رواية علي دروب الهوي الفصل السابع7 بقلم تسنيم المرشدي


 رواية علي دروب الهوي الفصل السابع7 بقلم تسنيم المرشدي


ليس الإنسحاب في كل الأوقاتِ هو الحل؛ يمكنك صفع من أساء إليك لتنعم بنومٍ أكثر راحة. 

***

استعادت جزءًا من وعيّها، كانت تشعر بآلامٍ مُتفرقة في جسدها، كلما تحركت يزداد الألم،  جاهدت نفسها حتى نهضت مستعينة بالأثاث. 

كان هناك ألمٍ في بطنها لا تتحمله، وكأن سكينًا تقطعها إربًا، تفقدت المكان التي قامت منه وشهقت مذعورة حيت وجدت بعض الدماء على الأرضية، وأيقنت حينها أنها تنزف، استندت على الأشياء حتى وصلت إلى الباب بصعوبة قابلتها في المشي، خرجت من المنزل ربما تجد من يساعدها. 

لحسن الحظ أنها مازالت ترتدي عباءة صلاتها، اتكأت على سور السُلّم، وهبطت درجاته حتى وصلت إلى المدخل، وقفت تلتقط أنفاسها كمن يركض في سباقٍ لمدة يومين دون توقف، لم تعد تتحملها قدميها، نظرت أمامها لكن الرؤية قد تشوشت ولم تستطع الرؤى بوضوحٍ 

انسدلت عبراتها حزنًا على ما أصابها، فكيف لها أن تعود إلى المنزل الآن بتلك الحالة؟ حتى مواصلة سيرها باتت أكثر صعوبة، استسلمت لتعبها الذي إنهال منها وأفقدها وعيّها مرة أخرى وهوت أرضًا.

تلك الأثناء كان وليد عائدًا من عمله، ألقى نظرة متفصحة على المنزل وقلبه ينفطر حزنًا على حبه الذي أصبح ماضٍ يؤلمه ذكرياته، تابع سيره وما زال مُثبت نظره على المنزل بآسى حتى وقعت عينيه على زينب. 

خفق قلبه بقوة وهرول إليها مذعورًا، جسى على ركبتيه وتفقد ملامح وجهها المكلوم، هناك آثار ضرب عنيف عليه، ناهيك عن عبائتها المُلطخة بالدماء، شعر بالإختناق والخوف لحالتها المذرية، أعاد بصره عليها ونادى عليها: 
_ زينب.. يا زينب

لم تكن في وضعٍ يسمح لها بالرد عليه، فلقد كانت في عالم آخر، لم يتردد وليد في حملها بين ذراعيه وخرج بها راكضًا يهتف عاليًا: 
_ حد يجيب عربية بسرعة، عايز عربية.. 

انتبه عليه جميع من بالحارة، وأسرع أحدهم بقيادة سيارته وتوجه نحو وليد الذي وضع زينب بالخلف وركب بالمقعد الأمامي أمرًا الشاب بلهفةٍ: 
_ اطلع على المستشفى بسرعة... 

كان يتفقدها من آن لآخر وقلبه يؤلمه على حالتها، كان يشفق عليها ويغضب منها، حتمًا عديم الإنسانية زوجها من أوصلها إلى ذلك الحال، توعد له أشر وعيد لكن بعد أن يطمئن عليها. 

*** 

كان يتحلى بالصبر حتى فاق تحمله استطاعته، نفذ صبره وخرج عن هدوئه وصاح عاليًا: 
_ هاتلي صاحب المخروبة دي وإلا هفرج عليكم الناس لو محدش خرج وقابلني!!

استنكر رجل الأمن أسلوبه الفظ وما كان من الآخر سوى أن يُهَاتف صاحب المنزل ليُخبره ما يحدث: 
_ آدم بيه، لو سمحت تيجلنا عند البوابة فيه مشكلة

سمعه عبدالله وهتف عاليًا: 
_ مش عايز آدم بيه بتاعك دا، قوله يكلم أبوه عايز أقابله؟! 

كانوا مستنكرين من أسلوبه الهجومي والجرئ، فمن يمكنه التحدث بوقاحة هكذا؟ بعد فترة؛ حضر آدم برفقة والدته بملامح متذمرة، وقفت وعقدت ذراعيها على صدرها رافعة حاجبها ترمق عبدالله باستحقارٍ شديد. 

بينما اقترب آدم منه وحادثه بعجرفةٍ ربما يسحقه أسلوبه ويُشعره أنه ضئيل القيمة: 
_ أفندم؟ عامل مشكلة ليه وصوتك عالي؟ فاكر نفسك في الحارة؟! دا مكان راقي ومحترم ومينفعش فيه الكلام دا 

لم يعطه عبدالله أي اهتمام لحديثه، فهو لم ينظر إليه ولن ينظر، أخذ نفسًا وقال ببرودٍ وعينيه مُصوبتان على نقطةً خلف آدم: 
_ أبوك فين؟ 

_ أبوك!! 
رددتها والدة آدم بنبرةٍ مُشمئزة مُستحقرة أسلوبه، فحرك عبدالله رأسه مستنكرًا تدخُلها وأردف وهو يشيح بصره عنها:
_ مبردش على حريم!! 

شهقت بصدمةٍ فلقد فاجئتها كلمته، كادت تُعقب لكن آدم قد أسبق بالحديث بتهكمٍ: 
_ اللي أنت عايزه مش موجود، فياتقول عايز إيه لـ...

لم يدعه عبدالله يُكمل خوفًا على ما سيصيبه إن تلفظ بتهديدٍ لم يعجبه وأردف وهو يعطيه المطوية: 
_ لما يبقى يجي ابقى رجع له دول وقوله عبدالله مش بيعة تقدر تشتريها بفلوسك 

لم يضيف المزيد؛ وأولاهم ظهره وغادر على الفور تحت نظرات الآخرين المذهولة، عادوا إلى الداخل وعقولهم ستجن مما كشفه عبدالله لهم، توقفت السيدة وسط الفيلا وهي لا تصدق فعلة زوجها المصون وهتفت بغيظٍ يشوبه البغض: 
_ شوفت أبوك بيعمل إيه من ورانا؟ بيبعت لأحلام وابنها فلوس!! مش دا اللي حلف أنه قطع علاقته بالناس دي؟ إيه اللي بيحصل دا بقى؟ الولد دا يإما بيكدب وبيعمل كدا عشان يضايقنا لإما أبوك بيستغفلنا.. 

لم تتلقى منه ردًا فنظرت إليه باستغراب وهتفت عاليًا بنبرة لا تحتمل النقاش: 
_ آدم أنا بكلمك، مش بترد ليه؟ 

لم يسمع آدم أي مما قالته فكان محلقًا في سماء أفكاره التي زادته غضبًا وعدوانًا، حرك رأسه باتجاهها وردد ما يدور في عقله: 
_ الواد دا مغرور وشايف نفسه زيادة عن اللزوم، محتاج يتكسر حبة!! 

استنكرت حديثه وما ينوي عليه، اقتربت منه وقابلته بملامح مستاءة قبل أن تُردف مُحذرة: 
_ ملكش دعوة بيه لا بحلو ولا وحش، سامع يا آدم!! 

لم يعقب فصاحت: 
_ رد عليا.. 

_ خلاص بقى مش هعمل حاجة..
بنبرة تريد الخلاص قالها فأولته هي ظهرها باحثة عن هاتفها وأردفت بتوعد عندما وجدته: 
_ ودلوقتي هنشوف رأي باباك في الموضوع دا إيه؟ 

*** 

استقل التاكسي الذي جاء معه، ألقى نظرة حقد أخيرة على القصر، حينها عقله  ظل يردد أن هذه حقوقه، أملاكه؛ لكن سرعان ما نفض تلك الأفكار من رأسه، أمسك الهاتف يتفقد المكالمات الفائتة ووجد صباه قد هاتفته. 

كاد يعاود الإتصال إلا أن إتصال وليد قد منعه، فقام بالرد عليه: 
_ إيه يابني مختفي فين من الصبح؟ 

_ أختك معايا، رايحين المستشفى..
هتفها وليد ونظريه لم يفارقاها، قطب عبد الله جبينه عبدالله فالأمر كان مريبًا ولم يستطع عقله فهم ما يحدث، ابتلع ريقه وبخوفٍ سأله: 
_ مستشفى إيه؟

أخبره وليد فأسرع عبدالله في إبلاغ السائق بتغير مساره، ولحسن حظه أنه كان قريب من المستشفى، بعد دقائق مرت على الجميع ببطءٍ قد نهش القلق والخوف قلوبهم، وصلوا إلى المستشفى. 

ترجل وليد وصاح وهو يولج مدخل المستشفى: 
_ عايز مساعدة، معايا حالة تعبانة.. 

عاد إلى السيارة برفقة بعض التمريض الذين قاموا بإخراج زينب بحذرٍ وتعاملوا معها بعملية ثم تحركوا نحو غرفة الطوارئ. 

وقف وليد يلتقط أنفاسه في الخارج، قلبه يؤلمه على حالتها، ويزداد كُرهًا وغضبًا كلما تذكر كدمات وجهها، ضرب الحائط من خلفه بعنفٍ حتى آلمته يداه. 

انتبه على قدوم عبدالله الراكض نحوه متسائلًا بقلقٍ: 
_ في إيه، مالها زينب وهي فين؟ 

أجابه وليد وهو يشير إلى الغرفة المجاورة له: 
_ جوا.. لقيتها واقعة في الشارع مش حاسة بنفسها فجبتها على هنا... 

حدجه عبدالله بسخطٍ وسأله بجدية: 
_ جبتها إزاي؟ 

لم يحب وليد ذلك الجزء تحديدًا من سؤاله، بالتأكيد لن يعجبه الأمر لكن ليس بيده سوى إخباره، إن لم يعرف منه حتمًا سيعلم من غيره: 
_ شيلتها وأسعد النجار اللي جنبنا هو اللي وصلنا بعربيته.. 

احتدت ملامح عبدالله وبدت وكأنه يود الفتك به، شعر وليد حينها بالخوف من رد فعله، لكنه كان أهدى مما توقع، بعد رمقه بنظراتٍ مشتعلة لا يخلوا منها العتاب ابتعد عنه عبدالله مقتربًا بخُطاه من الغرفة في إنتظار شيءٍ يطمئنه على شقيقته. 

بينما هاتف وليد زكريا فوجوده بات حتمي الآن، ليفصل بينهما إن تفاقم الأمر وحدث مشادة بينهما. 

بعد فترة؛ خرج الطبيب فاقترب منه عبدالله وكذلك وليد لكنه حرص على ترك مسافة، ثم تساءل عبدالله بلهفةٍ وذعُر: 
_ خير يا دكتور أختي مالها؟ 

_ واضح إن أخت حضرتك اتعرضت لضرب عنيف جدًا ودا واضح من الكدمات والآثار اللي على جسمها، دا غير إنه عملها نزيف ولو كان الأستاذ...

وجه نظره نحو وليد وأضاف بعملية: 
_ أتأخر شوية كنا زمانا فقدنا الجنين..  

تفاجئوا مما يخبرهما به، يزداد كره حماد داخلهما، لكن ما يشعر به وليد كان مضاعف فهو يتألم من أجلها ويغضب منها، ويشعر بالغيرة من ذلك الجنين الذي علم عنه للتو. 

كان يشد بقبضته حتى غرز أظافره في يده من فرط غضبه لما يسمعه من الطبيب، تنهد وحاول التماسك أمامه وتساءل باهتمام: 
_ يعني هي حالتها إيه يا دكتور؟ 

_ وضع الجنين طبعًا حرج ولازم راحة تامة وإلا هتفقده، إحنا لسه معديناش مرحلة الخطر.. 

مال الطبيب على أذن عبدالله وتابع بهمسٍ: 
_ لو عايز تفتح محضر باللي حصل لأختك أنا هكتب لك التقرير..

نظر حيث يقف وليد ورمقه باستحقار قبل أن يردد: 
_ وبالتقرير دا تقدر تعمل بيه محضر وتسجنه..

تفاجئ عبدالله بما يُلمح إليه الطبيب وأسرع في توضيح سوء الفهم الحادث: 
_ أنا مقدر مساعدتك جدًا يا دكتور، بس مش هو اللي عمل فيها كدا..

أماء الطبيب بتفهمٍ على الرغم أنه لم يصدق كلامه، واستاذن ليتابع عمله، بينما لم يفضل عبدالله مواجهة وليد وإلا سيحدث مالا يُحمد عُقباه، أراد إخماد غضبه أولًا ثم يُحادثه. 

دلف غرفة الطوارئ بملامح مشدودة غاضبة، تبخرت فور رؤيته زينب وما أصابها، طالعها بتأثر شديد حتى لمعت عينيه، توجه إليها فانتبهت عليه وتقابلت مع عينيه، حينذاك لم تنجح في التماسك وانفجرت باكية. 

أسرع عبدالله نحوها وقام باحتضانها، وبدأ يُمسد على ظهرها بحنانٍ حتى فرغت من البكاء، تراجع قليلًا وسألها بنبرةٍ حنونة قلِقة: 
_ حاسة بإيه؟ إيه اللي بيوجعك؟ 

_ هبقى كويسة..
أجابت بإيجاز حين رأت الخوف في عينيه، ربتت على يده فعاود عبدالله متساءل بعد أن احتدت تقاسيم وجهه: 
_ هو اللي عمل فيكي؟

لم تقدر على مواجهة عينيه تلك اللحظة وهربت بعيدًا بنظرها، فتأكد عبدالله أن ذلك النذل هو الفاعل، أرادت تغير مسار الحوار لتبعد حمادة عن أفكاره فتساءلت: 
_ أنا جيت هنا إزاي؟ معاك؟

حدجها عبدالله لفترة وهو لا يدري بماذا سيجيب فالأمر مخذي للغاية، تنفس بعض الهواء وأجاب باختصار: 
_ وليد شافك وهو اللي جابك هنا.. 

عقدت زينب حاجبيها بغرابة، فلقد تفاجئت وراودها شعور مُنفر، كيف تأتي إلى هنا برفقة رجلًا ليس من محارمها، حركت رأسها باستنكار شديد وهتفت: 
_ وليد!! إزاي؟ تقصد طلب لي الإسعاف؟ 

هب عبدالله واقفًا فهو حتمًا ليست لديه إجابة مقنعة يجيبها بها، ولن يلفظ ما حدث على لسانه، تبِعته زينب بنظراتها المتعجبة لأمره وسألته:
_ رايح فين؟ 

ربت عبدالله على كتفها وردد بهدوء:
_ ارتاحي.. 

توجه ناحية الباب فأسرعت زينب في قول:
_ متعملوش حاجة عبدالله

تجمدت قدمي عبدالله، حقًا هذا كثير، استدار إليها وبصوتٍ منفعل خرج رغمًا عنه هدر:
_ أنتِ بدافعي عنه بعد اللي عمله فيكي دا؟! 

_ مش بدافع.. 
قالتها ثم وضعت يمينها على بطنها ونظرت إلى جنينها وأضافت بنبرةٍ متحسرة:
_ مش عايزة ابني أو بنتي يطلعوا يلاقوا خالهم وابوهم بينهم مشاكل.. 

رُفع حاجبي عبدالله تلقائيًا مستنكرًا سخافة حديثها، وصاح منفعلًا: 
_ إنما يجوا يلاقوا أبوهم بيضرب أمهم دا عادي صح؟! 

سقطت عبرة على مقلتيها، مسحتها سريعًا وهي تهتف بنبرة مختنقة: 
_ حمادة طيب، ومسيره هيعرف غلطه واللي بينا هيفضل بينا مش عايزة حد يدخل فيه!! 

فغر عبدالله فاهه بصدمة، لا يصدق سذاجتها أو ربما غبائها اللامحدود، أغمض عينيه لثانية ثم أولاها ظهره ليغادر لكنها لحقته بقولها:
_ اوعدني إنك مش هتيجي جنبه..

اكتفى باستدارة رأسه يطالعها بخذيٍ لضعف شخصيتها فتوسلت إليه زينب برجاء:
_ عشان خاطري يا عبدالله اوعدني

نظر إلى المصل الذي يخترق وريدها ولم يريد اتعابها فقال: 
_ وعد يا زينب.. 

غادر الغرفة ثم هاتف والدته أخبرها لتأتي وتجاور  زينب فهي بحاجة إلى رفيق والآن عليه فعل شيءٍ ربما يخمد نيران غضبه. 

خرج من الغرفة فلم يجد وليد، حمد الله أنه غادر حتى لا ينال جزءًا من غضبه، خرج من المستشفى فوجده يقف برفقة زكريا، أخذ نفسًا ليستعد لمواجهته. 

_ عبدالله طمني الأمور جوا أخبارها إيه؟ 
قالها زكريا باهتمامٍ فاكتفى عبدالله بقول: 
_ الحمدلله..

لم يرفع نظريه عن وليد الذي يقف خلف زكريا خجِل من تصرفه، اقترب منه عبدالله قليلًا وحاول جاهدًا التحلي بالهدوء: 
_ قولي يا وليد أنت ليه مكلمتنيش؟ 

اهتز الآخر فلم يكن مستعدًا للمواجهة، شهيقًا وزفيرًا فعل ثم قال بحرجٍ: 
_ أنا لما شوفتها واقعة وقتها مفكرتش غير إني ألحقها وخصوصًا لما شوفتها بتنزف.. 

لكزه عبدالله في كتفه بخفة وهو يعاتبه: 
_ بس كان أولى إنك تكلمني، الأصول إنك تستنى لغاية ما أجي وأنا اللي أوديها المستشفى، لكن يعني إيه تشليها وتمشي بيها في الحارة وسط الناس وتجيبها المستشفى وبعدين تتكرم تكلمني؟! 

_ يا عبدالله أنا...
حاول تبرير موقفه لكن قاطعه عبدالله بهجومه: 
_ أنت إيه؟ رد أنت إيه؟ أنت اتعديت الأصول يا صاحبي، أنت هتخلي سيرتنا على كل لسان باللي عملته دا!! 

كور عبدالله يديه بقلة حيلة، نظر حيث زكريا وأردف وهو يصر أسنانه: 
_ عقل ابن عمك 

ثم تركهما وغادر دون الإلتفات لنداء زكريا، الذي التفت إلى وليد وعاتبه بحدة: 
_ أنت مش قادر تنسى إنها متجوزة، واللي عملته دا ميصحش، بجد مش قادر أفهم كان عقلك فين؟

_ أسيبها تموت عشان خاطر الأصول!! 
قالها وليد مستنكرًا لومهما، فصاح زكريا عاليًا: 
_ لا متسيبهاش تموت، بس كان ممكن تطلب الإسعاف، تكلم عبدالله، مش تجري بيها في الحارة وهي على ايدك، يا جدع دا أنا مش أخوها ولا جوزها ودمي فار وأنت بتحكيلي.. 

خرج وليد عن صمته وانفعل عليه بعصبية: 
_ أهو اللي حصل بقى، بطلوا جلد من غير ما تحسوا بيا 

حرك زكريا رأسه مرارًا لذلك الوضع الذي أوقع نفسه به، أخذ نفسًا ثم تخلى بالهدوء وقال: 
_ أنت لسه بتحبها يا وليد؟ 

تفاجئ وليد بسؤاله وأطال النظر إليه فأكد حدس زكريا الذي رمقه بآسى وهو يحاوط كتفي وليد بذراعه: 
_ آه يا إبن عمي آه 

أخرج تنيهدة مُحملة بالآسى والحسرة لما يحدث معهم تلك الفترة، نظر إلى وقوف عبدالله الذي ينتظر سيارة وقال وهو يحثه على التقدم منه: 
_ يلا نشوف عبدالله رايح فين؟! 

توجها إليه وتولى زكريا التحدث حتى لا تشتعل النيران بينهما أكثر وتُخلق مشادة كلامية بينهما: 
_ رايح فين يا عُبد؟ 

رمقهما بطرف عينيه فسحق وليد بنظراته، وعاود النظر أمامه وداخله يستشيط غيظًا من فعلته الخرقاء، يغار على عرضه وكلما تخيل حمله لها ينتابه شعور مُلح في لكمه. 

لكزه زكريا بخفة في كتفه مردفًا سؤاله لخلق حوار بينهما: 
_ ناوي تعمل إيه مع الحيوان اللي اسمه حمادة

أغمض عبدالله عينيه لبرهة ثم حرك رأسه باستنكار ناعتًا وعده الذي أخذه بعدم لمسه، وردد مستاءً من نفسه:
_ وعدتها إني مجيش جنبه، بس هموت وأفرتكه 

حل الصمت لثوانٍ قبل أن يشير وليد إلى زكريا فنظر إليه، فوجده يشير بيده عليهما فاستشف قصده وقال اقتراحه لعبدالله ربما يقبل به: 
_ إحنا موجودين يا صاحبي، وبكدا متكنش خلفت بوعدك مع أختك 

أدار عبدالله رأسه ناظرًا إلى زكريا يردد في هقله اقتراح صديقه، ثم قبل به، انتظر حتى وصلت والدته وغادر المكان برفقة صديقيه، متوعدون إلى عديم الآدمية ذاك. 

*** 

تجوب الغرفة ذهابًا وجيئا، قلبها تتسارع نبضاته، يتملكها القلق والإرتباك، تفرك يديها بقوةٍ، ذهبت في الأخير عند الباب ومالت تسترق السمع فلم تجد صوتًا بالخارج. 

أغمضت عينيها وزمت شفتيها تتحلى ببعض الشجاعة لتخرج من غرفتها، وبعد تفكيرٍ طال لوقت قررت الخروج لعلها تمنع وقوع الكارثة قبل حدوثها. 

مشت على أطراف أقدامها لكي لا تصدر صوتًا حتى وصلت إلى غرفة والديها، أخذت نفسًا ثم زفرته على مهلٍ بعد أن صغت جيدًا ووجدت الأجواء هادئة، حتمًا لقد غافيا. 

بهدوءٍ حذِر أدارت مِقبض الباب وهي تعُض شفتيها خشية أن يصدر الباب صريرًا عاليًا يوقظهم، لكنها في النهاية نجحت في فتحه بسلام، تابعت سيرها للداخل بخُطوات حذِرة تبحث عن هاتفها. 

لم تساعدها الإضاءة؛ فالغرفة كانت مُظلمة، وقررت الإعتماد على تفقد الأشياء بيدها، انحنت لتتفقد الكومود ثم شعرت بيدين تمسكان بها. 

فشهقت مذعورة لكن سرعان ما وضعت يدها على فمها مانعة شهقتها، تجمدت في مكانها وهي لا تعلم يد من تلك، حتى وقفت والدتها أمامها قائلة بهمسٍ:
_ تعالي معايا.. 

سبقتها إلى الخارج، وتبِعتها صبا فتساءلت بعقلٍ غير مُطمئن لاقتحامها الغرفة بتلك الطريقة، فكان قلبها يخبرها أن ما إدعاه زوجها صحيح: 
_ بتعملي إيه كدا جوا الأوضة؟ 

عضت صبا شفتاها السفلية فكانت تؤكد ظنون إجلال حتى قالت صبا بترددٍ: 
_ أنا محتاجة موبايلي.. 

رمقتها إجلال بأعين ضائقة وقالت سؤالها وهي تتمنى نفيها له: 
_ إوعي يكون الكلام اللي أبوكي قاله صح وأنتِ مع عبدالله...

قاطعتها صبا بقولها: 
_ والله العظيم علاقتنا محترمة ومش زي ما أنتوا فاكرين خالص.. 

فغرت إجلال فاها بصدمةٍ؛ لقد أصاب حدسها، وضعت يدها على فمها من فرط ذهولها فتابعت صبا برجاء:
_ عشان خاطري ساعديني أجيب الموبايل أكلمه قبل ما الدنيا تبوظ.. 

لم تكن صدمة بسيطة، فعقلها لا يستوعب بسهولة علاقة ابنتها مع ذلك الشاب، ظلت تطالعها بمزيجٍ من المشاعر المتناقضة، فكانت تلومها في نظراتها، فآخر ما اعتقدته أنها تفعل شيءٍ لم تُنشِأها عليه. 

أمسكت صبا بذراعها متوسلة إياها بخوفٍ عارم:
_ ساعديني أخد الموبايل عشان خاطري.. 

_ أنا عايزة أعرف كل حاجة..
خرجت والدتها عن صمتها بقولها ذلك، فرددت صبا وهي تهز رأسها:  
_ هقولك كل حاجة بس هاتي الموبايل الأول 

اطالت إجلال النظر عليها ثم أماءت بقبول وتحركت نحو غرفتها، وبعد فترة خرجت مُمسكة بالهاتف، فتنهدت صبا براحه، أخذته منها وأسرعت نحو غرفتها وكذلك والدتها التي أغلقت الباب خلفهن.

ثم جلست على الفراش في انتظار معرفة الأمر كاملًا، حاولت صبا الإتصال على عبدالله لكنه لم يجب، داخلها قلِق للغاية بسبب عدم اجابته منذ وقتٍ باكر، وفي الوقت ذاته تحمد الله داخلها أنه لم يجب على إتصالات أبيها، فكان حدث مالا يُحمد عقباه. 

تأففت بضجرٍ يكسوه القلق وهتفت: 
_ أوف مبيردش 

أشارت إجلال إلى الفراش قبل أن تردف بهدوءٍ ما قبل العاصفة: 
_ تعالي اقعدي واحكيلي على لما توصليله..

حدجتها صبا بخجلٍ صريح، اقتربت منها وجلست بجوارها، ثم بدأت تقص بداية علاقتهما حتى الآن: 
_ بقالنا سنة تقريبًا بنتكلم، قعدنا فترة في الأول كانت نظرات وكنت حاسة من نحيته بمشاعر غريبة لغاية ما جه واعترف لي أنه بيحبني، طبعا أنا وقتها رفضت المبدأ وقولتله الكلام دا مش عندنا وهو احترمني جدًا وقعد فترة مش بيكلمني، لغاية ما جه تاني وقالي أنه مش قادر يكون بيوصلني كل يوم ويخفي مشاعره، وقتها قولتله روح لبابا فقالي أنه مش جاهز دلوقتي ومحتاج فترة يجهز فيها نفسه عشان لما يتقدم بابا ميرفضوش.. 

صمتت لتستشف من خلف ملامح والدتها بما يدور داخل عقلها لكنها فشلت فكانت جامدة لا تُشكِل أي تعابير، تنهدت وتابعت رويها للقصة: 
_ ووقتها بعد إلحاح منه وافقت وبعد ما اتاكدت إني جوايا أنا كمان مشاعر نحيته، بس والله والله علاقتنا عمرها ما تخطت الكلام بس، عمرها ما وصلت للـ لمس ولا حتى كلام برا نطاق روتين يومنا، ويمكن عشان كدا كنت مطمنة لأنه مكنش بيخوفني بتصرفاته بالعكس كنت مطمنة وأنا شايفاه حاطط حدود بينا مش بيتخطاها.. 

توقفت عن الحديث فكانت متعجبة من حالة والدتها، وسألتها بتوجسٍ لرد فعلها: 
_ أنتِ ساكتة ليه؟ 

_ مصدومة.. معقول صبا تخون ثقتنا فينا؟ بلاش أنا، مكنتيش بتفكري في شكل أبوكي وضميرك يأنبك؟ 
هتفتها إجلال بعقلٍ لا يصدق ما أملته عليها ابنتها، بينما أجابتها صبا بخذيٍ لفعلتها: 
_ كنت بموت كل ما بشوف بابا وأحس إني بعمل حاجة غلط من وراه، وعلى فكرة نهينا الموضوع أكتر من مرة وآخرهم لسه امبارح بس مقدرناش، غصب عننا مكنتش قادرين نتعامل زي الأغراب،  ووقتها عبدالله أخد خطوة رسمية وراح لبابا عشان علاقتنا تطلع في النور.. 

حركت إجلال رأسها باستنكار شديد، وهتفت بنفورٍ: 
_ وأنا المفروض بعد اللي عرفته دا أعمل ايه؟ أقول لابوكي إيه؟ 

_ استغفليني أنتِ كمان يا إجلال.. 
قالها محمود وهو يقتحم الغرفة بعد أن وقع حوراهن على مسامعه بعد أن قلق ونهض باحثًا عن زوجته. 

_ بابا!! 
_ محمود!! 
انتفضن من مكانهن وهن يهتفن بذهولٍ ودهشة لسماعه الأمر، اقترب محمود بخُطوات ثائرة وشيطانه يعمي عينيه حتى وقف أمام ابنته وبكل ما أوتي من قوة قام بصفع صبا التي تفاجئت من فعلته. 

لم يستطع كبح جماح غضبه لحظتها واندفع بها  بعصبية بالغة:
_ بقى أنتِ تستغفليني يا صبا؟ تخوني ثقتي فيكي! تخلي سيرتك وسيرتي على لسان الزبالة اللي اسمه حمادة!! حنيتي راس أبوكي يا صبا!! 

أمسكت صبا وجهها مكان صفعه لها متألمة، كانت تتساقط عبراتها بغزارة كهطول الأمطار الشديد، حاولت تبرير موقفها وإيضاح الأمور له بنبرة باكية: 
_ يا بابا والله العظيم أنا عمري ما أعمل حاجة تخلي راسك محنية، أنا عارفة إني غلطت، بس مكنش بينا أكتر من كلام بس، عبدالله محترم وبيخاف عليا.. 

صمتت فجأة حين دوت على وجهها صفعة أخرى، لم يستطع تقبل كلامها وكأنه أمرًا عاديًا، فارت الدماء في عنقه وبرزت عروقه وهتف باسيتاء:
_ أخرسي خالص، متجبيش سيرة اللي عملتيه على لسانك وتبرري كأنه عادي، بس أنا اللي غلطان، أنا اللي اديتك قيمة متستاهليهاش، اديتك ثقتي الكاملة من غير ما أدور وراكي.. 

أطلق ضحكة ساخرة ثم أضاف وهو ينظر إلى إجلال بنظراتْ مشتعلة:
_ كنت فاكر إن اللي ربيناكي عليه كفيل إني أعمي عيوني واسيبك على هواكي، كبرتك وعلمتك عشان تبقي دكتور قد الدنيا وفي الآخر رديتي المعروف بإيه؟ 

اسقط نظره نحو الهاتف وقام بسحبه منها، ثم ألقاه باتجاه الحائط حتى بات كقطعة خردة، تتابع صبا ما يحدثه والدها ودموعها لا تتوقف عن النزول، أعاد والدها النظر إليها واحتدت تعابيره وصاح متوعدً:
_ من هنا ورايح معتش مرواح مستشفيات، معتش خروج من باب اوضتك، معتيش هتشوفي الشمس يا صبا، لو كنت فشلت في تربيتي فيكي يبقى تتربي من جديد. 

نظر حيث تقف إجلال وأمرها بعنفٍ: 
_ امشي اطلعي برا..

لم تجادله إجلال وهرولت إلى الخارج بخوفٍ، لكي لا تنال جزءًا من غضبه أيضًا، رمق صبا نظرة استحقار قبل أن يتوجه إلى الخارج ويوصد الباب بالمِفتاح، خارت قوتها وسقطت ارضًا، ازداد نحيبها ألمًا وحزنًا على صفع والدها لها، كانت تزداد اختناقًا كل ثانية تمر ولا تتوقف عن البكاء قط. 

*** 

عاد إلى منزله في وقتٍ متأخر من الليل، ليضمن نومها، ولا يواجهها فهو جبان حقير لا يقدر على المواجهة، دلف المنزل وتفاجئ بثلاثتهم يجلسون متفرقين في المكان. 

ذُعِر وخفق قلبه رعبًا لكنه تماسك وتصنع القوة: 
_ انتوا بتعملوا إيه هنا في بيتي؟ وفين زينب؟ 

هرب من أعينهم متصنعًا انشغاله بالبحث عن زوجته: 
_ زينب يا زينب ..

لم يجدها فعاد إليهم متسائلًا وعينيه مصوبة نحو عبدالله: 
_ هو إيه اللي بيحصل بالظبط، وانتوا في بيتي بتعملوا إيه؟ 

انتفض عبدالله فجأة فازداد حمادة خوفًا من هيئته الغاضبة، توجه عبدالله نحو نقطةٍ ما وجسى على ركبتيه ثم أشار بسبابته على الدماء التي تغطي الأرضية:
_ ضربتها هنا؟؟! سيبتها تنزف هنا ومشيت؟!

وقع بصر حمادة على الدماء وتفاجئ، برقت عينيه وعلم أن نهايته على يد عبدالله والآن، ابتلع ريقه وحاول تبرير تصرفه بإلقاء اللوم على عاتق عبدالله: 
_ أنت السبب في اللي حصل دا، أنت لو مكنتش كلمتها وخليتها تتقلب عليا مكنش دا حصل، أنت السبب يا عبدالله!! 

انتصب عبدالله في وقفته، في تلك الأثناء وقفا صديقيه خلف حمادة دون أن يُشعراه بذلك، بينما أردف عبدالله بهدوءٍ شديد وهو يدور حول نفسه: 
_ تعرفوا، فيه دور ماشي الأيام دي منتشر أوي.. 

انتبهوا له فتابع وهو ينظر داخل عيني حمادة ببغضٍ: 
_ دور الضحية!! 

دنا منه عبدالله حتى إلتصق بصدره وهمس بقُرب أذنه:
_ حظك إني وعدتها مجيش جنبك.. 

استدار بجسده مبتعدًا عنه فتفاجئ حمادة بتقيده من الخلف من قِبل زكريا، تابع وقوف وليد أمامه ونظرات الشر تلمع في عينيه، فصاح عاليًا يحذرهما:
_ محدش يقرب لي، يا عبدالله أنت قولت وعدتها إنك متجيش جنبي..

_ بس إحنا موعدناش يا روح أمك!! 
هتفها وليد بكُرهٍ شديد، ثم توالت اللكمات على وجهه وثائر جسده حتى أنهكه وليد، فكان يتذكر وجه زينب وما أحدثه ذلك الحقير ويزداد عنفًا في ضربه، حتى خر حمادة أرضاً فلم تعد تحمِله قدميه. 

تدخل زكريا حينما لم يجد وليد ينتهي مما يفعله وهتف: 
_ خلاص يا وليد هو كدا عرف غلطه خلاص..

لم يسمعه، فلقد أغلق أذنيه وجميع حواسه، فقط يريد الثأر لحبيبته، انتبه عليه عبدالله وتعجب من هجومه العنيف الذي يزداد ولا يتوقف، فاقترب منه وأمسك بيديه مرددًا: 
_ خلاص يا وليد..

انتبه وليد على حاله، ونظر إلى صديقيه بحرجٍ، أسقط عبدالله نظريه نحو حمادة الذي يجسو على ركبتيه ووجه له حديثه بحدة: 
_ أنا ممكن أسامح لو  غلطت في حقي، لكن تيجي على اللي يخصني أنسفك، ودا درس يعلمك إنك متقربش لحاجة تخص عبدالله القاضي..

انحنى بجسده قليلًا وقام بإعدال ياقة قميص حمادة وقال بخفوت: 
_ متحاولش تختبر صبري تاني.. 

أولاه ظهره وتحرك نحو الباب وكذلك تبعوه زكريا ووليد خلفه، لكن اوقفهم حمادة حين هدر: 
_ كان نفسي أسقف لك.. 

أدار عبدالله رأسه ناظرًا إلى ذلك المختل فتابع بإبتسامة متشفية والدماء تسيل من فمه:
_ بس أنا سبقتك بخطوة، وقدرت أشفي غليلي منك، ومهما عملت مش هتقدر تكسرني زي ما أنا عملت فيك!! 

ضاق عبدالله بعينيه؛ فلم يستشف إلى ماذا يرمي؟! قهقه حمادة بتهكمٍ وهو يخبره عما فعله: 
_ أبو الدكتورة عرف كل حاجة، عرف أنك أنت وبنته كنتوا مستغفلينه! 

صدمة حلت على أوجه الجميع، ساد الصمت للحظة وكأن الكون وقف في نظر عبدالله حينها، تأجج الغضب وتجدد داخله ولم يشعر بنفسه سوى وهو يعتلي حمادة يبرحه ضربًا، كان الآخر يبتسم بتشفي ولا يُظهر ألمه الذي يشعر به فكان يزيد من غضب عبدالله حتى أفقده وعييه. 

صعق زكريا حين ارتمى حمادة فجأة وكذلك وليد لم يكن أقل منه صدمة، هرول زكريا نحو عبدالله وأجبره على الإبتعاد عنه مرددًا بخوف:
_ بس بس كفاية.. 

توجه نحو حمادة وتفقد نبضه فوجده ينبض أسفل يده، زفر براحة وقال: 
_ لسه عايش.. 

وقف عبدالله يلتقط أنفاسه ثم سحب هاتفه من جيبه وتفاجئ بكم الإتصالات التي قامت بها صبا، أغمض عينيه مستاءً من نفسه، نظر إلى زكريا وقال: 
_ متسبهوش لغاية ما يفوق 

أماء الآخر بقبول بينما غادر عبدالله سريعًا، كاد يهاتف صبا لكنه تريث فالوقت متأخرًا وفضّل أن يرسل رسالة أولًا. 

أرسل لها أنه يتوجه إلى شرفة غرفتها إن لم تكن قد غفت فلتخرج له، ذهب إلى مكانهما المعتاد ورفع رأسه في انتظار خروجها إلى الشرفة وقلبه ينبض بقوة. 

وعقله لا يكف عن مطاردته بالأسئلة التي تزيد من قلقه وتوتره، وفجأة شعر بيد أحدهم قد وُضعت على كتفه، التف يتفقد هويته فتفاجئ بوجود محمود أمامه. 

قابله محمود بنظراتٍ مستشاطة، وأذنين حمراوين من شدة غضبه، أمسكه محمود من تلابيب قميصه معنفًا إياه بشرٍ: 
_ بقى أنت تستغفلني!! أأمن على بنتي معاك تخون الأمانة!! كنت بتبص في عيني وأنت مستغل عرضي.. 

قاطعه عبدالله بتوضيح الأمور له: 
_ ما عاش ولا كان اللي يسغفلك يا عم محمود، أقسم بالله ما خونت ثقتك ولا عمري بصيت لها بسوء أبدًا، أنا حبيتها ومستعد أحارب الدنيا كلها عشان بس أوصلها، أنا عارف إني غلطت واتسرعت لما اعترفت لها قبل ما أكون جاهز، بس كنت عايز أتأكد من مشاعرها عشان متأملش على الفاضي.. 

أزاح عنه محمود يديه وباسيتاء واضح هدر: 
_ مخونتش ثقتي!! أنت إيه مفهومك عن الثقة أنت؟ أنت كنت بتبص في عيني على أنك سواق بتوصلها ماكان ما بروح وأول لما تبعد عينك عني  تكلمها، والله أعلم حصل إيه تاني، دي اسمها خيانة أمانة!! 

لمعت عيني عبدالله فكان محاصرًا من جميع الجهات، يشعر بالتعب الشديد، لكنه يجاهد فإنها صباه ولن يقبل خسارتها، تنهد وحاول لملمة الأمور: 
_ مش هبرر لنفسي، بس والله العظيم حبي لبنتك فيه كل احترام ليها، وعمري ما اتخطيت حدودي معاها حتى بالكلام، أنا مش وحش للدرجة دي ياعم محمود.. أنا كنت بتقي ربنا في كلامي ومعاملتي وتصرفاتي..

أشار عبدالله على قلبه وبنبرةٍ منهكة قال: 
_ بنتك لما سكنت قلبي حلفت إني أحميها حتى من نفسي، بنتك غالية أوي ومقامها عالي عندي، اعتبرنا عيال وغلطنا وبنصلح غلطتنا، ساعدنا نبقى لبعض في الحلال ووافق عليا، وأنا مستعد على أي حاجة تطلبها المهم توافق..

فارت الدماء في عروق محمود وعاد مُمسكًا بقميص عبدالله وبغضبٍ هتف عاليًا: 
_ غلطة إيه يا بني آدم أنت اللي بتتكلم عنها وعايز تصلحها؟! أنت تبعد عن بنتي وإلا مش هتشوف مني كويس أنت سامع!! 

دفعه محمود بعيدًا؛ وأولاه ظهره وغادر تحت نظرات عبدالله المذهولة، إنها تضيع من يديه!  يخسرها أمام عينيه، سقطت دمعة من عينه وهتف بصوتٍ متحشرج: 
_ بنتك دي روحي، لو بعدتها عني أموت! 

توقف محمود وألقى نظرة إلى عبدالله الذي كان يتوسله بإشارات موحية من عينيه، بينما تابع الآخر سيره ولم يلتفت له. 

وكأن نيران اتقدت في صدر عبدالله، خنقه دخانها، رفع رأسه ونظر إلى شرفة غرفتها وانهمر في البكاء، كطفلٍ أضاع سبيله، لم يراها وهي مستندة برأسها على الباب تبكي بمرارة وتحسر على دموعه التي تتساقط. 

بصعوبة جر عبدالله قدميه وبخُطواتٍ هزيلة عاد إلى منزل حمادة، تفاجئ صديقيه باحمرار عينيه ولمعتها، كان واضحًا لهما أنه كان يبكي، وهذا ما لم يروه من قبل، بحث عبدالله عن زجاجة مياه، أتى بها وقام بإفراغها على حمادة الذي استفاق وهو يحاول التقاط أنفاسه الهاربة. 

من بين أسنانه المتلاحمة توعد له عبدالله:
_ خد نفسك وامشي من هنا عشان أوعدك هرمل اختي لو شوفتك تاني في الحارة!! 

تركه وغادر فرافقاه زكريا ووليد متسائلين عما حدث معه لكنه آبى التحدث: 
_ مش عايز أتكلم في حاجة.. 

تخطاهما ببضع سنتميرات فتساءل وليد باهتمامٍ يشوبه القلق: 
_ رايح فين؟ 

_ راجع المستشفى.. 
أردفها فقال زكريا بحسمٍ:  
_ استنى نيجي معاك.. 

رفض عبدالله ذهابهما بقوله: 
_ لا روحوا أنتوا.. 

بقيا يتابعاه حتى اختفى من أمامهما، تبادلا النظرات ثم صدح آذان الفجر فتوجهوا إلى المسجد ليؤدوا صلاة الفجر ثم يعودان إلى منازلهم

انتظر حمادة حتى أشرقت الشمس وزقزقت العصافير، وتوجه مباشرةً إلى مركز الشرطة،  وقف أمام أحد العساكر وقال: 
 أنا عايز أقدم بلاغ في عبدالله القاضي!! 
تعليقات



<>