رواية اسد مشكي الفصل الثاني والعشرون22بقلم رحمه نبيل
| أرسلان آخر |
قبل القراءة متنسوش التصويت على الفصل والتعليق برأيكم بعد القراءة .
صلوا على نبي الرحمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واقفة تتأمل الحدائق المحيطة بالغرفة التي أُختيرت لها، تحاول أن تشغل عقلها بالتفكير في ذلك السحر حولها عن التفكير به وبكل ما يخصه، لكن يبدو أن كل شيء كان ضدها في هذه اللحظة، إذ وبينما كانت تحاول الإندماج، وصل لها صوته هادئًا ينساب كنغمات موسيقية، أو ربما هذا ما رسمه لها عقلها المفتون بكل ما يتعلق بهذا الرجل .
الأمر كان مريبًا مرعبًا، أن تتعلق بالرجل بهذه السرعة، ودعونا نقل تتعلق إذ يبدو أنها تجاوزت هذه النقطة منذ زمنٍ طويل، لكنها تواري الحقيقة خلف كلمات مجازية لا تسمن ولا تغني من جوع.
_ هذه هي غرفتك أتمنى أن تعجبك .
استدارت سلمى صوبه وهي تمنحه بسمة صغيرة معبرة عن امتنانها لأجل اهتمامه بها، ورغم ذلك لا تستطيع أن تتجاهل نظراته المتوارية خلف تلك النظرات التي كان يمطرها بها.
_ نعم جميلة، سبز جميلة، وأجمل ما بها تلك الزهور الغريبة، لأول مرة ابصرها في حياتي .
تنهد أرسلان وهو يتحرك يجاورها الشرفة مبتسمًا بسمة صغيرة وعقله يفكر في دور الشرفة داخل هذه العلاقة، نظر صوب سبز يردد بهدوء :
_ سبز لطالما كانت موطنًا لأي نبتة تبحثين عنها في هذا العالم، كانت بمثابة سلة الغذاء لنا، كما كانت مصر في السبع العجاف، لكن الأيادي الفاسدة كادت تطالها لولا رحمة الله بشعب سبز .
صمت ثواني ثم قال بهدوء وبسمة :
_ تلمست اهتمامك بالزهور منذ مجيئك، هل تحبين الزهور ؟!
رفعت عيونها له وقد التمعت بشكل آثار تعجبه، ومن ثم ابتسمت بسمة مريبة بالنسبة له وهي تهتف بخبث جعل عيونه تتسع شيئًا فشيء مدركًا ما تلفظ به منذ لحظات :
_ تلمست اهتمامي بالزهور ؟! يبدو أنك كنت تتابع اهتماماتي باهتمام جلي جلالتك.
يا ويلي من تلك المرأة اللعوب، ليست سهلة بالمرة، لكن في الحقيقة هي بشكلٍ ما تناسبه وبشدة، فما حاجته بامرأة صامتة خجول طوال الوقت لا تجاريه في الحديث وتتخذ ركنًا لها وحدها، كما لا يفضلها وقحة بشكل كامل، بل يفضلها ....سلمى وببساطة .
لذا ردًا على سؤالها السابق أجاب بكلمته التي احتفظ بها ردًا لكل ما تطرحه عليه :
_ شايد ...
ابتسمت له تميل برأسها:
_ شايد ؟!
هز كتفه مبتسمًا بسمة صغيرة :
_ شايد .
أضاف وهو يصرف تفكيرها عن حديثه السابق :
_ لم تخبريني سبب اهتمامك بالزهور ؟!
_ ربما لأنني كنت بائعة زهور في عالمي، لذلك لها بقلبي مكانة كبيرة .
اتسعت بسمته بزهول من كلماتها يتخيلها تقف بين الزهور متفتحة، والآن وجد تفسيرًا على امتلاء ثيابها برسومات الزهور، ربما لتندمج معهم .
_ يليق بكِ الأمر، لكن أولستِ طبيبة ؟!
هزت رأسها وهي تنظر صوبه بشرود :
_ نعم، كنت طبيبة وبائعة زهور، طبيبة لأرضي والدتي، وبائعة زهور لأرضي أبي، وما بين هذه وتلك عشت حياتي بسول الطبيبة النفسية والمؤهلة، وسول بائعة الزهور .
_ ليحمنا الله من الأولى ولترضى عنا الثانية جلالة الملكة .
اتسعت بسمتها وهي تردد بصوت منخفض :
_ لا تقلق فالاولى لا تؤذي من تهتم بهم، والثانية لا تهمل من تحب .
_ وهل أنا من النوعين ؟؟
نظرت له بعدم فهم فأوضح لها بهدوء شديد :
_ من تهتمين بهم ومن تحبينهم ؟؟
اتسعت بسمتها ونظرت صوب عيونه تردد بصوت غامض :
_ شايد.
ضحك أرسلان بصوت مرتفع على ردها وهو يهز رأسه:
_ عادل بما يكفي .
وهي كانت في حالة من اللاوعي تراقب ضحكاته، متعجبة من قدرة ذلك الرجل على تجاهل كل الاوجاع التي تحيط به ويضحك ويحيا حياته بهذه السهولة، رجل نشأ نشأة خشنة، وعانى من القسوة على كل لون، ومر بالكثير في حياته، كان ليكون مشروع مريض نفسي بامتياز، لولا أنه كان ...أرسلان.
_ أراكِ تتأملين بهائي وحُسني، عساه خيرًا ؟!
ابتسمت له، ثم أبعدت عيونها بخجل عن وجهه تحاول شغل عقلها بتأمل المحيط، وهي تردد بصوت خرج بصعوبة منها، بسبب نظراته التي لم يتواني عن توجيهها لها .
_ أراك تزداد غرورًا كل يوم مولاي، وهذا سييء لو سألتني، أنت في طريقك لتكون أكبر نرجسي في التاريخ .
اتسعت بسمة أرسلان بشكل جذب انظارها لتتعجب بسمته، فهي لم تنطق شيء يستحق هذه البسمة، بينما أرسلان مال عليها يهمس باستمتاع :
_ هذه المرة سأتقبلها منكِ راضيًا مولاتي .
نظرت له سلمى بعدم فهم ولم تكد تستفسر منه عن معنى كلماته، حتى اعتدل الاخير يتنهد بصوت منخفض :
_ على كلٍ كنت هنا فقط لاطمئن عليكِ، قبل الانشغال في اجتماعي مع الجميع هنا، لذا رجاءً إن احتجتي شيئًا لا تطلبيه من غيري، اطلبي من أحد الرجال في الخارج أن يخبرني بالحضور وسأكون لديكِ سعيدًا بتلبية ما تريدين، اتفقنا سُليمى ؟؟
_ هذا دلال لن يسرك أن اعتاده جلالة الملك .
_ تدللي جلالة الملكة .
ختم حديثه ببسمة وهو ينحني لها نصف انحناءة، ثم تحرك بهدوء صوب الخارج ليلتقي الباقيين في قاعة العرش، لكن وقبل أن يخطو خارجًا سمع صوتها يهتف بتردد خوفًا من تحوله من نسمة لعاصفة :
_ ذلك الحديث في السجن حول والدك، أنت حتى لم تهتم بتوضيح ما حدث أرسلان ولم تهتم بالدفاع عن نفسك أمامي، لم تنفي ما حدث، وأنا في الحقيقة لا أحب الضغط عليك لكن لن يكون جيدًا أن تتركني لأفكاري و....
_ هل تصدقين أنني افعلها ؟؟
نطق جملته دون حتى أن يستدير لها، وهي نظرت لظهره طويلًا، تفكر في سؤاله، هل هذا اختبار ثقة أم مجرد سؤال ؟؟ وفي الحالتين كانت إجابتها واضحة .
_ أرسلان الذي عرفته طوال فترة بقائي هنا لا يمكنه أن يأذي أحدهم دون مبرر، فما بالك لو كان ذلك الاحدهم هو والده ؟!
ابتسم أرسلان بسمة صغيرة يستدير لها نصف استدارة ينظر من فوق كتفه لعمق عيونها :
_ لكنه بشكلٍ أو بآخر فعل.
ختم كلماته يتحرك من المكان تحت نظراتها المصدومة وهي تحاول أن تدرك ما قيل منذ ثواني تتنفس بصعوبة تراقبه يتحرك خارج الغرفة الخاصة بها بعدما ألقى قنبلته عليها، أما عنها ابتسمت بعدم تصديق تهرول صوبه تمسك مرفقه بسرعة قبل الخروج تهتف بسرعة وصدمة كبيرة :
_ لم تفعل صحيح ؟! أنت لم تفعلها أرسلان ؟!
نظر أرسلان لعيونها ثواني قليلة كانت كافية لتدرك الحرب التي تدور داخله في اللحظة، لتترك مرفقه بصدمة وهو فقط ردد بصوت منخفض :
_ لست بهذه المثالية، و.... الأمر يطول شرحه، وفي الحقيقة أنا لست مستعدًا بأي شكل من الأشكال لخوض مثل هذه النقاشات جلالة الملكة، لست مستعدًا للتحدث حول ماضٍ سبق ودفنته أسفل الأرض السابعة، ليس الآن على الأقل.
ختم حديثه يتحرك من أمامها تاركًا إياها تتجرع كاسات الصدمة بتأني تحاول أن تدرك تلك الحقيقة التي ألقاها في وجهها بكل بساطة وكأنها حالة الطقس أو ما شابه .
أرسلان قتل والده حقًا ؟! والده الذي رفض أن يتم ذكره بالسوء على لسانها؟؟ والده نفسه والذي اعترف به التاريخ كأحد المتجبرين رفض هو سماع كلمة واحدة ضده، يقتله ؟؟؟
هناك شيء خاطئ يدور حولها، تنفست تحاول أن تفكر في كل ما قيل وقد شردت عيونها في الباب الذي أُغلق في وجهها للتو ..
_ وماذا أيضًا أرسلان؟ كم من الأسرار تحمل داخل جعبتك جلالة الملك ؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ أنت حقًا أكثر إنسان عنيد في هذه الحياة، نزار أخبرتك أن الأمر خطر عليّ وعليك، تدخل لقصر سبز بهذه البساطة في وسط وجود جيوش من جميع الممالك تقريبًا، هذا انتحار .
لم يهتم نزار وهو يضم لثامه أعلى وجهه يتحرك مع جموع البشر الذين يملئون الطرقات، وشيء واحد يدور بعقله، والده هنا وكذلك توبة، إذن هذه فرصته ليصلح بعضًا مما أفسده .
_ فقط إن توقفت عن الحديث يا الوليد سيكون كل شيء بخير .
زفر الوليد بصوت مرتفع وهو يبصر قصر سبز يقترب منهم وضربات قلبه تزداد ريبة وقلق، وحينما أصبحوا على مشارفه ابصروا العديد من الرجال يقفون على بوابته يتحركون للداخل وهم يحملون اسبته مليئة بالفواكه والخضروات تعبيرًا عن الإمتنان للملوك .
اتسعت بسمته بشدة وهو يهتف :
_ انظر يا الوليد الطريق ممهد يا صديقي، الله ييسر لك طرق العودة للصواب، والغبي هو من يتجاهلها .
نظر له الوليد ثواني دون ردة فعل وهو شارد في بوابة القلعة، وقد تحرك صوبها نزار بسرعة يندمج بين جموع الشعب، قبل أن يعود ويجذب الوليد معه متمنيًا من الله التيسير له في الدخول .
وبالفعل ما هي إلا دقائق قليلة استغرقها، حتى أصبح في منتصف ساحة القلعة، ابتسم بعدم تصديق وهو ينظر صوب الوليد الذي ما يزال بدلا يصدق سهولة الأمر.
_ يومًا ما سيؤدي تواضع هؤلاء الملوك مع عامة الشعب لهلاكهم .
وكانت هذه هي الجملة الوحيدة التي نطق بها الوليد منذ دخل متعجبًا، سماح ملوك بمثل مكانتهم لبعض العامة بالمرور هكذا بكل بساطة، بينما صعلوك لا قيمة له كأنمار يعين على غرفته حراس وجيوش .
ونسي أن الأمن والسلام نابع من عدلهم، فلا هم اذوا شعوبهم ليخشون غدرهم، ولا هم ظلموهم ليخافوا تقلبهم .
تحرك نزار بسرعة بين الطرقات بسرعة ولهفة وهو يبحث عنه بعيونه، يتمنى من أعماق قلبه أن يبصره ولو قبيل الصدفة، وخلفه الوليد متعجب نظراته تلك :
- لا اعتقد أن الأميرة قد تسير بين الطرقات في هذه اللحظة، لا بد أنها الآن مع والدها في غرفته .
ونزار في هذه اللحظة لم يكن حاضرًا لا بعقله أو بجسده حتى مع حديث الوليد، بل كان كله يسير جواره ويسمع صوته الذي اشتاق له بقوة.
خرجت همسته مذبوحة موجوعة وقد سقطت دموعه دون شعور :
_ أبـــي.....
ضيق الوليد ما بين حاجبيه بعدم فهم، يحرك عيونه بهدوء شديد صوب الجهة التي ينظر لها، ليبصر الملك آزار يتحدث مع سالار ببسمة واسعة وهو يربت على كتفه بحنان شديد .
آزار والذي كان نسخة كبيرة من نزار ...
_ أنت تشبه والدك بشدة .
ابتسم نزار بوجع :
_ ليتني كنت مثله، ليتني .
كان يراقبه بشوق مضني وقد شعر في هذه اللحظة أنه على استعداد للتضحية بنفسه وتسليم ذاته لوالده يحكم ما يشاء عليه، لكن قبلها يضمه مرة أخيرة، مرة واحدة فقط يتمتع بدفء أحضانه، ومن ثم يترك له حرية تحديد مصيره .
زادت دموعه وهو يتحرك دون وعي صوب والده وقد بدأ ينفذ أفكاره، يراقبه يحتضن سالار بحب شديد، ليشعر قلبه بغيرة كبيرة ووجع مطالبًا بحضن مثله .
ومن شدة شوقه لم يشعر سوى بنفسه يهتف بحرقه وقهر :
_ أبــــــي .
لكن ما كاد يتحرك خطوة واحدة حتى شعر بيد تجذبه بسرعة كبيرة وصوت الوليد يهتف بصدمة وهو يتوارى به خوفًا خلف إحدى الأشجار :
_ هل جننت نزار ؟؟ يا ويلي هل تلقي بنفسك للتهلكة ؟؟تنهي حياتك بنفسك يا غبي ؟؟
نظر له نزار موجوعًا يحاول جذب مرفقه من بين أنامله هامسًا بصوت باكٍ :
_ دعني وليد، أي حياة تلك ؟! لا حياة أحياها ؟؟ هل تسمي ما أحياه الآن حياة!؟ تراهات، دعني اذهب لأبي، لقد اكتفيت، دعه ينفذ بي ما يراه مناسبًا من الأحكام على الأقل سأقضي المتبقي من عمري جواره بدلًا من قضائه هاربًا جبانًا .
نظر له الوليد بصدمة، يشعر بالعجز يلوح في نظرات نزار، وقد بدأ الخطر يدق ناقوسه داخل عقله ليستعمل البطاقة الأخيرة :
_ وماذا عنها ؟؟ ألم تعد الأميرة توبة أن تنتقم لها من أنمار ؟؟ هل تخذلها ؟؟
همس نزار بلا شعور وهو يحدق به حزينًا :
_ توبة ؟؟
ويبدو أن مجرد نطق اسمها أعطى قلبه بطاقة خضراء ليبدأ بالخفقان، وقد استغل الوليد هذا الشرود وهو يجذبه بعيدًا يهمس بصوت منخفض :
_ دعنا نذهب من هنا بحثًا عنها نزار ..
وبالفعل تحرك معه نزار بحثًا عن توبة، تاركًا جسده وروحه تطوف جوار والده .
أما عن آزار فبمجرد أن سمع تلك الكلمة التي رنت في المكان حتى انتفض بعيدًا عن أحضان سالار بقوة يهمس بصوت ملتاع وهو يتلفت حوله بجنون :
_ هل ...هل سمعت هذا الصوت ؟؟
نظرت له سالار يدعي عدم الفهم وقد تيقظت حواسه بأكملها ينظر حوله بأعين مدققة :
_ صوت ؟؟ أي صوت جلالتك ؟؟
- هذا الصوت سالار، لقد كان ....
فجأة توقف عن الحديث مدركًا أنه ربما تخيل لشدة شوقه لولده، لذا نظر حوله ثواني، ثم ربت على كتف سالار ببسمة باهتة :
_ لا شيء يا بني، فقط دعنا نلحق بالجميع في الداخل لننتهي من هذا .
هز له سالار رأسه يراقبه يتحرك أمامه، ثم نظر حوله نظرة أخيرة ومن ثم تحرك بعدها بهدوء، يفكر في الصوت الذي سمعه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ يا ابنتي فقط عودي لغرفتك ولا ترهقي نفسك، لا يجوز ما تفعلينه، فأنتِ الآن اصبحتي زوجة القائد ولستِ عاملة هنا .
تركت فاطمة ما تفعل وهي تنظر صوب ألطاف بعدم فهم :
- وماذا في ذلك يا خالة؟؟ وهل حُرم العمل على زوجة القائد ؟؟
_ لم يكن هذا ما قصدته، لكن يا ةبنتي لا يجوز هذا، أنتِ فقط عليكِ الجلوس وأخذ قسط من الراحة فما يزال جسدك مرهق مما مر به .
أمسكت فاطمة الخضار أمامها تقطعه بهدوء وهي تركز على القطع الصغيرة التي ينتجها تلاحم السكين مع الخضار:
_ لهذا بالتحديد أود العمل يا خالة، لا أريد تذكر ما حدث، لعل العمل ينسيني ما حدث .
هزت ألطاف رأسها بشفقة، وهي تراقب فاطمة تقطع الخضروات بشرود كبير، قبل أن تهتف فجأة وبلا مقدمات :
_ هل تدركين ما يحب المعتصم يا خالة ؟؟
نظرت لها ألطاف ببسمة حنونة :
_ وهل تنتوين طبخ ما يحبه ؟؟
_ أوليس هذا ما يفعله الأزواج يا خالة ؟؟
ختمت حديثها وهي تحدق بعيون ألطاف بخجل، بينما الأخيرة ابتسمت بسمة واسعة تهز رأسها بنعم :
_ نعم عزيزتي، لكن اعتذر منكِ لا أعرف بالتحديد ما يحب زوجك، لذا لِمَ لا تسألينه بنفسك ؟؟
نظرت لها فاطمة ثواني وكأنها تفكر في الأمر، قبل أن تتحرك بسرعة صوب ساحة القتال حيث يجب أن تجد المعتصم تحت نظرات ألطاف المبتسمة .
وفاطمة فقط سارت في الممرات تحاول ترتيب ثوبها وحجابها بسرعة كبيرة، ثم تحركت صوب الساحة الخلفية الخاصة بالقتال والتدريبات والتي يشرف عليها المعتصم بنفسه .
_ سيدي المعتصم ..
ولا لم تكن هي المنادي هذه المرة، بل امرأة أخرى، تنادي زوجها، على الأقل امرأة أشد احترامًا منها تضع لقبه قبل إستخدام اسمه، وهذا ما تقدره لها فاطمة وبشدة، لكنها وحتمًا لا تقدر لها إيقاف زوجها في منتصف أحد الممرات وهي تحمل سلة خضراوات وفاكهة تنظر ارضًا تهتف بصوت منخفض بضعة كلمات لم تصل لفاطمة، لكنها تكاد تخمن محتوى كلماتها خاصة مع احمرار وجنتيها.
الفتاة كانت مفتونة بالمعتصم وكيف لا تكون وهو ...المعتصم ؟؟
ابتسمت فاطمة بسمة موجوعة وهي تراقب الفتاة تحاول أن تخفي نظراتها الهائمة بزوجها أثناء الحديث معه، في حين أن المعتصم كان ينأى بنظراته عنها يحاول الإفلات منها .
وفي هذه اللحظة لم يأتي في عقلها سوى أن المعتصم يليق به أن يتزوج بفتاة كتلك الفتاة، مشرقة بلا شوائب، جميلة ومثالية تصلح زوجة للقائد.
ويبدو أن ذلك الرأي لم يكن رأيها وحدها، إذ سمعت صوت بعض الفتيات على مقربة منها يتحدثن عن كم تليق رفيقتهم أن تكون زوجة القائد.
" يا الله تبدو جميلة رفقته، عسى الله أن يوفقها ويكتب لهما الخير سويًا "
نظرت لها فاطمة بحسرة، ولولا قلبها الذي كان يطالبها بالأنتفاضة والذهاب للمطالبة بحقها في زوجها، لكانت أمنت على حديثها .
ثواني حتى أبصرت المعتصم يبتعد عن الفتاة بسرعة يكمل طريقه بهدوء شديد وتبدو ملامحه جامدة بشكل غريب .
بينما الفتاة ظلت واقفة تراقبه بانبهار وسعادة، قبل أن تستدير صوب رفيقاتها ببسمة واسعة وكأنها أحرزت نصرًا مستحيلًا للتو، تركض صوبهن تعانقهن بسعادة كبيرة وهي تردد بصوت متلهف :
_ يا الله لقد تحدثت معه، قلبي يكاد يتوقف من السعادة لقد كان ....كان مبهرًا ذلك الرجل سيقتلني يومًا ما .
ابتسمت لها رفيقتها وهي تتحدث بسعادة لأجلها:
_ حبيبتي عسى أن يكتب الله لكِ السعادة برفقته .
_ اللهم آمين، هذه دعوتي كل صلاة، لا استطيع وصف كم أن هذا الرجل هو رجل أحلامي.
غمزت لها الثالثة تشاكسها :
_ حبيبتي هو رجل أحلام الجميع هنا، والذكية هي من تظفر به لنفسها، لذا احرصي أن تكوني أنتِ هي الفتاة تلك و....
_ لا لن تكون .
وقد كانت تلك هي الكلمة الوحيدة التي نطقت بها فاطمة دون إرادتها، وكأن عقلها انتفض يثور غاضبًا على صمتها وهن يتغزلن بزوجها أمام عيونها وعلى مسامعها .
إذ كادت تفر باكية، لكن فجأة توقفت تهتف باندفاع تلك الجملة وبملامح غاضبة .
كلمة قالتها وشُلّ لسانها من بعدها وهي ترى نظرات الثلاث فتيات المصدومات لها، لتشعر بالعجز عن الرد تحت نظراتهم وقد بدأ جسدها يرتعش وهي تعود للخلف تحاول إيجاد أي تبرير على كلمتها، لكن كل ما فعلته هو أنها رفعت رأسها لهن بكبرياء لا تدري من أين احضرته، وفجأة دون مقدمات ركضت بسرعة بعيدًا عنهم تحت أعين الفتيات المصدومات بها .
_ من هذه الفتاة الغريبة ؟؟
_ لا أدري، ربما كانت إحدى المنافسات على قلب القائد فاحذري عزيزتي ....
أما عن فاطمة فأخذت تركض وهي ترتعش من هول ما حدث وبمجرد أن وصلت لمكان منعزل عن الجميع حتى أخذت تتنفس بعنف وعي تنظر خلفها خشية أن يكون أحد يتبعها، لكن وفي ثواني أطلقت صرخة رن صداها في المكان بأكمله وانقطعت داخل صدر المعتصم الذي بمجرد توقفها عن الركض حتى اقترب منها يضمها بسرعة مرتعبًا أن يكون قد حدث مكروهًا لها، يربت عليها بحنان :
_ اهدئي فاطمة، هذا أنا المعتصم حبيبتي، ما بكِ؟؟ ناديتكِ كثيرًا ولم تتوقفي، هل حدث لكِ شيئًا ؟؟
نظرت له فاطمة بوجه شاحب وانفاس سريعة، وهو فقط يتحدث لها بحنان ويده تجفف عرقها بقلق وصوته خرج قلقًا أكثر حينما رأى نظراتها الزائغة في وجهه :
_ فاطمة صغيرتي ما بكِ ؟؟ رجاءً لا تقلقيني عليكِ أنا لسـ....
وقبل حتى أن يتم جملته قطعت فاطمة كلمته وهي تلقي نفسها بين أحضانه بسرعة كبيرة تضمه لها بقوة وكأنها تخشى أن يتسرب من بين أحضانها لأحضان أخرى أحق منها به .
أما عن المعتصم فقد كان في هذه اللحظة في عالم آخر بعيد وردي، فاطمة الصغيرة والتي كانت تصرخ موبخة إياه كلما امسك يدها حتى، اقتربت منه وعانقته دون مقدمات، ابتسم بعدم تصديق وهو مفتوح الأعين يحاول أن يستوعب ما يحدث، وحينما شعر أن السحر زال عن زوجته وكادت تبتعد عن أحضانه، حتى رفع يده بسرعة يضمها أكثر يبقيها داخل أحضانه مبتسمًا منتشيًا :
_ لا اعلم ما حدث لكنني اشكر أيًا كان الذي تسبب في هذا لأصل للحظة النعيم هذه .
وفاطمة ذابت من الخجل داخل أحضانه ولم تكد تقاومه حتى تذكرت كلمات الفتاة ورفيقاتها، لتشدد من احتضانه وهي تقول بصوت خافت :
_ متى تعلن للجميع أنك زوجي يا المعتصم ؟!
عقد المعتصم حاجبيه بعدم وهو يبتعد عنها قليلًا ينظر في وجهها يحاول معرفة ما حدث لتفكر في تلك النقطة :
_ هل هناك ما حدث واجهله ؟!
_ لا ...لا ...لا لم يحدث شيء، لكن ألا تنتوي إعلام الجميع أنني زوجتك وأنك زوجي أنا فقط ؟!
رفع حاجبه ثواني قبل أن ينبث بصوت منخفض وكأنه يفكر بصوت :
_ هل رأيتي ما حدث منذ دقائق ؟!
_ وما الذي حدث يا ترى يا المعتصم ؟!
اتسعت بسمة المعتصم وبقوة حينما سمع كلماتها وقد أخذ قلبه يرفرف حينما التقط ذبذبات الغيرة في حديثها، يسعده أن يعرف أن زوجته تغار عليه يقترب منها مضيقًا عيونه بتفكير :
- لا شيء عزيزتي، واليوم إن أردتي سأشهر زواجنا في المسجد كي يعلم الجميع أن هناك امرأة واحدة فقط في حياة المعتصم وهذه المرأة تُسمى فاطمة، وقد اكتفى بها عن النساء أجمعين.........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضجت القاعة بضحكات إيفان الذي كاد يسقط عن مقعده لشدة ضحكاته، وارسلان فقط يراقبه بأعين جامدة وهو يستند بظهره على المقعد يضم يديه لصدره ينتظر أن يفرغ من ضحكاته، بينما آزار يراقب ما يحدث مبتسمًا بسمة واسعة وسالار يتابع الحديث بحماس .
وبعد دقائق طويلة قضاها إيفان في الضحك، واخيرًا توقف يردد من بين أنفاسه بصعوبة :
_ سجنت أخ زوجتك فقط لأنه عانقها، إذن من المفترض أن أأمر بإعدامك رميًا بالحجارة على ما تفعله معي أيها النذل.
ابتسم أرسلان بسمة جانبية وهو يردد بصوت جامد :
_ أولًا لم أكن أدرك أنه أخوها، ثانيًا لا أنت ولا جيش من امثالك تستطيعون رفع إصبعًا في وجهي إيفان، لا أحد يستطيع وأنت تدرك .
غامت عيون إيفان بخبث وهو يرفع كوب الماء أمام وجهه يتحدث بهدوء شديد :
_ على حد علمي أن سالار فعل في مواجهته الأخيرة معك، أليس كذلك سالار ؟؟
ابتسم سالار أكثر وهو ينظر صوب أرسلان الذي اشتعل وجهه بالغضب وهو يضرب الطاولة صارخًا بغيظ شديد :
_ كان هذا بإرادتي أيها الوغد .
ألتفت صوب سالار بسرعة وهو ينتفض عن مقعده متحركًا صوب سالار بسرعة يجذبه عن مقعده بإصرار شديد :
_ هيا انهض أيها الواشي، سنعيد القتال الآن ولنر لمن النصر؟! هيا انهض معي .
لم يستطع سالار التحدث كلمة واحدة بسبب ضحكاته، يحاول إبعاد يده بصعوبة عنه، وقد فشل في إخراج كلمة لشدة ضحكاته على مظهر أرسلان.
وايفان يشاركه الضحك وقد نهض يحاول إبعاده عن سالار :
_ توقف أيها المختل، دعنا نتحدث فيما جئنا لأجله، ومن ثم حقق النصر كما تريد .
نظر له أرسلان بشر :
_ في البداية انتصر على ذلك الواشي ذو الشعر الأحمر كثير الحديث، ومن ثم لنا حديث آخر.
زفر آزار وهو يضرب على الطاولة بضيق :
- توقفوا عن هذا وانتبهوا لننتهي مما يحدث، لم نأت هنا لتحصد انتصاراتك الضائعة أرسلان، كانت مرة وخسرتها وانتهينا، اعترف بخسارتك مرة واحدة على الأقل .
نظر له أرسلان بشر مشيرًا على عيونه بتحفز متوعدًا :
_ تم وضعك على القائمة أيها العجوز .
نهض آزار وقد اشتعلت عيونه مرددًا بصوت مرتفع غاضب :
_ هذا العجوز هو والدك، هل تود أن ترى ما يمكنه ذلك العجوز أن يفعل ؟؟ هيا تعال وجرب .
و سريعًا انتقل القتال من سالار وأرسلان إلى أرسلان وآزار، وذلك كان أشد وطأة، فقد كان الأمر كما لو أنك تتقاتل مع نسخة تشبهك بالعناد والجنون .
_ أخشى أن أخبرك نعم أود أن أرى فاسمع صوت طقطقات عظامك البالية جد آزار.
وقبل أن يجن جنون آزار، نهض سالار سريعًا يمسك رأسه يقبلها وهو يردد مبعدًا إياه عن وجه أرسلان:
_ تجاهله يا خال هذا أرسلان، بالله عليك أي عاقل يجادل أرسلان ؟؟
ابتسم أرسلان لآزار مستفزًا، لينتفض آزار بين يدي سالار يود الهجوم عليه لولا صوت إيفان هو يقف في المنتصف :
_ فقط توقفوا رجاءً ولنتحدث فيما اجتمعنا لأجله، وأنت أرسلان توقف عن تصرفاتك تلك وانضج، لقد أصبحت زوجًا وغدًا تكون أب، أنت لا ترضى لأبنائك أن يكونوا مثلك صحيح ؟؟
تشنجت ملامح أرسلان بغيظ شديد قبل أن يهدأ ويبتسم بسمة واسعة :
_ في الحقيقة أنا أقبل على صغاري أي شيء عدا أن يكونوا مثلك إيفان.
نظر له إيفان بشر ليزفر سالار وهو يفصل بينهما يشير على المقعد :
_ هيا كلٌ لمقعده رجاءً، دعونا نتحدث بجدية فالوضع لا يحتمل مزاحًا أو لهوًا .
وبالفعل تحرك كلٌ لمقعده بهدوء شديد ودون نقاش، لكن بالطبع لم يكن ذلك بسبب كلمات سالار والتي يتجاهلونها في العادة، بل كان لأجل إعلان الحارس قدوم الأميرة توبة للقاعة .
في ثواني انمحت المشاكسة والعبث والاستفزاز عن الأوجه وارتسم على ملامحهم الجدية والهدوء الشديد .
والتفتت جميع الاوجه صوب باب الدخول يبصرون تقدم الأميرة توبة بهدوء شديد وبخطوات متمهلة رقيقة، وقد تُرك باب القاعة مفتوحًا مع بقاء الحرس في الخارج على مسافة مناسبة .
وحينما توقفت أمام الجميع أمسكت طرف ثوبها في تحية معهودة منها، تبتسم بسمة شاحبة وبصوت خافت لشدة بكائها سابقًا رحبت :
_ السلام عليكم جميعًا..
ردد الجميع السلام محركين رؤوسهم بتحية منهم، وقد نهض الجميع باحترام شديد يشير لها الملك آزار على المقعد المجاور له :
_ اجلسي يا ابنتي لنتحدث .
هزت له رأسها وهي تتهادى صوب المقعد بهدوء معهود منها تحت أعين أرسلان الذي استحضر في هذه اللحظات مشية سلمى القوية وهي تقتحم القاعة وكأنها تتجهز لشن حرب على من بها، ولا يدري السبب لكن تذكرها بهذه الهيئة الشرسة جلبت بسمة على فمه .
_ معذرة إن كنت قد تأخرت عليكم .
نفى الجميع برأسه ردًا على اعتذارها الهادئ، ليهتف آزار بجدية كبيرة :
_ لا بأس يا ابنتي، اتمنى أن جميع امورك هنا بخير .
هزت رأسها وهي ما تزال تمتلك مشكلة في النظر لوجهه دون أن تبصر ملامح أخرى شبيهة أكثر شبابية منه بعض الشيء :
_ الحمدلله يا عم كل شيء بخير .
تنهد أرسلان وهو يتدخل في الحديث يعرض مقدمة لما سيحدث معهم خلال الفترة المقبلة :
- لا يخفى عنكِ سمو الأميرة أن جميع شؤون سبز قد آلت وبشكل كامل إلى الملك آزار لحين عودة الملك بارق لنا بخير وعافية .
هزت رأسها وهي تخفضها بهدوء متجنبة النظر في وجهه، تكبت دموعها وحسرتها قدر الإمكان، بينما أرسلان استرسل في كلماته الهادئة يدرك ما تمر به في هذه اللحظة، لكنه في الحقيقة لا يمتلك وسيلة يخفف بها عنها سوى بضعة عهود بمستقبل أفضل لربما تساعدها في القادم .
_ لكن ولأن الملك آزار من الأساس يتولى بالفعل حكم آبى، لذا فإن حكم سبز سيؤول بشكل غير مباشر لأحد مستشاري والدك وبإشراف مباشر من الملك آزار.
رفعت عيونها وأخيرًا له تنظر له باعتراض على ما نطق به وقد خرجت نبرتها حادة دون أن تشعر وكأنها تصرخ في وجهه تضرب الطاولة بغضب شديد :
_ لكن ...سبق وحدث ذلك والنتيجة كما ترى أنت، دمار وخراب ومصائب لا نهاية لها، من يضمن لي أن هذا الرجل لا يطمع كذلك في الحكم .
رفع أرسلان حاجبه وقد بدأ الضيق يرتسم واضحًا على ملامحه، إذ كان اسوء ما يفعله أحدهم أن يصرخ في وجهه ويتحدث له بطريقة سيئة، لكن في النهاية هو ليس غبيًا ليتجاهل ما مرت به وما عاشته والذي نتج عنه قلة ثقة بمن يحيطها، لذا رسم ابتسامة مقتضبة وهو يضم قبضته أمامه:
_ المرة الأولى لم يكن الأمر باختيارنا كما تعلمين، بل زوجك هو من ....
_ لقد طلقني ...لم يعد زوجي ولا يسرني أن تربطني معه في الحديث جلالة الملك .
ضغط أرسلان على كلماته بقوة وكأنه يرسل لها تحذيرات خفية ألا تتجاوز حدودها معه مرة أخرى :
_ المرة السابقة ذلك الانمار عديم الرجولة هو من نصب نفسه ملكًا، ولم أرى اعتراضًا من جهتك، أو حتى توجهتي لاحدنا بشكوى كي نتدخل، وأعتقد أن مكانتك كأميرة تجعلك على دراية واسعة بشأن عقوبة تدخل ملك في شؤون دولة ثانية دون إذن أو طلب رسمي، لذا لا تأتي الآن وتوجهي لي الاتهامات وكأنني كنت المسؤول عن الدمار هنا ...سمو الأميرة .
شحبت ملامح توبة وشعرت فجأة أن حسرتها ولهفتها اعموها عن رؤية ما يحدث أمامها ومع من تتحدث، بُهتت وهي تتراجع تحاول إيجاد مبرر عن الهجوم الذي شنته على أرسلان منذ ثواني، ليأتي لها طوق النجاة من طرف إيفان والذي تدخل فورًا يرمم ما قيل وقد أخطأ منذ البداية حين ترك الحديث بيد أرسلان، فلا أرسلان أو سالار يمتلكون أي وسيلة للحديث الراقي مع امرأة.
_ معذرة منك أرسلان، لكن دعني أوضح الأمر أكثر لسمو الأميرة .
نظر له أرسلان يهز كتفه بهدوء دون اهتمام يعود المقعد بظهره يضم ذراعيه لصدره بهدوء، وهو يراقب الجميع بعيونه، بينما سالار كان يشاهد ما يحدث بهدوء مماثل لهدوء أرسلان.
- سمو الأميرة الآن سبز ستكون تحت قيادة الملك آزار، لكن ولأن الملك يمتلك مسؤوليات كثيرة بالفعل في آبى فقد عيّن أحد القادة لينوب عنه في حكم سبز حتى عودة الملك بارق، وذلك القائد هو أحد مستشاري والدك الذين كان يأمن لهم بكل شيء، وحتى إن لم يكن فهو سيكون تحت أعين الملك آزار، وبالطبع هذا لا يلغي دورك كأميرة في القصر هنا، فأمور القصر والاهتمام بشؤون العاملات، ستكون بين يديكِ كما كانت سابقًا، لكن المملكة ستكون بيد الملك آزار ومن بعده المستشار الخاص بوالدك، اعتقد أن الأمور واضحة الآن.
ختم حديثه وهو ينظر صوب توبة التي هزت رأسها بهدوء وقد كانت ملامحها ما تزال شاحبة، ما رأته لم يكن هينًا البتة، تهمس بصوت منخفض :
- وأبي هل سنتركه هكذا جلالة الملك، لا اعتقد أن أنمار كان يعالجه أو يهتم بالأمر سابقًا .
_ لا تقلقي سوف أعين افضل أطباء الممالك ليتولوا أمر علاجه من مرضه و....
قاطع حديث آزار صوت توبة وهي تهمس بنبرة متقطعة موجوعة :
_ ليس مرضًا أبي لم يكن يعاني من شيء خطير، كل ذلك بسبب ذلك الحقير أنمار، لقد سمم أبي، وضع له في طعامه سمًا هو من تسبب له في كل ذلك .
فجأة وبمجرد أن ختمت كلماتها انتفض جسدها برعب وهي تسمع صوت ضربة عنيفة على الطاولة وصوت صرخات آزار يرتفع بجنون :
- والله كنت أعلم، ذلك الخسيس له يد بالأمر، كنت أعلم.
نظر سالار صوب الجميع وهو يهتف بجدية :
- نحتاج لمعرفة نوع السم الذي وضعه للملك كي نعالجه.
صمت الجميع وقد على العجز ملامح البعض منهم، فتحديد نوع السم وعلاجه يحتاج لوقت طويل وأطباء ماهرين .
ضغط آزار على كفه بقوة وهو يهتف بكلمة واحدة بقهر وحرقة :
- نزار ...
توقف قلبها عن الخفقان ثواني تستدير صوب آزار بسرعة ولهفة تبحث حولها عن وجهه ظنًا أن الملك ابصره في الجوار، لكن خاب رجائها وهي تسمع صوته يكمل :
_ ذلك الوغد نزار هو من يستطيع المساعدة، لقد ....
ختم حديثه وهو يضرب الكوب أمامه بعنف وغضب، ومن ثم دفن وجهه بين يديه يصيح بصوت مرتفع وضيق وقد شعر بالاختناق، كل شيء يتجمع حوله، كل شيء يتآمر ضده .
بلل شفتيه يكمل بصوت خافت لكنه كان واضحًا للجميع :
- نزار هو افضل من يمكنه المساعدة في أي أمر متعلق بعلم السموم وعلاجها، لقد كان يدرس كل ذلك، وأكاد أجزم أن ذلك السم من صنعه فلا سم في هذه المملكة إلا وكان هو من صنعه أو بدأه اولًا، ربما هو من صنعه وبطريقة ما وصل ليد ذلك الحقير .
أغلقت توبة عيونها وهي تضغط باظافرها تناجيه داخلها، والحسرة تملئ صدرها، علاج والدها كان أمام عيونها طوال الوقت ولم تعلم .
تأوهت تتحدث بصوت خافت :
_ أين أنت نزار ؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ دعنا نرحل نزار لقد تأخر الوقت ولم نعثر عليها وما هي إلا دقائق وسنقع بين أيديهم، ارجوك دعنا نرحل قبل أن يمسك أحدهم بنا .
أبعد نزار عيونه عن الطريق ينتظر أن يلمحها بالخطأ حتى، لكن لا شيء منذ جاء، لم يلمح حتى إشارة واحدة على وجودها، وسؤال داخله يلح عليه، لكنه يرفض الإجابة عليه .
" وما يعنيك برؤيتها نزار؟! لِمَ تصر على الأمر بهذا الشكل ؟!"
جذب طرف ثوبه بجسده يرجو منه دفئًا إضافيًا، ثم أردف بيأس :
- هل أنت متأكد من وجودها في المملكة حتى ؟!
زفر الوليد بضيق وقد شعر أن مركزه كمقاتل تغير وأصبح مرافق للعشاق :
_ نعم هذا ما سمعته في الأسواق أن الأميرة توبة في البلاد وقد عادت للمملكة .
_ إذن لماذا لم تظهر حتى الآن؟؟ هل يعقل أنها معتكفة في جناحها ؟!
_ ربما تحتاج بعض الوقت لترمم جروحها أنت أكثر من يدري ما قابلته في ذلك المكان .
نعم ومن غيره يفعل، تنهد بحنق وقد سأم ونفذ صبره :
- حسنًا لقد مللت الإنتظار هنا .
_ نعم جيد أنك أدركت أن ما يحدث مضيعة للوقت، دعنا نرحل بعيدًا عن المكان و.....
قاطعه نزار ببسمة صغيرة :
_ سأذهب للأنتظار جوار غرفتها أفضل.
ختم حديثه يتحرك بسرعة وبخطوات مدروسة صوب الجهة الخاصة بغرف العائلة الحاكمة، يشكر ولأول مرة مكانته كولي عهد سابق، وكابن الملك المقرب للملك بارق، والذي سمح له بمعرفة كل بلاطة داخل قلعة سبز أكثر من أي مكان آخر وقد كثرت زياراته مع والده لهم .
_ العجب كل العجب أنني يومًا لم امنح لنفسي فرصة التفكير فيها ولو من باب الفضول، الحياة غريبة بكل ما فيها، البارحة كانت أمام عيوني دون أن اهتم حتى بالقاء نظرة عليها، واليوم احترق لأجل أن ألمح طيفها فقط، آهٍ من الحياة وما تفعله بنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ أنت لن تملي عليّ حديثك إيفان، ملكٌ على شعبك ومملكتك وليس عليّ يا رفيق، بلادي اسيرها كيفما أحدد أنا، وجيشي يتحرك حيثما آمره .
نفخ إيفان بضيق وهو يرمق أرسلان بضيق، بينما الأخير ابتسم له بسمة صغيرة يتحدث بهدوء :
_ ذلك الجحر ومن به يخصونني أكثر من الجميع، لذا من سيكون له شرف دكه هو أنا ورجالي إيفان وأنت تدرك الأمر جيدًا، لا أحد هنا تضرر منهم بقدري وبقدر شعبي .
تحدث إيفان بنبرة هادئة كعادته :
_ ومن اعترض أرسلان ؟؟ اعتراضي الوحيد هنا هو على طريقتك والتي تعتمد على العنف دون أي نقاش معهم أو حتى محاولة لفهم ما يدور حولك .
وكانت إجابة أرسلان سلسلة بسيطة ومحددة :
_ لا اناقش البغال _ اعاذكم الله _، والله لن تجمعني طاولة نقاش مع ذلك الخنزير لطالما هناك أنفاس بصدري إيفان، نناقش من ونتحدث مع من ؟؟
_ ومن أخبرك أنني اقصد أنمار بحديثي، ذلك الوسخ لن يخاطب لساني لسانه ما حييت، ما عنيته هو الرجال الذين أنضموا له، هؤلاء نفوسهم ما تزال مذبذبة ومن السهل أن يميلوا لنا مرة أخرى .
ضرب أرسلان على الطاولة بقوة وهو يصيح بكل غضب يمتلكه :
_ من أختار الضلال طريقًا فلا رجعة له عنه إيفان، أنت تحاول مع أشخاص سبق وباعوا حياتهم للشيطان، لا حاجة لبلادنا ولا للإسلام بأمثال هؤلاء الخونة .
يدرك إيفان أنه محق، لكنه يود وحتى اللحظة الأخيرة أن يحاول اصلاحًا، لربما يهتدي أحدهم، ورغم استحالة الأمر، إلا أنه كان يسير مع الأمل حتى نهاية الطريق .
_ لكن أرسلان سبق وحدث يا أخي الكثير من الصحابة كان قبل إسلامهم عونًا للكفار قبل أن يهديهم الله، وايضًا لا تنسى أن بعض رجال سفيد الأشداء كانوا سابقًا في ضلال قبل أن يهدهم الله .
شعر سالار في هذه اللحظة أن النقاش بين الإثنين بدأ يحتدم، لذا تدخل بهدوء وهو يقطع الحديث بينهم :
_ كلاكما محق، إيفان محق في قوله أن البعض ربما يكونون على استعداد للعودة، لكنهم مرتابين من الرجوع خطوة، وكذلك أرسلان محق فالبعض الآخر بيعت أرواحهم الشيطان بلا رجعة، والحل في ذلك بسيط، نمنحهم حرية الاختيار إما الاستسلام أو القتال، وإن اختاروا الاستسلام حينها يمكن لإيفان تولي أمر اختبار نفوسهم ولا أعتقد أن هناك من هو افضل منه في ذلك .
ختم حديثه يشير صوب إيفان الذي هدأ يهز رأسه موافقًا، ومن ثم أشار صوب أرسلان يكمل حديثه :
_ وإن اختاروا الحرب وسيلة حينها لا أرى عقابًا افضل من تسليمهم لأرسلان.
اتسعت بسمة أرسلان بقوة وقد أعجبته هذه الفكرة والنيران داخل صدره مشتعلة، قصاصه لم يؤخذ بعد، ليس قبل أن يطهر الأرض من آخر شخصٍ منهم .
كل ذلك كان يحدث أسفل عيون توبة التي تتابع ولأول مرة عن قرب اجتماع لهم تلاحظ تباين الآراء والشخصيات، فقد كان إيفان يمثل صوت العقل والرزانة، وارسلان يمثل وبكل وضوح صوت المنطق والقوة، وسالار كان كالميزان يحايد الأمور وينسقها، أما عن آزار فقد كان يتابع بهدوء دون تدخل إلا إذا احتدم الأمر وبشدة، لكنها تستطيع الرؤية أنه يميل وبكل صراحة صوب رأي أرسلان.
واخيرًا انتهى ذلك الاجتماع وتحررت توبة من تلك الجلسة التي شعرتها خانقة قاتلة لها، لم تعتد يومًا على الجلوس بين جماعة من الرجال والتحدث عن القتل والحروب بكل بساطة وكأنهم يتناقشون في نوع الوجبات المفضلة .
حركت يديها أمام وجهها وهي تتوجه دون كلمة واحدة صوب غرفتها وقد نفذ كل مخزون صبرها وتحملها، حياة الرجال عن قرب اتضح أنها مقيتة لنفسها بعض الشيء، كان الله في عونهم لتحمل مثل هذه الحياة .
ولا تدري توبة أن البعض كأرسلان وآزار يستمتعون بمثل هذه الأمور .
وعلى نقيض آخر.
خرج أرسلان يتحرك مع الجميع في الممرات وهو يتحدث لهم بجدية حول ما سيحدث :
_ اعتقد أن جميع الأمور فيما يخص سبز قد تم توضيحها بالفعل، لذا سأغادر اليوم لمشكى إن لم يكن هناك ما يحتاج تواجدي .
تنهد إيفان وهو يفرك خصلات شعره بتعب شديد :
- لا اعتقد أن بقاء أيٍ منا أضحى ضروريًا فقط الملك آزار سيبقى لتفقد الأوضاع عن قرب والتأكد من استحقاقية المستشار للتصرف في أمور البلاد بشكل أفضل .
هز له آزار رأسه، لا يسوءه أن يقضي وقتًا أطول في محاولة منه لتصحيح مسار حياة شعب رفيقه .
أما عن سالار فقد كان يسير هادئًا لا يبدي ردة فعل أو رأي طالما لم يحتج الأمر لتدخله، هو فقط ينتظر أن يعلن إيفان رحيلهم كي يعود لزوجته يطمئن بوجودها بعد كل تلك الأيام بعيدًا عنها .
ومن بين افكار الجميع المتقاذفة ظهرت هي، الجزء اللين الوحيد في حياة أرسلان القاسية، والذي كان في هذا الوقت يسير بملامح مشتدة ووجه جامد وكل أفكاره تدور حول ما حدث وما سيحدث .
وفي ثواني...كانت ثواني فقط تبدلت ملامح أرسلان للهدوء وأخفى كل معالم الغضب وخفتت نيران عيونه وزاد من خطواته صوبها يراها تقف على جانب الممر تراقب الحدائق بملامح منبهرة وعيون ملتمعة جعلت عيونه تلتمع بالمثل وهو يهتف بصوت منخفض :
_ جلالة الملكة ..
استدارت سلمى بسرعة صوب الصوت مبتسمة بسمة واسعة تلتقي بها أرسلان، ثم أشارت صوب الحدائق:
_ تعال وشاهد هذه الزهرة تبدو ....تبدو مذهلة أرسلان.
اقترب أرسلان يراقب ويشاهد ويتأمل مثلها، لكن الفرق الوحيد أنه كان يتأملها هي لا الزهرة، وحينما أدرك بعد ثواني وضعه، أبعد عيونه يتحدث بصوت هادئ :
_ تعالي لأعرفك بالجميع واقدمك لهم .
نظرت له ثواني قبل أن تهتف بتفكير وهي تميل برأسها تبصر من يتحدث عنهم :
_ أوه بالطبع أنه لشرف لي، لكن أولم اتقابل معهم من قبل حسب اعتقادي !؟
امسك كفها يقودنا بهدوء صوبها وهو يغطيها تقريبًا يتأكد من حجابها وكل ما يخصها :
_ وقتها كانوا قد قابلوكِ وأنتِ ضيفتي وابنة رائف، الآن سأقدم لهم زوجتي وملكة مشكى سُليمى .
كل ذلك كان تحت نظرات إيفان المصدومة وسالار المستمتع بنظرات إيفان الذي كان يحاول البحث عن رفيق الطفولة وصديقه في ذلك الرجل الحنون الذي يقف هناك .
اتسعت بسمة سلمى وهي تتحرك معه بخجل من كلماته، لكن لم تكد تخطو خطوة واحدة حتى شعرت بجسدها يكاد يسقط ارضًا لولا يد أرسلان الذي اسندها بسرعة ينظر لها بعدم فهم :
_ هل أنتِ بخير ؟!
_ نعم .. لكنك خطوت على رباط حذائي، لذا كدت اسقط .
نظر لها بعدم فهم، لتشير هي للأسفل صوب حذائها العصري ذو اللون الابيض ذو الأربطة السوداء، بينما أرسلان حرك نظراته بين حذائها، ثم إليها مجددًا لتهتف بصوت منخفض :
_ فُكت أربطة الحذاء، ثواني سأعيدها و...
ولم تكد تجلس القرفصاء لتربط رباطها، حتى منعها من ذلك وهو ينزع السيف الخاص به يناوله إياها حتى يُحسن جلوس القرفصاء بشكل جيد، فتسلمته منه متسعة الأعين لا تفهم شيئًا، بينما هو انحنى أمامها يمسك الرباط بين أنامله يحدق فيه بعدم فهم يرفع عيونه لها وقد اشتد احمرار وجه سلمى تنظر له بصدمة، وهو فقط يحدق بها ينتظر أن تخبره ما يفعل :
_ كيف افعلها ؟؟
توترت سلمى وهي تضم سيفه لها تحاول أن تجعله ينهض، تتلمس كتفه بتردد :
_ أرسلان لا يمكنك فعل ذلك، رجاءً انهض أنا.....
قاطعها دون الاستماع لها يتحدث بجدية وهو ينظر للرباط بتحدي وكأنه بنظراته تلك سيجبره على الانعقاد دون الحاجة لمجهود من طرفه :
_ فقط أخبريني كيف افعلها سلمى، لا افهم شيئًا بهذا .
كل ذلك كان يحدث تحت أعين إيفان الذي كان ما يزال يقف مكانه يحدق فيما يحدث بصدمة كبيرة، وبسمة غير مصدقة مرتسمة على فمه، يحرك عيونه من سالار إلى أرسلان نفسه والذي تحول من إعصار لنسمة ربيع هادئة في لحظات معدودة .
تشنج ملامح إيفان كان واضحًا بشكل مخيف، وسالار يراقبه مبتسمًا بسمة واسعة يستمتع بتلك المشاهد، في حين أن إيفان نظر له بصدمة وهو يشير على أرسلان يحاول الموازنه بين هذه الصورة وبين أرسلان في الداخل والذي كاد يتناولهم جميعًا في غمرة غضبه.
الرجل كان يرفض حتى أن يتنازل في خياله لشخصٍ ما أيا كان هذا الشخص، الأن يجلس منحنيًا أمام زوجته يربت لها الحذاء .
أخذ يهز سالار من كتفه مشيرًا صوب أرسلان بصدمة كبيرة :
_ أنه....لقد ....لقد تحول، هذا ليس .....
صمت ثواني ثم أضاف بتسائل :
_ ذكرني ...ذكرني سالار ما الذي أخبرك به أرسلان سابقًا حينما أعلمك بعقد قرانه؟؟
اتسعت بسمة سالار يتحدث وهو يضم يديه لصدره :
_ أخبرني أنه يحترم زوجته ويودها فقط وأن الأمر ليس كما خمنت أنت سابقًا .
أطلق إيفان صوتًا ساخرًا وهو يحرك عيونه صوب أرسلان مجددًا والذي كان ما يزال جالسًا على ركبته يحاول فك معضلة الرباط .
_ يودها فقط ؟! إذا كان هذا ودّ فقط، فـ ياويلي من حب أرسلان.
أطلق آزار ضحكات خافتة وهو يراقب ما يحدث :
_ على قدر الخشونة يكون اللين يا فتى، دع الشاب يعبر عن حبه ... أوه معذرة عن وده لزوجته دون مضايقة منكم. ..
ابتسم له سالار وهو يراقب أرسلان وما يفعل :
_ في الحقيقة لا أتعجب تصرفات أرسلان تجاه زوجته فهو كان يدلل شقيقته وبشدة، ما اتعجبه هو التحول القياسي في شخصيته في وقت أقل من ثواني .
كان إيفان ما يزال يراقب أرسلان متشجنًا لا يهضم ما يحدث وما يراه .
أما عن أرسلان فقد زفر بضيق وقد فشل بشكل مريع في عقد الرباط كما تصف هي، لذا تنهد بصوت مرتفع يرفع رأسه لها مرددًا :
- إذن ما غرض الرباط ؟؟ يمكنني قطعه إن أردتي، معي خنجرًا، أو ربما بيدي أستطيع .
اتسعت عيونها تردد :
_ لا هو فقط يعمل على مناسبة الحذاء لقدمي وبدونه قد يخرج الحذاء من قدمي .
هز أرسلان رأسه وقد فهم ما تريده، ومن ثم باشر العمل وفي ثواني كان يلف الرباط ويعقده حول قدمها، ثم نهض مبتسمًا وقد أنجز المطلوب منه وهي فقط تنظر له بعدم فهم، فسر هو ما فعل ببساطة :
_ هكذا يؤدي غرضه المرجو منه ولن ينحل مجددًا لا تقلقي، ثم ذكريني لاحقًا أن ابتاع لكِ أحذية على مقاس قدمك دون هذه الأربطة الحمقاء .
ختم حديثه بملامح منكمشة بضيق وكأنه وجد لنفسه عدو آخر للتو، مد يده يمسك يدها بهدوء متحركًا صوب الجميع وهي فقط سارت معه تكبت ضحكة كادت تخرج على ملامحه تهمس له بصوت منخفض :
_ وجدت طريقتك الخاصة في عقد الرباط، أظن أنني سأعتمدها لفترة طويلة .
نظر لها يغمز غمزة صغيرة، ثم توقف بها أمام الجميع يعرفها عليهم من جديد وبشكل يناسبه ويناسب مكانتها :
_ إذن هذا هو العجوز آزار ملك آبى، وهذا إيفان اللص الوغد الذي أخبرتك عنه سابقًا ملك سفيد وزوج شقيقتي للأسف، وهذا سالار قائد جيوش سفيد .
ختم حديثه تحت نظرات إيفان المبتسم بخبث يهمس له بصوت وصل له واضحًا :
_ ستظل خسارتك جوهرتك لصالحي عائقًا لك في حياتك أرسلان.
نظر له الاخير بشر ليبتسم له إيفان باستفزاز، بينما أرسلان تجاهله ثواني قبل أن يعود ويكمل تعريفها على الجميع :
_ جميعكم تعرفونها لزوجتي، الملكة سلمى ملكة مشكى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ هل يمكنك أن تتركني لوجه الله سبحانه وتعالى، والله لقد فعلت ما فشل به الكثيرون وهو اخراج شياطيني التي لم أعلم عن وجودها سوى حينما لمحت وجهك .
توقف خالد في سيره وهو ينظر لزيان من أعلى لاسفل بضيق، ثم أطلق زفرة مرتفعة :
_ أنا لا اطالبك بالكثير فقط أخبرني طريق الخروج من هذا المكان وسأتركك، من الأساس أنا لا أحب رفقتك، أنت شخص كئيب .
ابتسم زيان بعدم تصديق :
_ أنا شخص كئيب ؟؟ إذن ربما عليك مرافقة الملك أو معتصم لتعلم كيف يكون الشخص كئيبًا، يا فتى أنت الآن تسير مع فاكهة مشكى باكملى، عليك بحمد ربك أن المسؤول عن تعريفك على القصر هو أنا وللاسف الشديد .
ختم حديثه يكمل طريقه بين الطرقات وقد أوكل له الملك مهمة مساعدة الوافد الجديد في التأقلم على القصر قبل أن يعود هو ويتولى تدريبه وتأهيله بنفسه .
_ إذن أنت لن تخبرني كيف اخرج من هنا زين ؟؟
توقفت أقدام زيان عن السير وهو ينفجر في وجه خالد بجنون :
_ من زين هذا ؟؟ أُدعى زيان، هناك حرف ألف بعد الحرف الثاني لذا لا تخرجني عن طور هدوئي، استغفر الله .
سار وهو يتمتم بضيق شديد :
_ والله هذا ذنب المعتصم وما فعلته به وباسمه، الله يقتص له مني .
زفر خالد بضيق وهو يلحق بزيان يتحدث بلا توقف وهو يصف له كل ما يريده، بينما زيان يكمل حياته بشكل طبيعي ليس وكأن هناك رجل يلحقه بلا توقف ويتحدث بلا تعب .
دخل المشفى يمر على الحالات التي يتولى أمر رعايتها واخيرًا وصل صوب غرفة عثمان ولم يكد يطرق باب الغرفة حتى سمع صرخة تصدر من الداخل، ليفتح الباب بفزع وهو يتحدث برعب :
_ ما الذي يحدث هنا ؟!
رفع عثمان عيونه صوب زيان بخجل من تصرفات ديلارا:
_ اعتذر منك أيها الطبيب، لكن شقيقتي غاضبة قليلًا ليس إلا.
_ ومنذ متى لم تكن ؟!
ختم حديثه يتحرك صوب الفراش الخاص بعثمان يفحصه باهتمام، بينما خالد دخل ينظر حوله بفضول وهو يتفحص الغرفة قبل أن تقع عيونه على ديلارا التي اتخذت لنفسها ركنًا بعيدًا عن الجميع، ففتح فمه منبهرًا يردد بصوت خافت :
_ من صاحبة الثوب الاسود هذه ؟؟ هذا الكحل الذي تضعه يذكرني بنجوم الروك آند رول .
اقترب منها مبتسمًا تحت أعين زيان المصدومة من وقاحته وصدمة عثمان من تصرفاته، بينما خالد لم يهتم، بل ذهب وتوقف جوار ديلارا التي نظرت له نظرات نارية وهو فقط قال ببساطة :
_ هل أنتِ من محبي الروك ؟؟ أي من الفرق هي فرقتك المفضلة، أنا أفضل الـ Prince & The Revolution، موسيقاهم تأخذك لعالم آخر، ماذا عنكِ يا كحيلة الأعين أنتِ ؟؟
ختم جملته وسؤاله بغمزة وهو ينظر لها نظرات ناعسة كانت تفعل الافاعيل بالفتيات في عالمه، وبالطبع لن تخيب ظنه في هذا العالــ
وصفعة رنّ صداها في المكان كان كل ما ردت به ديلارا عليه، لتتسع أعين خالد بصدمة وهو يتحسس وجنته المشتعلة جراء الصفعة، بينما زيان يراقبه مبتسمًا بتشفي وعثمان بغضب ولم يكد الأخير يصرخ في ذلك الوقح الذي يغازل شقيقته بلا خجل على مسامعه حتى سمع صوت صرخات ديلارا وهي تنفجر في وجهه :
_ رجل بلا اخلاق أو حياء، ألا تخجل من نفسك أيها الوقح، أقسم أنني إن أبصرت طرفك بالقرب مني لأحطمن عظامك واحدة تلو الأخرى..
ختمت حديثها تلقيه بنظرة مرعبة جعلت خالد يبتعد عن طريقها بصدمة كبيرة وخوف من هيئتها، بينما هي نظرت لأخيها تقول بصوت خافت والضيق بدا واضحًا :
_ سوف أذهب لاجهز غرفتك في المنزل ومن ثم أعود لأخذك، تكون وقتها قد تخلصت من كل ذلك الازعاج هنا .
ختمت حديثها وهي تلقي بنظرات حانقة على خالد، ومن ثم زيان الذي نظر لها بصدمة :
_ ماذا فعلت أنا ايتها الساحرة ؟!
لكن تلك الساحرة لم تجيبه وهي ترحل وخالد ما يزال ينظر لأثرها دون كلمة واحدة، لكن بمجرد أن أغلقت الباب حتى تحدث بحرية وكأنه كان يخشى التنفس على مسامعها :
- يا رجل ما بال النساء هنا؟! هذه المرأة مخيفة بحق، هذا حقًا مزعج لم ينجح سحري عليها .
ختم حديثه وهو يجلس على طرف فراش عثمان الذي كان ينظر له بشر ولولا قدمه المصابة لكان نهض وتخلص منه، لكن خالد لم يتوقف عن الحديث يكمل كلماته :
_ هي حقًا تشبه الساحرات كما قلت أنت، لكن بشكل ما هي ساحرة جميلة .
فجأة انتبه لجسد عثمان المتخشب والمخيف وهو يحدق به بشر يحاول النهوض وقد اشتعلت الدماء داخل أوردته، ليشير له خالد بعدم فهم :
- ما به هذا الشاب يبدو أي حالة سيئة.
حاول زيان منع عثمان عن التحرك وهو يهتف من أسفل أسنانه :
_ هذا شقيق الساحرة التي تغزلت بها على مسامعه منذ ثواني أيها الوقح .
استدار صوب عثمان وهو يحاول تهدئته، بينما خالد وقف خلفه وهو ينظر لعثمان بريبة مخافة أن يفلت من بين قبضة زيان يردد بصوت خافت :
_ لا تفلته زين، انظر إليه يرمقني بشر وكأنه على وشك تناولي حيًا .
نظر له زيان بشر وهو يصرخ في وجهه بجنون :
_ أرحل من أمامه وأمامي، لا تريني وجهك فأنا لا امتلك الكثير من الصبر وقد نفذ بعضه بالفعل، ارحل من هنا .
زم خالد شفتيه يعدل من وضعية ثيابه وهو يتحرك للخارج :
_ حسنًا سأرحل من الأساس أنا لا اطيق الإنتظار حتى اخرج من هذا المكان المريب .
وبمجرد أن خرج حاول زيان تهدئة عثمان وهو يهتف داخله :
_ أعان الله الملك عليك وعلى تقويمك، سيستلزم منه ذلك كل ذرة صبر والتي لا يمتلك منها الكثير، أكاد اقسم أن هذا التقويم سينتهي بشيء من الإثنين، إما استقامة ذلك الرجل أو مقتله ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصلت لغرفتها أخيرًا تتنفس براحة لحصولها على لحظات راحة لجسدها وعقلها، مدت يدها تفتح الباب، لكن لم تكد تفعل حتى سمعت صوتًا خافتًا يناديها من ممر مجاور لغرفتها .
تركت مقبض الباب وهي تتحرك صوب ذلك الممر دون حتى لحظة تردد واحدة، إذ أدركت بمجرد سماعها الصوت صاحبه .
ابتسمت دون وعي وهي تهمس بصوت خافت بمجرد أن وصل لبداية الممر :
_ نزار ؟!
اتسعت بسمة نزار والذي خرج بهدوء من الممر وقد ظهر لها جسده، ينظر لها بهدوء، ومن ثم كعادته حينما يلقاها مال برأسه بهدوء يهتف بنبرة جعلت توبة تبتسم له :
_ سمو الأميرة مرحبًا بكِ .
_ هل ...هل أنت هنا حقًا ؟؟ لا ... أصدق.
اتسعت بسمة نزار وهو يتقدم اكثر من بداية الممر مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة منها :
_ نعم أنا هنا، كيف حالك ؟!
_ الحمدلله بخير ... وأنت ؟! هل أنت بخير و....
فجأة وأثناء الاطمئنان عليه وهي تحرك نظراتها على وجهه سقطت عيونها على ملامح وجهه والتي كانت آثار
الضرب واضحة عليها، رمشت بعدم فهم تقترب منه دون وعي :
_ ما الذي ....ما الذي حدث لك ؟؟ هل أنت بخير ؟؟ ما الذي حدث نزار ؟؟
خفق قلب نزار بقوة لذلك القلق الواضح على وجهها يبتلع ريقه يحاول اخراج كلماته بنبرة عادية لا تفشي شيئًا مما يدور داخله لها، لكن يبدو أن الأمر كان اصعب مما ظن :
_ يبدو أنني أثقلت من مزاحي مع أنمار، تدركين أن أمثاله لا يحبون المزحات الثقيلة خاصة تلك التي تتعلق بمقدار فشلهم وقذارتهم .
كانت توبة تسمع كلماته لا تفهم ما ينطق به، لكنها قالت بباسطة :
_ انتظرني هنا لحظات واعود لك .
ومن بعد تلك الكلمات وقبل أن يستفسر عما يحدث تركته متحركة سريعًا صوب غرفتها وغابت بها دقائق معدودة، ثم عادت له تحمل صندوق به بعض الأعشاب والأدوية :
_ خذ هذه عالج بها جراحك ولا تهملها بهذا الشكل نزار .
امسك نزار منها الصندوق وقد عجز عن الرد للحظات، يرفع عيونه لها بتردد يحاول صبغ كلماته بالمزاح رغم نبرته التي خرجت مهتزة لشدة مشاعره في هذه اللحظة :
_ أوه سيكون من السييء أن اعتاد هذا الاهتمام منكِ سمو الأميرة، لتعودي لاحقًا وتحطمينه بلسانك اللاذع .
فجأة وكأنها أدركت ما فعلت منذ ثواني فتوترت وهي تفرك يديها تحاول إيجاد مبرر لما فعلت منذ ثواني وربما يكون كافيًا ذكر مساعدته لها طوال تلك الفترة السابقة ..
وهو أدرك ما تفكر به لذا أشفق عليها يضم له صندوق الادوية لصدره مبتسمًا :
_ أشكرك سمو الأميرة على كرمك معي .
رفعت يدها وهي تعدل من وضعية حجابها بتوتر شديد تحاول نطق كلمات تخفي بها خجلها :
_ هل تدرك كيفية استخدامهم، يمكنني أن اساعدك في ذلك .
اتسعت بسمته وهو يجيب بصوت ممازح :
_ هل ستُحسب لي كذبة إن أخبرتك لا أستطيع فقط لتساعديني ؟؟ الآن كرهت كوني طبيبًا أفقه كل ذلك .
اشتد توتر توبة وهي تعود خطوات للخلف وقد تذكرت فجأة حقيقة كونه طبيبًا يفقه كل ذلك و.....
فجأة توقفت جميع أفكارها عند تلك النقطة وهي تتذكر حديث آزار لهم عن مهارته في علم السموم وأنه ربما يكون أكثر من يستطيع مساعدة والدها .
لذا رفعت وجهها بسرعة ولهفة كبيرة له :
_ نزار احتاج مساعدتك .
ابتسم لها نزار يتجاهل طريقة نطقها اسمه، ثم مال برأسه لها يهتف بصوت منخفض ودود :
_ أنا في الخدمة طوال الوقت سمو الأميرة، فقط اشيري...
بللت شفتيها بتوتر شديد وهي تنظر لعيونه ثواني قبل أن تبعد عيونها عنه بخجل شديد :
_ أبي احتاج لمساعدتك في علاج أبي .
نظر لها بعدم فهم لتشرح هي بلهفة شديدة وقد بدأت ضربات قلبها تقرع بحماس شديد، تفكر أن الله رحيم بعباده إذ لم تمر ساعة منذ ذكر آزار أن العلاج ربما يكون مع نزار، ليظهر لها نزار على باب غرفتها وكأنه لبى ندائها الصامت له .
_ تعرض أبي لتسمم أدى لغيبوبة طويلة لا نعلم لها من نهاية، وأعتقد أنه يمكنك المساعدة إذ أنك تدرك بعلم السموم أكثر من الجميع، أوليس ؟؟
نطقت كلمتها الأخيرة برجاء أجبره على هز رأسه بنعم دون وعي، ووالله حتى وإن لم يكن على دراية بذلك العالم كان مستعد أن يفني المتبقي من عمره في تعلمه لأجل رؤيتة نظرتها السعيدة تلك وهي تقترب منه هاتفة بسعادة بالغة :
_ ستساعد أبي ؟؟
_ نعم، اعتقد أنني يمكنني، لكن هذا سيأخذ بعض الوقت لــ
قاطعته بسرعة ولهفة شديدة :
_ خذ كامل وقتك نزار، لكن فقط اعطني الأمل أن أبي سيكون بخير .
رمش يحاول أن يهدأ يبعد عيونه عنها صوب صندوق الاعشاب يشغل نفسه عنها به :
_ نعم لا بأس احتاج لمعاينة الملك أولًا لعلي استشف نوع السم أو حتى الاعشاب المستخدمة به لاحدد وسيلة العلاج وكيفية أخذ جرعات المصل و....
قاطعته بسرعة ولهفة وهي تشير للممر المجاور :
_ لا بأس الآن يمكنك رؤيته، ثم ... هل ستعود مجددًا للحجر ؟؟ لا تفعل نزار هذه المرة لن يرحمك ذلك الخسيس و...
_ لن افعل لقد هربت من الجحر .
نظرت له بعدم فهم ليصرف هو انتباهها عن الأمر يردد بصوت خافت :
_ قصة يطول شرحها، لكن اختصارًا لها، أنا الآن أقيم بمملكة سبز في أحد المنازل الصغيرة في السوق الغربي و....
_ سآمر بتنظيف غرفة لك و...
قاطعته في البداية ليقاطعها هو بصدمة مبتسمًا بعدم تصديق من كلماتها :
_ سمو الأميرة ... أنا هارب من العدالة وهارب من أنمار، ببساطة أنا مطلوب من الجميع، لذا قطعًا لا يمكنني أن أحل ضيفًا على سبز، ولا يمكنك أن تخبري أحدهم بوجودي بأي شكل من الأشكال.
ابتلعت ريقها وقد غفلت لشدة لهفتها عن حقيقته، ليشحب وجهها وهي تنظر حولها بتوتر :
_ يمكنني ...يمكنني تدبير غرفة لك بعيدًا عن الأعين هنا، وتدعي أنك أحد الجنود، ولا أعتقد أن أحدهم قد يتعرف عليك طالما أنك تتجنب جنود آبى، لكن لا تبتعد رجاءً....
ولا تدري أي من الوقاحة أو الجرأة تمتلك لتنطق الجملة الأخيرة لكنها فعلت، ابتلعت ريقها وهو ينظر لها بتفكير متجاهلًا جملتها الأخيرة كي لا يزيد خجلها، ثم قال بتردد :
_ و...معي شخص آخر...الوليد و...
قالت بلباقة وهدوء وهي لا تصدق استجابته بهذه السرعة:
_ يُكرم ضيفك لأجلك سمو الأمير .
وهذا كان أكثر مما يتحمل نزار، إذ ضغط على صندوق الاعشاب بقوة يخفي تأثره وارتجاف يده، ثم هز رأسه أخيرًا يعطيها موافقة على طلبها، والذي كان أحب على قلبه من النعيم، فما أفضل من العيش أسفل نفس السقف وتنفس نفس الهواء، رفع عيونه لها مبتسمًا :
_ موافق .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مساء نفس اليوم وبعد ساعات من الاجتماع ...
تحرك موكب مشكى مغادرًا قصر سبز بسرعة كبيرة يقودهم أرسلان والذي لم يستطع أن يبقى جوار موكب زوجته هذه المرة لحاجة الجيش أن يترأسهم، إذ أن سالار هو من كان يترأس الموكب في الذهاب .
أما عن سلمى فقد كانت تجلس داخل الهودج الذي خصصه لها أرسلان وهي تضم لها باقة من تلك الزهور التي نالت إعجابها وبشدة لا تصدق أن من احضرهم هو نفسه أرسلان وعقلها يعرض لها لمحات من ماضي قريب وهو يقف أمام باب غرفتها متوترًا وكأنه ارتكب جرمًا وجاء يطلب الغفران لأجله .
_ جلالة الملك ؟! هل هناك خطب ما ؟!
رمش أرسلان وهو يتنحنح بصوت خافت، يحاول الحديث وقد شعر لأول مرة بالتوتر في حياته، يكره هذه المرأة وبشدة لما تجبره على فعله دون حتى أن تطلب، يكرهها لإجباره على فعل اشياء لا تشبهه دون حتى أن تشير .
زفر بصوت مرتفع وهو يرفع عيونه لها وهي فقط تنتظر أن يتحدث، لكن فجأة اتسعت عيونها وهي ترى يده تدفعها بقوة للداخل، ومن ثم دخل واغلق الباب خلفه بقوة لتشعر بالرعب وهي تعود للخلف :
_ ماذا ...ماذا تفعل أنت ؟! أنت عد للخلف لا تتقدم، للخلف أرسلان لا تجبرني على معاملتك المعاملة التي امنحها لجميع المرضى .
لكن أرسلان لم يستمع لها وهو يتقدم منها ومازالت يده مختفية خلفه، لتلعب الظنون في عقل سلمى وقد شعرت أنه وصل لنهاية صبره معها وقرر التخلص منها .
لذا فتحت فمها تصرخ برعب :
- اقسم إن اقتربـ .....
فجأة وقبل أن تكتمل صرختها توقفت بصدمة تراقب يده التي أخرجها من خلفه يحمل لها باقة من الزهور النادرة التي ابصرتها في حديقة سبز قبل قليل، وهي تراقبه متسعة الأعين فاغرة الفاه، تحرك نظراتها بينه وبين الزهور مشيرة لنفسها بزهور :
_ هذا ...هذا لي ؟؟
هز أرسلان رأسه وهو يتحدث بصوت خافت :
_ لقد احببتيها في الخارج لذا ...لذا أحضرت لك البعض قبل الرحيل، لا أحب أن يعجبك شيء ولا أحضره لكِ طالما باستطاعتي فعل ذلك و....
وقبل إكمال جملته كانت سلمى تقفز بسرعة كبيرة تحتضنه بقوة وهي تهتف بسعادة كبيرة :
_ الآن والآن فقط أرسلان نلت غفراني جلالة الملك .
صُدم أرسلان من ردة فعلها، لكنه لم يفكر لحظات وهو يضمها له مبتسمًا بعدم تصديق :
_ كل هذا لأجل بضعة زهور ؟!
_ بل لأجل اهتمامك بكل ما يخصني .
_ أنتِ زوجتي وهذا واجبي سلمى .
ابتعدت عنه خطوة للخلف وهي تهتف ببسمة واسعة :
_ ألم أخبرك جلالة الملك، أنت ألطف من ذلك الشخص الذي تحاول إظهاره.
وتبعت كلماتها قبلة صغيرة تركتها على وجنته وهي تهتف له بشكرًا رقيقة، تركت أرسلان هائم في عالم آخر.
فجأة ومن بين أفكارها الوردية انتفض جسد سلمى داخل الهودج حينما سمعت صوت انفجار قريب للغاية .
صوت انفجار تبعه صرخة من أرسلان مرعبة وهو يصرخ في الجميع :
_ أمنـــــــــــوا جــــــلالة الملـــــــكة ......
ضمت باقة الزهور لصدرها برعب وهي تطل برأسها من الهودج بتردد وخوف شديد، لتبصر الجحيم في الخارج وقد ظهر لهم جيش من العدم به الكثير من الملثمين يحملون أسلحة وقنابل، كل هذا لم يكن يعنيها بقدر رؤيتها لسهم يتحرك من بعيد بسرعة مرعبة صوب أرسلان، وقبل حتى أن تصرخ تحذره كان قد اخترق جسد أرسلان..
اتسعت عيونها بقوة وهي تهمس باسمه مرتعبة وقد اشتعل الجحيم في عيونها وهي تهبط عن الهودج بسرعة كبيرة صوبه تصرخ باسمه مرتعبة.
ولم يستوعب أحدهم ما يحدث إذ في ثواني وجدوا المرأة تهجم عليهم محطمة رأس أحد الرجال، وهي ترفع قدمها تضرب بها من تطال منهم، بينما جسد أرسلان مُلقى ارضًا دون حراك.
وهذا ما كان غريبًا مرعبًا إذ أن أرسلان لم يكن يسقط من مجرد ضربة واحدة، تنفست سلمى برعب ولم تكد تخطو صوبه حتى شعرت بضربة قوية مسقطة إياها ارضًا جوار جسد أرسلان والذي كان في هذه اللحظة يعي ما يحدث لكن وكأن جسده شُلّ تمامًا لا يستطيع حتى تحريك إصبعه، يشاهد جسد زوجته يُحمل بين أياديهم القذرة وهم يتحركون بها بعيدًا عنه مستغلين حالة الهرج التي نشأت بين رجاله ورجالهم.
كابوسه يتحقق، زوجته سُلبت منه وأمام عيونه.
الجحيم كان كل ما يشعر به أرسلان في هذه اللحظة، جحيم على وشك إحراق جميع من حوله، جحيم لن يذر منهم فردًا واحدًا.....................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هم من أشعلوا النيران وهو لن يطفئها....