؤلمة بلعت ريقها، لتخبره بعذاب نفسي 

= كنت هقتله فعلا اتصلت علي عقيلة الدايه وطلبت منها تيجي عشان تسقطني! وجت و قالتلي نامي على السرير وكله هيعدي.. مش هتحسي بحاچه شويه ألم وهيروحوا، واول ما قربت مني انتفضت من على السرير وفضلت اعيط واصرخ واقولها ابعدي عني ما تقتليش أبني.. ما قدرتش اعملها وفقت في اخر لحظه.

سحب نفسًا عميقًا ليعيد الهدوء إلى أوصاله
براحه ثم نظر إليها بشراسة وأكد لها بترفعٍ يحمل في طياته التهديد

= آه يا غالية ليه توصلينا لكده! يمين بالله لو كنتي عملتيها فعلا كنتي هتشوفي مني وش ما شفتهوش قبل ولا بعد! عماله مشيلاني ذنب بنتك اللي ما بقتش تمشي بسببي وانتٍ كنتي هتقتلي ابني الثاني.. عقلك ده كان في ايه نفسي افهم 

لعقت شفتيها الجافتين ورددت في صوتٍ مهتز نادم بقهر وحسرة 

= كنت غبية وحماره وشيطاني هو اللي سايقني ما عارفاش كنت هعملها كيف ديه و اموت ابني بايدي وانا ما كنتش لاقيه ظفره زمان! انا جبت الشر والقسوة دي منين فعلا 
انا لازم ابعد عنكم وصلتوني ان افكر اقتل ولادي ومفكره نفسي اكده بحميهم.

في التو تحرك صوبها ليعترض طريقها و يستوقفها بجسده ثم جذبها بقسوةٍ من ذراعيها قائلًا بصيغةٍ شبه آمرة وتهديد غاضب ويده الأخري مرفوعة قليلًا في الهواء

= انا اللي سكتني عليكي الفتره اللي فاتت عشان كنت عذرك! و إللي مر علينا مش قليل برده عشان اكده سكت وما رضيتش اضغط عليكي وسبتك تعملي مبادلك وقلت براحتها تاخد وقتها وهترچع، لكن بعد عملتك النهارده رچلك مش هتفارق رچلي وكل تحركاتك هعرفها بالحرف و كلامي انا اللي هيمشي من غير مناهده سامعه ولا لاء.

ثم املاها أوامره بصرامة وقسوة قائلاً 

= يلا لمي خلجاتك عشان هتمشي معايا، وبنتك كومان جهزيها مش هتفارق ابوها من النهارده . 

تألمت من مسكته العنيفة ووضعت يدها على موضع الألم وجزعت منه بخوف شديد لكنها هتفت في تحفزٍ

= بس انا ما عايزاش اروح الدار ديه مش هرچعها تاني يا سراچ وامك تسمم بدني بكلامها كل شويه، غير بنتك نفسيتها مش هتستحمل حديدها اللي كيف السم ده وهي بالحاله دي.. وابني إللي في بطني ما عارفاش مصيره هيكون معاها ايه، عاوزني ارجع يا عمده ماشي لكن بشرط واحد تجيبلي حقي اللي هوكلك بيه! 

مدت يديها لتمسك به من ذراعه كما لو كانت تتعلق به وألحت عليه وتوسلته بارتعاشٍ

= طول عمرك بتجيب حقوق الناس كلها 
وسبق وقلت مستعد فعلا تنفذ كل شروطي مهما كانت؟ عشان أكده انا هشتكيك بصفتك العمده اللي بترجع الحق حتى لو على حساب اهلك! مش چوزي اللي ظلمني.. وشوف انت من وجهه نظرك لما واحده تيجي تشتكي نفس شكوتي حكمك هيكون ايه يا عمده!. 

رمقها بهذه النظرة الصارمة قبل يرد قائلًا بغموضٍ

=فهمت و وصلت يا بنت العم، انتٍ معاكي حق اللي غلط لازم يتعاقب! القريب قبل القريب؟!. 

❈-❈-❈

في السرايا، كانت فردوس تجلس على نار تنتظر بفارغ الصبر عودة غالية. لم تصدق بعدما شعرت بالفرح لرحيلها من هنا والمشاكل التي كانت بينها وبين زوجها الآن تنتظرها بلهفة شديدة ومستعدة لفعل المستحيل حتى تعود وتنجب الصبي حفيدها أمام عينيها. بدأت تتحدث مع نفسها بأمل، متفائلة بأن هذه المرة سيكون الصبي الذي كانت تتمناه. نهضت عندما رأت سراج يدخل، لكنه كان بمفرده!

أمعنت التدقيق والتفرس في ملامحه وقسماته
بتلهف كبير وعتاب، فسألته بتوجس

=هي فين اوعى تقول رفضت ترجع وانتٍ سبتها عادي اكده، هي عاوزه إيه يعني؟ ولا حد كان داسلها على طرف ما هي اللي مشيت من نفسها، ما تبطل دلع وياها وتجيبها بالغصب اللي في بطنها ابننا ولازم يتربى وسطينا وقصاد عيني انا بالذات عشان اعلمه كيف يبقى راچل بحق.

هز رأسه بسخرية طفيفة ثم رد بصوت مهمومًا إلى حدٍ ما

= لا ابدا ما عملتيش حاچه فعلا! غير بس كنتي عماله تعايريها رغم انك متاكده انها بتخلف وحتى بعد ما جابت البنت ما سلمتش منك! ده انتٍ لحد دلوج مش راضيه تعتذري ليها بعد ما عرفتي ان انا اللي فيا العيب مش هي، غير رچل بنتي اللي راحت من تحت رأس التار اللي قرفاني بي الليل ونهار..

لم تعرِ مشاعر أبنها المزعوج لما حدث المؤثر فيه اهتمامًا، وواصلت القول بعصبية منفعله 

= تار ايه وزفت ايه دلوج، انا عاوزه حفيدي رچعلي غاليه اللي في بطنها لازم يتربى قصاد عيني وانا اللي هربيه، وان شاء الله هتجيب الواد المره دي.. وهطلعه راچل بحق مش خايب كيفك.

ضجر سراج من طريقتها المستهلكة، فهي لا تكف أبدًا عن الإلحاح وسماع نفس الرد الرتيب، لذا أخبرها بعد زفيرٍ ثقيل

= برده ما فيش فايده فيكي! وبعدين عاوزه ابني يتربى على ايدك عشان تطلعيه شبعان شرك وحقدك الظاهر ان غاليه كان معاها حق حتى لو رجعت وانتٍ موجوده ما فيش حاچه هتتغير 

رسمت ابتسامة حزينة على محياها في محاوله استعطاف هاتفة بحدةٍ

= طب يا ابني حقك عليا حلو أكده وبعدين يا سراچ عاوز تحرمني اني اشيل حفيدي واربي بنفسي حاول معاها مره ثانيه ورجعها 

رأت في ملامح وجهه المتجهمة تعبيرًا غامضًا جعل شعورًا غريزيًا بالقلق ينتفض بداخلها بالأخص عندما هتف بصوتٍ جاد

=هي فعلا هترچع بس بعد ما الحكم ينفذ! غاليه وكلتني كعمده البلد اجيبلها حقها من اللي اذوها حتى لو كانت امي وهو ده شرطها عشان ترجع تسامحني وترجع ليا وابننا يتربى وسطينا 

توترت فردوس لأنها تعرف جيدًا أن ابنها لا يتنازل بسهولة، خاصة عندما يتعلق الأمر بشخص يثق به حتى لو كان ذلك على حساب عائلته ولقد شاهدته مع شقيقتها كيف استعاد حق زوجة ابنها سابقًا دون أن يهتم بأنها خالته. فهل سيعيد نفس القرار ويعاقبها؟ من المستحيل أن يحرمها من حفيدها ويعاقبها بتلك العقوبة القاسية.

وهنا فهمت جيدًا أن غالية لعبتها بشكل صحيح عندما أوكلت ابنها استعادة حقها كعمدة وليس كزوجها. فأفصحت فردوس له عما يثقل صدرها المتألم متسائلة بقلق

=وايه حكمك يا عمده اللي هيتنفذ على امك! 

في البداية لم ينطق بشيء، ظل ينظر إليها بطريقة باعثة على المزيد من القلق، كادت على وشك الحديث؛ لكنه جعلها تبتلع حروف كلماتها في جوفها عندما هدر فجأة يأمرها بعدائية مخيفة

= لمي خلجتك يا فردوس وعلى دار ابوك وامك القديمه، وما تعتبيش الدار إلا لما تستاذني الاول من اصحابها! واذا كان على احفادك هتشوفيهم لحد عندك بس كل فتره!. 

نظرت له في ذعرٍ ورددت وهي على حالة تامة من الذهول الممزوج بالخوف

=لا لأ يا سراچ بلاش تعمل فيا اكده.. إلا انك تحرمني من حفيدي اللي لسه ما شفتوش و عندي امل يطلع ولد كيف ما كنت بتمنى.. ليه يا ابني قاسي عليا اكده 

تنهد بيأس وعتاب كبير وهو يقول بصوت ميؤوس 

= انتي اللي قسيتي على نفسك ياما لما اذيتي ناس كتير ما عملوكيش حاچه من اول غالية اللي كانتش بتفتح بقها معاكي مهما تعملي فيها 
وانتي كنتي بتستغلي ديه! لحد التار واللي ماتوا بسببه ناس كتير، وانتٍ اللي وصلتي غاليه كومان انها تقتل ابنها عشان تحمي مننا.. 
ولا فؤاد وبسمله لو كان روحوا تفتكري ساعتها لو كان حصل كنت هقدر اسامح نفسي ولا ابص لمراتي وبنتي من تاني عادي... عشان اكده لازم تطلعي من الدار ياما لحد ما غاليه تعفي عنك . 

كان فاقدًا للصبر متوترًا للغاية، لذا هلل بها في شراسة جمة جعلت قلبها ينقبض بقوةٍ أكثر 

= أمي انتٍ عارفاني مهما تعملي ما برجعش في كلمتي خصوصا في الحق.. فوفري عليا وعلى نفسك المناهده.. وانا برده مش هسيبك امي وفي النهايه لازم ابرها لكن مش في الغلط! ولا على حساب ناس ملهاش ذنب عشان اكده قصه التار كومان لازم تخلص النهارده.

اتسعت عينا فردوس بلا تصدق وراحت تصيح بتهديد صريح

= هتعملي ايه اوعى تعملي اللي في بالي!. ساعتها مش هتكون ابني ولا اعرفك وهتبري منك.. هتضيع حق اخواتك يا سراچ ومش هتاخد بتارهم، أكده انت راچل لما تسيب عيله البدري تنتصر علينا من غير ما تقتل حد منهم وتطفي نار امك.. نسيت عوايدنا عاد.

لم يرد عليها أنما جاء صوت الغفير في تلك اللحظه مجلجلًا على الأخير

= يا سياده العمده خلاص الناس جهزت بره، عيله البدري والحكومه و ما فاضلش غيرك.. 

استفاق من نوبة الغضب الهوجاء التي سيطرت عليه، ليأمر به في صوت لاهج
ونظراته كانت مسلطه على والدته بتحدي سافر

= روح وأنا جي وراك علي طول.. بالكفن !. 

❈-❈-❈

بعدما مضي ما يزيد عن ساعات، بذل سراج خلالهما ما في وسعه ليل نهار لنيل رضاه عائلة البدري لتسليم الكفن أمام الجميع ومن ضمنهم أهل البلد وأسرته التي كان بعضها غير راضيه على فعلته لكن لم يستطيع احد الاعتراض، وعلى الجانب الآخر كبير عائله البدري إبداء فروض الطاعة الكاملة له وقبل تقديم العرفان دون تفكير، فكان الجميع حقا مل وتعب من قتل أرواح الأبرياء والحزن عليهم.

اقترب بتلك اللحظة المأمور وربت علي كتفه بتشجيع قائلاً بصوت جاد

= اللي عملته ده كبير أوي يا عمده، واحسن حل كفايه الناس اللي راحت بقى وحوطوا على أولادكم الباقيين.. وبكده هتلاقي ناس كتير هتتشجع زيك في البلد وتقدم الكفن وتعرف ان ما لوش دعوه بالعار ولا الفضيحه إنما حمايه لاولادكم اللي موجودين واللي لسه هيجوا.

بدأت زغاريد النسوه تتعالي ودماء الذبايح تنتشر حولهما ككبش فدا بدلاً من قتل الأشخاص واخيرا انتهت تلك القصه وتوقف سلسال الدماء بين العائلتين، لن تستطيع غالية وصف فرحتها السعيده تلك فهكذا ضمنت حياه كريمه لابنها القادم وجميع ابنائها وزوجها.

على عكس فردوس كانت تشاهد ما يحدث بروح مغلوله وحقد كبير فإفساد ما تحاول بنائه بأمنية شبه مستحيلة مرفوضة، بأخذ ثأر أولادها معتقده بتلك الطريقه هكذا نيران قلبها تنطفي ويعود حق أبناءها.

هتف فؤاد وهو يسير تجاه غالية التي كانت تهتم بالرحيل لدخول السرايا 

= استني يا غاليه!. 

توقفت مكانها بدهشة، ليقول بصوت حازم بشدة 

= انا عاوز اقدم انا كومان كفني قدام الكل على الغلطه الوعره اللي عملتها في حق بنت اخويا.. وبسبب تفكيري في الشر ربنا اذاني في اعز واحده ليا! عشان اكده روحي بين ايديكي واعملي اللي انتٍ عاوزاه فيا محدش هيعترض ولا هيتكلم . 

كان في تلك اللحظه يتابع الجميع ما يحدث وكان الخدم يجهز أشياء فردوس للرحيل، 
فصرخت تهاني فزعًا لرؤيته ذلك فجـأة

= يا مصيبتي الحقي يا ست فردوس، فؤاد قدم الكفن هو كومان لست غاليه 

لطمت فرودس على صدرها منددة ندبها المصدوم بما تراه بغضب شديد 

= هتقتله! انا عارفاها طول عمرها شرنيه ولما تصدق الفرصه تجيلها، عشان تحرق قلبي اكتر! 
مش كانت عماله تعاركني عشان ما اخدش بتار عيالي أهي دلوقيتٍ هتاخد بتار أبنها عشان تعرف وجع الضنا واللي انا فيه .

لم يتحرك سراج من مكانه ابدأ وشاهد ما يحدث بهدوء تام، عكس الجميع الذي شعر بالتوتر والقلق من رده فعل غاليه، ردد الآخر في لوعةٍ مشوبة بالإلحاح والتوسل بسبب عذاب الضمير بما جناه بتلك الطفله الصغيره

= ارحميني من عذاب الضمير يا غالية ابوس يدك 

تفاجأت غالية بإقباله على قدمه ليقبل يدها، ووارت ذلك الشعور بالضيق خلف ابتسامة لبقة مرسومة بعنايةٍ وهزت رأسها بسرعه باعتراض
هاتفه باسمة بحزم 

=قوم يا فؤاد ايه اللي بتعمله ده ما تذلش نفسك لحد مهما حصل، انا عارفه كويس ان اللي حصل ده غصب عنك وانت قد ايه بتحب بسمله وعمرك ما هتقصد تاذيها، عشان اكده عمري ما هحاسبك.. و ربنا يشفيها لي ويسامحك.

في التو تجهمت ملامح فردوس وانصدمت من رده فعل غاليه التي دون قصد انتصرت عليها، 
وكأنها ترسل إليها بفعلتها انها افضل منها على الأقل تجاوزت ألمها على ابنتها مقابل العيش في سلام وتوفير حياه هادئه، عكسها هي كانت دائما تسعى للخراب دون الإهتمام بابنائها التي كانت ستفقدهم واحد وراء الاخر . 

ابتسم فؤاد بلا تصدق وأحس بشعور مريح نوعا ما، وهي هزت راسها له مبتسمة بخفوت.

في حين أحست غالية بيدٍ تتلمس ظهرها فانتفضت بقلقٍ ونظرت جانبها، لتجد سراج يخاطبه بهدوء 

= لو عاوز تروح مع امك خلي الخدم يجهز حاجتك انت كومان يا فؤاد.

هز فؤاد رأسه ورد علي الفور بصوت جامد

= لع يا اخويا انا أهنأ مرتاح في الدار!. 

غضبت فردوس من قراره الصادم، لأنه يعني أنها ستظل وحيدة ولن يبقى أحد يريدها بسبب أفعالها، فقالت بغطرسةٍ 

= يلا يا بنت انتٍ وهي حملي حاجتي على العربيه كأني انا اللي هموت واقعد معاهم..

نظرت غالية الي ابنتها الجلسة فوق الكرسي المتحرك بحزن عميق، كادت تمضي فرحتها للنهاية لولا أن كدر صفوها هذه اللحظات، وعندما لاحظ ذلك سراج اخبرها 

= ما تقلقيش عليها وحياه اللي خلقها لا هعمل المستحيل عشان اخليها ترجع تمشي تاني على رجليها حتى لو هصرف اللي ورايا واللي قدامي واسفرها بره...

راقها ذلك التغيير واستحسنته منه بأمل فامسكت يده قائلة باسمة بأمل 

= بجد يا سراچ.. بسمله هترجع تمشي تاني 

أبعدها بجفاء قاصداً وهو يقول بجمود 

= انا قلتلك كلمتي وخديها ثقه، بس بلاش تتصرفي من دماغك تاني!. 

أخفضت رأسها بخزي وقد فهمت بأنه ما زال غاضب منها لأنها حاولت إجهاض نفسها، وتعلم بأنه معه الحق في ذلك فكانت سترتكب أكبر خطأ في حياتها.

❈-❈-❈

ظنت غالية بعد عودتها الى الدار سيكون مجرد خلاف عابر حدث وسيمضي مع ما يمضي من مشكلات معتادة، لكن تلك المرة تحديدًا رفض سراج تمرير الأمر مرور الكرام، بالكاد انتظر ذهاب الجميع ليظهر احتجاجه الشديد رافضًا التحدث معها حتى او النظر بوجهها، فخطاها لم يكن سهل بالنسبه إليه! أن تقتل إبنه وهي تعلم جيد بأنه كان يتمناه بشدة حتى وان كان معه بسمله ابنته الوحيده لكن لا ينكر بأنه أراد ان يكون له عزوه من الأولاد الكثيره لكن رفض ذلك بسبب خوفه عليها من تلك العمليات وارهاقها فيكون ذلك جزاءه تحرمه من طفل لم يراه حتي.

دخلت الغرفة وهي تحمل صينيه الطعام التي جهزتها خصيصاً لاجله، لتنتقل ببصرها تجاه زوجها المتجهم، تجاوزها لتحدق في وجه سراج بزعل ظل ذلك الحاجز الوهمي قائمًا بينهما فحاولت هي إزالته بسؤالها الفاتر

= اول مره تدور وشك لما تشوفني هتفضل زعلان مني اكده كتير؟. 

حينها خرج عن طور صمته وهتف محتج عليها بغضبٍ متزايد

= مش قادر اصدق لحد دلوج كيف جالك قلب
تقتلي ابننا وانتٍ عارفه زين ان انا كان نفسي فيه و كنت محروم منه، بس ما طلبتش منك  تحملي تاني لما شفتك تعبتي قد ايه في بسمله، وقلت لنفسي العيب فيك اصلا وكفايه انها مستحملاك ما تزيدش فيها بقى وقدر تعبها واكتفي بعيل واحد. 

همهمت غالية بصوت خفيض مصحوب بزفرة سريعة

=ساعة شيطان، وعدت اول واخر مره اتصرف من دماغي تاني.

التفت زوجها ناظرًا إليها وصاح بها بتحيزٍ

=مع اللي عملتي ده لع ما اظنش.

ضغطت على شفتيها بندم وردت بخفوت

= خد طب كل لقمه الاول وهدي أعصابك.

جلس بعيد ورد عليها بضيقٍ مستعر في صدره

=مش عاوز منك حاچه كولي انتٍ وبسمله 

رمقته بنظرة طويلة فنهضت ولم تقطع خلالها الأمل، ثم مدت يدها لتحتضن صدغه داعبت وجنته الساخنة بإصبعها في رفقٍ وهي تردف باهتمام صادق

= ما تخافش عليها انا اكلتها واديتها علاجها ودلوقتي جي الدور عليك اهتم بيك، عشان خاطري انا متاكده انك على لحمه بطنك من الصبح .

عاتبها بملامح عابسة وهو يبعد يديها هاتفا في اعترض بتبرمٍ

= كاني فارق معاكي اياكي، ما انتٍ بقيلك اكتر من شهرين سايباني ولا تعرفي عني حاچه.. دلوقتي افتكرتي أن ليكي جوز تهتمي بيه

رفعت بصرها ناظرة إليه وخاطبته باسمة في لطافةٍ

= انا عمري ما نسيت جوزي وحبيبي وضهري وسندي اللي ما ليش غيره، قلت لك ساعه شيطان وراحت لحالها وانا اترجعت في اخر لحظه وعقلي رجعلي، مش طول عمرك بتقول عليا ان انا بنتك ومرتك اعتبرني بقى بنتك وغلطت.

سكتت قليلًا ثم حافظت على نقاء بسمتها الصافية وهي تصر عليه

= طب عشان خاطري كل لقمه، ده انا عامله لك المحشي اللي بتحبه .

رد سراج بجمودٍ متجنب النظر ناحيتها

= كتر خيرك، أنا مش عاوز حاچه قلت، فين بسملة؟ 

تنهدت غالية مليًا، ثم قالت بهدوء

= نايمة جوا في أوضتها .

تدارك غضبته المندلعة، لذلك اراد انهاء الحوار هنا وقال بوجه لا يزال محتقنًا

= روحي إنتٍ كمان ارتاحي جنبها، إنتٍ شقيانة من الصبح واليوم كان صعب.. يبقى نتكلم بعدين او كفايه حديد أصلا 

نظرت غالية إليه بصدمه وهتفت بقهر

= للدرجه دي زعلان مني ومش طايق ليا كلمه وحتى مش عاوزني جنبك، لا يا سراچ مش هتحرك من اهنا غير لما تسامحني وترضى عني، ما أنا ياما فوتلك كتير واقفلي في دي ليه ومش عاوز تنسى.

رد عليها بملامحه المشدودة وأنذرها بنبرة لا ترد في شيءٍ من الاستهجان

= عشان دي غير كل مره يا بنت العم!. تقدري تقوليلي كان ايه اللي هيحصل لو كنتي فعلا نزلتيه وانا ما عرفتش؟! هتعرفي كيف تبصي في وشي بعدها عادي أكده ولا اكنك عملتي حاچه؟!. 

أغاظها إصراره الجارح والمهين لطبيعة شخصها فانفعلت عليه بصوتها الحانق

= وانا قلتلك اسفه يا ابني عمي اكتر من مره اعملك ايه اكتر من اكده خلاص هتعلقلي المشانق يعني، معترفه بغلطتي يا ناس وكنت في موقف صعب وليا مبرراتي .

لم يبد راضيًا عن أي مبررات تُقال ولا يريد حسم الأمر نهائيً فرد بتهكمٍ

= صوح عاوزه تقتلي ابني وزعلان عشان بعاتبك وعاوزاني اسامحك وانسى بسهوله!. 

رغم علامات الألم الظاهرة على محياها إلا أنها هزت رأسها مرددة بخزي 

= أوام نسيت الحلو اللي بينا عشان غلطه واحده كيف دي؟!!

أطرقت رأسها شاعره بالذنب الشديد حقا و
كانت أعصابها مشدودة تتوالى عليها مشاعر 
الغضب وعذاب الضمير لذلك كانت لا تريد الضغط اكثر من ذلك علي نفسها، فأدمعت عينها بحزن مغمغمة بقهر

= معاك حق انا واحده ما عندهاش قلب ولا استحق أكون أم أصلا، وما استاهلش النعمه اللي ربنا انعم عليا بيها.. وحقك ما تسامحنيش ولا تبص في خلقتي. 

نظر لها بقلق فقامت غير مكترثة بالصينية التي وضعتها امامه وتركتها له، بينما طالعها  بنظرة ضيق عندما لاحظ دموعها لياخذ باله أخيرا بأنه قد بالغ في الضغط عليها قليلاً حتى وان كانت أخطأت، استوقفها من ذراعها قبل أن تغادر متسائلًا في صوتٍ خشن لكنه خفيض

=رايحة فين؟

تقدمت خطوة تجاهه وردت عليه بتشنجٍ من بين دموعها المتحسره علي حالها 

= سيبالك الأوضة تقعد فيها براحتك طالما مش طايق خلقتي ورايحه اقعد مع بنتي.

ظلت قبضته ممسكة بذراعها بل اشتدت قليلًا عليها وتعالي صوته الرخيم المليء بهذه النبرة الحانية

= لع ماتمشيش خلاص.. عشان خاطري.

في الحال اتخذت موقفًا دفاعيًا و نفضت ذراعها لتتحرر منه وقالت في تصميمٍ مباعدة عينيها عنه

= ما تغصبش نفسك تستحملني بالعافيه يا ابن عمي خلاص عرفت أن غلطتي واعره وانت مش هتسامحني مهما اعمل، وخلاص براحتك وأنا مش عاوزة أتخانق وبجد تعبت من الحديد عن الموضوع ديه واحساسي بالذنب اللي ما فارقنيش ولا لحظه وانت جيت كملت عليا .

حاولت الخروج، فمنعها من ذلك بالإسراع تجاه الباب في التو أغلقه بيده واستند عليه، لتقف مشدوهة في مكانها وهي تحدجه بنظرة ضيق بين دموعها ليستطرد راجيًا بهدوءٍ وقد لاحت في حدقتيه هذه النظرة الدافئة

= قلتلك خلاص خليكي! عارف ان انا زودتها بس ده خوف عليكي اكتر ما هو عتاب.. لاني كيف ما كنت خايفه على اللي في بطنك خفت برده عليكي لو كان جريلك حاچه فكرتي ساعتها انا هيكون مصيري إيه وبنتك. 

حدجته بنظرة محذرة، وهي تردد بصوت ضيق

=شوف إنت اللي بتفتح المجال للخناق والزعل تاني بينا!. 

اقترب منها واحتويها بين ذراعه بحنان، لامس بشفتيه وجنتها وراح يخبرها بقلبٍ صادق

= والله ما اقصد اكده بس بعرفك انا ليه زعلان منك جامد المره دي ومش قادر اعدي الموضوع عادي، عشان ديه لو كان حصل انا اللي كنت هشيل الذنب اكتر منك وهزعل ان انا ما حسيتكيش بالامان كفايه .

أرخى قبضتيه عن رسغيها قليلًا، واضاف بنبرته التي تحولت للدفء

=أنا عاوزك تكوني بخير وفي أمان دايما، بعيد عني أو قريبه مني.. عشان انتٍ مش حبيبتي ومراتي وبس.. كل حياتي ودنيتي.

تقبلت لمساته الملاطفة، تلك التي يحاول بها اللعب على وتيرة إحساسها لكنها فجاء أبعدت يده قائلة بصوت ملهوف

= يعني سامحتني! 

هز رأسه بالايجاب مبتسماً، ثم تطلعت له بنظرات حائرة عندما تذكرت أمر زينب وزاد من تخبطها وهي تتسائل بفضول مهتم

= صحيح هتعمل ايه مع زينب بعد ما حكايه التار خلصت الحمدلله، ما حدش من اهل البدري حاول يرجعها .

هز رأسه بعدم مبالاة وهو يخبرها في صوتٍ خفيض

= طب ما يحاولوا انا مالي بيها! هي ما كانش ليها وجود في حياتي أصلا اولاني، خلاص حكايتها هي كومان خلصت ومش عاوزين نفتح الموضوع ده بينا تاني. عشان ننساه ولا كأنه حصل .

منحته نظرة هائمة غامرة بالحب وهزت رأسها بالايجاب وقررت بالفعل تجاهل أمر زواجه من غيرها طالما لم يتعمق الأمر كما كانت تخشيه سابقآ، وبالعكس كلما تتذكر ذلك الأمر ستشعر بالفخر والثقه بانه لم يخلف ذلك الوعد ويلمس غيرها وهو على علم جيد بان ذلك الأمر اكثر جرح وألم لها.....

فأسبلت عينيها تجاهه مبتسمة طالبة منه

= طب يلا عشان ناكل سوا. 

شعرت بذراعه تطوقها من خصرها بعدما انقض عليها ليحملها في خفة ويتجه بها نحو الفراش، وهو يقول بنهج عابث

= خلي الوكل كومان شويه، مش قبل ما نتصافى للآخر...

❈-❈-❈

كانت السعاده كلمه قليله تسمعها غالية بعدما نجحت عمليه ابنتها ومعني ذلك أنها ستعود و تسير من جديد وتركض هنا وهناك مثلها مثل كل الاطفال ولم تشعر بسملة بان ينقصها شيء بعد! وانها فتاة غير مكتمله حرمت من ابسط الاشياء، قفز قلب غالية طربًا وهتفت لزوجها في امتنانٍ

= وفيت بوعدك ووفيت يا أبن عمي، انا مش عارفه اقولك ايه ولا أوصف فرحتي قد ايه بنجاح عمليه بسمله.

أمسك العمدة بكفها وركز بصره عليها بنظرة هائمة، غامرة بالحب هاتفا ببحبورٍ 

= دي حته مني يعني غاليه عليا قبل ما تكون غاليه عليكي، وسعادتي من سعادتكم يا بنت العم 

احتضنته دون تفكيرٍ وقالت وهي تريح رأسها على كتفه بحنان ورضا

=ربنا يخليك لينا يا عمده، وجوزي وحمايه اللي ما ليش غيره.

❈-❈-❈

عادت غالية إلى السرايا مجددًا، محملة بالسعادة والسرور وهذه المرة كانت سيدة الدار وليست خادمة أو ضيفة غير مرغوب بها كما كانت في السابق وقد أنجبت الصبي الذي كانت تتمنى فردوس بالفعل وتنتظره بفارغ الصبر لتقوم بتربيته ورعايته بنفسها! لكن والدته هي من اعتنت به بحنان الأمومة ليكبر في جو أسري مليء بالحب وليس الكراهية.

أما فردوس، فقد ظلت بعيدة عنهم رغم أن سراج كان يزورها طوال الوقت، وأحيانًا يأتي معه فؤاد في زيارات قليلة لأنه لم ينسَ كيف كانت تحرضه على قتل عائلة البدري و استخدامه كوسيلة للضغط على شقيقه الأكبر ليس إلا، لكن سراج كان دائمًا يعي أنه يجب ألا ينقطعوا عن والدتهم مهما حدث بينهما. حتي أنه أحيانًا كان يجلب معه أحفاده إلى الدار القديمة، لكن تلك كانت مجرد زيارات ودية لا أكثر ومع ذلك كانت النفوس لا تزال مشحونة بالكره فرغم كل ما حدث و فردوس بقيت  وحيدة، لكنها لم تتغير بعد.

لكن حاولت غالية أن تسامح وتعيش بسعادة مع زوجها دون خلافات أو خوف من المستقبل خاصة بعد انتهاء الثأر وسلسلة الدماء التي أودت بالكثير من الضحايا بسبب الانتقام.. صحيح أن الأمر كان صعبًا للغاية في ظل عادات وتقاليد صارمة، لكن سراج وغالية استطاعا تحقيق ذلك للحفاظ على العائلة ونشر السلام بين الجميع.


                              تمت

تعليقات