روايةهيبة الفصل الثالث3بقلم مريم محمد غريب


روايةهيبة الفصل الثالث3بقلم مريم محمد غريب





_ حرب باردة _ :

امتدت لحظة الصمت بين الرجال الثلاثة، مشحونة، ثقيلة، كأن الهواء نفسه صار متحجّرًا بينهم.

بقى "رياض نصر الدين" ثابتًا صلبًا في مكانه، وجهه مزيج من الصرامة والسلطة المكتسبة عبر السنوات. بينما بدا "مهران" متوتّرًا، أصابعه تطرق على حافة مقعده بحركة لا إرادية، لينفلت صوته فجأةً مندفعًا بنزقٍ فيه من الغضب:

-حفيدتك إيه إللي عايزها يا رياض بيه؟ انت متخيّل لما تجيلي بعد أكتر من 18 سنة تطالب ببنتي إني هاوافق بسهولة كده وأقولك اتفضل خدها؟ وبعدين انت ناسي عملت فيها إيه وفي أمها زمان !!؟؟

نظر "رياض" نحو "مهران". لم يرتفع صوته، لم يتغيّر حتى إيقاعه الهادئ، لكن الهواء نفسه صار أكثر كثافة بينهما وهو يقول:

-لا انت. ولا أي مخلوق في الدنيا دي يا مهران له حق يحاسبني على حاجة عملتها في حياتي.. ودهب كانت بنتي. بنتي أنا.. زي ما بنتها حفيدتي. ومهما لف الزمن ولا دار. الحقيقة دي مش هاتتغيّر.

ارتفعت أنفاس "مهران" وهو يقول بصوتٍ خشنٍ أبلغ من أيّ صراخ:

-الحقيقة دي ماتلزمنيش. أنا إللي ربّيت وكبّرت. ليلى بنتي أنا.. من أول ساعة ليها في الدنيا وهي مسؤليتي أنا بعد ما سيادتك أمرت بقتلها. هانت عليك الطفلة إللي بتقول عليها حفيدتك زي ما هانت عليك بنتك.. انت موهوم لو فكرت إني ممكن أسايرك. وهاتبقى مجنون لو حاولت تفتح الموضوع ده تاني لأني مش هاتردد في إني أدافع عن بنتي حتى لو وصلت للقتل.. هاقتلك يا رياض بيه!!!

-عـمــي!

أخيرًا ..

طغى صوت "نديم" الحاد على الأجواء المضطربة بغتةً ..

نظر "مهران" إليه بأعينٍ متأججة، كاد أن يفتح فاهه مجددًا، لكن "نديم" لم يمنحه فرصة لقول المزيد. قطع الجمود المطبق بصوته الواثق، مقاطعًا عمه قبل أن يتفوه بكلمة أخرى:

-رياض باشا.. انت في مكتبي. يعني ليك احترامك لأخر لحظة. لكن عشان أضمن لك ده 100% من فضلك وضح لي سبب الزيارة. أو بمعنى أصح.. صلّح لي إللي أنا سمعته منك ومن عمّي.

لم يرمش الأخير، لم يتهزّ حتى لنبرة التهديد في صوت خِصمه.. فقط اكتفى بإمالة ذقنه قليلًا وقال بصوته الثقيل:

-أظنك سمعت كويس.. وأظنك بردو عارف. زي ما أنا شايف من عنيك.. إن ليلى مش بنت عمّك ولا حتى تقرب ليعلتك!

أومأ له "نديم" قائلًا بصلابة:

-أيوة عارف.. ليلى مش بنت عمّي.. لكن ده ماينفيش صلتها بيا. بالدم لأ. لكن على الورق هي فرد من عيلتي. و واجب عليا حمايتها من كل حاجة. وتحديدًا منك انت.

تجلّى الغضب في زوايا عينيّ العجوز، وقال من بصوتٍ مكتوم دون أن تطلق شفتاه أيّ وعود بالتصعيد.. بعد:

-أنا جدّها.. يمكن مهران ماقالكش الحقيقة دي. لكن سواء عرفتها بدري أو متأخر ماتفرقش معايا.. أنا ليا حق عندكوا.. ليا حفيدتي وهاخدها.. أظن محدش يقدر يمنعني ولا حد يقدر يلومني.

مال "نديم" بجسده قليلًا للأمام، مجرد بوصات بسيطة، لكنها حملت ثقل التحدّي كما حملها صوته الهادئ وهو يرد عليه:

-وأنا مفروض أعمل إيه لما أسمع كلامك ده يا سيادة الباشا؟ وفاكرني هاقتنع مثلًا. إنك ظهرت فجأة بعد السنين دي كلها. لمجرد إنك عاوز تاخد ليلى؟

رفع "رياض" حاجبًا بالكاد، وكأنه يتفحص "نديم" كما يتفحص رجل أعمال شابًا مغرورًا يبالغ في تقدير نفسه. لكنه يعرف في أعماقه بأن "نديم" أكثر ممّا يظن.

فقد سمع وعرف عنه الكثير طوال السنوات الماضية، فهو له سمعة ذائعة الصيت في أنحاء ممتدّة بوسطهم الراقي وحتى خارجه، إنه ببساطة يُشكل التجسيد الحيّ لمعنى الهيبة والإرادة، قوته لا تقتصر على نجاحاته المالية فحسب، بل تتجلّى في سلوكه المسيطر، حيث يُظهر في كل تصرفاته لمسة من الفخامة الممزوجة بالوحشية، مرسخًا بذلك سمعته كرجل لا يُستهان به في ميادين الحياة كافة..

لكن الأمر مقضيًا الآن، وهو لم يأتي للجدال، بل أتى ليحسمه، مهمت كانت قوة "نديم الراعي". لن تقف حائلًا بوجه كهل مصمم كـ"رياض". وخاصّة إذا كان يوازيه قوةً ونفوذًا ..

يقول "رياض" بصرامة جافة:

-أنا مش بقول عاوز. أنا بقول هاخدها. ليلى حفيدتي.. ومن حقي أرجّعها لبيتها. لاسمها. في أي وقت أعوزه.

في الداخل، كان قلب "نديم" ينبض ببطءٍ غير طبيعي، منذ بادئ الحوار كأن روحه تحاول استيعاب الصدمة رغم أنه يرفض التصديق. "ليلى"… حفيدة "رياض نصر الدين". ليست مجرد طفلة ربّاها، ليست مجرد حب خبأه بين ضلوعه في السر.. بل حفيدة هذا الرجل؟ كيف لم يرَ هذا الاحتمال من قبل؟ كيف لم يربط الخيوط؟

لطالما علم بقصة الحب المتطرّفة التي جمعت بين عمّه وإبنة هذا العجوز، قبل أن يتزوج "مهران الراعي" من "مشيرة". أحب "دهب نصر الدين" وكان مقررًا لهما الزواج، لكنه لم يتم لسببٍ لم يفصح عنه "مهران" ولم يحاول "نديم" معرفته، لكنه يرى الآن بأن عمّه ملزمًا بإطلاعه على كل شيء، طوعًا أو كرهًا ..

أفكاره تلك لم تصل إلى ملامحه. بل على العكس، راح يحدّق في "رياض" بثباتٍ، عينيه الخضروان قاتمتان، باردتان كالمعدن المصقول. ثم مال للأمام أكثر، مستندًا إلى مكتبه، صوته أكثر انخفاضًا لكنه أشدّ وقعًا وهو يقول:

-طلبك مرفوض يا رياض باشا.. مافيش حاجة اسمها تاخدها.. ليلى مش شيء بتملكه. ولو ليها مالك فهو أنا.. لا انت ولا حتى عمّي إللي مكتوبة على اسمه!

بدا العم مستنفرًا بجواره، حاول التدخل في هذه اللحظة:

-نديم. اسمع كلامي وآ ا ..

لكن نظرة واحدة من ابن أخيه أسكتته. عاد "نديم" بعينيه لـ"رياض". يواجهه، يتحدّاه بصمتٍ ثقيل.

ليقول "رياض" بهدوء أشد خطورة:

-على فكرة أنا مش جاي أتناقش معاك. ولا كل الكلام إللي إتقال ده يعتبر طلب. أنا جاي أخد حفيدتي.. بالحسنى.

رد "نديم" بابتسامة جانبية باردة:

-والحسنى دي عندك معناها إنك تطلب بنت ماعرفتهاش قبل كده من شخص ربّاها عمرها كله. لمجرد إنك قررت إن ليك حق عليها؟ ده كمان معلوماتي الجديدة بتقول إنك حاولت تقتلها. يا رياض باشا.. انت تعبت نفسك بالزيارة على الفاضي. محدش هنا ممكن يساعدك.. نوّرتنا!

تغيّر وجه "رياض" قليلًا، وكأن غروره تعرّض للخدش. لكنه تمالك نفسه بسرعة. وقال بثقة:

-أنا مش محتاج إذنك.. خليك فاكر ده كويس.

يرد "نديم" بتحدٍّ، وصوته يزداد حدة تدريجيًا:

-وأنا مش هاديك فرصة حتى تحاول. ليلى مش حفيدتك. ولا هاتكون حفيدتك. ولو قرّبت منها بأيّ شكل هاتلاقيني أنا في وشك.

يضيّق "رياض"عينيه، نبرته تتحول لتحذيرٍ صريح وهو ينطق بلهجته الصعيدية الأصلية:

-جومتي من إهنا وإحنا مش متفجين معناها إنك الخسران انت وعمّك.. وبتلعبوا بالنار!

ينهض "نديم" ببطءٍ، نبرته قاطعة، وقراره بلا رجعة:

-وانت مش فاهم إن النار دي ولّعت من زمان. ومش هاتطفيها بكلمتين تهديد. عيبك مسألتش عني قبل ما تيجي. نديم الراعي مابيتهددش.. وليلى مش هاتعرف أي حاجة وأنت مش هاتشوفها. مش هاتحاول. ومش هاتفكر حتى. دي الحقيقة الوحيدة اللي تقدر تاخدها معاك وانت خارج من هنا.

امتد الصمت من جديد، لكن هذه المرة لم يكن ثقيلًا فحسب.. كان قاطعًا، كأنه السكين الأخير في معركة غير متكافئة ..

وفجأة ينهض "رياض" واقفًا، يجمع طرفيّ عباءته في يد، ويمسك برأس عصاه بيدٍ أخرى، يحدق بعينيّ "نديم" مباشرةً متناسيًا أمر "مهران". بل مخرجًا "مهران" من حساباته، إذ تيقن بأن معركته من الآن فصاعدًا لن تكون إلا بينه وبين رجلٌ واحد ..

هو "نديم الراعي". لا غيره ...

-هانتجابلو تاني يا ولد رشيد! .. قالها "رياض" بابتسامةٍ جانبية:

-بالمناسبة.. بوك كان يشبهلك تمام.. وكان عنيد جوي كيفك.. بس ماكنش غبي.. سلام.

واستدار موليًا إلى الخارج ..

ظل "نديم" يحدق في إثره ثائر الأعصاب، بينما يدور "مهران" حول المكتب ليقف بجواره قائلًا بتوتر:

-نديم.. من فضلك.. أرجوك قولّي إنك هاتقدر تساعدني أتفادى المصيبة دي.. قولّي إن رياض مش هايقدر ياخد مني ليلى.. أرجوك!!

أدار "نديم" رأسه نحو عمّه متمتمًا بصرامةٍ:

-محدش يقدر يقرب لها طول ما أنا عايش.. وعايزك تنسالي رياض ده دلوقتي خالص. عشان هاتحكيلي الحكاية من أولها.. زي ما حصلت بالظبط.. فاهمني يا عمّي؟

أجابه "مهران" مطرقًا رأسه بانكسارٍ واضح:

-فاهمك.. هاحكيلك.. هاحكيلك كل حاجة يا نديم!

_________________

خرجت كلٌ من "ليلى" و"نوران" من قاعة المحاضرة الأولى، تعرفتا على فتاة بالمدرج واصطحبتاها معهما للخارج، النسيم يرافقهن بخفةٍ على وقع خطواتهن الرشيقة وصولًا إلى الوجهة المنشودة ..

تجمّع الضوء الخافت في الكافيتيريا حولهن، حيث جلسن على طاولة زجاجية في زاوية هادئة. في البداية، علت ضحكات "نوران" مستهجنة من تصرف المعيد الذي بدا وكأنه يرقص على إيقاع سخريته الخاصة. فقالت بنبرةٍ مرحة:

-أهو الواد ده من إللي بيسمّوهم دحيحة.. هو شاطر بس يا عيني دماغه باظت من العبقرية!

ضحكت "ليلى" بانطلاقٍ وقد لفتت ضحكتها الجذّابة إنتباه الطلبة من حولها، أثارت أعجاب الشباب منهم وغيرة الشابّات لتميّزها عنهن في الشكل والأسلوب، بينما ردّت رفيقتهما الثالثة بدعابةٍ:

-طيب مش هاتصدقي لو قلت لك إنه كان دفعة أخويا هنا وعاد أخر سنة مرتين بسبب إنه كان مصمم على مجموع معيّن.

سألتها "ليلى" بفضولٍ شديد:

-وجاب المجموع ده يا رنا؟

جاوبتها "رنا" مسيطرة على ضحكتها:

-لأ.. بس استسلم في الأخر وبقى زي ما شوفتي كده.

انطلقت الضحكات منهن، بينما نزلت المشروبات المرطّبة إلى طاولتهن، كانت الأجواء تزدان بخفة الحديث وتداخل ظلال الضحك مع لمسات الضوء ...

-أوباااااا !

استرعت صيحة "نوران" الخافتة إنتباه "ليلى" لتسألها باهتمامٍ:

-إيه يابنتي مالك؟

نوران وهي تشير خلسة لمقدّمة الكافيتيريا:

-بصي القمر إللي سقط من السما علينا ده.. الواد الحليوة إللي لابس جاكت جلد إسود.. يخربيت جمال أمه!!

ضحكت "ليلى" منها مستخفّة، لكنها ألقت نظرة بدافع الفضول، لترى شابًا وسيمًا بالفعل، يحمل في ملامحه الثقة وجاذبية لا تخفى، ارتدى جاكيتاً ضيقاً من الجلد اللامع وبنطلوناً من الجينز الداكن، وحذاء رياضي ناصع البياض كأسنانه التي بدت متألقة ما أن ابتسم باتساعٍ لإحداهن في هذه اللحظة ..

برز صوت "رنا" وهي تقول مصوّبة نظراتها نحوه بلا تحفظ:

-ماعرفوش ده للأسف.. رغم إني كنت باجي هنا كتير مع اخواتي وعارفة كل الطلبة.. بس أعرف البنت إللي ماشية جنبه.. دي شهد سليمان. كانت معايا في المدرسة. بس بت مغرورة أوي وشايفة نفسها.. محدش كان بيطقها بصراحة حتى المدرسين.. كانت بتتعامل حلو بس عشان أبوها حد مهم وكان موصّي عليها.. أعوذ بالله على الصدف.. لو كنت أعرف إنها جاية هنا كنت حوّلت!

رفعت "ليلى" حاجبًا قائلة بأريحية:

-ليه يا حبيبي ولا يهمك.. كأنها مش موجودة. محدش يقدر يجبر حد يتقبل أي شخص. ف انتي كأنك مش شايفاها.

وابتسمت ..

لكنهما لم تبادلاها الابتسامة.. كلٌ من "نوران" و "رنا".. نظرتا إلى نقطةٍ ما وراء "ليلى" وقد انتابتهما حالة من الخرس والبلاهة ..

نظرت "ليلى" تلقائيًا حيث تنظران، فإذا بها ترى ذاك الشاب، وقف أمامها مبتسمًا بلباقةٍ، وكأن الزمان توقف ليستمع لصوته الذي جمع بين الحزم والنعومة وهو يخاطبها مباشرةً:

-صباح الخير.. آنسة ليلى. صح؟

تراجعت ليلى قليلاً خلف حجاب تحفظها، وأجابته بخفةٍ لكن ببرود اكتسبته من ربيبها وحبيبها.. "نديم":

-أيوة أنا.. أفندم!؟

طرف الشاب بأهدابه الطويلة قائلًا بلهجةٍ حيادية:

-ممكن أخد من وقتك خمس دقايق.. محتاج أكلمك على إنفراد.. على فكرة أنا جاي هنا مخصوص عشانك.

حانت من "ليلى" إلتفاتة  إلى "نوران" و"رنا" المذهولتين، ثم عاودت النظر إلى الشاب قائلة بجدية:

-فعلًا! جاي عشاني؟ بس أنا ماعرفكش!

رمقها الشاب بابتسامةٍ واثقة، مدّ يده للمصافحة بلطفٍ كأنه يمد جسرًا من الثقة وقال:

-بسيطة. أنا أعرفك بنفسي… زين نصر الدين!!!



تعليقات