رواية ذاكرة مستاجرة الفصل السادس6 بقلم فهد محمود


رواية ذاكرة مستاجرة الفصل السادس6 بقلم فهد محمود
مرّت ساعات طويلة منذ أن تركت ريم المكان، وهي لم تُدرِ أين تتجه. كانت خطواتها عشوائية، تمامًا كما كانت أفكارها. كلما ابتعدت عن المكان الذي شهد تلك المواجهة، كلما شعرت بأن شيئا ما كان يلاحقها في الظلام، وأن الأضواء التي كانت تشرق في حياتها قد اختفت بالكامل. 

وصلت إلى المنزل في النهاية، ولكنه لم يعد كما كان. لم تعد الغرف تحتوي على أية ذكرى جميلة، لم تعد الجدران تحمل ضحكات الأيام القديمة. كان كل شيء يبدو وكأنه ينهار في وجهها، لكن أكثر ما كان يزعجها هو الحنين إلى الماضي، والذكريات التي تركت فيها فجوة أكبر من أي وقت مضى. 

ثم جاء الصوت. 

فارس (على الهاتف): "ريم، أرجوكِ... لا تهربي. أريدكِ أن تُجدي معي في هذه القضية. نحتاجكِ، وأنتِ تعرفين ذلك." 

لم تجب ريم. نظرت إلى الشاشة، ثم أغلقته. لم تعد قادرة على التعامل مع هذه المكالمة، مع هذه الحقيقة المرة التي ظلت تحاول إنكارها لسنوات طويلة. كانت الصورة التي أمامها، الرجل الذي كان يقف في تلك الزاوية البعيدة من حياتها، هو من كان يملك المفاتيح التي يمكن أن تفتح كل الأبواب الموصدة في الماضي. 

ولكن من هو؟ وماذا يريد حقًا؟ 

تراجعت ريم إلى الوراء، إلى اللحظة التي كانت فيها ترى وجهه للمرة الأولى. كانت تلك اللحظة مليئة بالأمل، بالرغبة في التغيير، في إعادة بناء كل شيء. لكنها لم تكن تعلم أنها كانت في متاهة لا مخرج منها. 

تذكرت تلك الليلة في المدينة القديمة، تلك الشوارع الضيقة التي كانت تعج بالظلال. تذكرت الرجل الذي كان يحمل معها السر الأكبر، والذي اختفى فجأة بعد أن كشف كل شيء. وكلما حاولت الهروب، عاد ليلاحقها في كل زاوية من زوايا حياتها. 

فجأة، تذكرت شيئًا لم تتوقعه. كان هنالك خيطًا رفيعًا بين الماضي والحاضر. كان ثمة علاقة بين ذلك الرجل وبين الرجل الذي كان يقف بجانب فارس في تلك اللحظة الحاسمة. كيف لم تلاحظ ذلك من قبل؟ 

اتجهت نحو المكتب، وفتحت الدرج العلوي. هناك، كانت الأوراق التي تخص القضية التي كانت قد أخفتها لسنوات، القضية التي اختفت تفاصيلها في الذاكرة. بدأت تتصفح الأوراق بهدوء، حتى وقعت يدها على صورة قديمة لرجل يبتسم في أحد الحفلات. كانت الصورة قديمة جدًا، لكن الرجل في الصورة كان هو نفسه، الرجل الذي كان يحوم حول حياتها، الرجل الذي يبدو أنه كان على علم بكل شيء. 

ريم (همسات لنفسها): "هل هذا هو؟ هل كان هو من يتحكم في كل شيء؟" 

ولكن الإجابة كانت أبعد من أن تكون واضحة. حيث أن هذه الصورة كانت تحمل توقيعًا غريبًا في أسفلها، توقيع لا يعني لها شيئًا سوى أنه كان جزءًا من سلسلة أحداث لم تكتمل بعد. 

أسرعت ريم إلى هاتفها، وبدأت في إجراء مكالمة لعدد من المحققين الذين كانوا على دراية بالقضية. ولكن قبل أن تضع الهاتف على أذنها، شعرت بشيء غير طبيعي. كان هناك صوت في خلفية الهاتف، صوت كان يشبه الخفقان، أو ربما كان شيئًا آخر… شيء لم تستطع تحديده. 

صوت غامض (من الهاتف): "أنتِ قريبة جدًا، ريم. لكنك لن تجدين الحقيقة أبدًا." 

ارتجفت ريم، وأغلقت الهاتف فورًا. هذا الصوت كان غير عادي، غير إنساني، وكأن هناك من يراقبها عن كثب. لم تستطع إكمال محادثتها. كان هناك شيء أكبر من مجرد قضية الآن. كانت هناك خيوط مرتبطة مع بعضها البعض، خيوط لم تكن تعرف مكان بدايتها أو نهايتها. 

وفي لحظة مفاجئة، اندلعت الأنوار في الغرفة. كانت الأنوار التي كانت قد أطفأتها قبل قليل تضيء فجأة، وتزامن ذلك مع صوت طرقات على الباب. 

صوت من الباب: "ريم، افتحي، نحن بحاجة إلى التحدث." 

لم تجرؤ ريم على الاقتراب. كان قلبها ينبض بشكل أسرع، وعقلها يراودها بأفكار عديدة، تارة تشكك في كل شيء، وتارة أخرى تبحث عن أجوبة لما جرى. 

ولكن لم يكن هناك جواب. 

الطرق على الباب استمر، ومعه شعرّت ريم بفراغ لا يوصف. شيئًا ما كان على وشك الانفجار. 

ثم جاء الصوت الذي كانت تنتظره، صوت فارس عبر الهاتف الذي جاءها فجأة، مليئًا بالقلق. 

فارس (بصوت مشدود): "ريم! أسمعيني! هناك شيء كبير يحدث. عليكِ أن تأخذي الحذر! لا تفتحي الباب!" 

لكنها كانت قد فتحت الباب. كان الرجل الذي بدا وكأنه جزء من ماضيها، يقف هناك، يبتسم. كان يحمل بين يديه حقيبة صغيرة، ومنديل دموي. 

الرجل (بابتسامة شريرة): "أنتِ في النهاية بدأتِ تفهمين." 

هذه الكلمات كانت كالصاعقة. ريم توقفت للحظة، ولم تكن تعرف ما الذي يجب أن تفعله. كان الوقت قد تأخر. الأحداث كانت تأخذ مجراها، وبدت الأمور تتسارع بشكل أكبر مما توقعت. 

ريم (بصوت خافت): "ماذا تريد؟" 

الرجل: "أريدك أن تختاري، ريم. إما أن تكوني جزءًا من هذا، أو أن تسقطي في الهاوية." 

بين يديها كانت الحقيقة كلها، لكن كانت على وشك أن تتناثر كأنها قطع زجاج مهشم. كانت الأيام الأخيرة مليئة بالمفاجآت، والشخصيات التي كانت تراها هاربة في الماضي، تتجمع أمامها الآن، وكل واحد منهم يحمل مفتاحًا لغزًا جديدًا. 

وبينما كانت تتأمل في مصيرها الذي يبدو محاطًا بكل شيء مألوف وغير مألوف، شعرت وكأن الوقت قد بدأ يهرب منها.

بينما كان الرجل واقفًا أمامها، كانت ريم تشعر بشيء غريب يتغلغل في داخلها. شيئًا ما كان ينذر بالخطر، وكأن كل شيء في هذا العالم كان قد تم تدبيره بشكل غير مرئي. 

ريم (بصوت مرتجف): "لا أفهم. لماذا الآن؟ ماذا تريد مني؟" 

لكن الرجل لم يجيب مباشرة. بل اقترب منها بخطوات بطيئة، كأنه يستمتع بمشاعرها المتضاربة. وقبل أن يجيب، فتح الحقيبة الصغيرة التي كان يحملها وأخرج منها ورقة قديمة ومبهمة. رفعها أمام عينيها وقال: 

الرجل: "هذه هي بداية كل شيء. وهذه هي نهايته." 

نظرت ريم إلى الورقة بتركيز. كانت قديمة جدًا، ومحفوظة بعناية، لكنها كانت تحمل رمزًا غريبًا في زواياها. كانت تلك الورقة تذكرها بشيء ما، ولكنها لم تستطع تذكره بشكل واضح. كان العقل مشوشًا، والذكريات كانت مبهمة. 

ريم (همسات): "هذا... هذا كان في حلمي. أين رأيت هذا؟" 

الرجل (بابتسامة قاسية): "لقد رأيته في حياتك، في كل لحظة. نحن جميعًا مرتبطون، ريم. كل شخص في هذه اللعبة له دوره." 

ثم، وفي حركة مفاجئة، رفع الرجل المنديل الدموي، وأدى به إلى قلبه وكأنما يعترف بشيء لا يمكن تحمله. سكتت اللحظة، وعيناه مليئة بشيء لم تتمكن ريم من تحديده. 

ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة، وكأنما أدركت شيئًا لم تكن لتفهمه أبدًا. 

الرجل: "أنتِ جزء من هذا، ريم. كل شيء كان مخططًا له منذ البداية. حتى أنتِ." 

فجأة، انهار عقل ريم بالكامل. كانت الكلمات التي قالها الرجل تشبه قنبلة انفجرت في رأسها. كل شيء كانت تعرفه، كل شيء كانت تعيشه، كان مجرد جزء من مؤامرة كبيرة لا يمكن الهروب منها. 

ريم (بصوت متحشرج): "ماذا تعني؟" 

الرجل (بهدوء): "أنتِ لم تكوني الشخص الذي كنتِ تظنينه، ريم. كنتِ جزءًا من لعبة أكبر. والآن، جاء الوقت لتختاري: إما أن تظلي في الظلام أو تنقذي ما تبقى من نفسك." 

ثم، بلمحة، كشف الرجل عن أمر آخر، أمر كان في متناول يدها طوال الوقت، لكنها لم تلاحظ ذلك. كانت حقيبته تحتوي على مفتاح قديم، ومفتاح كان يعني شيئًا أكبر بكثير مما كانت تتخيله. هذا المفتاح، الذي كان يبدو بسيطًا، كان مفتاحًا للحرية أو الهلاك. 

ريم: "هذا المفتاح... أين يفتح؟" 

الرجل (بابتسامة غامضة): "لن تعملي ماذا يحدث حتى تجربيه." 

قلبت ريم المفتاح بين يديها، ودموعها تغمر عينيها. فجأة، تذكرت كل شيء. تذكرت تلك الحقيبة التي كانت قد اختفت في يوم من الأيام، تذكرت الشخص الذي كان يقف وراء كل شيء. تذكرت كيف كانت تشعر وكأن كل شيء كان يتكرر. 

ريم (بصوت مرتجف): "أنت... أنت كنت دائمًا هناك. طوال الوقت. وأنا لم أكن أرى." 

فجأة، اهتز المكان كله. شعرت ريم وكأن الأرض تحت قدميها تهتز. كان كل شيء يتغير، وكان كل شيء ينهار في لحظة واحدة. القيم، والأشخاص، والذكريات. 

ثم جاء الصوت النهائي، الصوت الذي غير كل شيء: 

صوت غريب (من خلف الباب): "ريم، الاختيار ليس بيدك. انتهت اللعبة." 

وما إن نطقت الكلمات حتى انفتح الباب فجأة. وعلى الجانب الآخر، كان هناك شخص كان غريبًا في ملامحه، لكنه كان الوجه الذي كانت تتمنى أن تراه طوال الوقت. كان فارس، ولكن بشكل غير متوقع. 

فارس: "أنتِ في قلب الخديعة، ريم. ولكن الحقيقة كانت أبعد مما تصورتِ." 

ارتفعت العاصفة، وريم وقفت بين الحقيقة والمأساة، بين الماضي والمستقبل، بين الحرية والهلاك. وتلك اللحظة، كانت اللحظة الأخيرة التي ستمحي كل شيء.

مرت الأيام، وتغير كل شيء. لم يعد هناك مكان للأحلام الوردية، ولا للوعود التي كانت تبدو حقيقية في لحظاتها الأولى. ريم، التي كانت يوماً ما تعتقد أن الحياة عبارة عن مسار يمكنها التحكم فيه، وجدت نفسها غارقة في أعماق لعبة أكبر من أن تُفهم. 

عاشت اللحظات الأخيرة في صراع داخلي لا نهاية له. فارس كان جزءًا من الخديعة الكبرى، وكان الرجل الذي يقف أمامها دائمًا جزءًا من المؤامرة التي نسجت خيوطها حولها لسنوات طويلة. لكن، في تلك اللحظة الحاسمة، اكتشفت ريم أن الحقيقة ليست أبدًا كما نراها، وأنها كانت مجرد بيادق في لعبة شطرنج لا يمكن الهروب منها. 

بينما كانت تقف في وسط الفوضى، حيث تبدو الأرض كلها على وشك الانهيار، أدركت أن أكبر معركة هي مع نفسها. مع كل لحظة كانت تضيع فيها، كانت تقاوم. مع كل حقيقة كانت تكتشفها، كانت ترفض الانصياع. 

لكن في النهاية، كانت تلك المعركة لا تُخاض في الخارج فقط، بل داخل قلبها وعقلها. ومع بداية فصل جديد في حياتها، لم تكن ريم بحاجة إلى أجوبة عن الماضي. ما كانت تحتاج إليه هو قوتها الخاصة، إرادتها التي جعلتها تستمر في السعي نحو الحرية، مهما كانت التضحيات. 

وفي لحظة صمت، وسط الدمار الذي خلفته الأيام الماضية، عرفت ريم أن الحرية الحقيقية تأتي عندما نتخلى عن قيود الماضي. ومع كل خسارة، تأتي فرصة جديدة. ومع كل بداية، يأتي احتمال للمستقبل. ولكن الأهم من كل هذا، هو أن كل شخص في هذه القصة، بغض النظر عن الظلال التي قد يظنون أنهم يعيشون فيها، قادر على إعادة كتابة قدره. 

فبين الحطام، سادت ريم الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها: إنها كانت على استعداد للقتال من أجل نفسها، لأن الحياة لا تمنح الأبطال ألقابهم على طبق من ذهب، بل هي تُختبر في اللحظات الأكثر ظلمة. 
                   تمت بحمد الله تعالى 
                     


تعليقات



<>