رواية ثمن الصمت الفصل الثاني2بقلم حنين عقيدات


رواية ثمن الصمت بقلم حنين عقيدات
رواية ثمن الصمت الفصل الثاني2بقلم حنين عقيدات

كان يمكن لتلك الكلمتين أن تمرّا مرور الكرام، لو نُطِقتا في مكان آخر، في زمان آخر، أمام أشخاص آخرين. لكن هنا، في هذا المنزل، أمام هذا الجمع، لم يكن لاعتراف سلمى سوى معنى واحد: التمرّد. 

وكما توقّعت يمنى، كان والدها أول من انفجر. 

-"إيه اللي بتقوليه؟!" صوته دوى في المكان، عاصفًا بكل شيء. "إنتِ فاهمة إن الجوازة دي لو اتلغت، هتبقى فضيحة؟ فاهمة إن الناس مش هتسيبنا في حالنا؟" 

لكن سلمى لم تجب، كانت أصغر من أن تواجه وحدها، أضعف من أن تحتمل هذا الغضب. 

أحست يمنى برجفة يد أختها بين أصابعها، فشدّت عليها أكثر، كأنها تقول لها: أنا هنا. 

-"الموضوع مش الناس، يا بابا،" قالت يمنى بصوت ثابت، رغم تسارع نبضاتها. "الموضوع إنها مش عايزة الجوازة دي، يعني المفروض خلاص، مفيش كلام تاني." 

لكن والدها لم يكن من النوع الذي يُجبر على الصمت. 

-"مفيش كلام تاني؟!" سخر بحدة، اقترب خطوة، "انتي فاكرة نفسك مين عشان تيجي في يوم واحد وتقلبينا كده؟ ده موضوع كبير، والعريس مش طفل، أهل العريس مستنيين، وإنتِ واقفة تهدي الدنيا بجملة كده؟!" 

تقدم نحو سلمى، نظر إليها بحدة جعلتها تنكمش مكانها، ثم سألها بصوت منخفض، لكنه مخيف: 

-"إنتِ مقتنعة بالكلام اللي بتقوليه؟" 

ابتلعت سلمى ريقها، نظرت إلى يمنى للحظة، كأنها تبحث عن شجاعة لم تكن تمتلكها، ثم هزّت رأسها ببطء. 

-"أيوه، مش عايزة." 

كانت تلك اللحظة فاصلة، كأن الزمن توقّف لثوانٍ. والدها تجمد في مكانه، والدتها وضعت يدها على فمها كأنها تمنع شهقة خوف، الحضور تبادلوا نظرات مرتبكة، والعريس بدا وكأنه لا يصدق أن الأمر خرج عن سيطرته بهذه السهولة. 

ثم جاء الانفجار. 

رفع والدها يده في الهواء، وكأنه على وشك أن يصفعها، لكن يمنى تحركت بسرعة، وقفت بينهما، مدّت ذراعيها لتحمي أختها، وعيناها تواجهانه بلا خوف. 

-"لو مدّيت إيدك عليها، هتبقى بتثبت إنك مش فارق معاك غير الناس، مش بناتك." 

كلمتها كانت كسهم أصاب الهدف، لأن يد والدها توقفت في الهواء، عيناه اشتعلتا بالغضب، لكنه لم يضربها. كان ذلك أكثر انتصار حققته منذ سنوات. 

كان الصمت الذي أعقب كلمات يمنى كالصاعقة. في تلك اللحظة، لم يكن أحد يجرؤ على الحركة، حتى العريس الذي بدا غريبًا وسط هذه الفوضى، اكتفى بالنظر في صمت، وكأن واقعًا غريبًا بدأ يتكشف أمامه. 

لم يتحرك والدها. كانت عيونه محمرة من الغضب، وجهه يشبه قناعًا جامدًا من الصخر. ومع ذلك، كانت يمنى تعرفه أكثر من أي شخص آخر. كان ذلك الرجل الذي لا يفقد سلطته بسهولة، لكن في هذه اللحظة، بدا وكأنه على وشك الانهيار. 

-"إنتي فاكرة إنك لو وقفتِ قدامي كده هتغيري حاجة؟" قالها بلهجة مملوءة بالمرارة، لكن يمنى لم تهتز. 

"مفيش حاجة هتتغير، لكن حياتنا هتتغير لو استمرينا كده"، ردت بصوت ثابت، كأنها تتحدث عن حقيقة ثابتة لا تقبل الجدل. 

ثم فجأة، جاء الصوت الذي لم تتوقعه، الصوت الذي كان مختبئًا طوال الوقت، مختبئًا خلف صمتها المستمر. كانت والدتها، التي كانت حتى تلك اللحظة تقف في زاوية الغرفة، لا تزال تهز رأسها بحزن، لكنها تجرأت أخيرًا على الوقوف أمام الجميع. 

-"كفاية... كفاية يا جماعة." كان صوتها ضعيفًا، لكن نظراتها كانت تحمل الكثير من العذاب. "إحنا مش هنعرف نكمل كده، ولا نعيش في دوامة الظلم دي." 

لكأن تلك الكلمات كانت الحجر الذي حرك المياه الراكدة. والدة يمنى وسلما لم تكن تمثل صمتًا فحسب، بل كانت تمثل سنوات من المعاناة التي فشلت في الخروج إلى الضوء. كل كلمة نطقتها كانت كإعلان حرب ضد سنوات من السكوت. 

والدها كان مذهولًا، شعر بالهجوم من جميع الاتجاهات. لكن كرامته، التي اعتقد أنها أقوى من كل شيء، بدأت تتلاشى مع كل لحظة تمر. شعر أن كل شيء يتساقط من بين يديه، بدءًا من سلطته، وصولًا إلى عائلته التي بدأ يشعر أنه لا يعرفها بعد الآن. 

-"أنتِ كمان؟" نظر إلى زوجته بغضب، صوته الآن منخفضًا لكن حادًا كالسيف. "إنتِ كمان هتقفي ضدي؟" 

كانت والدتها تجاهد لكي لا تدمع، لكن يبدو أن السنوات الطويلة من الصمت قد أفرغتها من القدرة على التحمل. 

-"أنا عايزة أعيش زي الناس يا جلال، مش زي ظل لذكريات مكسورة." قالتها، ثم ابتعدت عن المكان، دون أن تنتظر ردًا. 

والد يمنى ظل مكانه، وأصابته نظرات الجميع كالسكاكين. كان عاجزًا عن الرد، عجزه كان أكبر من أي شيء آخر. في تلك اللحظة، فهم أنه قد فقد شيئًا أعظم من مجرد سيطرته على البيت، فقد شيئًا لا يمكنه استعادته، ألا وهو كرامته أمام أولاده. 

سلمى كانت في حالة من الصدمة، لكن نظرتها إلى يمنى كانت مختلفة، كانت شكرًا. كانت تعرف أن أختها هي التي أنقذتها، هي التي جعلتها ترى الضوء وسط الظلام. 

لكن يمنى كانت تعرف أن الطريق لم ينتهِ بعد. كانت تعلم أن كل كلمة قالتها، وكل خطوة خطتها اليوم، ستكون بداية لحرب جديدة. حرب قد تكون أكثر قسوة من تلك التي عاشتها طوال حياتها. 

لكنها في هذه اللحظة، لم تهتم بما سيحدث بعد ذلك. ما يهم الآن هو أن الضوء قد بدأ يتسلل إلى داخل الظلام، وأن سلمى لن تبقى صامتة بعد اليوم. 

في تلك اللحظة، كان الهواء في الغرفة ثقيلًا، وكأن كل أنفاس الحاضرين توقفت. تكسرت الحواجز التي لطالما بنيت بين أفراد العائلة، وكل منهم يواجه حقيقة جديدة، حقيقة لا يمكن الهروب منها. 

يمنى نظرت إلى سلمى، التي كانت لا تزال في حالة ذهول، لكن عينيها بدأت تتفتحان شيئًا فشيئًا، كأنها ترى الحياة من زاوية جديدة، زاوية لم تعرفها من قبل. كانت الأخت الكبرى تحمل على عاتقها مسؤولية أكبر من أي وقت مضى. 

-"أنا مش هخليكِ لوحدك، سلمى"، قالت يمنى بصوتها الحنون، لكن حازمًا، وكأنها تعلن الحرب على الظلم الذي مرّ بها وعبر عليها طوال سنوات. "هنقف مع بعض، كلنا." 

ثم التفتت إلى والدها، الذي كان يقف في زاوية الغرفة، وكأن كلماته قد جمدت في حلقه. كان لا يزال يرفض تصديق ما حدث أمامه. لم يكن قادرًا على فهم كيف أُهينت سلطته في عقر بيته، كيف تحوّل زواجهما، وزواج ابنته، إلى معركة مفتوحة. 

لكن يمنى لم تتراجع. قالت بهدوء، وكأنها تضع النقاط على الحروف في بداية النهاية: "إحنا مش هنسكت تاني، مش هنبقى سلعة يتاجر فيها، مش هنبقى أدوات لقرارات إنتوا ما فكرتوش فينا فيها." 

والدها وقف صامتًا، كأن الكلمات التي سمعها ضربته في مقتل. لم يكن يعرف ما الذي يشعر به أكثر، هل هو الخيبة من بناته اللاتي لم يتبعن مشيئته، أم هو الغضب الذي بدأ يتسلل إلى قلبه من تفكك العائلة، من هشاشة كل شيء بناه طوال السنين؟ 

لحظات من الصمت، وبعدها... جاءت أم يمنى، التي كانت تتنقل بين ثناياها في صراع داخلي، لا تعرف إذا كان من الأفضل أن تقف مع زوجها أم مع بناتها. لكن كلمة يمنى كانت بمثابة الصاعقة التي أيقظت فيها شيئًا قد نسيته طويلًا، وهكذا قررت أن تتحدث أخيرًا، عيونها مليئة بالعذاب. 

-"جلال... احنا مش هنقدر نكمل كده. إنت مش شايف اللي احنا فيه؟" قالت بعيون دامعة. "إحنا أسرة ولا مجموعة من الأفراد المكسورين اللي بيحاولوا يرضوا العالم؟" 

شعر الجميع بشيء ما يتغير، شيء عميق يكاد يغير مجرى حياتهم. كان من الواضح أن هذه اللحظة هي نقطة التحول، اللحظة التي إما ستجمعهم أو ستفرّقهم للأبد. 

كانت سلمى تنظر إلى كل ما يحدث حولها بعينيها المملوءتين بالخوف، لكنها أخيرًا، لم تتمالك نفسها، وبدأت تنفجر بالبكاء، ليس خوفًا أو ضعفًا، بل لأن يمنى أخيرًا حررتها. حررتها من قيد الصمت، وحررتها من حياة لا تُريدها. 

-"أنا مش هكمل... مش هكمل الجوازة دي." قالتها بصوت متألم، لكنها كانت تعلم أن هذه هي الحقيقة التي كانت تخاف من الاعتراف بها لنفسها طيلة السنوات الماضية. 

والدها، بعد أن سمع تلك الكلمات، انفجر أخيرًا. كانت اللحظة التي شعر فيها أنه قد خسر كل شيء. سلطته، قراراته، حتى هيبته أمام أسرته. نظر إلى زوجته بنظرة مليئة بالمرارة، ثم نظر إلى بناته اللاتي لأول مرة لا يخفن منه. 

-"أنتوا هتضيعونا!" قالها بمرارة، ثم خرج من الغرفة دون أن يلتفت إلى شيء. 

الكل كان في حالة صدمة، لكن يمنى كانت تعرف شيئًا واحدًا: أن نهاية هذه اللحظة قد تكون بداية حياة جديدة، حياة حقيقية مليئة بالقرارات التي سيختارونها هم بأنفسهم، بعيدًا عن الضغوطات، والعادات، والأحكام. 

جلست سلمى على الأريكة، رأسها بين يديها، وكأنها كانت تود لو أنها تستطيع مسح كل تلك السنوات من حياتها، سنوات مفقودة في مكان ضاع فيه صوتها. 

لكن يمنى كانت تقف بثبات، عيونها مليئة بالعزيمة، وهي تعرف أن هذا ليس مجرد انقلاب في حياتهن، بل هو بداية لمستقبلٍ جديد، مستقبل يحق لهن اختياره، بعيدًا عن كل القيود التي قيدتهم بها الحياة. 

وقالت لها بهدوء: "دلوقتي... هنبدأ حياتنا

                  الفصل الثالث من هنا 





تعليقات



<>