رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الثالث3 والرابع4 بقلم رحمه سيد

رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الثالث3 والرابع4 بقلم رحمه سيد

تحركت "فيروز" بأقدام مترددة نحو مكتب "فارس" الذي استدعاها على عجالة ما أن فارقه شريكه "خالد" فبدا وكأنه يدب في قلبها سكين بارد السن، يُعذبها قبل أن يمزق قلبها. 
وقفت للحظات أمام السكرتارية الخاصة بمكتبه، تود لو تسألها عن وجود شريكه "خالد" او عدمه، فلابد ألا يراها او يعلم بوجودها بالشركة ابدًا، بالاضافة لكونها لا تتمنى ابدًا لمح طيفه الأسود ولو على بُعد، فهي لم تنسى ما فعله معها بعد..! 
نفضت أطراف ذلك السؤال المُلح على لسانها، وتمتمت بصوت حاولت جعله هادئ:
-فارس بيه طلبني. 
اومأت الاخرى مؤكدة بجدية:
-ايوه فعلًا مستنيكي، اتفضلي. 
دلفت لمكتبه وهي تأخذ شهيقًا ثم زفرته على مهل، طاردة معه رذاذ قلق أمطرها به عقلها المُلبد بالمخاوف، وقفت أمامه بثبات تُحسد عليه، وسألته مباشرةً:
-حضرتك طلبتني يا باشمهندس، في حاجة؟ 
للحظات لم يرفع رأسه عن الأوراق أمامه، فأحست وكأنه مديرها في المدرسة الذي سيُعاقبها على قلة تهذيبها ! 
رفع عيناه ببطء لها ولمحت فيهما الاستنكار لسؤالها، ثم ترجم ذلك السؤال لسانه حين سألها:
-أنتي شايفة إنك معملتيش حاجة؟ 
هزت رأسها نافية وهي ترفع كتفاها معًا:
-لأ مش عارفة، ياريت حضرتك تعرفني. 
-أنتي ازاي يا باشمهندسة يا عاقلة يا رزينة تدلقي القهوة في نص الشركة وتجري زي الأطفال من غير حتى ما تنادي حد من الاوفيس يمسح اللي عملتيه. 

جاءتها حروفه شديدة اللهجة موبخة، تبًا لقد ظنت أن لم ينتبه لها أحد، ولكن كالعادة حظها التعس يفرض رسمه المُذل لها ضاربًا بكل ظنونها عرض الحائط. 
لم تجد ثغرة في ذلك الموقف تستطع العبور بها من اسفل حجر الصرامة الشديد الذي وضعه بكلماته، سوى أن تتعمد الظهور كبلهاء غاضة البصر عن كبريائها قليلًا.. 
لذا بررت بابتسامة قطرت بما شابه بلاهة الأطفال:
-معلش يا باشمهندس أصلي كنت عايزه أدخل الحمام بسرعة. 
ازداد الاستنكار تجمهرًا وسط حروفه وهو يردد خلفها:
-الحمام ! 
صمت لحظة ثم واصل بنفس الصرامة والشدة:
-مينفعش يصدر منك فعل زي دا، أنتي كدا مستهينة بمكانة الشركة اللي أنتي شغالة فيها، دي مش سوق الجمعه. 
بملامح متجهمة اومأت برأسها موافقة:
-تمام، عن اذنك عشان ورايا شغل. 
ثم استدارت نفس اللحظة وغادرت مسرعة وكأنها تهرب من بين فكي الأسد الذي لا يكف عن الضغط عليها بأنياب صرامته وشراسته. 

بينما فارس يراقبها بعينين شاردتين غير مقروء ما يعم سطريهما، ويده تتلاعب بالقلم بين أصابعه قبل أن يثبته متنهدًا. 

                                    ****

دخل "عيسى" منزله الذي يقيم فيه مع شقيقه "حازم"صاحب العشرون عامًا، ووضع بعض المشتريات جانبًا على المنضدة وبدأ يبحث بعينيه عن شقيقه، لم يطول بحثه كثيرًا إذ اخترق الصورة شقيقه الذي خرج من غرفته، فقال عيسى بابتسامة هادئة:
-أي خدعة يا عم جبتلك كل اللي أنت عايزه. 
تفحص الأشياء التي جلبها عيسى ثم هتف بشيء من العتاب:
-كويس إنك فاكر إني عايش معاك. 
استنكر عيسى بشدة جملته:
-كويس إني فاكر !! هو أنا ليا مين غيرك أصلًا يا حازم عشان مافتكركش؟ 
هز حازم رأسه نافيًا وقد قرر مصارحته:
-أنا مبقتش في حياتك تقريبًا يا عيسى. 
رفع عيسى حاجباه معًا مدهوشًا:
-ليه بتقول كدا ؟! 
-مش عارف بقول كدا ليه؟ ولا عامل نفسك مش عارف؟ 
باغته حازم لأول مرة بنبرة بها هجوم جعل عيسى مأخوذًا بوقعه، فأجابه بصدق:
-لأ مش واخد بالي فعلًا يا حازم. 
أعترف حازم شاعرًا بكل الأسف:
-أنت بعدت عني خالص يا عيسى، أنت كنت بتحكيلي على كل حاجة في حياتك، لكن دلوقتي أنا اتفاجأت زيي زي الناس الغريبة إن أنت هتتجوز، وكمان مش هتعمل فرح. 
لم تمر تلك النقطة على بصر عيسى الذي إلتهى عقله تمامًا وأصبح ما يفكر به ويخطط له حاجز أمام عيناه.. 
لذا تنحنح وهو يسحب حازم معه نحو الأريكة برفق:
-تعالى بس يا حازم وهفهمك كل حاجة. 
جلسا معًا على الأريكة، فواصل عيسى نافضًا عنه غبار الاتهام الذي ألقاه عليه:
-كل الحكاية إني قررت أتجوز وأستقر، الموضوع مفيهوش قصة يعني، وموضوع الفرح دا بسبب ظروفها أنت عارف يعني الناس مش بتسيب حد في حاله، وكمان عندهم حالة وفاة. 
رفع الاخر حاجبه الأيسر في استهجان واضح وردد:
-عايز تقنعني إن عيسى اللي ماكنش بيفضل مع واحدة أسبوع، قرر فجأة يتجوز ويستقر !! 
ضرب عيسى كفًا على كفٍ نافيًا إصرار حازم على حقيقة يحاول دفنها داخله حتى لا يعرض شقيقه لأي سوء او يُدخله في اعماله. 
ثم أردف في حنق اجاد رسمه:
-ما يمكن ربنا هداني يابني، وقررت استقر وافتح بيت، إيه المشكلة! دا أنت غريب أوي يا حازم. 
استدار بجسده نحوه وأمسك بمؤخرة رأسه يقربه منه وهو يؤكد عليه في حزم حاني:
-يا عبيط أنت اخويا، يعني أبعد أي حد عني إلا أنت، دا أنت كل اللي فاضلي في الدنيا دي ياض. 
بدأت الابتسامة تتلمس أطراف ثغر حازم وهو يهز رأسه مؤكدًا قول شقيقه الذي يعلم دومًا كيف يحتويه مبددًا ما يعتريه من تراهات. 

                                    ****

بعد يومان تقريبًا.. 

كانت "كارما" تتظاهر بوضع الملابس المبللة على الحبال حتى تجف، بينما هي في الأساس تتعمد الابطاء في ذلك حتى تتسنى لها الفرصة الوقوف في الشرفة التي تعشق الوقوف بها والشرود في ملكوت الخالق، ولكن دومًا تصبح قرارات واوامر زوج والدتها المقص الذي يقص شريط أمنياتها وأحلامها. 

انتبهت عيناها لاحدى الفتيات من اللاتي يسكنَّ في الحارة جوارهم، وهي تتجه صوب المتجر الخاص بـ عيسى، ولكن لم تعر الأمر كافة الاهتمام، وأكملت ما تفعل، او هكذا تظاهرت.. 

بينما في الأسفل، اعتلت ثغر "عيسى" ابتسامة تعج بالعبث ما أن لمح قدوم "داليا" جارتهم التي يعلم كل العلم أنها تأتي المتجر من أجله وليس من أجل الشراء كما تَدعي، ولكن ببساطة... يعجبه ذلك، بل ويغذي غروره الذكوري! 
اقتربت منه ببطء تتسكع في خطواتها فخورة بملابسها الضيقة التي تبرز مفاتن جسدها الانثوي، ثم بادرته بشيء من الغنج:
-ازيك يا عيسى، عاش من شافك مختفي ليه الفترة دي؟
هز رأسه مجيبًا بابتسامة فاترة:
-الحمدلله بخير، معلش في كام حاجة شاغلة دماغي الفترة دي أخلص منها.. وأفوق لكل حبايبي. 
أنهى كلمته الأخيرة بلمعة شقية زينت سوداوتاه، فاتسعت ابتسامة الاخرى وهي تلتقط بعض الاشياء متمتمة برقة مبالغ فيها:
-ربنا معاك، ماتطولش الغيبة علينا بقا، أنت عارف أنت غالي علينا قد إيه. 
هز رأسه مؤكدًا وذات اللمعة المصاحبة لعينيه تبرق بشقاوة محببة للجنس الاخر:
-عارف طبعًا يا قمر، ربنا يديم الود اللي بينا. 

في نفس الوقت كانت "كارما" تكاد تقفز من الشرفة، وكادت عيناها تخرج من مجحريها وهي تحاول تدقيق النظر فيما يحدث، وقد استعرت وعَلت شراهة الانثى داخلها، تراهم ما الذي يثرثرون به كل هذه الدقائق، أيعجبه تملق تلك الشمطاء الملونة ؟! 

رأتها وهي توشك على الخروج من المتجر، فقفزت لعقلها فكرة شياطنية ترضي شره وكيد الانثى داخلها فأمسكت بوعاء الملابس البلاستيكي والذي كان به مياه متبقية من الملابس المبللة، وما إن خرجت "داليا" من المتجر حتى سكبت عليها المياه، فشهقت الاخرى فزعة وقد فسد مظهرها وخصلاتها وكل شيء، بينما كارما تراقبها بتشفي وابتسامة راضية كامل الرضا عما فعلت، وظلت ثابتة بوقفتها حين رفعت الاخرى رأسها ترمقها بنظراتٍ مشتعلة حاقدة، ثم ركضت تختبئ عن أعين الناس بمظهرها الذي أصبح رث، فيما نظر عيسى لكارما بحنق ظاهري ولكنه في داخله يحاول بكل القوة التي يمتلكها كبت ضحكته حتى لا تنفجر مبددة عبوس وجهه الزائف، فتوعدته كارما بعينيها وأشارت له بيدها وهي تردد بصوت حرصت أن يسمعه وألا يكن صارخ في نفس الوقت:
-استنى نازلالك. 
للحظة أحس عيسى أنه طفل مشاغب ووالدته قادمة لمعاقبته، تنحنح وهو يعود لوقفته الجادة مرة اخرى، متأهبًا لهجومها في اي لحظة، فهو كان يعلم أنها ستُخرج حتمًا الغضب الكامن داخلها منذ اخر مرة بسبب ما قاله. 

وبالفعل دقائق معدودة وكانت أمامه، تهدر فيه كما توقع:
-إيه المسخرة اللي كانت حاصله دي؟ الناس كلها عارفة إن كتب كتابنا بعد أقل من شهر، أنت لازم تحترم وجودي، وإلا لو هتفضل تتعامل بالطريقة دي يبقى نفضها سيرة. 
اخشوشنت نبرته وهو يحذرها لاجمًا شراستها اللحظية التي اشتدت وطئتها:
-هي لبانة في بُقك ولا إيه كل شوية تهدديني!! لا اصحي أنا محدش يهددني أنا عيسى الشاذلي. 
غمغمت بتلقائية بنبرة خفيضة لم يسمعها:
-حصلنا القرف. 
فأرهف عيسى السمع مضيقًا عينيه:
-بتقولي إيه؟ 
هزت رأسها وهي تشير لنفسها ببراءة تناقض الشراسة السابقة التي نفذ مخزونها الان:
-أنا ؟ خالص مبقولش. 
تأكدت شكوك عيسى وزاد إصراره:
-لأ قولتي، متبقيش جبانة وعَلي صوتك، أنا حاسس كدا وكأنك بتشتميني؟
هزت رأسها نافية بعينين متسعتين وكأنه ألقى على عاتقها تهمة شنيعة:
-أنا مبعرفش أقول الحاجات دي. 
إلتوت شفتاه بابتسامة صارخة بالتهكم وهو يردد:
-يااااه على البراءة. 
تابعت بزهو :
-طبعًا أمال أنت فاكر إيه؟ المهم خلينا في موضوعنا عشان احنا الاتنين نكون متفقين، لازم تحترم وجودي زي منا محترمة وجودك. 
كان الغرور الذكوري البحت من نصيب حروفه وملامحه التي انفرجت بغرور مستفز للواقفة أمامه وهو يقول بقلة حيلة مصطنعة:
-طب أعمل إيه في وسامتي اللي بتشدهم ليا وتخليهم يموتوا فيا؟! مش ذنبي يا كارما، القبول دا بتاع ربنا، اعترضي على قضاءه بقا. 
استرسلت ساخرة:
-لا طبعًا أعترض ازاي، ربنا يقوي إيمانك يا شيخ عيسى.
-وإيمانك يا أخت كارما. 
تمتم بها ببرود وابتسامة سمجة، ثم أردف:
-وبعدين أنتي نازلة تتكلمي كدا ليه دي زبونة وواقفة عادي بتشتري! 
-وقفتكم مش وقفة عادية، وقفة حاجة تانية، وياريتها تستاهل دي حتى فِيك! 
أضافت بجدية وهي تتذكر تلك المقيتة، فردد عيسى مستنكرًا:
-فِيك ؟ 
أكدت ترسم الشفقة الزائفة:
-والله أنا بدعي ربنا يبعد الغشاوة اللي على عنيك، أصل أنت باين عليك أعمى البصر. 
تجاهل ما قالته وعاد ذلك الصبي الشقي للظهور حين استطرد بنبرة رجولية ماكرة عابثة:
-هي فِيك، وأنت بقا الطبيعي الأصلي يا جميل؟! 
لُجم لسانها كالعادة وهي تفر هاربة كما توقع بعد أن احتل الخجل قسماتها، فابتسم عيسى يعترف داخله أن العبث معها يروق له جدًا، وأنها نوع جديد من النساء لم يتعرف عليه بعد! 

                                   ****

في الشركة.. 

كانت "فيروز" تعمل مع احد الزملاء لها في العمل، والذي كان شخص عابث تمقته ولكنها لا تملك حق التقرير بإمكانية العمل معه او لا.. 
وبينما كانت تقف امام المكتب وتنظر للجهاز اللوحي على المكتب بتركيز في عملها، كان الاخر يقف جوارها متصنعًا التركيز في العمل، ولكنه في الحقيقة كان منشغلًا بالتركيز في جمالها الذي سلب منه نظراته عنوة، بل وكالعادة اشتعل داخله العبث الذي يصاحبه معظم الوقت، وخاصةً أنها لا تعطيه أي تركيز او اهتمام، فقرر مداعبتها بخفة وعبث طفيف ليرى رد فعلها ثم ربما بعدها يعجبه الأمر وتزداد جرعة العبث! 

اعتلت الابتسامة الماكرة ثغره، ثم مد أصابعه وببطء كان يلامس فستانها حريص على ألا يمس جسدها فعليًا فربما تهتاج فرائصها مفتعلة مشكلة.

وبالفعل تصنمت فيروز مكانها للحظات تستوعب ما يحدث، وما أن تأكدت من تعمده فعل ذلك حتى زمجرت فيه باهتياج:
-أنت بتمد إيدك على جسمي يا حيوان يا زبالة. 
إتسعت عينا الاخر نافيًا بشدة وهو ينظر حوله خشية سماع اي شخص وتدخله:
-أنا ! كدابة محصلش، أنا ملمستكيش. 
عَلى صراخها اكثر وهي تدفعه بعنف حتى ارتد للخلف عدة خطوات:
-ما أنت كنت خلاص هتعمل يا رمرام يا قذر. 
بادلها هو الاخر الصراخ ببجاحة مذهلة وكأنه على حق:
-احترمي نفسك أنا مش قذر أنا محترم غصب عنك وعن عين أهلك. 
هزت فيروز رأسها ساخرة وبنبرة فجة تابعت:
-محترم اه منا واخدة بالي، دا أنت متحرش يالا! أهلي دول أنضف من عشرة زيك يا متحرش. 
-بطلي ترمي بلاكي عليا، أنتي عشان حلوة شوية خلاص مفكرة كل الناس هتموت وتتلزق فيكي، لا فوقي يا ماما أنا مهندس محترم قد الدنيا. 
تشدق الاخر بتعنت وتعالي لا يليق بحقارته السابقة، فناطحته فيروز بحروفها المشتعلة غضبًا:
-أنت متسواش ربع جنية في سوق الرجالة يا زبالة ياللي معدتش عليك تربية. 

تجمع باقي الموظفين حولهما وبدأوا يحاولون فض ذلك الشجار العنيف، بينما فيروز لا تستطع السيطرة على وحش الغضب الذي اهتاج داخلها كما لم يهتاج من قبل، مُصرًا على إلتهام ذلك الحقير المقيت أمامها، فهو لم يكتفِ بالحقارة التي فعلها، بل وينفيها عن نفسه راميًا بثقلها فوق رأس فيروز ! 
بعد قليل جاءهم شخص أعلى منهما في العمل، وقال بنبرة حازمة:
-انتوا الاتنين اتفضلوا على مكتب فارس بيه حالاً. 
تحرك الاخر دون كلام، تتبعه هي بنظراتها المحتقرة، وبالفعل وصلا مكتب "فارس" الذي كان ينتظرهما في تأهب.. 
وما إن دخلا حتى هبت عليهما وصلة التوبيخ المرتقبة:
-إيه اللي أنا سمعته دا يا باشمهندسين، دا أحنا لو في حضانة مش هيحصل كدا. 
ثم ضرب على المكتب بخفة واسترسل بنفس الصرامة:
-أحنا في شركة راقية محترمة، المفروض نتعامل برقي يليق بيها وبينا، مش نتخانق ونفرج علينا الناس كلها بالطريقة دي ! 
صمت برهه ثم أضاف محذرًا:
-أتمنى اللي حصل دا مايتكررش منكم تاني، لأن ساعتها رد فعلي هيبقى مختلف، اتفضلوا على شغلكم. 
إنصرف الاخر الذي تراشقت به نظرات فيروز المشمئزة، بينما فيروز لم تتحرك مكانها بل ظلت محافظة على وقفتها في جمود وإصرار. 
رفع فارس حاجباه معًا وهو يسألها مستنكرًا:
-انتي مستنية عندك بتعملي إيه؟ 
أجابته بنبرة جامدة تحلت بالجراءة:
-حضرتك هزقتني معاه من غير ما تعرف سبب الخناقة إيه. 
فأكد على حديثه السابق بنفس التبلد والصلابة:
-أيًا كان سبب الخناقة أحنا مش ف الشارع عشان تمسكوا في بعض كدا. 
تمردت طباع شخصيتها الحقيقية منتفضة بعد أن حُبست أسفل لوحة الشخصية التي رسمتها بريشة مخططاتها، وصاحت بانفعال:
-دا أنا لو في مكتب رئيس الجمهورية هقلع الجزمة واديه على دماغه. 
بقليلٍ من الانفعال وبخها فارس محذرًا:
-أنتي في شركة محترمة ياريت تختاري طريقة كلامك.
صمتت لدقيقة تقريبًا محاولة تنظيم أنفاسها وتحجيم وابل الغضب الذي تدلى منها:
-طالما حضرتك مش عايز تعرف السبب اللي يخليني اتخانق معاه، لو سمحت أنا مش عايزة اشتغل في نفس المكان معاه. 
اعترض بنفس التبلد والجدية:
-دا مش حسب رغبة الموظفين، الشركة ماشية بقوانين. 
عادت للاهتياج من جديد بعد أن استفزها بتبلده المستمر:
-منا مش هعرف أشتغل مع حد مد ايده عليا. 
استفسر بتركيز:
-مد إيده عليكي ازاي؟ 
-تقدر حضرتك تشوف الكاميرات وهتعرف. 
استطردت بغلاظة تنم من حنقها، فهز فارس رأسه موافقًا وبالفعل اطلع على المقطع في الكاميرات، ثم هز رأسه قائلًا:
-تمام تقدر تتفضلي على شغلك وأنا هيبقالي تصرف معاه متقلقيش. 
-بس كدا ؟!! 
غمغمت بها ذاهلة، لا تستوعب كم البساطة المحدجة من بين حروفه، فأومأ برأسه مؤكدًا:
-أيوه، اتفضلي عشان جايلي ضيوف دلوقتي. 
بقيت دقيقة تحدق به بعدستيها اللاتي تشعان غيظًا وغضبًا، ثم أجبرت قدماها على التحرك، مذكرة نفسها أنها لا يجب أن تتمادى لدرجة أن تفقد عملها، ولكن ستصل حتمًا لمبتغاها حتى وإن سلكت طريق اخر ملاوع دونًا عن ذلك الطريق المُربض بالعقبات. 

                                     ****

بعد يومين تقريبًا... 

كان "فارس" في مكتبه يهتم بعمله بإتقان وتركيز، حين طُرق الباب فأذن للطارق بالدخول، أتاه "دياب" الذي تربض التوتر بين معالمه، فنظر له فارس وعيناه تسأل السؤال الذي لم ينطقه لسانه بعد.. 
تنحنح دياب قبل أن يقطع الصمت قائلًا:
-فارس بيه كنت عايز أقول لحضرتك حاجة مهمة. 
-اتفضل. 
تمتم بها فارس بهدوء يحثه على البوح، فجلس دياب على الكرسي أمام المكتب، وأضاف بحروف بها تلجلج حاول تحجيمه:
-حاجة بخصوص فيروز. 
ازدادت جرعة الانتباه حقنًا بدماء فارس حين ذُكر اسم تلك الفيروز، فهو لم يتقابل معها اليومان الماضيان، لا يدري أ هو من حسن حظه ام من سوءه!؟ 
-قول يا استاذ دياب أنا سامعك. 
قالها فارس يحثه على الإسراع، بينما كان التردد في النطق من نصيب دياب، ولكنه عزم على النطق مستجمعًا ثباته و..... 


الفصل الرابـع : 

رص "دياب" حروفه بتركيز وجدية انتهجتها حروفه:
-فيروز كل شوية تفتح معايا الموضوع ومش عايزه تشتغل معاه خالص. 
همهم فارس كعلامة على إنصاته، فتابع دياب:
-الوضع بينهم محتد جدًا، والقسم كله مشدود ليهم. 
سأله مستنكرًا:
-يعني إيه؟ 
فسر له دياب محاولًا نقل الصورة كاملة له:
-كله بيتابعهم وابتدا يكون في تقصير في الشغل، وبصراحة لو عايز رأيي أنا شايف إننا نفصلهم عن بعض طالما دا متاح بالنسبالنا. 
وعندما لم يستشعر نبض الاعتراض في معالمه المستكينة، أكمل:
-حسين باشمهندس شاطر جدًا، وفيروز كمان طاقتها حلوة ونشيطة وهتفيد الشركة جدًا فـ مينفعش برضو نستغنى عنها. 
اومأ فارس برأسه يؤيد شهادته في حقيهما، ثم سأله يحاول الوصول لبذرة الموضوع في عقله:
-أنت شايف إيه الحل يعني؟ او المكان المناسب ليها؟ 
هز دياب كتفاه كنايةً عن الحيرة التي تعتريه، ثم استرسل بينما يتظاهر بالتفكير:
-والله يا فندم أنا نفسي مش عارف ومفيش مكان شاغر لفيروز، وحسين هو اللي ماسك المشروع وهو الأقدم، فـ أنا عندي اقتراح بس مش عارف حضرتك هتوافق عليه ولا لأ. 
حثه فارس على المتابعة:
-اقتراح إيه قول؟ 
بدأ يخبره على مهل ما حفظه في باطن عقله:
-أنا عرفت من سكرتارية المكتب بتاعت حضرتك إنهم محتاجين حد يمسك شغل حضرتك المتعلق بالكمبيوتر، فممكن نطلع فيروز؟ 
صمت فارس دقيقة تقريبًا مستسلمًا لأفكاره المشوشة التي انتدبها شعور غير مُفسر أنه يرغب بالموافقة. 
وبالفعل، قطع الصمت معلنًا وصول دياب لنهاية مسيرة ما خطط له:
-طب تمام يا استاذ دياب، فعلًا اقتراحك كويس، خلاص بلغهم بالكلام دا في السكرتارية. 
اومأ دياب موافقًا في طاعة وبابتسامة هادئة:
-تمام يا فندم. 
ثم انصرف بهدوء، تاركًا فارس الذي إنشغل لجزء من الثانية بتفسير ذلك الشعور الذي ينتابه للمرة الأولى.

                                   **** 

بعد قليل... 

كانت "فيروز" تنقل اشيائها من المكتب الذي كانت تعمل به، غافلة عن عينين مستذئبتين تتابعها وبسمة شامتة تلوح في أفق وجهه، عاد "حسين" بالكرسي للخلف وهو يضع قدم فوق الاخرى، معتقدًا أنها تحزم اشيائها لتغادر الشركة بعد العراك الذي أفتعلته لمجرد لمسة عابثة منه. 
انتبه لرنين هاتفه فأخرجه مجيبًا، ثم تجهمت ملامحه وهو يومئ برأسه:
-تمام. 
تحرك مغادرًا المكان متوجهًا صوب مكتب فارس كما اخبروه، دلف ليجد فارس يقف أمامه، ملامحه الصارمة تنذر بشرٍ قد اقترب. 
وقبل أن ينطق حسين كان فارس يُطلق حروفه التي شابهت الصواريخ في سرعتها وقساوتها:
-أنا شوفت اللي أنت عملته يا باشمهندس يا محترم، الحركات دي لو هتعملها يبقى مش في مكان محترم زي هنا ومش في مكان أكل عيشك، لو مش عارف تحط حدود لنفسك يبقى أحنا مش عايزينك معانا تاني، دا أول وأخر تحذير ليك. 
كاد حسين ينفجر صارخًا بوجهه نافضًا ثوب الاهانة المهترئ عن كرامته، ولكن.. لا يضمن أن يجد وظيفة مناسبة بمكان مناسب وراتب مناسب ايضًا، لا يضمن ألا يضعه فارس برأسه فيضع في سجله العملي وصمة سوداء بكونه متحرش فيقضي باقي عمره دون أن يجد عمل في مجاله!  
لذا اضطر أن يخنع هازًا رأسه يبتلع تلك الاهانة على مضض، ثم انصرف.. 
وفي نفس الوقت كانت قد انتهت فيروز من لملمة ما يخصها، وتوجهت نحو المكتب الجديد الذي ستعمل به والذي كان في الأعلى، وقريب نوعًا ما من مكتب فارس، وحين كانت تمر من أمام مكتب فارس رأت "حسين" يخرج من مكتب فارس بملامح يبدو عليها عبث شياطين الغضب بها، تخطاها دون أن ينطق بكلمة وهو يرميها بنظرة مشحونة، اقتربت كارما من السكرتارية الخاصة بـ فارس وسألتها:
-في إيه ماله دا ؟! 
برمت الاخرى شفتاها، قبل أن تجيبها بصوت مكتوم ونبرة ذات مغزى:
-شكل باشمهندش فارس عنفه بالكلام شوية. 
رفعت حاجبها الأيسر غير مصدقة، والخبر كالمفرقعات نفخ صدرها بشعور النصر والانتشاء. 
ثم هزت رأسها وتحركت من أمامها متوجهه لمكان عملها الجديد. 

                                   ****

بعد اسبوعين... 

تم عقد القران وكانت "كارما" تتلقى التهنئة من أقرب الأقربين الذين حضروا حفلة عقد القران الصغيرة بدلًا من حفل الزفاف، وقفت كارما مع "فيروز" أمام باب منزل عيسى الذي ستستقر به معه، احتضنتها فيروز بود حقيقي وهي تهمس لها:
-ربنا يسعدك يا كارما، أنتي طيبة وتستاهلي كل خير. 
إلتوى ثغر كارما بابتسامة مهتزة دمر ثباتها التوتر الذي كان يلفح بها، وتمتمت بحروف تلاقت بصعوبة:
-يارب يا فيروز، ربنا يسترها. 
ضغطت فيروز على كف يدها برفق حازم تمدها بالدعم اللازم لتتخطى خيالات مُرعبة مرسومة لها على خط البداية:
-متقلقيش، أنتي قدها. 
اقتربت منها والدتها مقبلة وجنتاها وهي تهتف بصوت يغدقه الحنان:
-ربنا يسعدك يا روح قلب ماما. 
هكذا استمرت الدقائق التي تسبق دخولها لعرين تخيلاتها المرعب، حيث عيسى الذي كان يرتدي حلة سوداء أنيقة زادته جاذبية فوق جاذبيته، وخصلاته السوداء مصففة بعناية لتبرز حلاوة ملامحه الرجولية، سالبة الانبهار من بين أروقة قلبها الأبي. 

دلفا كلاهما بعد قليل، فسارت هي دون أن تنتظره وجلست على الأريكة في الصالون، منقبضة الوجه متصنمة الجسد تحرك قدميها دون توقف في حركة بكماء كانت حاملة عنوان التوتر الواضح. 
فاقترب منها عيسى بهدوء، وجلس جوارها ثم تنحنح متسائلًا:
-مالك ؟ 
ابتعدت خطوة في جلستها عنه وهي تغمغم:
-مفيش مفيش بس متقربش مني. 
ارتفعت رايات الذهول على معالم وجهه، وردد مستنكرًا فعلتها وقولها اللذان أشعراه أنها في حرب نفسية خفية لا يعلم عنها شيء:
-هو أنا عملت حاجة! دا أحنا لسه داخلين. 
ضغطت على قماش فستانها الأبيض الرقيق بعنف لا يليق برقته، ولم تتوقف حركة قدميها بينما عيناها تنظر بالأسفل لنقطة لا يراها ! 

غرق في تحليل ردود أفعالها، وبدأ يعدد سمات شخصيتها بدءًا من كونها غير جريئة وانتهاءًا بنيل التوتر منها دون عناء وحركات جسدها المتشنجة..

ولا يدري كنه الشيء الذي يجذبه لأسفل كالرمال المتحركة ويجعل قدماه تُغرس أكثر في ذاك التحليل، فهو كعيسى لم يكن يسرق نظراته للمرأة سوى جمالها، ولكنها ربما يكمن جمالها في روحها البريئة وشخصيتها المختلفة التي تجذبه كالمغناطيس ليكتشفها. 
قطع الصمت حين استعار نظراتها بقوله الذي أثار حفيظتها:
-انتي ليه متوترة كأنك قاعدة مع متحرش؟! أنا عمري ما هبصلك. 
حاول التملص من تهمة رآها مُنصبة له في عينيها، فاصطدم بالإشارات الحمراء لأي فتاة وخاصةً هي، أشعلت كلماته لهيب بدأ يحرق روحها الملتهبة اصلًا بشعور النقص. 
فحاولت رد الصاع صاعين له بقولها الغليظ:
-والله سبب توتري واضح وبعدين أنت سمعتك سبقاك. 
رفع حاجباه معًا وهو يستنكر مرددًا بشيء من التهكم:
-سمعتي سبقاني! مالها سمعتي أنا سمعتي زي الجنية الدهب. 
هزت رأسها مؤكدة بسخرية بحتة:
-اه طبعًا طبعًا. 
ثم حولت نظراتها للمنزل من حولها وهي تسأله منهية ذلك الحوار السخيف:
-فين شنطي؟ 
رد بهدوء:
-في الاوضة. 
توجهت نحو الغرفة المنشودة دون أن تتفوه بالمزيد، وبعد قليل تفاجئ عيسى أنها أغلقت الباب خلفها وكأنها تطرده دون مقدمات خارج الغرفة ليظل في الصالون، لأن الشقة بها غرفة وحيدة. 
تحرك نحو الغرفة وفتح الباب فجأة، ففزعت كارما التي كانت تقف شاردة أمام الشرفة تسترجي التوتر أن يترحل عن رحابها، وهدرت فيه في نزق:
-مش تخبط قبل ما تدخل!!
تصنم عيسى مكانه للحظات، وداخله يجهر للمرة الأولى أنها جميلة، رغم بساطة ملامحها ولكن كأن وهج روحها اصطبغت به ملامحها فأعطتها بريقًا قادر على مزع قوانين الجمال التي كانت تحكم رؤياه، وبسط قوانين جديدة كلها تُشكلها هي والبراءة الساطعة في عينيها وملامحها.. 
بينما هي كان صدرها يعلو ويهبط وقد زاد ثقل التوتر اطنان، فاقترب منها عيسى ببطء، ولا يدري لما سألها بنبرة خافتة وهو يتفحص ذلك الفستان الأبيض الرقيق الذي كان دون أكمام وهي ترتدي وشاح عليه، تجذبه كل دقيقة بكفيها الصغرين محاولة تغطية جسدها الغض:
-دا الفستان اللي انا شوفته عليكي؟ 
فكرت داخلها متفاجئة، أيُعقل أنه يهتم بتفاصيلها، ام هي تخيلات سخيفة أنتجتها رغبتها المُلحة في مبادلته إياها إعجاب قهري فرضه عليها..! 

ولكن في الحقيقة هو شخصية تولي تركيزها لكل شيء وأصغر شيء من حوله، وربما ليس شيء خاص بها.. 
هزت رأسها نافية وهي تنطق مجيبة سؤاله بعد صمتٍ طال:
-لأ مش هو. 
-غيرتيه ليه؟ 
لعنته داخلها ألف مرة، فهو يتعمد جعلها تذوب في حضرته دون عناء، بنبرة الرجولية الهادئة المثيرة، وقربه المُربك، تنحنحت محاولة استجماع رباطة جأشها:
-غيرته كدا عادي. 
-مع إنه كان حلو؟! 
ضمت شفتاها معًا بقوة ضاغطة عليهم تجاهد حتى لا تصرخ بوجهه أن يدعها وشأنها بينما هو تلقائيًا وبغريزة ذكورية لمعت عيناه وهي تراقب ضغطة اسنانها اللؤلؤية على شفتيها الممتلئة.. 
ثم اقترب منها ببطء يسألها هامسًا قاصدًا التلاعب بأعصابها وعيناه تأبى التزحزح عن مرمى شفتاها عمدًا:
-مالك متوترة وخايفة مني ليه يا كارما؟ مش قولتلك متخافيش مني. 
إنحبست أنفاسها وقد تسارعت دقاتها اللعينة مستجيبة لعبثه في صخب وتوتر مفرط.. 
وظلت تفتح فمها وتغلقه أكثر من مرة وشفتاها تفتش عن كلمات مناسبة، حتى وجدتها أخيرًا فرصتها في تلعثم:
-على فكره أنا مش خايفة خالص. 
أمال عيسى رأسه موازيًا وجهها ثم همس بخشونة واثقة ماكرة:
-خالص خالص؟ 
ثم وبنفس الهدوء والبطء المدروس الماكر، كان يزيح خصلة شعرها التي كانت تحتل جانب وجهها، وعمدًا أصابعه الخشنة تحتك بوجنتها الناعمة لتصدر الاحتكاكة شرارة عاطفية خفية نشبت في طرف قلبها العذري الذي يخضع لعبث أصابعه الخبيثة لأول مرة، ثم تشدق بهمس رجولي خشن به لمسة من التهكم:
-امال العرق دا إيه؟ شبورة معديه على وشك؟!
ابتعدت خطوتان للخلف، ثم زمجرت فيه بعصبية تأبى أن يتلاعب بها بهذه الطريقة:
-بطل طريقتك دي معايا، وياريت تلتزم باللي احنا متفقين عليه. 
-أنا ملتزم هو أنا عملت حاجة ؟! أنتي اللي عامله زي الريشة أي نسمة هوا بتهزها. 
هتف ببراءة مستفزة لا تليق بمكره وعبث الشهير، وقد استفزها من جديد، ولكنها فضلت إنهاء تلك المشاجرة فأضافت من بين أسنانها:
-اطلع برا. 
وضع يداه معًا في جيب بنطاله، وأجاب بنبرة فاترة:
-مفيش غير اوضة واحدة، مضطرين ننام فيها احنا الاتنين، لو مش هتقدري مفيش مشكلة تقدري تنامي على الكنبة برا. 
إتسعت عيناها صدمةً من وقاحته وبروده، ثم وبعناد مدت يدها تجذب حقيبتها وتغادر الغرفة تحت أنظاره.. 
*** 

بعد قليل، كانت كارما لازالت تتلوى على الأريكة وكأنها أصبحت جمرات من الغيظ أسفلها، وبدأت تستعيد كلماته المستفزة لتنهض جازة على أسنانه تنوي الثأر منه، وكأنها قد استفاقت من الغيبوبة العاطفية المُسكرة التي زجها بها، وما إن اقتربت من باب الغرفة وقبل أن تطرقه سمعته يقول بصوت منخفض ولكن ليس كليًا:
-يابني أنت صدقت إني ممكن أبص لواحدة زي دي! من قلة البنات يعني؟ دي ساذجة. 
تجمدت مكانها وتجمد مكنون إحساسها في تلك اللحظات، وبدت كمن فقدت القدرة على الاستيعاب..!! 

                                 ****

في الشركة... 

كانت "فيروز" جوار السكرتارية الخاصة بـ فارس، والتي كانت تجري بعض اتصالاتها، بينما كارما تنظر لمكتب فارس الفارغ في يوم فريد، فهو لا يتغيب عن العمل إلا في الظروف الطارئة جدًا.. 
نظرت للسكرتيرة قاطعة الصمت بسؤالها:
-يعني أنتي هتعملي إيه دلوقتي؟ 
سألتها قاصدة كيفية إيصال لمنزل فارس الجهاز اللوحي الخاص به والذي يعمل عليه، لأنه كما استشفت من حديثها مريض بحساسية الصدر ولا ينبغي أن يقم بأي مجهود، ولكن المشروع الذي يعمل عليه حاليًا معها.. لا يحتمل أي تعطيل اخر...
وكم كانت ممتنة لذلك المشروع الذي قربها من فارس أكثر ومن هدفها أكثر وأكثر..
انتبهت لاجابة الاخرى وهي تترك الهاتف متأففة:
-بحاول أشوف أي حد يوديهوله البيت، بس معرفش إيه الحظ دا. 
استغرقت فيروز دقيقة تقريبًا وعقلها ينسج خلف ستاره فكرة جديدة ستصبح وسيلة أسرع ستقربها من فارس، والتي كشفت الستار عنها حين أردفت مصطنعة اللامبالاة:
-أنا ممكن أوديهوله أنا، كدا كدا عايزه أتناقش معاه في كام نقطة في البروچيكت، وكنت خارجة بعد شوية. 
برقت عيناها بالارتياح وهي تسألها مؤكدة:
-بجد يا فيروز؟ مش هعطلك عن حاجة او هتبقى حركة سخيفة؟ 
هزت رأسها نافية ببساطة:
-لأ خالص مفيهاش حاجة ياستي الناس لبعضيها، وربنا يشفيه ويعافيه. 
-امين يارب، خلاص هروح اجبهولك على طول عشان مأخركيش. 
تمتمت بها وهي تتحرك بالفعل نحو مكتب فارس لتحضر الجهاز اللوحي، بينما فيروز تخبر نفسها أنه شيء عادي لجأت له بعد أن قدم لها الحظ فرصة على طبق من ذهب للمرة الاولى، وبالنهاية هو لا يعيش بمفرده بل كما علمت أنه يعيش مع جدته، فلن تصبح على إنفراد معه. 

وبالفعل بعد قليل كانت قد أخذت الجهاز اللوحي منها وغادرت الشركة متوجهة نحو منزله، ووصلت امام المنزل فلم تجده كبير ينم عن ثراء صاحبه، بل وجدته منزل بسيط واسع بعض الشيء وله حديقة صغيرة في خلفيته، فنالت ذائقته استحسانها.. فليست البيوت مَن تعبر عنا، بل نحن مَن نعبر عنها ! 

فتح لها باب المنزل، فوجدت ملامحه مُرهقة ذابلة بعض الشيء وقد إنسلتت منها الصلابة والصرامة اللذان ظنتهما جزءًا لا يتجزء منها، ولكنه رغم ذلك لم يفقد أناقته الرجولية المميزة بالملابس البيتية التي تراها به للمرة الاولى.. 
تنحنحت وهي تهتف بهدوء:
-ألف سلامة على حضرتك يا باشمهندس. 
اومأ لها برأسه مصطحبًا نفس الهدوء بحروفه:
-الله يسلمك يا فيروز، اتفضلي، تعالي نشرب قهوة في الجنينة الهوا فيها حلو. 
اومأت برأسها موافقة وبدأت تتقدم خلفه نحو الحديقة، وجدت على المنضدة متوسطة الحجم طعام يبدو أنه لم ينهه بعد، وانتبهت له حين قال بابتسامة خفيفة:
-اقعدي بقا افطري معايا كنت لسه بفطر. 
لم تستطع السيطرة على التعجب الذي أعلن نفسه الراعي الرسمي لملامحها وهي تتابع مشيرة للطعام:
-بتفطر فول بالبيض وطعميه وبصل ؟! 
اومأ برأسه مؤكدًا ببساطة وهو يهز كتفاه معًا:
-اه إيه المشكلة؟ 
تنحنحت بعدها مفسرة:
-مفيش مشكلة طبعًا، بس متوقعتش بصراحة تكون بتفطر الفطار الشعبي فول وطعميه وكدا، توقعت ألاقيك عامل فطار إتيكيت وكدا. 
ضحك فارس وراح يضيف مشاكسًا وهو يقلدها:
-إتيكيت بتسلم عليكي وبتقولك أحنا مش في مسلسل تركي وكدا. 
ها هي ترى خصلة جديدة من شخصيته المُغلفة بالصرامة والجدية، البساطة التي لا يتمتع بها كل ذوي الثراء الفاحش، ونكهة خفيفة من المرح الذي امتزج بكلامه. 
ابتسمت هي الاخرى ابتسامة حقيقية غير مصطنعة هذه المرة، ومن ثم أشارت له:
-طب خلاص إتفضل حضرتك خلص فطارك وأنا مستنية عشان في كام نقطة كنت عايزه أناقشهم مع حضرتك. 
هز رأسه نافيًا بجدية:
-لا لا أنا اصلًا كنت خلصت خلاص، ثواني هشيل الأكل وهكون معاكي. 
اومأت برأسها وجلست على احد الكراسي تنتظره وهي تتأمل الحديقة بورودها الرقيقة الرائعة، رأت احدى الوردات شبه ذابلة، وخرطوم المياه مرمي أرضًا جوارها، فنهضت لتمسك به، ثم فتحت صنبور المياه تنوي ريها، ولكن فجأة إنفجرت المياه بوجهها وقد إتضح أن الخرطوم به تمزق، ولولا سرعتها في إبعاده لكانت بللت ملابسها كلها وليس وجهها وخصلاتها فقط. 
غمغمت بذهول تكاد تبكي من حظها التعس حتى عندما نوت أن تفعل شيء جيد واخذت تتحسس خصلاتها المبللة ووجهها:
-يا نهار اسود يا نهار اسود. 
جاء فارس في تلك اللحظة ليتفاجئ بها على تلك الحالة الرثة، فاتسعت عيناه وهو يردد مصدومًا:
-إيه دا أنتي إتغرقتي!؟ 
لوت شفتاها بابتسامة خرقاء غلب عليها القهر وردت بتلقائية نابعة من حنقها:
-لأ ابدًا، لاقيت نفسي ماستحمتش بقالي كام يوم فقولت أقوم أخد شاور سريع عقبال ما تيجي. 
إنطلقت ضحكات فارس للمرة الأولى في حضرتها ولم يستطع كبتها متخيلًا مظهرها الفكاهي، فاعترفت فيروز داخلها وهي تحدق به أن حتى ضحكته الرجولية التي تراها للمرة الأولى مميزة فابتسمت تلقائيًا ببطء رغم بشاعة الموقف! 
تمالك فارس نفسه وهو يشير لها وبقايا الابتسامة عالقة بفمه:
-استني هروح أجبلك فوطة وجاي. 
اومأت برأسها وهي تعقد ذراعيها معًا في انتظاره، جاء بعد قليل وأحضر منشفة، تناولتها منه وبدأت تجفف خصلاتها البرتقالية، غير منتبهة لعينينه التي توهجت بالإعجاب الخفي والتي تستبيح النظر لها ولجمال ملامحها وهي تنحني قليلًا لتستطع تجفيف شعرها.. فبدت له برتقالة نضجة تغوي القديس لنكهتها المذهلة! 
استقامت في وقفتها بعد أن انتهت، ومدت يدها له بالمنشفة شاكرة:
-شكرًا جدًا. 
ابتلع ريقه وهو يتناول المنشفة منها، وعيناه تأبى التزحزح عن قطرات بسيطة لم تزول سقطت على رقبتها البيضاء الناعمة، ورغبة خبيثة داخله تلح عليه أن يمد يده متلمسًا طراوة جلدها ... 
رفع يده مستسلمًا لتلك الانتفاضة العاطفية الغريبة المتأهبة داخله، ولكن في اللحظة الأخيرة أحكم السيطرة عليها فمد يده مسرعًا على ورود خلفها مباشرةً وهو يقول بسرعة متدراكًا نفسه بعد أن لمح التعجب يسود معالمها:
-كان في حشرة وراكي هتقرصك. 
ثم ابتعد مسرعًا لاعنًا ومصدومًا من أفكار المراهقين الغريبة التي تيقظت وأيقظت غريزته الرجولية دون مقدمات في حضرتها !! 
-هروح أودي الفوطة. 
غمغم بها وقد تحرك بالفعل، يترك لنفسه المساحة والوقت لاستعادة رباطة جأشه بعد أن بعثرتها دون أي مجهود.... 

                                   ****

بعد فترة... 

كانت فيروز قد إنتهت من تبديل ملابسها بعد عودتها من منزل فارس، مصفقة لنفسها أنها نجحت في أخذ خطوة جديدة وكبيرة في طريقها بالتقرب منه كصديقة بعيدًا عن الشركة.. 
سمعت طرقات تصدح على الباب فنهضت مجيبة:
-أيوه جايه. 
فتحت الباب لتتصنم مكانها وهي ترى اخر شخص توقعته، حيث "شريك فارس" الذي كان تحاول التخفي عن عينيه الخبيثة المقيتة.. 
ها هو أمامها بذات العينين التي لم تكره قدرها، ويقول ببجاحة عهدتها منه:
-إيه يا فيروز مش هتقولي لخالك اتفضل ولا إيه؟! 


تعليقات