رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الحادي عشر11 والثاني عشر12 بقلم رحمه سيد

رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الحادي عشر11 والثاني عشر12 بقلم رحمه سيد

دخلت فيروز المكتب لتجد فارس في حالة عارمة من الغضب التي لم تره فيها قبلًا، وكأن بصيلات الغضب قد تأصلت داخله دون رجعة.. 
اقتربت منهم ببطء لتجده يزمجر فيهم غاضبًا:
-ازاي مش عارفين تحلوا الموضوع، احنا في شركة كبيرة والمفروض إني مشغل معايا اكفأ المهندسين. 
تنحنحت فيروز قبل أن تسأله قاطعة وصلة تعنيفه:
-حضرتك طلبتني يا باشمهندس. 
اومأ مؤكدًا برأسه، ثم اخبرها بحروف مقتضبة كحال ملامح وجهه:
-في ڤايرس على الجهاز المركزي بتاع الشركة وبالتالي نظام الشركة كله، ولسه مش عارفين يحلوا الموضوع. 
هزت رأسها وهي تقترب من الجهاز قائلة:
-هحاول وإن شاء الله نقدر. 
بدأت بالفعل تعمل على حل المشكلة، تحت أنظار فارس التي كانت مظلمة كـ ليل يتبختر به الشك كجنود خفية تتسلل تأهبًا لحرب على أهبة الاستعداد.. 
فلم يكن أمامه شخص يشوبه شائبة سواها ! 

مرت فترة وجميع مهندسين البرمجة يحاولون حل المشكلة، وبالفعل اخيرًا حلت فيروز المشكلة لتتعالى تنهيدات الراحة بعد العديد والعديد من المحاولات التي تحمل طابع التوتر بسبب مراقبة فارس لهم.. 

تنهدت فيروز وقد ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغرها وهي تردف:
-الحمدلله قدرنا نحل المشكلة. 
اقترب فارس منها، وبمعالم وجه باردة تخالف ما توقعت هتف بجفاف:
-كويس، شكرًا يا باشمهندسة.
أحست كل توقعاتها عن رد فعله تتناثر كالرماد أمامها بعدما أحرقها الواقع الذي حل! 
ولكنها لم تظهر شيء، وتمتمت بخفوت:
-you are welcome.  
ثم خرجت بعدها من مكتبه لمكان عملها، تتنهد ألف مرة وهي تتذكر كيف أدخلت ذلك "الڤايرس" عمدًا على الجهاز المركزي للشركة.. 
ظنت أنها بهذه الطريقة ستبدأ بالكسب الفعلي لثقته حين تحل هي تلك الكارثة..
ولكن تشعر أن ذلك الحاجز بينهما لم يزول، ربما هو سوء التفاهم بسبب اخر موقف ؟! 
على أي حال... الأيام القادمة ستظهر كل شيء.
هزت رأسها تؤكد ما توصل له تفكيرها، ثم عادت للتركيز على عملها من جديد.

                                   ****

كان "عيسى" ينام على الأرض كعادتهم مؤخرًا، بينما كارما مرتاحة على فراشه، فكر بغيظ وهو ينظر للأعلى حيث تغط هي في نوم عميق، وهو ينخر الألم عظامه نخرًا بسبب النوم على تلك الأرضية الصلبة الغليظة..! 

اخذ ثانيتين وهو يفكر.. لما لا ينام جوارها؟! 
عزم على جعل ما فكر به حيز التنفيذ، فنهض ساحبًا وسادته معه ووضعها على الفراش جوار كارما، ثم تمدد عليه وهو يتنهد بارتياح لم يغمره ليلًا مؤخرًا.. 

تقلبت كارما تجاهه في غمرة نومها ووضعت ذراعها على صدره دون وعي وهي تغمغم بكلمات غير مفهومة، فهز عيسى رأسه وهو ينظر لقدمها التي وُضعت على قدمه ويدها الموضوعة على صدره، وهمس بتبرم:
-بدأنا بقا.. اتاريكي خايفة أنام جمبك لتتفضحي! 
أبعد يدها برفق بعيدًا عنه، ثم أغمض عينيه ينوي الغوص في النوم، ولكنها لم تسمح له وكأنها أقسمت على زعزعة ثباته إن وُجد! 
حيث استدارت على جانبها ناحيته، ووضعت رأسها على صدره، تحديدًا وجهها بالقرب من رقبته تتمسح به كالقطة، وأنفاسها تداعب جلده كفراشات رقيقة، عَلت أنفاسه مبتلعًا ريقه بازدراد... ها هو اللهب العاطفي ينقشع من جديد من أسفل ثباته، حاول ابعادها مرة اخرى وهو يهمس بخشونة:
-كارما، كارما قومي عشان شوشو هيحضر وهيشوف شغله. 
ولكن نومها ثقيل، ولم تسمعه تقريبًا، أبعدها عنه يخشى ضعف نفسه، كانت خصلاتها تغطي جانب وجهها، مد أصابعه بتردد ليبعدها عن وجهها.. مدققًا النظر لملامحها وجمال ملامحها البريئة التي تأسر قلبه رويدًا رويدًا بأغلال العشق الخفية، تلمس وجهها الناعم بطرف إصبعه وبدأت ابتسامة صغيرة تنبت على شفتيه وهو يردد:
-زي الملايكة وأنتي نايمة، وأنتي صاحيه بقا اعوذ بالله، زلزال مدمر. 
فتحت جفنيها قليلًا ببطء، ولكن يبدو أنها لم تستيقظ ولم يعود الوعي كليًا لها، وهمست بحروف بطيئة اثر نومها وناعمة بما يكفي لتخور قوة تحمل القابع جوارها:
-عيسى؟! 
تبًا له إن لم يقتطف حروف "عيسى" تلك من ثغرها، مال دون صبر يلثم شفتاها المكتنزة بشفتيه الغليظة المتلهفة، يتذوق حلاوة أسمه في شفتيها التي أهلكت رجولته وثباتها... كم تاق وكم تخيل تلك القبلة، ولكن لم يتخيلها بتلك الحلاوة ابدًا.. 
ابتعد بعد ثوانٍ من المارثون العاطفي، ليجدها تحملق به متسعة العينين تحاول استيعاب ما يحدث، ثم همست بأنفاس لاهثة:
-أنت بتعمل إيه؟! 
وكانت اجابته عملية بحتة حين مال نحو شفتاها من جديد، ولكن هذه المرة دون نية بالتراجع.. سيصبح ملعون إن لم يمتلكها بعدما أيقظت تلك الرجل البدائي داخله مُشعلة إياه بفتيل العاطفة.... 
تاهت فيه وفي لمساته وفي قبلته، ولكن حاولت ايقاظ نفسها التي غابت في سُكر عاطفي لذيذ.. وأبعدته بوهن تنهره بحروف حادة لا تليق بنبرتها الخافتة:
-لأ، ابعد عني.... 
ولكنه لم يكن يسمعها تقريبًا، فقد كان غارق حتى النخاع في شعوره المُهلك بها بين ذراعيه........... 


أبواق الخطر كانت تدق في عقل كارما، فهو يجرفها بعاطفته الجياشة ببطء نحو هاوية ضارية مُدمرة، إن سقطت فيها لا تعود.. ولا يعود منها سوى فتات! 

جاهدت قلبها ومشاعر التي إنسابت كزبد البحر في حضرته وحضرة ذلك الجَنَان اللاهب.. ثم أبعدت وجهها عن مرمى شفتيه وهي تهمس بصوت خرج بصعوبة:
-مينفعش... 
فتمتم هو بخشونة خافتة وهو يداعب رقبتها بأنفه ببطء مذبذبًا حواسها:
-اللي مينفعش إني أسيبك دلوقتي. 
لفظت الكلمات بسرعة وكأنها تخشى فرارها:
-عيسى لو سمحت ابعد. 
-اطلبي مني أي حاجة إلا إني أسيبك دلوقتي، مش هقدر. 
همس بها ببحة خاصة تخبرها أن لا فرار لها من براثن مشاعره التي أيقظتها هي دون وعي منها، فهزت رأسها نافية تتوسله حرفيًا.. رغم قلبها الذي يتوق لصك مالكه له:
-ارجوووك، سيبني حرام عليك. 
أحاط وجهها بيديه معًا وهو يزجرها بنغمة أجشة اتقدت بالتملك:
-أنتي مراتي مفيش حاجة حرام. 
سارعت تقول علها تذكره:
-أحنا متفقين على حاجة معينة. 
أغمض عيناه لاعنًا الاتفاق ولاعنًا قدرتها على التماسك هكذا بينما هو تغلي مشاعره أسفل جلده كالمرجل ليتملكها في التو !! 
فاستغلت هي توقفه المؤقت، ولتتأكد أنه سيستمر تابعت بتهور:
-خليك قد كلامك متبقاش ضعيف. 
بدا كمَن سُكب على مشاعره المتأججة دلو بارد أثلجها وأثلجه معها فتجمدت ملامحها، وابتعد عنها على الفور وهو يردف بجمود:
-أنا قد كلامي، ويوم ما أضعف مش هضعف قدامك أنتي! دي كانت غلطة ومش هتتكرر.
ثم ابتعد عنها كليًا، شاعرًا بغروره ورجولته وكرامته يُذبحان بسكين كلماتها الغادرة.. 

بينما هي تعتصر عينيها المُلبدة بالدموع، هل جربت يومًا أن تُجبر على طلب بُعد احدهم عنك، بينما نياط قلبك يتمزق منسابًا خلفه.. بل ملتصقًا به اينما ذهب؟!

هي كذلك، لا تستطع الانجراف خلف مشاعرهما، ثم تجد نفسها في حياة طبيعية كأي زوجين ثم أطفال بالطبع فيما بعد.. وهي لا تستطع أن تعول اطفال بتاتًا.. ! 

ضعف سمعها يمنعها من ذلك، والوصمة السوداء التي طُبعت داخلها وقت موت شقيقتها تمنعها من ذلك ايضًا..
فربما تستيقظ ذات يوم لتجد أن اطفالها قُتلوا ولم تسمعهم او تشعر بهم !! 

                                   ****

كان "جاد" جالس مع احد الرجال الذين يعمل معهم، في مكان متوسط الحجم مغلق خاص بهم وبأعمالهم الشنعاء، قبض على السيجارة بين أصابعه وبدأ يدخن بشراهه وهو يفكر في التأخير ووقتهم الذي يُستهلك مع عيسى دون تحقيق ما يريدون! 
قطع الصمت صوته الذي يقص الأفكار المتلاعبة بعقله:
-عيسى مطول وأنا حاسس بغدر من ناحيته. 
فنفى الاخر وحروفه تنضح بالثقة:
-ميقدرش يغدر أحنا ماسكينه من ايده اللي بتوجعه. 
راح جاد يشرح له مغزى افكاره:
-حاسس إن يمكن البت احلوت في عنيه. 
صمت لحظة وكأنه مفعول الكلمات على عقله، ثم النتيجة تبلورت في اجابته وهو يهتف:
-وماله نقرصله ودنه قرصة صغيرة. 
سأله جاد مستفسرًا:
-هنقرصله ودانه ازاي وهو اللي في ايده يخلص الموضوع كله؟ 
وقبل أن يجيب الاخر كان يتابع بحذر عاقدًا ما بين حاجبيه: 
-قصدك اخوه؟ 
هز رأسه نافيًا وقال بجدية:
-لا طبعًا أحنا كده بنتحداه وبنعك معاه وده عنيد. 
كرر جاد سؤاله:
-امال إيه؟
اجاب الاخر مفصلًا اجابته التي تقطر سوادًا :
-احنا لازم نقرص ودنه بطريقة غير مباشرة ماتبانش إننا بنتحداه. 
غمغم بنفاذ صبر:
-وضح كلامك؟ 
أشار له برأسه وبعينين تلمعان بالخبث:
-الحل عندك أنت. 
-بمعنى ؟ 
اقترب منه الاخر ثم هسهس بصوت يشبه فحيح افعى سامة:
-بص بقا أنت آآ............ 

                                  ****

اليوم التالي.... 

تبدل اتجاه تيار التجاهل في علاقة كارما وعيسى، فأصبح عيسى هو مَن يتجاهلها، ورغم أنه هكذا يرضي عقلها الذي يرى البُعد أسلم حل، إلا أن قلبها يأن معترضًا وماقتًا لذلك البُعد! 
ولكنها في النهاية تدرك أنها جرحت غروره الرجولي، فلا تشعر بالغضب من تجاهله.. بل بالألم فقط لأنها السبب في ذلك الجفاء بينهما، او هو قدرها ! 
سمعت صوت خطواته في المطبخ، فتوجهت بأقدام مترددة صوبه، رأته يتناول بضع لقيمات من الطعام الذي حضرته وهو واقف.. 
فوجدت نفسها تهتف كاذبة:
-أنا كنت مستنية نتغدى مع بعض. 
هز رأسه نافيًا ولم يجيب بشيء، بل إنسحب من المطبخ متجهًا ناحية باب المنزل فأدركت أنه سيغادر من جديد. 
سألته وهي تسير خلفه:
-أنت رايح فين؟ 
اجابته كانت باردة وكأنه لازال يعاني صكيع كلماتها:
-خارج. 
فتح الباب وكاد يخرج لولا أنها أمسكت بذراعه تستطرد بصوت أجش:
-استنى أنا مش شفافة أنا بكلمك. 
نفض ذراعه بعيدًا عنها وسألها بجفاف:
-عايزه إيه؟ 
رغم أن اجابته لن تشكل فارق فعليًا، ولكنها سألته وكأنها تريد الاحتكاك به لأي سبب علها تذيب ذلك الجليد بينهما:
-خارج رايح فين؟ 
-ميخصكيش. 
رماها بالكلمة الحادة واستدار ليخرج، ولكنها اوقفته مرة اخرى مندفعة بحديثها الأهوج:
-كل ده عشان رغباتك ماتحققتش! 
بلحظة خاطفة وفي حركة غير محسوبة، كان يجذبها بقوة حاشرًا إياها بين جسده والباب خلفها بعد أن اُغلق بسبب جسدها، واقترب بوجهه من وجهها حتى صفعتها أنفاسه الهادرة التي تنم عن غضب بدأ يستعر داخله، وزمجر بحدة:
-كل ده عشان أنا افتكرت اتفاقنا، ولازم نرجع لوضعنا الطبيعي ونرجع الحدود تاني عشان نتلاشى أي غلط كان ممكن يحصل! 
ثم اعتصر ذراعها في قبضته بعنفٍ متعمد، وهو يتشدق من بين أسنانه:
-مش أنا اللي أدور وأمشي ورا رغباتي. 
وبنفس الحركة المباغتة كان يبعدها عن الباب بقوة ويخرج صافعًا الباب خلفه.. 
تاركًا إياها متصنمة مكانها تكاد تبكي وهي تندب حظها وتلعن لسانها السليط الذي زاد الطين بلًا كما يقولون ! 

                                      ****

وبعد فترة... 

بينما كانت جالسة على الأريكة تضع وجهها بين يديها في قلة حيلة، لم تعد تدرك ماذا يرضيها وماذا لا يرضيها، لم تعد تدرك حتى الصواب من الخطأ! 
وكأنها كُتب عليها الحيرة والتشتت حتى مماتها. 
قطع وصلة جلدها لذاتها صوت الطرقات على الباب، نهضت وهي تتنهد بصوت مسموع مرددة:
-جايه. 
فتحت الباب لتجد زوج والدتها "جاد" فالتوت ملامحها بالضيق الحقيقي، لا ينقصها سوى هو ليكتمل اليوم الأسود بالنسبة لها !! 
قال جاد بهدوء:
-ازيك يا كارما. 
اجابته على مضض:
-كويسة الحمدلله، إيه جاي تطمن عليا برضو؟ 
قالت كلماتها الاخيرة باستنكار خالطته السخرية، فبادلها ابتسامة لزجة وهو يستطرد:
-لأ يا ام لسانين، جاي أعرفك و أوعيكي بدل ما أنتي زي الأطرش في الزفة. 
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم:
-تعرفني إيه وتوعيني لأيه؟! 
تابع وحروفه تشتد بالخبث الشيطاني:
-أعرفك اللي عيسى مخبيه عنك. 
بدأ الغضب يطرق أبواب وجهها حين استمر تلاعبه الشهير بالكلمات، فهدرت بحدة:
-يا تقول على طول جاي ليه، يا تتفضل لأني حقيقي مش ناقصة. 
لوى شفتاه متشدقًا بعتاب زائف:
-الحق عليا إني ما هانش عليا أسيبك مضحوك عليكي. 
فضحكت بلا مرح ضحكة مملؤة بالاستهانة وهي تخبره بصراحة وقوة:
-كلنا عارفين إنك مابتعملش حاجة لله، فياريت بلاش المقدمات اللي أنا مش هصدقها دي وقول على طول. 
هز رأسه موافقًا، ثم أضاف بنفس الخبث المتواري خلف كلماته:
-عيسى متجوزك عشان اتفاق بينا، مش مجرد جواز عادي زي ما هو مفهمك. 
تصلدت ملامحها لوهله، ولكن لم تعطه رد الفعل الذي انتظره بل ردت بصلابة وجمود:
-أنا عارفة. 
لم يكتف عند ذلك الحد، بل راح يواصل متهكمًا بما وقع عليها كـ سيف غليظ شطرها لنصفين:
-معرفتك دي كمان في اتفاقنا، يعني ببساطة هو أقنعك إنه متفق معاكي علينا، بس الحقيقة إن اتفاقنا كان إنه يفهمك كده لأننا عارفين إن أنتي مش هتقتنعي غير بالطريقة دي. 

                                    ****

في الشركة... 

كان الوقت قد بدأ يتأخر قليلًا، وفيروز مُنهكة في الأعمال المتراكمة عليها حتى لم تنتبه للوقت الذي بدأ يسرقها، تقدم منها فارس في ذلك الحين، وقطع الصمت الذي يحل على المكان، بصوته الخشن:
-كفاية كده يا فيروز عشان الوقت بيتأخر. 
اومأت برأسها موافقة والإنهاك يصطحب ملامحها:
-تمام يا باشمهندس. 
تنحنح قبل أن يسترسل بهدوء وشيء من الجدية:
-تعالي اوصلك في طريقي. 
هزت رأسها نافية بلباقة:
-ميرسي لذوقك، أنا هاخد تاكسي. 
أصر فارس، وراح يزجرها بصرامة :
-لأ، افرضي حد اتعرضلك تاني؟ أنتي مابتحرميش؟!
زمت شفتيها في حرج كطفلة عنفها والدها محذرًا، ثم اومأت دون كلام ونهضت تلملم اشياءها لتغادر معه... 

غادرا سويًا الشركة بالفعل، وانطلقا بسيارة فارس، الذي قال بنعومة ونبرة غامضة بعض الشيء:
-أنا مش ناسي طبعًا اللي عملتيه واللي أثبت إنك ذكية ومجتهدة، ليكي مكافأة عندي. 
زينت فيروز ثغرها بابتسامة رقيقة وهي ترد:
-ميرسي، بس ده واجبي يا باشمهندس.
عم الصمت من جديد في السيارة، ولكن داخل فيروز كان في حالة هرج ومرج، مُدجج بالاحتفالات التي تعلن انتصارها في تحقيق ثقته المبدئية... 
عادت لها الثقة في قدرتها على تنفيذ ما جاءت لأجله، وانشرحت روحها بالتمني بقرب النهاية. 

وعلى النقيض كانت أفكار فارس الغامضة في تلك اللحظات. 
قطع ضجيج افكارهم صوت هاتف فارس الذي أعلن عن وصول مكالمة من طليقته "نغم"، فتنهد وأجاب على مضض:
-ايوه؟ 
أتاه صوتها الباكي وهي تناجيه:
-فارس إلحقني. 
-في إيه؟ 
-أنا في مشكلة كبيرة، ومحدش هيقدر يساعدني غيرك، ارجوك. 
-مشكلة إيه؟ 
-مش هينفع على التليفون، أنا مستنياك في مطعم *** لازم تيجي عشان نتكلم، الموضوع هيهمك. 
تأكدت بخبث من زرع فتيل الفضول والتوجس داخله، لتضمن أنه سيأتي.. وبالفعل وصلها صوته الحازم يخبرها:
-تمام هاجي. 
-ماشي مستنياك ياريت تتحرك دلوقتي من الشركة بليز. 
-سلام. 
لم يعلق على رجاؤها وأغلق، فظنت هي أنه سيبدأ بالتحرك من الشركة، وسارعت بتجهيز نفسها، لم تكن تعلم أنه قد انطلق في طريقه بالفعل! 

نظر فارس تجاه فيروز، وتشدق بهدوء:
-هنعدي بس على حد عشر دقايق استنيني في العربية ومش هتأخر. 
كادت تعترض رافضة، ولكنه أوقفها متلمسًا وترها الحساس:
-فيروز دي اول مرة أطلب منك حاجة. 
صمتت وهي تهز رأسها موافقة على مضض، وزفر فارس بارتياح... فهو سيأخذها حجة لينهي سريعًا مقابلة نغم الثقيلة جدًا على قلبه. 

وصلا بعد فترة ليست طويلة للمطعم الذي قالت عنه نغم، وترجل فارس من سيارته بعد أن وعد فيروز بعدم التأخر، وانتظرت هي في السيارة.. 
دخل فارس المطعم فوجده خالي من الزبائن، فخمن أن ما ستخبره به هام لدرجة أنها تخشى مشاركته وأي شخص بالجوار ! 

مرت دقيقة تلو الاخرى ونغم لم تأتي بعد، ترجلت فيروز من السيارة متأففة تنوي اخبار فارس الذي تأخر أنها ستغادر، دخلت المطعم وتوجهت صوب فارس بعد أن تغاضت عن التعجب الذي اجتاحها ما أن رأت المطعم خالي من الزبائن، اقتربت من فارس وهمت بإخباره بجدية:
-مستر فارس أنا...
ولكن قاطعها قدوم احد العاملين بالمطعم، والذي بدأ يضع شموع حولهما وبعض الشيء التي جعلت الدهشة تستحل ملامح كلاً من فيروز وفارس.. ثم اوقفه فارس مستنكرًا:
-إيه ده؟ 
تلكأت الاجابة على شفتي العامل الذي نشب به التوتر قليلًا، وفي تلك الاثناء ودون مقدمات بدأ بعض الصحفيين يتوافدون للداخل ملتقطين بعض الصور لفارس وفيروز اللذان كانا واقفان بجوار بعضهما والشموع حولهما... 
ثم جاءت الصدمة التي زلزلتهما حرفيًا حين سألهما احد الصحفيين:
-في انباء بتقول إن فارس بيه متجوز عرفي وهيعلن عن الزواج ده، هل هي مرات حضرتك

الفصل الثاني عشر :- 

أسكتت الصدمة كافة حواس فيروز، حتى أنها فشلت في استيعاب الحديث الدائر حولها، ولم تعد قادرة على اعطاء رد فعل فبقيت متصنمة مكانها وكأنها فقدت أبجديتها... 
اما فارس فلم تتدخر الصدمة جهدًا وأخرسته لثوانٍ قبل أن يمزق حلة الصمت هاتفًا بنبرة دبلوماسية صلبة:
-فيروز مراتي، لكن مش عرفي! رسمي. 
حدقت به فيروز مذهولة، شاعرة بقدميها تغرسان أكثر في وحل، فيما سارع الصحفيين بطرح اسئلة اخرى عليهم، حتى أسكتهم فارس بقوله الحاد:
-في حاجة أسمها خصوصية ياريت نحترمها شوية. 
ثم قبض على كف فيروز الذي صار كالثلج اثر الصدمة، وسحبها خلفه مغادرًا ذلك المكان... مؤقتًا. 

ركبا السيارة سويًا، فأغمض فارس عيناه غارقًا في بحر مظلم الجوف من الأفكار، بينما فيروز التي مازالت تعاني توابع الصدمة، بدأت تهسهس:
-يعني إيه ؟! 
ثم صارت تردد بما يشبه الهذيان وهي تشعر بصبغة العار السوداء تلتصق بها شيئًا فشيء:
-أنا اتفضحت، اتفضحت! 
في البداية كان فارس عاجزًا عن مواستها، ولا يستطع ترتيب أفكاره حتى.. ثم سارع يحاول تهدئتها:
-اهدي يا فيروز، ماتفضحتيش ولا حاجة. 
فهزت رأسها وبقاع وجهها قد افترشها الضياع:
-ماتفضحتش ازاي؟! أنت مش سامع كانوا بيقولوا، أنا سيرتي هتبقى على كل لسان! 
ثم حدقت به فجأة وكأن ارسال الكلمات لمركز الاستيعاب في عقلها بطيء، وصاحت مستنكرة:
-أنت ازاي تقولهم كده؟! 
رفع كتفاه بقلة حيلة، يخبرها مدافعًا عن نفسه وعن نواياه:
-كنتي عايزاني أعمل إيه؟! لو مكنتش قولت كده كنت كأني بأكد كلامهم. 
وضعت فيروز وجهها بين يديها، ورغمًا عنها انسابت دمعاتها معلنة انهيار تماسك صاحبتها، اقترب منها فارس ولا اراديًا مد أصابعه يمسح دموعها برقة متلمسًا طراوة وجنتها، وأمنية خفية تبزغ بين ضلوعه؛ أن يحتضنها محتويًا دموعها على صدره!
فيما نفضت يده بعيدًا عنها وهي تصيح فيه بشراسة مفاجئة ومناقضة للدموع المتلألئة في عينيها:
-ابعد ايدك واوعى تلمسني. 
ثم تهدج صوتها اثر البكاء وهي تتابع:
-أنت حطتني في ورطة كبيرة. 
جنح الغضب من كرامته الملكومة بتصرفها، للسانه الذي تشدق بحدة:
-أنا برضو اللي حطيتك في ورطة؟! أكيد أنا مش متلهف عشان أقول إنك مراتي او امسح دموعك، ده موقف رجولي وإنساني مني. 
وجهت نظراتها له، فأكمل شارحًا لها علها ترى أنها هي التي في وجه المدفع وليس هو:
-أنا لو عليا عادي، مش مهم اللي يتكلم عليا يتكلم، وأقولك حاجة كمان، أنا هنزل دلوقتي أكدب اللي قولته. 
ثم استدار بجسده يتظاهر أنه سيترجل من السيارة، متيقنًا كونها ستمنعه، وبالفعل حل يقينه على أرض الواقع حين أمسكت بذراعه مغمغمة بحروف متقطعة:
-أستنى، أنت ليه كده؟! 
نظر لها عاقدًا ما بين حاجبيه، فأشبعت فضوله المتعجب حين بدأت تخبره بنبرة واهنة:
-أنت بتضغط عليا وبتذلني عشان متأكد إني هقولك لأ متروحش ومش بعيد أتحايل عليك. 
إتسعت عيناه مذهولًا من منحنى أفكارها التي أشعرته أنه مجرد سادي:
-أنا ؟! 
اومأت مؤكدة برأسها، ثم زمجرت مطلقة سراح دموعها وحروفها الهوجاء معًا:
-ايوه أنت، وبعدين هو مين السبب إني أكون موجودة هنا اصلًا وأتحط في الموقف الزفت ده، مش أنت؟
تنهد فارس بعمق، ثم خرج صوته هادئًا صلبًا وهو يخبرها على مهل:
-بصي يا فيروز، أنا اتعودت دايمًا إني أتحمل نتيجة أفعالي، عشان كده قولتلهم كده وعشان كده لازم نكتب الكتاب حفاظًا على سُمعتك لأن بكره الصبح الأخبار هتكون في كل حتة، حتى لو أنا بمعارفي حاولت أمسحهم. 
لم تنطق وهي تسمع له مؤيدة كلامه داخلها، تشعر أنها داخل قوقعة كبيرة سوداء كتمت أنفاسها وربيع روحها، ثم انتبهت له حين استطرد:
-بلغي مامتك وعرفيني أجيلكم امتى واجيب المأذون، بس لازم في أسرع وقت.
هزت رأسها ببطء كالمخدرة بالألم والصدمة، وتمتمت:
-هبلغك.
عاد فارس للمقود من جديد وسار، بينما فيروز تشعر أن كل أحلامها... تخيلاتها تضيع في مهب تلك العاصفة، فهي ستتزوج من شخص اُرغم على الزواج منها فقط لأنه يتحمل نتائج أفعاله، ليس لأنه يحبها او يرغب بالزواج بها هي فقط بكل إصراره!! 

                                  ****

بعد فترة، كانت فيروز قد وصلت منزلها، وبعدما قصت على والدتها كل شيء حدث، متأهبة لغضبها الحتمي المُزلزل الذي سيُطيح بها..
وبالفعل كان لها ما توقعته حيث بكل الغضب والحزم كانت والدتها تصفعها بعنف حتى سقطت على الفراش خلفها وتحررت دموعها التي لم تتراجع ولو لحظة عن اكتساحها لعينيها، ثم زمجرت فيها والدتها بحدة:
-منا لو ربيتك مكنش ده حصل. 
فهتفت نافية من بين دموعها:
-مش ذنبي يا ماما والله العظيم أنا اتصدمت بكل اللي حصل. 
استمر هبوب كلماتها الغاضبة:
-ما أنتي لو متربية مكنتيش ركبتي مع راجل غريب العربية اصلًا. 
نكست فيروز رأسها ارضًا، ثم اعترفت:
-أنا غلطت، لكن والله خوفت عشان الوقت كان ابتدى يتأخر. 
-وإيه اللي يقعدك اصلًا لحد ما الوقت يتأخر، ملعون الشغل لو هيجيب لنا فضايح. 
صاحت فيها والدتها بغل والغضب لازال يتآكل في احشائها، بينما فيروز لم تجرؤ على نطق المزيد واستمر نحيبها الخافت وهي مُنكسة الرأس.. 
جلست والدتها جوارها ببطء، ثم بدأت تتنهد بصوت مسموع، وسألتها:
-هو قالك إيه بالظبط؟ 
اجابتها بخفوت:
-قالي إننا لازم نتجوز عشان الناس مش هتبطل كلام والصور خلاص هتنشتر حتى لو هو عرف يمسحهم. 
هزت والدتها رأسها والكلام يرتج بعقلها، ثم أكدت بكل الأسف:
-للأسف عنده حق، مش هينفع نخاطر بسمعتك. 
سألتها فيروز بملامح ملتوية ولازال البكاء صاحبها:
-هنعمل إيه يا ماما ؟ 
هزت كتفاها بقلة حيلة، ثم أضافت:
-العمل عمل ربنا ! هتتجوزيه طبعًا. 
ازداد بكاء فيروز رغم أنها تعلم أن هذا ما سيحدث لأنه أسلم حل، ولكن وكأنها كانت تحاول مواساة ألمها باحتمال غير موجود.. 
فضمتها والدتها لأحضانها، تربت على خصلاتها، ثم تشدقت والحنان يتدفق من صوتها:
-قدر الله وماشاء فعل، كل حاجة بتيجي من ربنا أكيد وراها خير. 
اومأت فيروز مؤكدة وهي تشدد من احتضان والدتها، فواصلت الاخرى بهدوء:
-كلميه وخليه يجي بكره. 
والغد بالتأكيد لديه الكثير والكثير ليرويه لنا.. 

                                 ****

عاد فارس من جديد لذلك المطعم، الغضب يرتج ويلتهب داخله كالنيران التي يحتاج أن ينفثها في وجه تلك اللعينة التي تلاعبت به بين أصابعها كعروس ماريونت، أمسك بالعامل الذي وضع الشموع وما إلى ذلك، وسأله بلهجة عنيفة عالية:
-مين اللي خلاك تعمل اللي عملته ده؟! 
سأله الاخر مفزوعًا:
-عملت إيه بس ؟ 
فصاح فيه فارس وهو يهزه بعنف:
-الشموع اللي حطتها حوالينا من غير ما أطلب ده منك والصحافة اللي دخلت تصور. 
هز الاخر رأسه نافيًا، وبرر له محاولًا أن يلقي عن كاحله التهمة التي إلتصقت به:
-والله العظيم أنا ما ليا علاقة بكل ده. 
زمجر به فارس كليث على وشك غرز أنياب غضبه به:
-أنت هتستعبط يالا! 
سارع متابعًا:
-طب بزمتك يا باشا، واحد غلبان زيي حتة جرسون في مطعم هيبقى له علاقة بالصحفيين ازاي؟! 
أضاف فارس بقوة وحدة لم تفارق نبرته:
-أنا عارف إن مش أنت اللي على علاقة بيهم، مين اللي قالك تعمل اللي عملته؟ 
بدأ العامل يخبره بسرعة فاجتاح التوتر اجابته:
-بص يا باشا أنا كل اللي اتقالي من صاحب المطعم قبل ما يمشي، إن لما تيجي البنت اللي هتكون مع حضرتك أنزل الشموع، وأنا عملت كده، لكن أنا معرفش حضرتك ولا الأنسة ولا الصحافة اصلًا. 
نفضه فارس بعيدًا عنه وهو يتنفس بصوتٍ عالٍ، مدركًا أن كل خيوط الحقيقة تمثل بين يدا "نغم"، ولن يكون أسمه فارس ابو الدهب إن لم يشفي غليله منها ويقتنص حق فيروز ودموعها منها... 

بعد قليل وصلت "نغم" التي تفاجئت بغضب فارس يكتسحها، حيث إنقض عليها يجذبها من ذراعها بقوة مزمجرًا كالأعصار في وجهها دون مقدمات:
-أنتي إيه شيطانة مش هتبطلي حركاتك دي؟!
سألته مصدومة من هجومه:
-أنا عملت إيه دلوقتي يا فارس؟ 
بشفاه ملتوية متقززة كان ينهرها:
-استعبطي بقا واعملي فيها البريئة. 
-كل ده عشان اتأخرت؟ غصب عني والطريق كان واقف. 
قالتها بعدم فهم حقيقي، وقليل من الارتباك الذي بدأ يتسلل لها، فتابع فارس بنبرة غليظة:
-اتأخرتي إيه وزفت إيه، أنا مش عايز أشوف وشك أصلًا، أنتي متصلة بالصحفيين وعامله تمثلية بايخة عشان أرجعك؟ 
نفت برأسها مسرعة:
-أنا ؟ لا طبعًا أنت ازاي تفكر فيا كده؟ 
أكد بذات النبرة الغليظة المتعمدة:
-أيوه أنتي وبلاش تمثيل أنا عارفك كويس أوي، أنتي اللي خليتي الصحافة يجوا عشان يصورونا مع بعض ومسربة اخبار إني متجوز عرفي عشان تجبريني أرجعك. 
استمرت محاولات انكارها حين أردفت:
-لأ محصلش.
أضاف بشراسة وكره متجاهلًا ما تقول:
-بس اهي اتقلبت كل حاجة على دماغك، ومحصلش اللي أنتي عايزاه وبرضو مش هرجعلك. 
رفعت كتفاها معًا وهي تصيح بحدة طفيفة سلطتها حروفها:
-كفاية إهانة، أنا بجد مش فاهمة أنت تقصد إيه! 
هز رأسه يطاوعها والنفور مخالطًا شيء من التشفي كانا ينضحان من كلماته:
-هعمل نفسي عبيط وهقولك، الصحفيين جم وصوروني أنا وفيروز، وهنتجوز. 
شعرت وكأنه صفعها حرفيًا بالخبر، وصفارات الانذار كلها كانت تدوي في اذنيها مرددة دون استيعاب:
-إيه! 
استرسل فارس مضيقًا الحصار عليها ليخنقها في جوف شر أعمالها:
-معلش بقا حفرتي حفرة ووقعتي فيها، وأنتي لو اخر واحدة في الدنيا أنا مستحيل أرجعك لعصمتي، دي كانت غلطة ومستحيل أكررها. 
أردفت بخفوت تنقب بذكاء عن المنطق في حديثها علها تستميله:
-طب اديني فرصة ادافع عن نفسي وأفهمني، لو أنا متفقة فعلًا مع الصحفيين هيصوروا فيروز معاك ليه ما اكيد كانوا هيستنوني وأنا مكنتش جيت اصلًا. 
صمت فارس والكلام يتساقط كقطرات الندى ليروي نبتة الشك المستقرة بين ضلوعه بشأن فيروز، حينها أكملت محاولة بث سمومها في اذنه:
-صدقني أنا مستحيل أعمل كده عشان تتجوزها ! شوف بقا مين اللي عاوزك تتجوزها. 
صمتت برهه تتنهد ومن ثم واصلت بشيء من المكر:
-أنا أسفة حقيقي يا فارس عارفة إنك اتحطيت في موقف سخيف وهتضطر تتجوز البنت دي بسببي عشان أنت شهم وده مش غريب عليك، بس صدقني أنا كل اللي كنت عايزاه إني أتكلم معاك بس.
ولكن فارس لم يعطها المردود الذي تريد حين وضع نقطة النهاية لذلك الحوار المقيت بينهما:
-العيب مش عليكي العيب على اللي صدقك وجه اصلًا. 
ثم استدار وغادر تاركًا إياها تعاني مرارة الصدمة والهزيمة في حرب كانت من طرفها فقط! 

                                    ****

اليوم التالي.... 

كانت كارما جالسة على الأريكة، هامدة الجسد خائرة القوى، ومُستهلكة نفسيًا، المفاجأة كانت اكبر من قدرتها على التحمل، رغم أنها ادّعت الصمود امامه ولكن داخلها يذوب ببطء.. 
تتذكر كيف سألته عن سبب خداع عيسى الذي ينذرها به، وكيف اجاب ببرود أتقنه:
-معلش بقا يا كارما أكتر من كده مش هقدر أقولك عشان مأذيش نفسي، سلام. 
ثم غادر.. هكذا وبهدوء وكأنه لم يبدد حياتها ونفسها للتو ! 
سحبت نفسًا عميقًا وهي تحاول ارساء افكارها المهتاجة على بر تستطع فيه لملمة شتات نفسها، فاللأسف فيروز في دوامة اخرى لن تستطع مساندتها في محنتها او نصحها بما عليها فعله.. 

هزت رأسها وهي تؤكد لنفسها، لن تكون كخيوط مرنة في يده يحركها كيفما يشاء، بل ستجعله يظن أنه يتلاعب بها في حين أنها تتلاعب به وستعلم ما الذي يريده منها وتدمر مخططاته الدنيئة، لأن أي مواجهات مباشرة ستكون هي الخاسرة فيها، فببساطة هو يملك أسلحة فتاكة قادرة على زعزعتها بسهولة! 
بالأضافة إلى أن فيروز ليست أشجع او أذكى منها لتثأر وتقتنص حقها بنفسها خفية.. 

سمعت طرقاته على الباب، فعزمت على تنفيذ ما فكرت به، ستُريه الخداع وستُريه كيف يكون التلاعب! 
نهضت بعد أن زفرت بعمق، وفتحت الباب بابتسامة أتقنت رسمها:
-حمدلله على السلامة يا عيسى. 
-الله يسلمك. 
كان رده مقتضب وهو يتخطاها للداخل رغم التعجب الذي ارتكز بين ثناياه، فسارت كارما خلفه، وبحركة مباغتة كانت تمسك "الچاكيت" الذي يرتديه مساعدة إياه في خلعه، ومسببة له صدمة سداسية الأبعاد ! 
كانت خلفه مباشرةً، يشعر بقبضتيها الصغيرتين تمسان ذراعيه، فتتسببان برجفة خفيفة له جعلته يبتلع ريقه وهو يستدير نحوها متسائلًا:
-في إيه؟ 
فأجابته ببساطة بنفس الابتسامة:
-مفيش، بساعدك. 
كاد ينطق معترضًا على اجابتها البريئة جدًا، عالمًا أن هنالك شيء حتمًا.. ولكنه كتم اعتراضه وتحرك نحو الغرفة، فأوقفته من جديد لتكمل له سلسلة تعجبه:
-تحب أحضرلك تتغدا؟ 
-ياريت. 
تلفظ بها دون تركيز مدهوشًا فعليًا من اللطف الزائد والكرم الذي يقطر منها رغم أنه توقع الغضب والمعاملة الجافة بسبب اخر موقف بينهما.. 
فانطلقت كارما وبدأت في تحضير الطعام، وابتسامة واسعة تشمل ثغرها كله سعيدة بذلك الانتصار المبدئي حين قرأت التعجب والحيرة بوضوح في سطور عينيه.. 

أنهت تجهيز الطعام ووضعته على المنضدة، وجلسا سويًا ليتناولا الطعام، كانت أنظارها مُسلطة على عيسى بتركيز بنفس الابتسامة مما سبب الارتباك للاخر الذي كان يرفع المعلقة لفمه فانزلق الطعام منها على فمه والمنضدة حين أعارها انتباهه مرتبكًا.. 

وبحركة غير محسوبة بسبب فرط اندماجها وسذاجتها؛ كانت تمد أصابعها الرقيقة لتمسح بقايا الطعام المتناثر على شفتيه، وكان هذا أكثر من احتماله.. ملمس أصابعها على شفتيه كان كفيل بانتشال روحه من جسده راميًا إياها لعمق نيران متأججة من العاطفة جعلته يذوب في تلك اللمسة المتهورة منها، متناسيًا عالمه كله وعقله الذي يثور ضد حركاتها ! 

همس بصوت متهدج من فرط المشاعر:
-أنتي بتعملي إيه؟
أبعدت يدها مسرعًا كالملسوعة وكأنها استوعبت الكارثة التي تفعلها يدها، ثم ردت ببراءة كادت تصيبه بذبحة صدرية:
-بمسحلك الأكل بس. 
هز رأسه ساخرًا بقليلٍ من المرح الذي افتقدته فيه:
-ايوه منا شايف لسه مافقدتش البصر الحمدلله، لكن إيه الحنية دي بقا؟ 
ثم ضيق عيناه وهو ينظر للطعام متسائلًا بتوجس تعمد رسمه:
-اوعي تكوني حطالي سم في الأكل وناوية تقتليني؟
كادت تنفعل ولكنها أجادت السيطرة على نفسها فراحت تردد متسعة العينين والاستنكار ممزوج بالعتاب يملأهما:
-أنا ! يا حول الله يارب، فعلًا خيرًا تعمل شرًا تلقى، بقا أنا عشان بحاول أكون زوجة صالحة و.....
قاطعها مستنكرًا:
-تبقي إيه؟ 
تمتمت ببراءة:
-زوجة صالحة. 
-صالحة دي تبقى خالتك. 
قالها بسخرية لطالما كانت فكاهية خفيفة على قلبها؛ الذي صار يتدفق شك وحذر وغضب أهوج! 
فاستطردت بهدوء زائف ومازالت تتحلى بنفس الابتسامة:
-رغم إنك بتسخر مني لكن هعمل نفسي مش واخدة بالي، أنا حسيت إني بصراحة غلطت في حقك وقررت أصلح غلطي ومتزعلش يعني. 
مد يده بعفوية يتجسس جبينها متسائلًا في استنكار:
-كارما أنتي سخنة ولا إيه؟ 
أنزلت يده وهي تجيب من بين أسنانها:
-لأ أنا كويسة، تقدر تقول عقلت بس. 
هز رأسه يهاودها رغم عدم اقتناعه بما تقول وكأنها طفلة :
-اه طبعًا طبعًا، طب أنا هقوم أنام دلوقتي عشان عندي شغل الصبح، وبكره هنصلح غلطنا أنا وأنتي وناهد وكلنا. 
ثم نهض بالفعل متوجهًا صوب الغرفة، نهضت خلفه مسرعة بإصرار ودون ملل، وحين كاد يفترش الأرض كالعادة لينام عليها، أوقفته مسرعة:
-استنى يا عيسى. 
رمقها بنظرات حملت الاستفسار، فاسترسلت بنعومة:
-اطلع نام على السرير وأنا هنام النهارده على الأرض، كفاية عليك كده. 
-حد سحر لها، عليا الطلاق حد سحر لها او لبسها جنية عاشقاني. 
تمتم بها بصوت مكتوم وهو يضرب كفًا على كفٍ، فسألته عاقدة ما بين حاجبيها:
-بتقول إيه؟ 
-بقول ربنا يحميكي لشبابك يا كارما يا بنت محمد 
رددها وهو يصعد لينام بالفعل على الفراش، تحت أنظارها المتفاجئة فهي ظنته سيرفض كرد فعل طبيعي لأي رجل.. 
جزت على أسنانها غيظًا، ولكنها حاولت كبته وهي تقترب منه بينما هو يحاول النوم، وهتفت بلطف ظاهري:
-اخبار شغلك ايه النهارده؟
هب جالسًا وهو يصيح بعدم تصديق:
-لا بقا ده باين عليه يوم مش فايت. 
غمغمت ببراءة:
-في إيه؟ يعني أنا غلطانة إني بحاول أهتم بيك وأشوف عملت إيه في يومك؟ 
ضيق عيسى عينيه في توجس:
-مش حاسك، مش عارف حاسس كده إنك هتغفليني هتدبحيني وأنا نايم. 
رفعت يديها أمام وجهه وقد مالت نغمة صوتها لدلال خفيف:
-بذمتك الإيد دي تدبح برضو؟ 
-لا طالما وصلت لذمتي يبقى عليه العوض ومنه العوض، ابقي حطي بس الاجزاء اللي هتقطعيها مني في كياس نضيفة وجديدة والنبي يا كارما، يعني مش هيبقى موت وقلة قيمة! 

                                   ****

تم عقد قران فارس وفيروز التي كانت مكفهره الملامح، منتفخة الجفون بسبب بكاءها المستمر في موقعة جديدة على شخصيتها المعروفة بالتماسك والثبات، فيما كان فارس ليس أفضل حال منها، فهو يشعر أنه مُرغم على ما يفعل.. مُرغم على السماح لها بخطو خطوات جديدة داخل حدود حياته لتعبث بها، رغم الشك الذي يكاد يمزقه نحوها !! 

نهض فارس من مكانه بعد أن قل عدد الحاضرين الذي كان يعد على أصابع اليد الواحدة، وقف جوار الشرفة، يتنهد بصوت مسموع وأخرج سيجارة علها تفلح في تبديد التوتر الذي يجتاحه.. 
ثم انتبه لهاتف فيروز الذي كان على منضدة جواره، وأنار معلنًا وصول رسالة، فحدق به بفضول ليقرأ رسالة وصلتها على تطبيق "الواتساب" وكانت على الشاشة:
-كل اللي احنا اتفقنا عليه حصل. 
لم تكن تلك الصدمة الكبرى، حيث تمثلت الصدمة الكبرى حين قرأ اسم المرسل والذي كان مسجل بالانجليزية" الصحفي محمود" 
فبدأت خيوط الشك تتجمع في عقل فارس وهو يسترجع كلمات نغم، حتى بدأ الغضب يجتاح صدره فضغط بعنف على السيجارة في قبضة يده ولم يهتم حتى أنها أحرقته، ناظرًا بكل الغضب والنفور تجاه فيروز و.......... 




تعليقات