رواية راما الفصل السادس والثلاثون36بقلم اسماعيل موسي
بدأت الأيام تتسلل بهدوء، مثل قطرات المطر التي تمحو آثار الغبار عن النوافذ، ومعها بدأت أطلال الماضي تتلاشى ببطء، تتراجع إلى الخلف، تبهت كصورة قديمة لم تعد تحمل نفس الثقل في قلب جين.
كان بدر مثل ضوء خافت في غرفة مظلمة، لم يجبرها على النسيان، لم يطلب منها أن تتوقف عن الشعور، لكنه كان هناك، دائمًا، بصبره الذي لا ينفد، بحضوره الذي لا يطالب بشيء سوى أن تكون كما هي.
لم يكن حبًا جامحًا، لم يكن صاخبًا مثل العواصف التي دمرت حياتها سابقًا، لكنه كان شيئًا أعمق—حبًا يشبه الجذور، يمتد بعمق، يمنحها ثباتًا لم تختبره من قبل.
كان يعاملها كأنها شيء ثمين، ليس لأنه خائف من فقدانها، بل لأنه يراها حقًا، يفهمها، يتقبلها.
"بدر، لماذا تحبني؟"
سألته ذات ليلة، وهي مستلقية إلى جانبه، تستمع إلى أنفاسه المنتظمة، وكأنها تحاول فهم هذا الحب الهادئ الذي منحها إياه.
ولأن المرأه بلا شك أكثر كائن على وجه الأرض يسأل لماذا تحبنى؟ فأن الاجابات المختصرة لا تفلح
ابتسم، لم يتعجل في الرد، فقط أخذ يدها بين يديه وقبل أطراف أصابعها، ثم همس:
"لأنكِ أنتِ، لا أكثر ولا أقل." ثم اردف، اعتذر فأنا لست فالح فى قول الكلمات الجميله
في تلك اللحظة، أدركت أن الحب الحقيقي ليس في المحاولات المستميتة لإرضاء شخص آخر، ولا في الخوف من الرحيل، بل في أن تجد من يختارك كما أنت، دون أن تضطر إلى أن تكون نسخة مشوهة من نفسك.
ومع مرور الأيام، وجدت جين نفسها تتغير دون أن تدرك،
لم يعد الماضي يلاحقها بنفس الشراسة، لم تعد تستيقظ فزعة من كوابيس قديمة، لم تعد تشعر أن الحب معركة يجب أن تكسبها أو تخسرها.
لم تكن سعيدة طوال الوقت، لكنها كانت بخير، وكانت هذه المرة الأولى التي تشعر فيها أن "كونها بخير" كافٍ تمامًا.
أما آدم، فكان مجرد ظل تلاشى في الخلفية، لم يعد له مكان في قصتها، لم يعد اسمه يبعث أي رجفة في قلبها.
لقد كانت هنا، مع بدر، مع حاضرها، وأخيرًا، كانت مستعدة للمضي قدمًا.
مضت الأيام مع بدر في إيقاع هادئ لكنه ثابت، حياة لا تخلو من اللحظات الصغيرة التي تصنع الدفء، ولا من التحديات التي تكشف عن جوهر العلاقة بينهما.
لم يكن زواجًا مثاليًا، لم يكن كل شيء فيه سهلاً أو بسيطًا، لكن ما ميّزه هو أنه كان حقيقيًا، متزنًا، بعيدًا عن الدراما التي استهلكت التى تصور كل شيء ورديآ جدا لحد الازعاج
كان بدر يستيقظ قبلها دائمًا، يحضر قهوته ويجلس على الشرفة يقرأ الجريدة أو يتأمل الشوارع الهادئة.
أحيانًا كانت جين تستيقظ على رائحة القهوة، فتجد نفسها تتجه نحوه دون تفكير، تجلس بجانبه بصمت، يتشاركان كوبًا واحدًا وهي لا تزال شبه نائمة.
لم يكن يزعجها بالكلام، فقط وجوده الهادئ بجانبها كان يكفي.
"كيف تنجح في أن تكون هذا الكائن الصباحي؟"
سألته ذات مرة وهي تتثاءب، فضحك وأجاب:
"وكيف تنجحين في أن تكوني بهذا البطء في الاستيقاظ؟"
لمحت في عينيه ذلك المزاح الخفيف الذي بدأ يدخل بينهما مع مرور الوقت، ذلك النوع من الألفة التي لا تحتاج إلى الكثير من الكلمات.
في بعض الليالي، كانا يجلسان في الشرفة يتحدثان عن كل شيء، وأحيانًا عن لا شيء، كانت جين تخبره عن طفولتها، عن الأشياء الصغيرة التي نسيتها منذ زمن، عن الكتب التي كانت تقرأها، عن الأيام التي شعرت فيها أنها تائهة.
وكان بدر يستمع، دائمًا يستمع، لم يكن يحاول أن يصلحها، أو يعيد تشكيلها، فقط كان هناك، يسمعها كما لم يسمعها أحد من قبل.
لم يكن بدر من النوع الذي يحب البقاء في مكان واحد لفترة طويلة. ذات يوم، استيقظت جين لتجده يحزم حقيبة صغيرة.
"إلى أين؟"
"رحلة قصيرة، نحتاجها."
لم يكن الأمر مخططًا له، ولم تكن بحاجة إلى سبب، فقط وجدت نفسها بعد ساعات في سيارة بصحبته، يستمعان إلى موسيقى قديمة، يضحكان، يقفان عند مطاعم صغيرة على الطريق، يتذوقان أطعمة جديدة.
كانت الرحلات معه مختلفة عن أي شيء عاشته من قبل، لم يكن يبحث عن الفخامة، ولم يكن يخطط لكل تفصيل، بل كان يترك للأشياء أن تحدث كما هي، وهذا ما أحبته جين فيه.
بالطبع، لم تكن الحياة دائمًا سهلة، كان هناك أيام تتشاجر فيها معه على أشياء صغيرة—نسيانه إطفاء الأضواء، أو تركه للصحف مكدسة في كل مكان، أو حتى طريقته في القيادة.
لكن أكثر ما كان يميز بدر هو أنه لم يكن يتشبث الخلافات، لم يكن يصر على الفوز بأي جدال، كانت جين أحيانًا تتوقع أن يحتد، لكنه كان يبتسم ويقول ببساطة:
"حسنًا، لا بأس. لن أكررها."
وكان يكررها بالطبع وسيكررها، لكنها كانت تحب هذه الطريقة الهادئة التي يحل بها الأمور، دون صراخ، دون دراما زائدة.
لم يكن هناك لحظة محددة شعرت فيها أن حبها لبدر أصبح يقينًا، بل كانت سلسلة من اللحظات الصغيرة—عندما ضبطت نفسها تفكر فيه خلال يومها دون سبب، عندما أصبحت تعتاد على وجوده لدرجة أنها لا تتخيل الصباحات دونه، عندما شعرت أنه المكان الوحيد الذي تنتمي إليه.
لم يكن حبًا يشبه النيران التي تحرق كل شيء في طريقها، بل كان كالماء، يتسلل إلى كل جزء من حياتها بهدوء، دون أن تدرك متى بدأ بالضبط، لكنه كان هناك، وكان حقيقيًا.
وفي إحدى الليالي، بعد يوم طويل، جلست جين بجانبه على الأريكة، وضعت رأسها على كتفه، وأغلقت عينيها.
"أنا سعيدة."
لم تقلها باندفاع، لم تقلها لتقنع نفسها، بل لأنها شعرت بها حقًا.
أحاط بدر كتفيها بذراعه، قبل جبينها همس:
"وأنا أيضًا."
.......
كان صباحًا هادئًا حين شعرت جين بوخزة خفيفة في معدتها، لم تهتم في البداية، لكنها ازدادت حدّة مع مرور الوقت. حاولت تجاهلها، ظنّت أنها مجرد إرهاق أو توتر بسيط، لكن الألم بدأ يتكرر على مدار الأيام التالية، أحيانًا مفاجئًا، وأحيانًا خفيفًا كظلّ لا يرحل.
في إحدى الليالي، كانت جالسة بجانب بدر تشاهد فيلمًا عندما شعرت بتقلص مفاجئ جعلها تضع يدها على معدتها دون وعي. لاحظ بدر ذلك على الفور.
"هل أنتِ بخير؟" سألها بقلق.
"مجرد ألم بسيط، لا تقلق."
لكن عينيه كانتا تقولان إنه لن يقتنع بسهولة.
"منذ متى تشعرين بهذا؟"
حاولت التهرب، لكنها عرفت أنه لن يتجاهل الأمر.
"منذ بضعة أيام... لكنه ليس شيئًا مهمًا."
نهض من مكانه وأمسك بيدها بلطف، لكنه كان حازمًا.
"غدًا صباحًا سنذهب للطبيب."
لم تجد في نفسها القوة لتجادله، فوافقت بصمت.
•••
في صباح اليوم التالي، جلست جين في غرفة الفحص، تشعر بغرابة الموقف، لم تتوقع أن تجد نفسها هنا بسبب شيء ظنّت أنه مجرد إرهاق عابر او عن ذلك المرض اللعين عاد إليها مره اخرى
بعد الفحص، نظر الطبيب إليهما بابتسامة هادئة قبل أن يقول الجملة التي لم تتوقعها جين أبدًا:
"جين، أنتِ حامل."
شعرت كأن الغرفة بأكملها صمتت للحظة. نظرت إلى بدر الذي بدا وكأنه لم يستوعب الكلمات في البداية، ثم اتسعت عيناه بدهشة خالصة.
"أنا… ماذا؟" تمتمت جين وكأنها غير متأكدة مما سمعته.
ابتسم الطبيب وأعاد تأكيده بلطف:
"أنتِ حامل في أسابيعك الأولى. هذا هو سبب الأعراض التي شعرتِ بها."
لم تعرف جين بماذا تشعر. المفاجأة؟ الفرح؟ القلق؟ خليط غريب من كل شيء. نظرت إلى بدر مجددًا، فرأت كيف تحول وجهه من الدهشة إلى سعادة خالصة، كأن الكون كله انحصر في هذه اللحظة وحدها.
أمسك بيدها وضغط عليها برفق، وكأنه يخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام.
"هل أنتِ بخير؟" سألها بصوت هادئ، يراقب ملامحها بتركيز.
استغرقت لحظة قبل أن تبتسم أخيرًا، ابتسامة خفيفة لكنها مليئة بالدهشة، ووضعت يدها على معدتها كأنها تحاول استيعاب الحقيقة.
"أنا… لم أكن أتوقع هذا."
ضحك بدر، ضحكة دافئة خرجت من أعماقه، ثم مال ليقبل جبينها.
"ولا أنا… لكنه أجمل خبر سمعته في حياتي."
#راما
٣٦
في الأيام التي تلت الخبر، وجدت جين نفسها تعيش مشاعر لم تعهدها من قبل.
لم تكن مجرد سعادة عابرة، بل كان إحساسًا غامرًا يغمرها من الداخل، كأن شيئًا سحريًا استيقظ بداخلها، شيئًا لم تكن تعرف أنه كان مفقودًا طوال هذا الوقت.
للمرة الأولى منذ سنوات، شعرت جين أن جسدها لم يعد ساحة معركة، لم يعد مجرد ذكرى للآلام والخسارات، بل أصبح الآن وطنًا صغيرًا يحتضن حياة جديدة، حياة هي مسؤولة عنها، حياة تنمو بداخلها يومًا بعد يوم.
لم تستطع مقاومة رغبتها في لمس بطنها بين الحين والآخر، وكأنها تحاول أن تستوعب أن هناك كائنًا صغيرًا، جزءًا منها ومن بدر، يكبر هناك بصمت.
في البداية، كان الأمر غريبًا، شعورًا يشبه الدهشة أكثر من أي شيء آخر، لكنها سرعان ما وجدت نفسها تتعلق بفكرة الأمومة، تتعلق بطفلها القادم كما لو أنها كانت تنتظره طوال حياتها دون أن تدري.
•••
لم تكن جين من النوع الذي يخطط لكل شيء مسبقًا، لكنها وجدت نفسها تغرق في التفاصيل الصغيرة بحماس لم تجربه من قبل.
كانت تمضي ساعات في تصفح المتاجر بحثًا عن ملابس صغيرة، تلك القطع القطنية الناعمة التي بدت أصغر مما تتخيل، لكنها كانت تتخيل طفلها فيها، وتتساءل أي الألوان ستكون أجمل عليه.
"هل تعتقد أنه سيكون صبيًا أم فتاة؟" سألت بدر ذات مساء، وهي تمسك بفستان صغير بلون أزرق فاتح.
ابتسم وهو يتأملها، ثم قال: "لا يهمني، طالما أنه يشبهك."
ضحكت جين، لكنها شعرت بحرارة في قلبها، تلك الكلمات البسيطة كانت كافية لتملأها بالسعادة.
•••
اختارت غرفة صغيرة في المنزل، قررت أنها ستكون لطفلها. في البداية، لم تكن متأكدة مما يجب أن تفعله بها، لكنها بدأت تملأها بالأشياء تدريجيًا—سرير صغير بلون أبيض ناعم، بطانية محاكة يدويًا وجدتها في متجر قديم، رفوف صغيرة وضعت عليها ألعابًا محشوة.
كانت تمضي وقتًا طويلًا هناك، وكأنها تحاول أن تجعلها تشعر بالدفء حتى قبل أن يأتي طفلها إلى العالم.
في إحدى الليالي، وجدها بدر جالسة على الأرض وسط أكوام من الملابس الصغيرة، تمسك بحذاء طفل صغير بين يديها، تحدق فيه وكأنها لا تصدق أنه حقيقي.
"هل تتخيلين كيف سيبدو فيه؟" سألها بابتسامة، وهو يجلس بجانبها.
أومأت برأسها، ثم همست: "أشعر أنني أحلم."
وضع يده على بطنها، نظر إليها بعينيه العميقتين، وقال بصوت هادئ: "إنه حقيقي، وجميل."
مع مرور الأشهر، بدأت ملامح الحمل تظهر على جين بوضوح، وبات من المستحيل تجاهل وجود الحياة الصغيرة التي تنمو بداخلها.
كان بطنها يزداد استدارة يومًا بعد يوم، ومع كل ركلة صغيرة كانت تشعر بها، كانت ابتسامتها تتسع أكثر، كأن الطفل يذكرها بأنه هنا، حي، وأنه جزء منها.
لكن ما كان يشغل تفكيرها أكثر من أي شيء آخر هو جنس الطفل.
"أشعر أنها فتاة." قال بدر بثقة ذات ليلة وهو يضع يده على بطنها، محاولًا أن يستشعر أي حركة.
رفعت جين حاجبها بسخرية، وقالت: "وأنا أشعر أنه صبي، ولنغير الرهان، أنا متأكدة من ذلك."
ضحك بدر وهز رأسه، وكأنه غير مقتنع، ثم قال: "سنرى من منا على حق."
•••
عندما جاء موعد الفحص لمعرفة جنس الجنين، كانت جين متحمسة لكنها أيضًا قلقة. جلست على سرير الفحص في العيادة بينما الطبيب يمرر الجهاز على بطنها، وعيناها معلقتان بالشاشة، تنتظر الإجابة بفارغ الصبر.
ابتسم الطبيب بعد لحظات من التركيز، ثم قال:
"مبروك، إنه صبي."
التفتت جين إلى بدر بانتصار واضح في عينيها، بينما رفع هو حاجبيه بدهشة قبل أن يبتسم ويهز رأسه.
"حسنًا، لقد خسرت الرهان." قالها وهو يضغط على يدها برفق، لكنه كان يبدو سعيدًا تمامًا كما لو كان يتمنى صبيًا طوال الوقت.
جين، رغم أنها كانت واثقة من إحساسها، إلا أن سماع التأكيد جعل الأمر أكثر واقعية. الآن، لم يعد مجرد فكرة أو تخمين، بل أصبح ابنها، ابنها الصغير الذي ستراه قريبًا.
•••
بعد أن استوعبا الخبر، جاءت الخطوة الأصعب—اختيار الاسم.
"حسنًا، بما أنكِ كنتِ على حق، سأدع لكِ حرية اختيار الاسم." قال بدر ذات ليلة، بينما كانا يجلسان على الأريكة في غرفة المعيشة.
ابتسمت جين، ثم قالت وهي تفكر: "وماذا لو اخترناه معًا؟"
"صفقة عادلة، هيا، ما رأيكِ؟"
بدأت رحلة البحث عن الاسم المثالي، تصفحت جين قوائم طويلة من الأسماء، قرأت معانيها، وناقشتها مع بدر لساعات طويلة.
"ما رأيك في ريان؟" قالت ذات مرة، وهي تنظر إليه بترقب.
هز بدر رأسه بتفكير، ثم قال: "جميل، لكنه لا يشبهه."
ضحكت جين: "وكيف عرفت؟ لم نره بعد!"
"مجرد إحساس."
استمرت النقاشات بينهما لأسابيع، كلما وجدت اسمًا جميلًا، كان بدر يجد سببًا لرفضه، وحين يقترح هو اسمًا، كانت جين تتردد.
حتى جاء اليوم الذي سمعت فيه اسمًا في أحد الكتب التي كانت تقرأها، وعندما نطقت به، شعرت بشيء مختلف.
"ماذا عن… يزن؟"
نظر بدر إليها، وكأن الاسم استقر في ذهنه للحظة، ثم ابتسم وقال: "يزن… يعجبني."
كررت جين الاسم بصوت خافت، وكأنها تجرب كيف سيبدو عندما تنادي به طفلها. شعرت أنه الاسم المناسب، الاسم الذي سيحمله ابنها معه طوال حياته.
"إذن، اتفقنا؟"
ابتسم بدر وهو يضع يده على بطنها، وقال بحنان: "مرحبًا بك في هذا العالم، يزن."
كان كل شيء يبدو مثاليًا.
كانت جين قد جهزت غرفة يزن بعناية، اختارت سريره الصغير بلمسات حنونة، علّقت فوقه مجسمات النجوم التي تتحرك ببطء كلما هبت نسمة هواء خفيفة.
اشترت له الملابس القطنية الناعمة، ورتبتها في أدراجه كما لو كانت ترتب أحلامها فيه،كل شيء كان جاهزًا لاستقباله.
لكن الحياة لا تسير كما نخطط دائمًا.
•••
بدأ الألم خفيفًا، كشدٍّ بسيط في أسفل ظهرها، لم تهتم له في البداية، ظنته إرهاقًا عاديًا، ربما بسبب يوم طويل من تحضير أغراض الطفل أو ترتيب المنزل،لكنها عندما استلقت على السرير تلك الليلة، شعرت بشيء غريب.
وخزة حادة. ثم أخرى.
وضعت يدها على بطنها، تنتظر أن تشعر بحركة يزن، الركلات التي اعتادت عليها، لكنها لم تشعر بشيء.
"بدر…"
كان صوتها مرتجفًا عندما نادته، لم تعرف لماذا، لكنها شعرت بالخوف لأول مرة.
نهض بدر فورًا، نظر إلى وجهها وعرف أن هناك شيئًا غير صحيح.
"ماذا هناك؟"
وضعت يدها على بطنها مجددًا، انتظرت… انتظرت… ولا شيء.
"لا أشعر به."
كانت الجملة كفيلة بأن ينعقد حاجباه بقلق، لم يسألها إن كانت متأكدة، لم يحاول تهدئتها بكلمات مطمئنة، بل أمسك يدها وقال: "نذهب إلى الطبيب الآن."
•••
في المستشفى، كانت جين مستلقية على سرير الفحص، وبدر بجانبها، يمسك يدها بإحكام.
كان الطبيب يمرر الجهاز فوق بطنها، وجهه جامد، عينيه مثبتتان على الشاشة.
لكن الصوت الذي انتظرته لم يأتِ.
لا نبض.
لا شيء.
وكأن الزمن توقف.
"أنا آسف."
لم تتقبلها جين في البداية،نظرت إلى الشاشة، انتظرت أن تسمع أي صوت، أي حركة، لكنها لم تجد سوى الصمت القاسي.
"لا… لا… أعد الفحص، إنه حي، أنا متأكدة، لقد شعرت به أمس."
لكن الطبيب لم يكن بحاجة إلى إعادة الفحص، الحقيقة كانت واضحة، واضحة جدًا ومؤلمة جدًا.
يزن لم يعد هنا.
"لا!"
كان صراخها مخنوقًا، كأن الهواء ذاته لم يعد يصل إلى رئتيها كانت يدها لا تزال على بطنها، كأنها تستطيع إعادته إن أمسكت به بقوة كافية.
"جين…"
كان صوت بدر مبحوحًا، محطمًا.
لكنها لم تسمعه، لم تشعر بشيء سوى الفراغ الهائل الذي حل محل ابنها، الطفل الذي حلمت به، الذي انتظرته، الذي منحها الأمل بعد كل شيء، الآن… لم يعد موجودًا.
•••
مرّت الساعات التالية كأنها حلم سيئ، أو كابوس رفضت أن تصدقه.
كان عليها أن تضع طفلها رغم أنه لم يعد حيًا،كان عليها أن تمر بالمخاض، أن تعاني الألم، أن تبكي، أن تدرك أنها ستخرج من هذه الغرفة فارغة اليدين.
لم تصرخ، لم تبكِ كثيرًا أثناء الولادة، وكأن روحها كانت قد ماتت بالفعل قبل أن يخرج يزن من جسدها.
لكن عندما حملته بين يديها… تحطم كل شيء.
كان صغيرًا، هادئًا، كما تخيلته تمامًا،لكن عينيه كانتا مغلقتين إلى الأبد.
"يزن… صغيري…"
لم تكن تعلم أن قلب الإنسان يمكن أن يتحطم بهذا الشكل، أن الألم يمكن أن يكون بهذه الوحشية.
بدر كان بجانبها، لم يترك يدها، لكن لم يكن بيده فعل شيء، رأته يمسح دموعه بصمت، رأته ينحني ليقبل جبين طفل لم يُكتب له أن يرى النور.
"أنا آسف، جين…"
لكن ما الجدوى من الأسف؟ لن يعيد ذلك ابنها، لن يعيد لها نبضه، حركته، ركلاته الصغيرة التي ملأت حياتها بهجة.
كانت الغرفة صامتة جدًا، لكنها في داخلها كانت تصرخ.
كانت الأيام ثقيلة.
أثقل مما تصورت جين يومًا أن تتحمله.
في البداية، لم تستوعب الأمر، كانت تضع يدها على بطنها كأنها تتوقع أن تشعر بركلة صغيرة تخبرها أن كل هذا مجرد كابوس، مجرد وهم ستستيقظ منه في أي لحظة،لكن لم يكن هناك شيء.
كل شيء كان فارغًا.
السرير الصغير الذي اختارته بحب، الملابس التي اشترتها بحماس، حتى الاسم الذي قضت شهورًا تناقشه مع بدر… كل ذلك أصبح بلا معنى. كأن طفلها لم يوجد يومًا، كأنه لم يكن سوى حلم لم يكتب له أن يصبح حقيقة.
في الأيام الأولى، كانت تحدق في السقف لساعات، عيناها جافتان من كثرة البكاء، كأنها فقدت القدرة حتى على الحزن بالطريقة الصحيحة.
بدر كان هناك، دائمًا، لكنه لم يعرف كيف يصل إليها.
كان يحاول… يا الله، كم كان يحاول.
كان يحضر لها طعامًا لا تأكله، يتحدث إليها ولا تجيب، يضع يده على كتفها لكنها لا تشعر.
وفي ليلة ماطرة، وجدها جالسة في غرفة الطفل، تتلمس حواف السرير الصغير بأطراف أصابعها.
"جين…" نادى اسمها بحذر.
لم تلتفت إليه، فقط همست بصوت بالكاد يسمع:
"لماذا اشتريت هذا السرير؟"
لم يكن سؤالًا. لم يكن شيئًا ينتظر إجابة.
اقترب منها، جلس على الأرض بجانبها، وضع يده فوق يدها، ولم يقل شيئًا.
لم يكن هناك كلمات يمكن أن تصلح شيئًا.
•••
مرت الأسابيع، ثم الأشهر، وجين لم تعد كما كانت.
كانت تتحرك كأنها ظل لنفسها القديمة، تبتسم أحيانًا لكنها لا تشعر بشيء. تخرج مع بدر لكنها لا تكون حاضرة حقًا.
كان الحزن مثل موجة تجذبها للأسفل، وفي بعض الأيام، كانت تشعر أنها تغرق بالكامل.
لكن في أحد الأيام، بينما كانت تجلس في الحديقة تحدق في الفراغ، شعرت بشيء مختلف.
بذرة صغيرة من شيء لم تشعر به منذ زمن.
الهواء كان دافئًا، الشمس لطيفة، والأصوات من حولها—أصوات الحياة—كانت موجودة.
لم تكن مستعدة بعد، لكنها فكرت… ربما يومًا ما، ستتمكن من العيش مجددًا.
ليس اليوم، ليس غدًا، لكن ربما يومًا ما.