
رواية لعنة الخطيئة
الفصل الحادي والخمسون51
بقلم فاطمة أحمد
في اليوم الموالي.
ترجل من سيارته ووقف يتأمل السرايا ذات الأسوار العالية والجدران العتيقة، كانت هذه أول مرة يأتِ فيها لهذا المكان ويراه عن قرب هكذا فهو لم يكن يتشجع في السابق حتى يخطو لهنا...
من جهة يشعر بنفسه متحمسا ومتوترا من القدوم ومن ناحية أخرى فإن رؤيته لهذه السرايا تقلب عليه أوجاع الماضي خاصة أنها كانت السبب الرئيسي في تعاسة والدته.
أخرج مراد نفسا عميقا مثقلا بالحسرة ليفيق على تربيت آدم على كتفه وهو يبرطم بصلابة :
- هنفضل واقفين كده ؟
ازدرد لعابه مبللا حلقه الجاف ثم همس بصوت خافت ينم عن اضطرابه :
- أنا حاسس اني استعجلت لما وافقت اجي خليني ارجع وهبقى اجي ااا...
- مفيش مرة جاية انت هتدخل معايا ودلوقتي.
قاطعه بحزم لا يقبل النقاش وأردف بنبرة أقل شدة :
- دول عيلتك وده بيتك ومسيرك تقابلهم يا مراد ... ومتخافش هما مرحبين بيك جدا.
كلماته بعثت فيه تحفيزا تلقائيا فاِبتسم بخفة ودخل برفقته للسرايا ... بيت عائلته ووالده الذي لم يدخر جهدا للحفاظ على امرأة أحبته بإخلاص.
نهضت حليمة من مقعدها وهي مبتهجة واقتربت تستقبله بترحاب كبير، كانت لا تزال تحت وقع المفاجأة منذ ليلة البارحة حينما جاء آدم وأخبرهم بأنه تصالح مع مراد وهو يود إدخاله للعائلة وتعويضه على ما فات.
فلم تسعها الفرحة حينها لأن كلامها ونصائحها أثمرت أخيرا وهاهو الأخ الدخيل لم يعد كذلك.
سلمت عليه حليمة بحرارة بينما تردد :
- اهلا وسهلا بيك في بيتك ياحبيبي نورت.
- شكرا يا عمتي.
ردَّ بلباقة محاولا التغلب على إحراجه ثم جاءت ليلى لتفاجئه بحضن صغير، وهتفت بلطافة :
- أهلا بيك أنا مبسوطة لأنك جيت.
علَّق آدم بتلاعب :
- سلم على أختك يا مراد ماهي متعودة تزورك في بيتك وبقيتو مقربين من بعض مش كده ولا ايه.
لم يتفاجأ مراد من كلامه لأنه بات يعلم بأن آدم كان مطلعا على جميع التفاصيل التي تخصه فتنحنح وحاوط أخته بذراعيه وقال :
- تسلميلي يا ليلى.
انسلخت من عناقه وذهبت تقف بجانب شقيقها الكبير الذي وضع يده على كتفها وهو يجذبها إليه، في نفس اللحظة التي ظهرت فيها نيجار وهي تنزل على الدرج برتابة مرتدية فستان ربيعي ذو أكمام بلون زهري وطويل يغطي كامل ساقيها مع حذاء ذو كعب عالٍ وشعر مصفف بعناية.
اقتربت منهم تحت نظرات آدم الذي أصابه الوَلَه من طلتها المشرقة وطفق يتأملها بتدقيق حتى أفاق عليها وهي تبتسم لمراد هاتفة :
- أهلا يا مراد أنا سمعت عنك كتير قبل كده وأخيرا شوفتك.
- وأنا بردو سمعت عنك بس متوقعتش تطلعي بالجمال ده.
ألقى إطراءه ببسمة مماثلة ومدَّ يده ليصافحها، بَيد أن يد آدم من التقطته وهو يضيق عيناه ويجز أسنانه محذرا إياه باِصفرار :
- بالراحة على نفسك ديه مراتي أنا.
تفاجأ مراد وسرعان ما تمالك نفسه وتنحنح ضاحكا :
- مش ناسي أنها مراتك انت، اطمن.
ضحكت حليمة على آدم الذي أظهر غيرته لأول مرة وقررت أن تغير أجواء الحساسية هذه فرددت بحماس :
- يلا يا جماعة، جهزنا الغدا مخصوص عشان مراد مش معقول نفضل واقفين كده !
تحرك الجميع نحو قاعة الطعام ، لكن قبل أن يلحق مراد بالركب شعر بيد آدم تربت على كتفه مجددا ليومئ له باِمتنان خفي ويتحرك رفقة عمته وأخته...
وبمجرد أن ابتعد، التفتت نيجار إلى آدم الذي أقرعها بضيق :
- انتي لابسة الفستان الزهري ده ليه مش حلو عليكي.
لم يكن هو الجميل عليها بل هي من زادت الفستان جمالا !!
كتم آدم هذه الحقيقة بداخله ليشاكسها لكن الأخرى لم تتأثر بمحاولة إزعاجه لها بل ملَّست على خصلات شعرها بدلال هامسة :
- بس أخوك ليه رأي تاني.
- نيجار !
غمزت له بمكر قبل أن تهمس بمشاكسة :
- غيران يا سي آدم ؟
رفع حاجبه بنظرة جانبية وابتسامة أكثر هدوءً وهو يردّ بلا مبالاة ظاهرة :
- أغير على ايه أنا بس مستغرب لان عمرك ما لبستي اللون ده.
اقتربت أكثر حتى كادت تلتصق به وتمتمت ببسمة لعوب وهي تمرر اناملها على صدره :
- مانا بلبسلك الأحلى في اوضة نومنا.
تنحنح آدم ناظرا من حوله خشية أن يكون كلامها وصل لأسماع أحد ما ثم ضحك بيأس منها ومدَّ يده ليقرص وجنتها بخفة :
- روحي يابت، انتي شقية اوي.
بعد لحظات كان الجميع يجلس على الطاولة الموضوعة في الطابق العلوي أسفل السماء الصافية والهواء الطلق في آخر أيام فصل الربيع، توزعت المائدة بشتى الأطباق الشهية والمشروبات المرطبة ...
كان مراد يجلس متوتراً بعض الشيء يتأمل الأجواء العائلية التي لم يعتد عليها لكنه سرعان ما شعر بالدفء وهو يراقب ليلى تتحدث بحماس مع عمته، وآدم يطالع زوجته بطرف عينه من حين لآخر حتى قال وهو يتناول لقمة أخرى من طبقه :
- بصراحة، مكنتش متوقع أن الأكل هيكون حلو كده. حضرتك يا عمتي عندك ذوق رفيع.
ابتسمت حليمة بفخر وقالت :
- تسلم يابني بس الفضل مش ليا لوحدي، مراتك ساعدتني وهي اللي عملت الشوربة ومحشي ورق العنب ده مراد بيحبه اوي.
نطقت الجملة الأخيرة بنبرة تحمل مكرًا وهي تحدق في مراد الذي تنحنح وأعاد النظر لصحنه أما آدم فرفع حاجباه بدهشة وطالع نيجار التي هتفت بلهفة مغترة :
- وعملتلك سلطة مخصوص خد دوق منها.
- والله واضح أنك شاطرة، اسمع يا مراد نيجار مبتطبخش لأي حد اعتبر نفسك محظوظ.
ضحك مراد وهو يومئ برأسه معقبا :
- أكيد حظي كويس النهاردة.
ابتسم آدم ثم شرد دون وعي منه في جدته التي طلب منها صباحا ان تحضر للمائدة أثناء استقبال حفيدها الثاني لكن يبدو أن عنادها وكبرياءها سيطرا عليها كالعادة ورفضت الدعوة غير مبالية بمشاعرهم.
وقد لاحظت نيجار ذلك واستطاعت توقع ما يفكر به فقررت إخراجه من قوقعته وهذا ما جعلها تغرز الشوكة في صحنه وتأكل منه ...
نظر الآخر لما فعلته وارتفع حاجباه مغمغما باِستنكار :
- مش قولتي انك عملتيلي السلطة مخصوص ايه انتي طمعتي فيها دلوقتي.
ابتسمت بمكر وهمست بنبرة بريئة مصطنعة :
- اللي مراته جميلة زيي لازم يشاركها كل حاجة، حتى طبقه.
أطلق آدم ضحكة قصيرة، وعلق بتلاعب خافت :
- اه، بس أنا مش بحب أشارك.
مطت شفتها ووضعت مرفقها متلفظة :
— أناني.
— مع اللي بحبهم بس.
خرجت الجملة من فمه تلقائيا ودون تخطيط منه فاِختفى تلاعب نيجار وحلَّ مكانه الجمود والذهول، بادلته نظرة عميقة وفتحت فمها لتتحدث إلا أن مراد فصل الشحنات بينهما وهو يقول بمزاح بسيط :
- واضح ان الجو هنا كله شد وجذب، بس أنا حاسس أني مرتاح وسطكم أكتر مما كنت متوقع.
أدار آدم وجهه له وتشدق بصلابة :
— لأنك في مكانك الصح، وسط عيلتك.
ساد صمت قصير، قطعته ليلى بصوت خافت متنهدة :
- العيلة اللي كان المفروض تبقى معانا من زمان.
رمقها هو للحظة ثم ابتسم بهدوء، شاعرا لأول مرة منذ سنوات أن لديه بالفعل عائلة حتى لو تأخر الوقت لكنه الآن هنا، بينهم.
في بضع دقائق أصبح الجميع مستغرقًا في الأحاديث والمزاح، والأجواء تبدو أخف من أي وقت مضى حتى مراد بدأ يعتاد وجوده في السرايا، لكن فجأة…
ارتفع صوت عصا خشبية تضرب الأرض بخفة وصوت خطوات واثقة يتردد صداه في المكان، التفت الجميع بسرعة ليجدوا حكمت واقفة عند مدخل الطابق العلوي، نظراتها صارمة كعادتها وعصاها السوداء ترتكز بثبات في يدها.
ساد الصمت، وتوقفوا عن تناول الطعام، حتى نيجار وضعت شوكتها جانبًا ببطء بينما تبادل آدم ومراد نظرات خاطفة.
كان الترقب تملأ الوجوه فالكل توقع أنها ستبدأ بإلقاء كلماتها الحادة أو تعترض على وجود مراد في السرايا، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا.
بخطوات هادئة، تقدمت حكمت نحو الطاولة وعندما وصلت إلى رأسها سحبت الكرسي وجلست بصمت وعيناها تراقبان الجميع بتمعن.
لم يتجرأ أحد على النطق، وتأملتها نيجار متذكرة مواجهتهما يوم أمس حينما أفصحت عن مكنونات قلبها وربما كانت قاسية معها قليلا أيضا لكن كان يجب أن تضع النقاط على الحروف وتوضح لكل حدٍّ حدَّه، إلا أن جل ما تخشاه هو ان تكون هذه السيدة قد حضرت للتجمع من أجل إفساده أو الإنتقام منها على ما قالته...
أما حكمت فلم تتأثر قيد أنملة بالنظرات المصوبة ناحيتها وأخذت كوب الماء الموضوع أمامها ورفعته بهدوء لترتشف منه رشفة صغيرة ثم أعادته مكانه ونظرت إلى مراد مباشرة.
ظل هذا الأخير متيبسًا في مقعده يترقب أول كلمة ستخرج منها، لكنه تفاجأ بها تحرك رأسها قليلاً مبرطمة بنبرة خافتة :
- لمّيتوا الشمل أخيرًا.
كانت نبرتها غامضة، لا توحي بالرضا التام ولا بالاعتراض، مجرد ملاحظة صريحة.
شعر آدم بأن الأمر قد ينقلب في أي لحظة فتدخل سريعًا قائلاً بحزم :
- مراد من العيلة، وله مكان هنا زي أي حد فينا.
تأملته جدته لوهلة، ثم حولت نظراتها إلى -الفرد الجديد من العائلة- وقابلته بسؤال مباشر :
- وانت شايف نفسك من العيلة ؟
شعر بأن السؤال يحمل أكثر من معنى ولكنه أجاب بصدق وهو يثبت عينيه في عينيها القويتين :
- أنا مش عايز غير حقي، ولا هرفض العيلة اللي المفروض كنت جزء منها من زمان.
مرت لحظة صمت أخرى، ثم هزت حكمت رأسها بخفة وأردفت وهي تنظر إلى الطعام :
- يلا، كملوا أكلكم.
نظر الجميع إلى بعضهم البعض بدهشة، متوقعين أنها ستكمل حديثها أو تصدر قرارًا صارمًا لكنها لم تقل شيئًا آخر. فقط جلست هناك في رأس الطاولة بثقة تامة كما لو أنها ترسل إليهم إشارات مفادها أنها في موقعها الطبيعي والدائم.
أما آدم فكان يراقبها بعناية، يحاول أن يفهم فيمَ تفكر، ماذا يعني حضورها الآن هل جاءت بصفتها جدة له ولأخويه أم بصفتها حكمت سيدة العائلة التي تمرر أي شيء من تحت يديها ببساطة.
لم يدم الصمت الثقيل طويلا لأنه سرعان ما تمتم لها :
- متوقعتش تيجي وتقعدي معانا، بصراحة.
رفعت عينيها نحوه ببطء وردَّت :
— ليه؟ أنا حكمت هانم مش من حقي آكل مع عيلتي؟
حملت لهجتها تحديا مبطنا، فدخل مراد في الحوار مجيبا بهدوء صادق :
- كنت فاكر ان حضرتك رافضة وجودي.
تأملته السيدة للحظات ثم تنهدت بصوت بالكاد يُسمع قبل أن تقول :
- أنا لا برفض ولا بوافق، أنا بشوف.
- احنا هنا عشان نشارك الفرحة مع بعض.
قالتها نيجار مطالعة ليلى والعمة.
لم تغير حكمت تعبيرها، بل نقلت نظراتها إلى نيجار وقالت ببرود :
- وانتي شايفة إن اللي حصل فرحة يابنت الشرقاوي ؟
تجمدت ابتسامتها للحظة، لكنها سرعان ما تماسكت وأجابت بثبات :
- أكيد ... لما الأخ يلاقي أخوه والعيلة تكتمل، ده لازم يكون فرحة.
عادت حكمت إلى تناول طعامها بصمت كمن لم تسمع الرد لكن الجميع فهم الرسالة…
هي لم تقل نعم، ولم تقل لا، لكنها موجودة، تراقب، تنتظر، وربما تخطط أيضا.
_________________
مرَّ اليوم وانتهى سريعا وسعيدا للبعض.
ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة للبعض الآخر...
في صباح يوم جديد.
وقف صفوان في منتصف المجلس أمام العمدة بملامح مقتضبة وعينان تضمران بالسوء ثم صدع صوته الغاضب وهو يردد ببلادة :
- أنا سمعت أن حضرتك قبضت على الراجل اللي احنا بندور عليه من فترة، الكلام ده بجد ؟
تنفس بحدة ضاغطا على عصاه ثم أجابه بهدوء، مع حفاظه على ملامح وجهه الصارمة :
- ايوة بجد.
- طب ليه خبيت عليا ليه مقولتليش يا عمدة انت بتعرف اني اكتر واحد اتضرر بسبب الندل ده !
هدر صفوان بنبرة غاضبة وتابع :
- اشمعنا ابن سلطان بيعرف وأنا لأ، ليه خبيتو الحقيقة عليا فهموني !!
ظل العمدة ثابتًا في مكانه لا يشيح بنظره عن صفوان، لكنه لم يتعجل الرد وكأنه يمنحه فرصة ليخرج ما بداخله :
- مكنش في نيتي أخبي عليك بس كنت مستني الوقت المناسب.
انزلقت ضحكة ساخرة من فم صفوان ثم رفع يده ومسح على وجهه بعنف قبل أن يعيد نظره إلى العمدة، تتأجج عيناه بلهيب الشك والحنق ويهمس :
- وقت مناسب ؟ غريبة والله يعني احنا بندور عليه من شهور وانت وآدم فجأة كده لقيتوه بس خبيتوه وبتجي تقولي وقت مناسب ؟ مناسب لـ ايه بالضبط !
ثم أمال صفوان رأسه قليلًا، يتأمله كما لو كان يحاول كشف ما يخفيه، قبل أن يردف بنبرة خافتة لكنها تنضح بالاتهام :
- ولا يمكن ... الحقيقة اللي ورا البني ادم ده هي خلتكم تتكتمو عليه.
لم يتغير وجه العمدة، لكنه فهم تمامًا ما يحاول صفوان الإيحاء به فضغط على يده وطالعه بعينين باردتين هاتفا :
- بعرف انك مستغرب ومضايق عندك حق بس أنا عملت اللي لازم يتعمل في الوقت اللي لازم يتعمل فيه، ومش هبرر قراراتي لأي حد.
لم يعد قادرًا على ضبط نفسه أكثر من ذلك فاِنفجر صوته عاليًا بعصبية كالرعد :
- القرارات ديه متخصكش لوحدك يا عمدة احنا كنا معاك في كل خطوة، ليه لما جيت للمرحلة الأخيرة اتخذت القرار لوحدك انت وابن سلطان اتفقتو ع ايه من ورايا.
احتدت عينا العمدة بضراوة تحمل في طياتها نوعًا من التحدي، قبل أن يرد بصوت محذر نافذ :
- خف كلامك يا صفوان انت بتدخل في مناطق مالكش فيها.
لكن الآخر لم يتراجع بل زاد تهجمه وصوته يعلو مع كل كلمة :
- لا أنا عايز أفهم انتو الاتنين خبيتو عليا ليه !
ثم تراجع خطوتين، يتنفس بسرعة كمحاولة منه للسيطرة على غضبه، قبل أن يرفع عينيه مجددًا ويهتف بحزم :
- المهم أنا عايز أشوفه… دلوقتي حالًا !
- لأ ... لسه بدري.
وقف صفوان مصعوقًا لثانية، لم يصدق ما سمعه، ثم اشتعلت ملامحه بالغضب مجددًا وهو يقترب من العمدة باندفاع:
- ايه! بتمنعني ليه ده حقي ومش هخرج من هنا غير لما أشوفه.
لكن العمدة ظل محافظًا على رباطة جأشه، نبرته لم تتغير وهو يكرر بنفس الجبروت الذي يعرفه صفوان جيدا :
- لما ييجي الوقت المناسب… هتشوفه بس مش دلوقتي يا صفوان وبتمنى تتفهمني في الفترة ديه بالتحديد.
طرق الباب الذي كان مواربا ودخل آدم ليجد الاثنان يقفان أمام بعضهما ولم يحتج للتفكير كثيرا حتى يدرك أن صفوان علم بأمر القبض على سليمان فتنهد بإرهاق وهتف :
- السلام عليكم.
استدار له غريمه يرشقه بنظرات منفعلة تبعها صوته الحاد وهو يرد بصوت عالٍ :
- وعليكم السلام أهلا بالجدع اللي عمل اتفاق معايا عشان نلاقي عدونا بس اول ما قبض عليه خلف بوعده معايا ... كان اسمه ايه ياترى اه .. سليمان.
- انا عمري ما خلفت وعدي مع حد مهما كان مين يابن الشرقاوي ولو عايز تعرف الحقيقة فأنا ...
قاطعه العمدة بصرامة :
- الحقيقة محدش عارفها غيري ولا انت ولا التاني هتعرفو انا مخبي سليمان فين وليه ومحدش هيعرف غير لما أنا اقرر.
رمقه الإثنان بحيرة وغرابة لكن عصبية صفوان تغلبت على مشاعره المتبقية فزفر وخرج من المجلس بخطوات تفيض بالغيظ، تاركًا العمدة يراقبه بعينين لا تخفيان الحذر.
مرر آدم أصابعه في خصلات شعره شاعرا بالإنهاك والملل من كل هذه القصص وأخيرا طالع العمدة مستفهما منه :
- حضرتك مخبي سليمان وساكت ليه لحد دلوقتي ؟ ليه مطلعتوش وخليته يقول الحقيقية قدام الكل ويريحك ويريحني.
- يقول ايه بالضبط ؟
- الحقيقة ... ان هو زور الوصية الحقيقية بأمر من ستي وخلى جدي ياخدها بدل جد صفوان ولو معملش كده كانت العمودية هتفضل مع عيلة الشرقاوي مش الصاوي !
تشدق آدم بثبات دون أن يتزعزع هذه المرة رغم أن الحقيقة لا تقف في صالحه لكن يكفيه نقل الحق لصاحبه الأصلي.
فأضاف بلهجة أكثر تلبدا :
- حضرتك بتعرف اني بحترمك وبعتبرك زي والدي بس لو انت متكلمتش فأنا مش هستناك وهجمع الكل في أقرب وقت واحكيلهم ع كل حاجة، لان مش آدم سلطان الصاوي اللي بيسكت ع الحق.
- حتى لو كان ضد مصلحتك ؟
- مصلحتي هي اني احفظ كرامتي وصورتي قدام نفسي ... وده مش هيحصل لو فضلت انا مخبي السر وساكت.
تأمل العمدة آدم للحظات بعينين عميقتين، ثم زفر ببطء وهو يضغط على عصاه متشدقا بنبرة هادئة لكنها تنضح بثقل التجربة:
- انت فاكر ان الموضوع بسيط فاكر ان كل اللي عليك إنك تطلع الحقيقة وخلاص، بس اللي زيي عارف إن مش كل حقيقة ينفع تتقال في أي وقت وأي طريقة… صفوان واحد متهور ولو عرف الموضوع بالشكل الغلط هيولع النار ويقلب البلد كلها فوق بعضها.
لم يتراجع آدم أو يعتبر الأمر خطرا عليه بظلت ملامحه ثابتة وجدية :
- حتى لو قلبها، الأهم إن الناس تعرف الحق اللي عاشوا سنين فاكرين ان العمودية بتاعت آل الصاوي لازم يعرفوا ان كل ده كان غلط من البداية.
عقد حاجبيه وملامحه لم تظهر استحسانًا ولا رفضًا فقط درس ملامح الشاب الواقف أمامه بشموخ كما لو كان يقيم وزنه في هذا الموقف.
- وانت متخيل الناس لما تعرف الحقيقة كل واحد فيهم هيكون عادل وهادئ ويقول خلاص،حصل خير ؟ البلد دي فيها نار تحت الرماد، ولو الحقيقة خرجت بطريقة مش مناسبة محدش هيعرف يسيطر على اللي هيحصل بعد كده.
ألقى آدم نظرة طويلة على العمدة، قبل أن يزفر ببطء ويرد بلهجة قاطعة:
- ومع ذلك أنا مش هغير رأيي، ولازم الحقيقة تتعرف ومش هسكت عليها مهما كان.
ثم استدار، وتحرك بثبات خارج المجلس دون أن يلتفت للخلف، تاركًا العمدة يراقبه بصمت...
ملامحه متشابكة بمشاعر معقدة، مزيج من الإعجاب، القلق، وربما… قليل من الحزن. تمتم لنفسه بصوت خفيض بالكاد يسمع :
- المشكلة انك مش مستوعب ... أنا مخترتكش عشان اسمك سلطان الصاةي ومخترتكش عشان كنت فاكر انك من نسب عيلة العمدة…
اخترتك لأنك تستاهل ولأنك نظيف ومختلف عن كل واحد بيطمع في السُّلطة وعشان مبتهابش غير ربنا ...
بس خوفي ان اللي جواك ده، واللي مميزك عن الكل يكون هو نفسه اللي هيكسر رقبتك في الآخر.
___________________
في بستان عائلة الصاوي.
كان الجو مشحونا بصوت حفيف الأشجار وحركة العمال الذين يجمعون المحصول في صمت بينما يمرّ هو عليهم ليراقب سير العمل ويملي عليهم أوامره بحزم متخليا بشكل مؤقت عن كل مايؤرقه ويجعله غير مركز في عمله...
فجأة حرك رأسه بعشوائية ليقع بصره على محمد وهو واقف غلى مسافة منه، متردد يقدم خطوة ويرجع بالأخرى فقضب آدم حاجباه وأشار له بالمجيء ثم سأله :
- مالك يا محمد واقف ليه كده في حاجة ؟
ازدرد الآخر لعابه بصعوبة فأحس بأشواك تلسع حلقه الجاف، لقد جاء اليه اليوم وهو يصمم على استجماع جلّ شجاعته والحديث معه بخصوص ليلى ورُغم توتره وخوفه من رد فعل آدم لكنه علم بأنه لا مجال للتراجع فتنحنح وبرطم بصوت جاهد لإخراجه مفهوما :
- أنا كنت عاوز أقعد معاك شوية لو فاضي يا معلم آدم.
حدجه بغرابة ثم أخذه لمكان فارغ ينتظر ما سيقوله بيد أن محمد ظل يحدق في التربة بصمت كما لو كان يبحث عن الكلمات في ثناياها فنبهه آدم بروية :
- اتكلم قول في ايه.
تمتم هو بصوت هادئ وخافت كأنه يرمي بكلماته دون ترتيب :
- أنا كنت بفكر في حاجات كتير الأيام اللي فاتت ومنها ان كل واحد فينا بيبقى عنده حاجة عاوز يحافظ عليها، حاجة غالية عليه.
رشقه آدم بنظرة خاطفة قبل أن يعود إلى مراقبة العمّال، لكنّه بدأ يستمع باهتمام فواصل محمد بنبرة أعمق لكنه لا يزال مترددًا :
- وأنا بصراحة عندي حاجة غالية عليا بس مش عارف ... مش عارف أقول إزاي.
توقف يبتلع ريقه ويمرر يده فوق رأسه في قلق ثم تنفس في اضطراب.
بينما ألقى آدم عليه نظرة جانبية ثم قال ببرود :
- قول وخلاص يا محمد أنا مش متعود منك على اللف والدوران.
- أنا بقالي فترة كويسة بشتغل عندك وحضرتك بتعرف ان مليش في اللعب وتضييع الوقت وبتعرف ان عمري ما شلت جوايا نية وحشة لأي حد فيكو وعلشان كده أنا حبيا ادخل من الباب يا معلم آدم.
ثم رفع عينيه أخيرًا نحوه مترددًا قبل أن ينطق ببطء شديد، كأنه ينتزع الكلمات من قلبه :
- أنا ... أنا عاوز أتقدم رسميًّا لخطبة ليلى أخت حضرتك.
بدا وكأن العالم توقف لحظة، رغم أن العمال مستمرون في العمل والرياح تحرك أوراق الأشجار لكن داخل آدم كان هناك سكونٌ عاصف، يحدّق في محمد كأنّه لم يسمعه جيدًا، أو ربما لم يفهم ما قيل.
رمش بعينيه عدة مرات قبل أن تتسعا وهو يبرطم بذهول واضح :
- بتقول إيه ؟
ازدادت أنفاسه حدة ومع ذلك حاول أن يبدو ثابتًا قدر الإمكان :
- بقول ... اني عاوز أتقدّم للهانم الصغيرة بالحلال.
ظهرت على وجه آدم صدمة حقيقية، قبل أن يشيح بوجهه جانبًا ممررا يده على لحيته القصيرة في تفكير لا ينطق بشيء، وكأنّه يحاول استيعاب ما سمعه للتو ... أخته ليلى ومحمد الذي يعتبر سائقها .. مالذي يحدث هنا !!
قبل أن ينطق بكلمة، أتى صوت خطوات سريعة تقترب منهما ولم يكن سوى فاروق الذي اندفع نحوهما بعينين مليئتان بالخوف والارتباك، قبل أن ينظر لمحمد بحدة لاهثا :
- انت قولتله ؟
نقا هذا الأخير بصره بين الأخوين مدركا الآن أنّ فاروق كان يعرف بالأمر وربما حاول منع محمد من التحدث فحدق فيه بصلابة وتثاقلت نبرته وهو يردد :
- من امتى الكلام ده.
- بعتذر لو هتعتبر صراحتي وقاحة بس أنا معجب بأختك يا معلم آدم حاولت كتير اخبي مشاعري عشان الفروق اللي بيننا بس فشلت وملقتش نفسي غير وأنا جايلك وبطلبها على سنة الله ورسوله.
بس يمكن حضرتك مضايق من اللي بتسمعه مني.
دلك آدم صدغيه بصداع ومط طرف شفتيه ممتعضا وبشيء من الحدة :
- وانت كنت متوقع مني ايه يا محمد اني هفرح ولا هطير من السعادة بالكلام ده؟
نظر لأخيه باِضطراب وقد تبين له انزعاجه وربما رفضه القاطع، فأجاب بنبرة ساكنة :
- كنت متوقع انك تسمعني بس، ده اللي كنت عاوزه.
رفع هو رأسه نحوه يحدق فيه طويلًا ثم زفر بضيق، بينما فاروق يعضّ على شفتيه قلقا على شقيقه الأحمق الذي اتخذ هذه الخطوة بلا استشارة من أحد.
- طيب بس ليلى سبق ورفضت الجواز من سامح وقالت انها مش مستعدة أكيد مش هتوافق عليك انت بردو أو ع حد تاني.
- بعرف بس ...
كاد لسانه ينزلق ويخبره ببساطة أن أخته تحبه أيضا لكن نظرة تحذيرية من فاروق جعلته يستدرك نفسه ويقول :
- ومع ذلك بتمنى تعرض عليها طلبي من بعد اذنك انت والست حكمت.
تلكأ آدم في وقفته ونفض بعض ذرات الغبار الملتصقة ببنطاله قبل أن يهتف بجدية :
- ماشي أنا هكلم ليلى بنفسي وهشوف رأيها.
ألقى كلمته وغادر مبتعدا بخطواته الثابتة فتنفس فاروق الصعداء ثم وكز محمد وهو يجز على أسنانه :
- انت يازفت مش قولتلك تستنى وأنا بنفسي هفتح الموضوع مع آدم، مبتسمعش الكلام ليه !
- ليلى كمان قالتلي ان الوقت مش مناسب، وعندهم مشاكل كتير دلوقتي بس أنا مقدرتش اسكت كان لازم تعرف هي اني جاد وبعدين الموضوع بيخصني ولازم انا اتشجع واتكلم.
قلب عيناه مهمهما بنبرة شبه ساخرة :
- اتهمد شويا يا روميو احسن ما تقع ع وشك بعدين ... انت بس ادعي ربنا يعديها على خير وحكمت هانم متقلبهاش علينا.
- يارب يا فاروق يارب.
أمَّن محمد بصدق ورحل إلى مقر عمله أما فاروق فظل يطالع أثره حتى تقلصت شفتاه على شكل ابتسامة وتنهد مرددا بخفوت الواد ده كبر بجد وبقى راجل يُعتمد عليه