روايةهيبة الفصل الخامس5بقلم مريم محمد غريب


روايةهيبة الفصل الخامس5بقلم مريم محمد غريب




_ عشق أعمى _ :

جلست" ليلى" في ساحة الحرم الجامعي، تحت ظل شجرة معمّرة، إلى جوارها كلٌ من "رنا" و"نوران" صديقتاها ..

شمس الظهيرة ترسل خيوطها الناعسة فوق المقاعد الأسمنتية، بينما تتناثر الضحكات والهمسات حولهن من الطلاب المتناثرين في المكان ..

كانت "نوران" تتحدث بعجبٍ وهي تضحك كعادتها:

-أنا مش فاهمة إزاي معرفة البت رنا دي بقالها 5 ساعات بس.. دي ليلى لوحدها حكت قصة حياتها مرتين لحد دلوقتي.. وكمان إيه. فضفضت بالسر إللي أنا نفسي ماعرفتوش إلا من شهرين بس!!

ضحكت "ليلى" بخفة، تهز كتفيها كأن الأمر لا يستحق الدهشة، لكن "رنا" لم تبتسم. كانت نظراتها جادة، وصوتها منخفضًا لكنه حاد وهي تقول:

-لأ هو الموضوع مايضحكش خالص يا نوران. واهدي شوية عشان عاوزة أقول لـ ليلى كلمتين مهمين ..

بالفعل صمتت "نوران" وأصغت "ليلى" عابسة، بينما تستطرد "رنا":

-بصي يا ليلى… السر ده لازم يتنسي. حتى ماتفكريش فيه في سرك. إللي بتعمليه في نفسك ده أكبر غلط.

رفعت "ليلى" حاجبيها بدهشة، لكنها ردّت بهدوء مُنهك:

-هو الحب بقى غلط يا رنا؟ ولا أنا اللي باختار أحب مين أصلاً؟

زفرت "رنا" بضيق، ثم قالت بحزم:

-أيوة غلط. لأن إللي بتحبيه مش مناسب ليكي بأي شكل… أولًا ابن عمك إللي مربيكي. وثانيًا أكبر منك بكتير.

عشر سنين بس! .. قاطعتها "ليلى" بعنادٍ طفولي

تابعت "رنا" رغم ذلك:

-وثالثًا ودي أهم واحدة… متجوز! فاهمة يعني إيه متجوز؟ يعني مافيش أمل. حتى لو حاولتي تحققيه.

صمت خفيف خيّم بينهن. نظرت "ليلى" إلى الأرض، بينما كانت كلمات "رنا" تتردد في رأسها، تضرب مشاعرها كسهام لا تُخطئ ..

إنها محقّة، تعلم ذلك جيدًا، لا أمل لها وراء عشقها لـ"نديم". ولن تجني شيئًا من حبّها له سوى المرارة والعذاب، لكنه قلبها المتعلّق به، كيف تردعه؟

ليس بيدها حيلة، إنها تحبّه، تحبّه وكأن حياتها تتوقف عليه، تحبّه رغم زواجه، رغم فرق العمر بينهما، تحبّه رغم المستحيل الذي يحول بينهما، فهل يمكنها حقًا أن تتراجع؟

لا تتخيّل مجرد المحاولة، لأنها تعتقد بأنها ستموت لو فعلت، لا يمكنها انتزاع "نديم" من قلبها، لا يمكن ..

ظلّت صامتة للحظات، تنظر في اللاشيء، تغرق في دوّامة من أفكارها وحبّها المستحيل… "نديم" ...

فجأة، قطعت "نوران" شرودها بصوتٍ حماسي:

-ليلى! نديم جه!!

ارتفعت عينا "ليلى" تلقائيًا نحو البوابة الرئيسية، وهناك… لمحت السيارة الفضيّة تقف بانتظارها، ثم دق هاتفها وقد كان يناديها فعليًا ..

خفّت أنفاسها، وارتسمت ابتسامة صغيرة على ثغرها رغمًا عنها، وقفت فجأة، وهي تلوّح لهما بسرعة:

-باي باي أشوفكوا بكرة.

ثم هرولت نحوه مشرقة الوجه.. كأن كل ما قيل لتوّه قد تلاشى في الهواء ...

_____________

بلغا أبنيّ العمومة "زين طاهر نصر الدين" و "شهد سليمان نصر الدين" بوابتيّ
القصر العريق الذي ورثت جدرانه وقاره من الزمن، كانت أروقته المنمّقة تنبض بهدوءٍ ثقيل، يحمل في طيّاته أسرار العائلة ومآسيها ..

-اوعى تمشي قبل ما أنزل أشوفك! .. قالتها "شهد" ممسكة بكفّ "زين" ونظرة اغواء بعينها

رمقها "زين" بنظرة فاترة، وقال ببرود ساحبًا كفّه من بين يديها:

-إن شاء الله يا شهد.. أبوكي لسا هنا ماسافرش البلد صح؟

أومأت له عابثة بخصلة شعر أفلتت أمام عينيها:

-هاتلاقيه عند جدو.. أي استفسار تاني يا حضرة الظابط؟

امتقع وجهه وهو يدير عيناه عنها قائلًا بضجر لم يحاول اخفاؤه:

-لأ شكرًا يا شهد.

وتركها متجهًا نحو غرفة مكتب الجد ..

فتح "زين" باب غرفة المكتب الفسيحة ودلف بخطى واثقة. كان الضوء الخافت ينساب من المصابيح النحاسية فوق المكتب العتيق، حيث جلس جده، أمامه "طاهر" والده. و"سليمان" ابن شقيق "رياض" والرجل الذي تربّع عرش العمدة بعد أن تنازل "رياض" عنه بمحض إرادته قبل سنواتٍ طويلة ..

-مساء الخير! .. هتف "زين" ممرًا نظرة سريعة على وجوه الجالسين

ثم توجّه مباشرةً إلى جده، انحنى يقبّل يده الهرمة بخشوع قائلًا:

-واحشني يا جدّي.. طمني عليك وعلى صحتك.

ابتسم "رياض" وربّت على رأس حفيده قائلاً بفخر:

-حفيدي الغالي. زين عيلة النصروية.. كيف ماكونش بخير وانت موجود يا ولدي.. يا ضهري وعكازي.. أجعد يا زين.

جلس "زين" في المقعد المقابل، ابتسم لجده بطلفٍ بينما تبادل كلًا من "طاهر" و"سليمان" النظرات، حتى قال "رياض" بنبرةٍ حازمة:

-جولّي عملت إيه.. عايز البشارة.

رد "زين" برصانته المعهودة:

-لسا شوية يا جدي.. قلت لك الموضوع ده ماينفعش يجي فجأة. واحدة واحدة.

رياض بنفاذ صبر:

-كيف واحدة واحدة بس.. أنا صبرت أكتر من 18 سنة. لساني هاصبر كمان؟

زين بهدوء: معلش يا جدي.. ليلى ماتعرفناش.. وماينفعش تاخد الصدمة مرة واحدة. إديني فرصة بس. أنا إنهاردة وريتها نفسي ورميت لها كلمة.. المرة الجاية الكلام هايبقى مكشوف.

لم يتسنّى الرد للجد، ارتفعت حرارة الأجواء فجأة، حين اندفع "طاهر" قائلًا بنزقٍ محتدم:

- يا حاج. أنا سايبك تعمل إللي على كيفك..  بس لازم تسمع مني الكلمتين دول. مش المفروض البت دي تكون هنا أصلاً. أمها غلطت. بتّك غلطت يابا ومرّغت شرفنا في الطين والخلج لساهم مانسيوش. دهب جابتها من الحرام…

قاطعه "سليمان" مؤيدًا:

-طاهر بيتكلم صوح يا عمي. وإللي اتعمل زمان ماينفعش نرجع نكرره تاني. العيلة دي ليها اسمها. والبت دي مش مننا من أساسه ولا تعرفنا ولا عمرنا عرفناها. ده انت المفروض تشكر ربنا إنه نجانا من عارها هي كمان.

انقبض وجه "رياض" لسماع كلماتهم، وارتعشت يده قليلاً وهو يضعها على المكتب، ثم يقول بصرامة وصوته كأنما يخترق الجدران:

-اسمع يا طاهر انت وسليمان. دهب بتّي خاطية. دهب تستاهل الحرج. بس ليلى حفيدتي. دمي ولحمي. وكفاية سمعت كلامكوا العمر إللي فات بحاله وسيبتها. ماعدتش هاسمع كلام حد غيري. ليلى راجعة. مش هاسيبها للغُرب طول العمر. دي مهما كان شرفي وعرضي.. وإللي مش عاجبه كلامي يشرب من المالح!!!

ساد صمت ثقيل، تبادلت فيه الأعين صراعًا خفيًا ..

ليقترب "زين" قليلًا من جده، ويقول بصوتٍ منخفض لكنه حاسم:

-ماتقلقش يا جدي… أنا مش هاسيبها. هرجع لها تاني… وهارجّعها ليك.. ده وعد مني!

نظر إليه "رياض" مطوّلًا بعينين مملوءتين بكبرياء الرجل العجوز الذي يخوض آخر معاركه. ويأمل أن ينتصر بها، هز رأسه بصمتٍ كأنّه يسلّمه الراية ..

فتنهد "زين" ناظرًا إلى "سليمان" مباشرةً كأنما هناك تحدّ قائمٌ بينهما ...
_____________

تجلس إلى جواره في السيارة، وملامحها مزيج من الحيرة والارتباك. نظرت إلى الطريق الممتد أمامهما، وقد لاحظت أنه لا يؤدي إلى المنزل ..

-إحنا رايحين فين؟ .. تساءلت "ليلى" بصوتٍ خافت، بينما عيناها تتبعان اللافتات والخط النيلي على يمينها

ردّ "نديم" بهدوئه المعهود دون أن يحوّل نظره عن الطريق:

-ماتستعجليش.. هاتعرفي دلوقتي.

ساد بينهما صمتٌ ثقيل، كأن الطريق يبتلعهما. لا صوت سوى همهمة المحرك والموسيقى الخافتة المنبعثة من سمّاعات السيارة الحديثة ..

وأخيرًا، توقفت السيارة أمام بناية حديثة ذات واجهة زجاجية أنيقة في أحد أحياء المدينة الراقية. التفت إليها وقال آمرًا:

-انزلي.

فتح الباب ونزل، ثم دار حول السيارة، أمسَك بيدها دون أن ينتظر إذنًا، فأمسكت بها بعفوية، كأن جسدها سبق عقلها في القرار ..

دخلا البناية، وركبا المصعد حتى الطابق السادس. طابق كامل يحتوي على شقة واحدة فقط. أخرج "نديم" مفتاحًا وفتح الباب بهدوء ..

-ادخلي.

إنصاعت "ليلى" مدفوعة بثقتها العمياء به، وعيناها تتجولان بدهشة داخل الشقة. كانت فسيحة، يغلب عليها اللونين الأبيض والرمادي، بقطع أثاث حديثة الطراز. السقف عالٍ تتدلّى منه ثريا زجاجية أنيقة، والجدران مزيّنة بلوحاتٍ فنية هادئة. الأرضيات لامعة، والهواء معطّر برائحة خشب فاخر ممزوجة بعطر ذكوري خافت ..

تقدّمت خطوات بطيئة، ثم التفتت، فوجدته يقفل الباب ويستدير نحوها ...

-إحنا فين يا نديم؟ وإيه الشقة دي؟.. سألته والشك يتسلل إلى صوتها

ابتسم "نديم" وبدأ في خلع سترته ببطءٍ، ثم فكّ ربطة عنقه، وتبعها بأزرار معصميّ قميصه، دون أن يبعد عينيه عنها ..

-تعالي نقعد هنا… وهافهمك.

تقدّم نحو الصالون الجانبي، بإضاءة ناعمة وأريكتين واسعتين، فتبعته بخطى ثقيلة، بينما قلبها يتقافز من سؤال إلى سؤال دون إجابة ..

جلست بجواره على الأريكة الرمادية الناعمة، بينما استرخى بكامل هدوئه، واضعًا ساق فوق الأخرى، ونظره مستقرًا عليها، يبتسم لها ببساطة ..

ابتسمت له دون تفكير، كأن ابتسامته سحبتها من توترها، ثم عادت لتسأله بهدوء وعيناها تتفحصان المكان من جديد:

-الشقة دي… بتاعتك يا نديم؟

رد مبتسمًا دون أن يغيّر شيئًا من نبرة صوته الهادئة:

-أيوة يا ليلى.. بتاعتي. إيه رأيك فيها؟ عجبتك؟

هزت رأسها بإعجاب قائلة:

-جميلة جدًا… بس مش فاهمة.. ليه عندك شقة زي دي أصلاً؟

-اشتريتها من ٣ سنين!.. قالها، ثم أكمل بعد لحظة صمت قصيرة:

-لسبب أكيد… هقولك عليه. بس مش وقته دلوقتي.

نظرت إليه بدهشة، لكنها لم تسأل مرةً أخرى.. سكتت ..

مال "نديم" بجسده قليلًا للأمام، ونبرة صوته أصبحت أكثر جدية، لكن بهدوءه الشهير قال:

-بصي يا ليلى… أنا جايبك هنا عشان في كلام مش هعرف أقوله لا في البيت ولا في أي مكان تاني. هنا… هنا بس أقدر أتكلم. وانتي تسمعيني من غير ما تقاطعيني.. فاهمة؟

نظرت إليه باهتمام، شعرت بقلبها يضرب أسرع وقالت بتوتر:

-قول طيب.. انت قلقتني.

لم يزيح عينيه عنها. لكن نظراته تلك المرة كانت أعمق، كأنها تحمل شيئًا ثقيلًا أخيرًا أفرج عنه ...

-أنا بحبك! .. قالها بثباتٍ، لكن عينيه كانتا تشي بتوترٍ دفين

كلمة واحدة… كانت كافية لتقلب داخلها كل شيء ..

شهقت بصمت، كأن قلبها انكمش فجأة. لم تصدّق… رغم كل شيء، لم تتوقعها منه ..

تلعثمت، عيناها تبحثان عن تفسير وهي تقول:

-بتحبني؟ قصدك يعني… بتحبني عـ عشان أنا بنت عمك؟ زي ما أنا كمان بحبك يعني…

قاطعها بهدوء حاسم وهو يقترب أكثر ممسكًا يدها فجأة دون تمهيد:

-بحبك يا ليلى! ..قالها مرةً أخرى، بصوتٍ منخفض لكنه صارم:

-بحبك… ومش قادر أكتّم اللي جوايا أكتر من كده.

ضغط على يدها بخفة، وعيناه لا تزال معلّقة بعينيها وأضاف هامسًا:

-أنا بحبك.. وعايزك.. عايزك أكتر من أي حاجة في الدنيا.. معقول عمرك ما حسّيتي بده؟

صارت الغرفة ضيّقة رغم اتساعها، الهواء مثقل بأنفاسهما، والنبضات المتسارعة تدوي في أذنيها كطبول حرب. وقفت "ليلى" فجأة، لكنه اجتذبها من معصمها معيدّا إيّاها بمكانها بقوة، أفلتت منها شهقة بينما يحاصرها بين ذراعيه المفتولتين ..

نظرت له مشدوهة، غير قادرة على استيعاب ما يحدث. "نديم" كان أمامها، لأول مرة، بل للمرة الثانية، أقرب ممّا ينبغي لأبن عمّها!

عيناه الخضراوين تخترقانها كأنهما تحاصرانها في زاوية لا مهرب منها، وصوته الخافت يغوص عميقًا بداخلها:

-الهروب مش هو الرد على كلامي يا ليلى.. أنا عمري ما كنت هاكلمك في حاجة زي لو كنت لامس ذرة رفض منك.. لكن أنا شايف في عنيكي.. شايف مرايا بتعكس كل إللي جوايا ناحيتك.. جواكي انتي كمان.

حاولت أن تتكلم، أن تفهم، أن تضع حدًا لهذا التوتر الخانق، لكن الكلمات خرجت ضعيفة، متعثّرة، كأنها لا تصدق نفسها ...

-بس. انت متجوز! .. قالتها بصوتٍ خافت، تحاول أن تُذَكِّره… أو ربما تذكّر نفسها

لم يرمش حتى، لم يبتعد، بل ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، خطيرة، قبل أن يجيب بنبرة ناعمة لكنها تحمل في طيّاتها خشونة لا يمكن إغفالها:

-وإيه المشكلة؟ راندا مجرد صورة.. لكن انتي.. انتي عارفة مقامك عندي.

ارتجفت أنفاسها، تشوّشت أفكارها، كأن كلماته صفعتها دون أن تلمسها يداه. حاولت أن تتراجع، ولاحظ هو ذلك، فضغط جسدها بجسده أكثر ممسكًا معصمها بيد ومحيطًا خصرها بالأخرى، المسافة بينهما أصبحت معدومة تقريبًا ...

-أنا مش فاهمة!… همست بها، وصوتها بدا واهيًا حتى في أذنيها

رفع يده ببطء، ولا زال لا يمنحها فرصة للهرب وهو يرفع أصابعه إلى وجنتها، يلمسها بجرأة لم يعهدها من نفسه معها من قبل. ارتعشت، شهقت بلا وعي، لكنها لم تتحرك، لم تستطع حتى أن تتنفس بشكلٍ طبيعي ..

-فاهمة. بس مش عايزة تصدقي! .. قالها بثقة وهو يمرر إبهامه فوق بشرتها، لمسته كانت ناعمة، لكنها حارقة، تترك أثرًا لا يُمحى

بلعت ريقها بصعوبة، استجمعت ما تبقى من شتات عقلها وقالت بعناد بلهجةٍ مرتعشة:

-لأ مش فاهمة يا نديم.. انت عايز إيه بالظبط؟ أنا حاسة ان في حاجة غلط.. ممكن تسيبني دلوقتي؟ 

أظلمت عيناه، وكأن الغضب تسرّب إليهما دون سابق إنذار، اقترب أكثر حتى كادت أن تشعر بدفء أنفاسه على وجهها وهو يتمتم ببطء، بصوتٍ أجش:

-وانتي عايزة تسيبيني؟

كانت إجابتها جاهزة، كان يجب أن تقول "أجل". أن تضع حدًا لكل هذا، لكنها لم تستطع، لم تجد الكلمة… وكأنها علقت في حلقها، وكأن شيئًا أقوى منها منعها من الكذب عليه.

رأى التردد في عينيها، رأى الحقيقة قبل أن تنطق بها، فابتسم… تلك الابتسامة الواثقة التي لطالما رأتها عليه على مر السنون، قبل أن يهمس قرب شفتيها، صوته كان أقرب لاعترافٍ خطير:

-انت ليَّا يا ليلى… من زمان. من قبل حتى ما تفهمي ده.

ارتجفت بين يديه، نظرت إليه بعينين تملؤهما الفوضى، وحين نطق بالسؤال القاتل، لم تستطع إلا أن ترنو إليه بصدقٍ موجع:

-بتحبّيني؟

تلعثمت شفتاها، حاولت أن تنكر، أن تتراجع، لكن شيئًا ما انتزع الحقيقة منها قبل أن تمنعها:

-بحبك… بحبك أوي!

أغمض "نديم" عينيه للحظة، كأنه يستوعب وقع كلماتها عليه، قبل أن يعود لينظر إليها مجددًا، عيناه تلمعان بانتصار لم يحاول حتى إخفاءه، ثم تمتم بصوتٍ خافت، لكنه تسلل إلى عظامها:

-ده هايبقى سرنا… اللي بينا ده محدش هايعرفه غيرنا!!

تجمّدت للحظة بين ذراعيه، كأن الهواء انقطع عن صدرها، وكأنها لا تصدق ما سمعته للتو. ثم ارتج جسدها فجأة، واندفعت تقاوم قبضته بيدين مرتعشتين، تدفعه بصدرها وكتفيها حتى أفلتها، لا عن عجز، بل عن رغبة في منحها فرصة للكلام ..

نهضت كمن يهرب من حافة هاوية، ووقفت أمامه تتنفس بسرعة، عيناها مشتعلة، وخدّاها يغليان من الذهول ..

قالت بصوتٍ مرتجف:

ـانت بتقول إيه؟ يعني إيه إللي بينا سر ومحدش هايعرفه غيرنا؟؟!!

قام واقفًا بدوره تنهد مودعًا يداه بجيبيه، كأن الأمر لا يستحق الانفعال وقال:

-كلامي واضح يا ليلى.. قلت لك بحبك.. وعايزك.. وانتي كمان قولتيها.. بتحبيني.. يبقى مش ناقص غير دليل يثبت إللي بينّا. الدليل هو إنك تكوني ليا.

نظرت له بذهول وقالت بصدمة:

-وعايزني أكون ليك إزاي يا نديم؟ عايزني أعيش معاك كده. متصاحبين؟ ترضاها لي؟؟!!

عبس قائلًا بانزعاجٍ:

-إيه إللي انتي بتقوليه ده؟ أكيد لأ.. انتي بنت عمي. وأغلى إنسانة عليا في الدنيا دي كلها.. تفتكري ممكن آذيكي؟

أجفلت قائلة باضطرابٍ:

-طيب فهمني.. أنا مابقتش فاهمة حاجة من كلامك!

قطع المسافة بينهما ممسكًا وجهها بين راحتيه، وقال بخفوتٍ:

-أنا هاتجوزك يا ليلى.. هاتجوزك.. خلاص مابقتش قادر اصبر ولا أخبي مشاعري ليكي.. ده إللي لازم يحصل.

كان قلبها يرقص سعادة من كلماته، لكنها طرحت السؤال الذي يؤرّقها بشدة:

-طيب وراندا.. وبابا والناس ..

قاطعها باسلوبه المقنع الذي لا يخيب معها أو مع غيرها أبدًا:

-لا راندا ولا عمي ولا جنس مخلوق هايقدر يمنعني منك.. انتي وبس إللي حبيبتي.. انتي إللي اتمنيت تكوني شريكة حياتي وأم ولادي.. كل حاجة هاتتحل ماتشليش هم طول ما أنا موجود.. المهم دلوقتي إنك عرفتي. وإنك هاتكوني ليا.. ده الأهم بالنسبة لي يا ليلي.

حدقت فيه غير مصدقة، إنه يقول كل هذا الكلام، لا تتوّهم، لا تحلم ..

حبيبها "نديم".. صرّح بحبّه لها.. بل وقد وعدها بالزواج.. ستكون له ..

ستكون له وهذا ما يهمها حقًا ! 


                الفصل السادس من هنا
تعليقات