
رواية علي دروب الهوي الفصل الخامس5 بقلم تسنيم المرشدي
عابرون نحن، وما الحياة إلا متاعٍ ودار شقاء، نشقى لنصل إلى حُلمٍ، ونسعى ونتجاوز الصِعاب لنُمتع أعيننا بلذة الوصول، وبنجاحتنا نشهد طُرقًا أخرى لبدايات أحلامٍ وطموحات كثيرة، فلا تيأس وأعبر دنياك ساعيًا شاقيًا بسلام.
التقط قم*يصه من على الحامل وخرج من غرفته وهو يرتديه، واضعًا هاتفه ما بين أذنه وكتفه ينتظر إجابة إبن عمه الذي أجاب على الفور فهتف هو بلهفةٍ:
_ أنت فين يا وليد، القاعة جالها قرار إزالة على حظي، أنا رايح هناك أهو وكنت عايز حد معايا..
قلب زكريا عينيه بضجرٍ ثم قال:
_ لا خلاص بالسلامة أنت، هكلم عبدالله..
أنهى الإتصال ثم أعاد الإتصال بعبدالله، تلك الأثناء خرجوا من في البيت إثر صوته العالي، توجهوا نحوه بقلقٍ وانتظروه حتى فرغ من المكالمة الذي صاح بها بضيق:
_ إيه يا عبدالله أنت فين؟ صحاب القاعة كلموني وقالولي جالها قرار إزالة وهيبدأوا يهدوها من بكرة وعايزني أروحلهم، فاضي تيجي معايا؟
رد عبدالله بالقبول فأنهى زكريا الحوار بقوله:
_ تمام، هستناك تحت البيت
تبادلت والدته النظرات مع شقيقتيه بصدمةٍ ثم تساءلت مستفسرة:
_ إزاي الكلام دا؟ وجايين يبلغوك قبل الفرح بأيام؟! هتلحق تعمل فيهم ايه؟
أغمض عينيه باسيتاء واضح وأردف بنبرة ضَجِرة وهو يتجه إلى الباب:
_ معرفش، أديني رايح أشوف هعمل ايه وهتصرف إزاي؟
غادر البيت فانتبهن الأخريات على خروج والدهم من غرفته متسائلًا عما يحدث:
_ في إيه صوتكم عالي من صباحية ربنا كدا ليه؟
تنهدت إحدى الفتيات بحزنٍ وأخبرته ما حدث:
_ صحاب القاعة كلموا زكريا وبلغوه إن القاعة جالها قرار إزالة وهيبدأوا يهدوها من بكرة، فهو رايح يشوف إيه المشكلة دي
تفاجئ والدهم وهدر:
_ إزاي الكلام دا؟ فجأة كدا وكمان يبلغونا قبل الفرح بحاجة بسيطة هنحلق نعمل ايه؟
تدخلت الشقيقة الصغرى بقولها:
_ أنا مش عايزة اقاطع بس القاعات أقل حاجة للحجز فيها ٦شهور، ومعتقدش إن زكريا هيلاقي قاعات متوفر فيها أيام دلوقتي
نظرت والدتهم بالتناوب إلى ثلاثتهم ثم رددت بقلة حيلة:
_ كان مستني لنا فين دا ياربي
انتبهت على صوت زوجها الآمر:
_ حضري الفطار يا هناء عشان أنزل أفتح الورشة طلاما زكريا مش موجود
أخرجت هناء تنهيدة مهمومة ثم قالت بطاعة:
_ من عنيا..
أسرعت إلى المطبخ وكأنها لا تحمل همًا، وقفت تحضر له كل ما لذ وطاب من الأطعمة الشهية، في الخارج، تبادلن الفتاتان النظرات المتعجبة ثم تَبِعن والدتهن إلى المطبخ، وقفن إلى جانبيها ثم بدأت الحديث الساخر الإبنة الكبرى:
_ نفسي أعرف إزاي بتفصلي فجأة كدا؟ إزاي تكوني في مود وحش وأول ما بابا يطلب طلب تعمليه بكل حب وكأنك مش مضايقة؟!
زفرت الأخرى بحرارة وهتفت:
_ الحب يا عاليا يعمل أكتر من كدا
_ حب إيه بس يا خلود، دول بقالهم أكتر من ٣٠سنة متجوزين، أكيد يعني الحب قل عن الأول، إلا تصرفات ماما الغريبة دي ليه زي ما هي، من يوم ما فهمت الدنيا وهي بنفس الطبع متغيرش
أردفتها عاليا وهي ترمق والدتها وعلامات الإستفهام تكثر في نظراتها، بينما حركت والدتهن رأسها مستنكرة تصرفاتهن واسئلتهن التي ليست في وقتها، لكنها اتخذتها فرصة لتحادثهن عن بعض القيم والمبادئ الثابتة:
_ بطلي غلاسة يابت أنتِ وهي، وبعدين فيه حاجات أهم بكتير من الحب بتاعكم دا
قاطعتها خلود مبدية رفضها التام بتقليلها للحب وقالت بنبرةٍ خافتة مدللة وهي مغمضة العينين:
_ الحب، وهو فيه برده أهم من الحب يا هنوءة؟!
لم تجد خلود ردًا منهن ففتحت عينيها لتتفاجئ بنظراتهن الثاقبة، اعتدلت في وقفتها وقالت متسائلة:
_ إيه؟؟
تولت عاليا الرد عليها مستاءة من تصرفها المدلل المبالغ:
_ إيه المياعة اللي بتتكلمي بيها دي؟
تحولت خلود وباتت أكثر حدة وهتفت بغيظ:
_ عجباني المياعة بتاعتي أحسن ما أكون غضنفر في نفسي
اتسعت حدقتي عاليا وصاحت وهي ترميها ببقايا الخضروات التي قطعتها والدتها:
_ أنا غضنفر يا مايعة
تدخلت الأم لتوقف السخافة التي يُحدثونها، فصاحت مُعنفة:
_ بس أنتِ وهي ولا شغل الأطفال..
نظرت حيث تقف خلود ولامتها مستاءة:
_ وأنتِ يابت احترمي أختك الكبيرة ولمي لسانك اللي عايز قاطعه دا
ثم التفتت برأسها للجانب الآخر ناظرة إلى ابنتها الكبرى وأضافت:
_ وأنتِ المفروض كبيرة وعاقلة وعلى وش جواز اعقلي شوية
تنهدت باسيتاء واضح ثم أخذت تتنفس حتى أثلجت صدرها وعاودت الحديث مواصلة استرسالها:
_ وآه ياست خلود فيه أهم من الحب، فيه احترام وود ومودة ورحمة، دول أهم مليون مرة من الحب، الحب بتاعكم دا بيكون في أعلى مراتبه في البداية ومع الوقت ومع صعوبات الحياة والمسؤوليات بيقل وفيه ناس بيختفي عندهم، لكن اللي بيفضل موجود المودة والإحترام بين الزوجين، ولو مكنوش مهمين مكنش ربنا ذكرهم في آية كريمة، بسم الله الرحمن الرحيم
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
توقفت هناء لتأخذ أنفاسها ثم تابعت وهي تنهي آخر ما قامت بإعداده من الطعام:
_ ياما فيه علاقات حب انتهت وكملت بس باحترامهم ولمودتهم لبعض ولحُسن العشرة
نظرت إلى ابنتيها ربما تستشف استيعابهن للأمر لكنها رأتهن يتلاعبن بالتحديق لبعضهن ويتهامسون
خِفية، ثم انفجروا ضاحكين حين رأتهن هناء، قلبت عينيها بإزدراء وتمتمت بغيظ:
_ أنتوا مش نافعين أبدًا
تركتهن وغادرت المطبخ متوجهة إلى زوجها لتعطيه الفطور حتى يتناوله ويذهب إلى عمله.
***
كانت مُمددة على الفراش حاضنة وسادتها تقاوم النوم طوال الليل، فهي متعبة وجسدها مُنهك لكن جفنيها لا يقدران على الإستسلام حتى لا يُعاد مشهد الحادثة في ظلامها الحالك، لم تعد قادرة على المقاومة فتغلب عليها التعب وغفت وقلبها ينبض بقوة كأنها تُسارع أحد الوحوش.
اهتز هاتفها التي وضعته أسفل الوسادة فأرسل إلى عقلها ذبذباتٍ تسبب بإيقاظها، انتفضت صبا مذعورة وبيدين مرتجفتين أمسكت الهاتف لتطلع على المتصل، انخلع قلبها حين رأت مديرها من يتصل.
ابتلعت ريقها مرارًا وحاولت جاهدة أن تهدئ روعها، وبعد فترة أجابت بصوتٍ خافت:
_ دكتور رمزي..
بنبرةٍ لا تحتمل النقاش:
_ دكتورة صبا عايزك عندي في المستشفى حالًا..
تأكدت أنه علم بما فعلته، لم تستطع منع عبراتها التي سقطت رغمًا عنها ولم تقدر على السؤال، فلا داعٍ به، حتمًا اكتشف أمر الحادثة، أنهت الإتصال حين فشلت في كتم صوتها الذي خرج مرتعِدا، بكت بغزاره ولم تنجح في التماسك، فهي على وشك الحبس خلف قضبان السجن.
شعرت بضعف حيلتها حتى احتل عبدالله عقلها فقامت بالإتصال عليه سريعًا، أجاب الآخر دون تأخير:
_ صباح الخير يا دكترة..
بخوفٍ هتفت:
_ مدير المستشفى قالي تعالي حالًا، أنا مرعوبة..
أغمض عبدالله عينيه يهدئ روعه فلقد سيطر عليه الذُعر، ثم عَمِل على تهدئة صبا:
_ روحي يا صبا ومتخافيش..
تذكر عبدالله جملةً يمكنها تغير مزاجها حتى لو قليلًا فأضاف بنبرةٍ جادة:
_ ويحك يا خوف، ألا تدري أمام من تقف..
لم يكمل بل حثها على مواصلة الجملة معه:
_ ها..
تابعت صبا معه بقية الجُملة فخرج صوتهما متناغمًا:
_ إنها حبيبة عبدالله
ضحك عبدالله وأضاف مازحًا:
_ وعبدالله مبيرحمش
نجح عبدالله في رسم ابتسامةٍ لا بأس بها على شفتيها، فعاد مرددًا:
_ يارب تكوني بتضحكي
تنهدت صبا مهمومة ثم أخبرته حاجتها إليه:
_ أنا محتجاك جنبي يا عبدالله..
دون تفكيرٍ أردف:
_ وأنا جنبك يا دكترة، على ما تجهزي أكون اتصرفت في عربية
أماءت صبا بقبولٍ فقال عبدالله مشاكسًا:
_ فاتك بتهزي دماغك دلوقتي
_ أنت حافظني كدا إزاي؟
تساءلت وأذنيها مُتلهفة لسماع إجابته، بينما رد عليها بنبرته العاشقة:
_ وأنا ليا من غيرك أحفظ تصرفاته؟
دقت أسارير السعادة قلبها، وازداد عنفوانًا وحيوية، وضعت يدها على يسار قلبها شاعرة بنبضاتها التي تنبض بقوة أسفل يدها ثم أغمضت عينيها وهمست:
_ بحبك أوي يا عبدالله
_ وأنا مش محتاج حاجة غير حبك بس يا دكترة
هتفها ثم حثها على التعجل:
_ يلا اجهزي وأنا هعمل اللي قولتلك عليه..
أغلق ثم هاتف صديقه وبصوتٍ أجش تحدث:
_ اسبقني أنت يا زكريا على القاعة وأنا هخلص موضوع ضروري وهجيلك
استنكر زكريا تأخيره وصاح:
_ أنا مش عايز أروح لوحدي عشان مرتكبش جناية هناك ..
_ ميشغلنيش عنك غير القوي يا زكريا، لو مكنش ضروري كنت كنسلته، إن شاءالله مش هتأخر عليك
قالها متمنيًا تفهم صديقه لذلك الظرف الطارئ فما كان من زكريا إلا أنه رضخ، فعبدالله لن يتأخر عنه إلا للضرورة، تابع عبدالله ارتداء ملابسه ثم خرج من غرفته فقابلته والدته وتساءلت بقلقٍ يشوبه الإهتمام:
_ رايح على فين بدري كدا يا حبيبي؟
أجابها بإيجاز:
_ هقولك لما أرجع يا أحلام، ادعيلي أنتِ بس
غادر المنزل وخلفه لم تكف والدته عن الدعاء التي تتمنى أن يكون من نصيبه.
في غرفة صبا، أنهت ارتداء حجابها، ثم خرجت من الغرفة فتقابلت مع والديها اللذان تعجبا من مظهرها التي يدل على خروجها، نهضا وتوجها نحوها وبدأ والدها في سؤالها:
_ على فين يا صبا من بدري كدا؟
فأضافت والدتها سؤالًا آخر بتعجب:
_ مش النهاردة الشيفت بتاعك بليل؟
تنهدت صبا وجاهدت نفسها بألا تُظهِر خوفها، ثم قالت مجيبة إياهم:
_ دكتور رمزي مدير المستشفى كلمني وقالي عايزني..
_ عايزك في إيه دا؟ حتى يوم راحتك هينزلك برده، ربنا يتوب عليكي من الشغلانة دي يابنتي
هتفتها إجلال بحنق ونبرة ضَجِرة، وجهت صبا نظرها على والدها الذي استشف عدم مقدرتها على المجادلة فأنهى الجدال قبل أن يزداد بنبرة حاسمة:
_ ربنا يعينك يا دكتورة، استني أنزل أوقفلك تاكسي..
رفضت ذلك بنبرة سريعة:
_ لا خليك، هروح أنا..
ابتلعت ريقها ثم سألته مستفسرة بعيون ضائقة:
_ حضرتك مقولتليش هكلم عبدالله ليه زي كل مرة؟
صمت قليلًا إلى أن آتى بإجابةٍ مبهمة:
_ مش عايز اتعامل معاه بعد اتهام مرسي ليه بالسرقة..
لم تتقبل صبا الأمر وصاحت مندفعة مدافعه عنه:
_ ومرسي نفسه راح واتنازل وقال إنه مبغلش عن عبدالله وواثق فيه والظابط اللي أصر ياخد عبدالله!!
تفاجئا والديها بهجومها كما تفاجئت هي أيضًا باندفاعها، حمحمت وحاولت إصلاح الخطأ قبل أن يأخذ تفكيرهما منعطفًا لا تود المواجهة معه الآن:
_ أنت أمنتني عنده عشان متأكد من نيته فبلاش على موقف ملوش ذنب فيه ثقتك فيه تقل..
_ اجتنبوا مواطن الشبهات يا دكتورة، حتى لو كويس بس أنا مش عايز حاجة تمسك ولا تعكر اسمك الحلو
أردفها محمود بحسمٍ، فشعرت صبا أن الأمر يزداد تعقيدًا، لكنه ليس الوقت المناسب للتفكير بذلك، عليها أن تذهب إلى المستشفى الآن فأرادت إنهاء الحوار:
_ خلاص يا بابا خليك هنا أنا هوقف تاكسي متتعبش نفسك
رفض ذلك بقوله:
_ لا استني، هطمن أكتر لما أوصلك بنفسي للعربية.. هلبس الجلابية وأجيلك على طول
أدارت صبا رأسها للجانب الآخر وأغمضت عينيها بضيق شديد فلا شيء يُسير كما تريد، نفخت بخفوت ثم سبقت والدها إلى الخارج لتعطي عبدالله خبرًا لكن انضمام والدتها إليها منعها من ذلك، فازدادت صبا حنقًا إلى أن جاء والدها ونزلا سويًا..
كانت عينيها تُراقب المكان بحثًا عن عبدالله التي وجدته يترجل من إحدى السيارات، فأشارت إليه بيدها ألا يقترب، فعاد إلى السيارة مراقبًا سيرهما في المرآة الأمامية متعجبًا من مرافقة محمود لصبا.
قاد السيارة خلفهما دون أن يُشعِر محمود بذلك، شاهدًا ركوبها التاكسي إلى أن تحركت السيارة مبتعدة عن أبيها، ظل عبدالله متابعًا قيادته حتى وجد طريقًا مناسبًا يسمح له بالمرور من جانب التاكسي، فقام بالدعس على البنزين ليزيد من سرعة السيارة وقطع الطريق على التاكسي بوقوفه أمامه فجأة.
ترجل ثم توجه إليهما، نزل السائق وتساءل بصوتٍ غاضب مُندفع:
_ أنت بتعمل إيه يا أخينا أنت؟
تابع عبدالله سيره حتى وصل إلى باب صبا وقام بفتحه موجهًا حديثه لها:
_ انزلي واركبي العربية على طول
امتثلت لأمره فأسرع السائق خلف صبا بغرض حمايتها مرددًا بعصبية:
_ راحة فين يا آبلة؟
أسرع عبدالله نحوه وشكل حاجزًا بينه وبين صبا وتولى الرد عليه:
_ إيه يا عمنا، رايح فين كدا؟
لم يكترث له السائق وعاد بنظره إلى صبا وقام بسؤالها ثانيةً:
_ أنتِ تعرفي الأخ دا؟
أماءت صبا مؤكدة معرفتها بعبدالله الذي أخرج نقودًا من جيبه والتقط كف السائق ثم وضعهما فيه وقال:
_ ايوا تبعي يا عمنا، حقك أهو ودا اللي ليك الباقي ملكش فيه
أولاه عبدالله ظهره ليعود إلى السيارة فصاح السائق عاليًا:
_ حسابي وصل يا غالي، الحاج حاسبني
دون أن ينظر إليه عبدالله رد عليه:
_ اعتبرهم تِبس
تفقد السائق النقود بحاجبين مرفوعين وتمتم متعجبًا مما حدث:
_ تِبس!!
هز رأسه ثم وضع النقود في جيبه وعاد إلى سيارته وغادر وكذلك عبدالله الذي تحرك بالسيارة متجهًا إلى المستشفى، لم تعقب صبا على تصرفه المجنون، فلو كان في وقتٍ آخر كانت المكان رأسًا على عقِب، فهي لا تحب تصرفاته الخرقاء التي يفتعلها دون النظر إلى العواقب.
نظر عبدالله إلى يديها التي ترتجف بشدة، ورغبة قوية تحثه على احتضانهما حتى تطمئِن، لكنه تراجع، فلم يفعلها من قبل ولن يفعلها الآن، عليه الحفاظ على صباه من شر نفسه، تنهد وتابع قيادته وأردف قائلًا كلماتٍ ليخفف عنها:
_ خير يا دكترة، لو كان حصل حاجة وحشة مكنش المدير كلمك وقالك تعالي دا كان جالك بنفسه البيت مع الحكومة
شهقت صبا ورددت بذعرٍ:
_ حكومة!! أنت كدا بتطمني يا عبدالله؟! اسكت أحسن
_ الجملة مش بتتجزأ يا دكترة، أنا بقول لو كان حصله حاجة وحشة، يعني اهدي كدا وتفائلي خير تجديه مش دا كلامك؟!
قالها عبدالله بنبرة مرحة فأغمضت عينيها لبرهة وهي تردد بنبرة مرتجفة تهدد بالبكاء:
_ لما الأدوار بتتبدل وبيكون الناصح مكان المُبتلي النصيحة بتكون صعب يتعمل بيها!
تنهد الآخر وفضل الصمت فمحاولاته لا تجدوا نفعًا معها، وصلا بعد دقائق معدودة، صف عبدالله السيارة وما كاد يفعل حتى هطل المطر بغزارة فجأة دون سابق إنذار، ابتسم عبدالله وشعر بالراحة، التفت يمينه ناظرًا إلى صباه وبلهجة مبهجة قال:
_ المطر دا بتفائل بنزوله جدًا، بينزل ومعاه الخير والبركة، طمني قلبك بقى، يلا وأنا هستناكي لغاية ما تطمنيني وتعرفيني عملتي ايه
رمقته بعينين لامعتين واكتفت بابتسامة لم تتعدى شفاها، التفت حيث الباب وكادت تفتحه لكن صوت عبدالله منعها:
_ استني
ترجل أولًا، وتوجه نحوها ثم خلع سترته وفتح بابها ووضعه كحماية لها من المطر لكي لا تبتل ملابسها وتمرض، فهتفت صبا رافضة تصرفه خشية أن تصيبه حُمى:
_ البس الجاكيت لو سمحت يا عبدالله
اشتد المطر ورؤيته أصبحت مشوشة، فصاح عاليًا:
_ انزلي يا صبا..
لم يكن هناك مجالًا للإعتراض فالوقت غير مناسب للجدال، ترجلت وركضت أسفل سترته التي يضعها أعلى رأسها يحميها من ماء المطر، وقفا على باب المستشفى فخرج رجل الأمن من غرفته ومعه مظلة فناداه عبدالله:
_ لو سمحت يا ريس، وصل الدكتورة لجوا
_ من عنيا، اتفضلي يا دكتورة صبا
قالها الرجل وهو يشير إلى عينيه، ابتسم له عبدالله وظل واقفًا حتى اطمئن أنها ابتعدت عن المطر ودلفت المستشفى، فعاد إلى السيارة وركبها وقام بإغلاقها على الفور، حاول تدفئة يديه بالنفخ فيهما، لكن عن أي تدفئة يريد أن يشعر بها فملابسه مبتلة بالكامل.
كانت البرودة متملكة منه حتى شعر أن جسده ينتفض لكنه تمالك نفسه، فلن يبرح مكانه حتى يطمئن على صباه، وجه أنظاره نحو المستشفى وقلبه غير مطمئن بالمرة، ظل ينتظر بفروا صبرًا وداخله يتآكل من الخوف.
***
بقدمين تتخبط في بعضهما من فرط خوفها، وصلت أخيرًا إلى مكتب المدير، شهيق وزفير فعلت للمرة السابعة على التوالي، تحاول ألا تنهار قبل الدخول، استجمعت جزءًا من شجاعتها ثم طرقت الباب ودلفت حين آذن لها المدير.
بخُطواتٍ مُتمهِلة ولجت وعينيها مُصوبة على المكتب حيث يجلس رمزي، نهض هو وبوجهٍ لايبشر بالخير حادثها:
_ كل دا تأخير يا دكتورة؟ عمومًا مش وقته..
ابتلعت صبا ريقها مرارًا وجمعت كلماتٍ وبصعوبة اخرجتهم متسائلة:
_ حضرتك عايزني في إيه؟
_" أنا اللي طلبت منه يقولك تيجي"
صدح صوته فتفاجئت به صبا، استدارت لتنظر خلفها فظهر عاصم أمامها، يقف مبتسمًا ببرود، كتمت شهقتها بوضعها يدها على فمها، مزيجٍ من المشاعر عصف بها حينذاك، حمدت الله أنه بخير ولم يمت ولكن مازال الخوف يغلف قلبها.
انتبهت على صوت رمزي القائل:
_ بالمناسبة يا دكتورة شكرًا أنك ادخلتي في الوقت المناسب وعالجتي البشمهندس قبل ما جرحه يتلوث..
ضاقت صبا بعينيها عليه، فلم تفهم مخزى كلامه، فتساءلت بفضولٍ لمعرفة حول ما تجهله:
_ حضرتك تقصد ايه؟
تدخل عاصم مجيبًا على سؤالها وهو يقترب منها:
_ قصده على مساعدتك ليا امبارح أنتِ نسيتي ولا إيه يا دكتورة؟
تبادلا النظرات المُبهمة فتابع عاصم مسترسلًا:
_ أنا حكيتله اللي حصل، حكيتله لما وقعت اتزحلقت في حمام الأوضة وقعدت فترة مش حاسس بأي حاجة ولما فتحت عيني لقيتك موجودة وخيطيلي الجرح
استدار برأسه فظهرت الضمادة التي تخفي جرحه خلفها، ثم أعاد النظر إلى رمزي الذي فهم اشارت عينيه واستاذن منهما:
_ هسيبكم مع بعض شوية، واضح إن باشمهندس عاصم عايز يشكرك شُكر خاص
غادر الغرفة تحت نظرات صبا المذهولة بما يحدث، تقوس ثغر عاصم بإبتسامة عريضة، اقترب منها بِضع خُطوات فحذرته صبا بتوجيهها إبهامها في وجهه مُهددة:
_ متقربش، خليك عندك وإلا...
تجرأ عاصم وأمسك بإصبعها ثم قام بإنزاله وهو يردد بصوتٍ خشن:
_ وإلا ايه؟ هتخطبيني على دماغي تاني؟! بدل ما تشكريني إني مقولتش على عملتك؟
ببغضٍ شديد خرجت نبرتها مندفعة:
_ كنت قول، وأنا برده كنت هقول أنك متحرش قذر
قهقه عاصم عاليًا فآثار غيظها ومن بين ضحكاته هتف دون تصديق لذلك اللقب التي لقبته به:
_ متحرش!!
تجهمت تعابيره ودنا منها هامسًا بقُرب أذنها:
_ واضح أنك متعرفيش مين هو عاصم سليمان، أنا أي حاجة بعوزها بإشارة مني بتكون بين ايديا..
تراجع للخلف وواصل حديثه بنبرة معاكسة حيث كانت هادئة وناعمة:
_ بس أنا مش عايز كدا معاكي، أنا حابب تيجيلي برضاكي..
اتسعت حدقتي صبا بصدمة، لقد تعدى الوقاحة ذلك المختل، رفعت يدها وكادت تصفعه لكنه منع حدوث ذلك، احتدت ملامحه وهلل بغضب:
_ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين يا دكتورة
_ أنت وقح وقذر، إزاي تطلب مني حاجة زي كدا؟
هتفتها من بين أسنانها المتلاحمة وهي تطالعه بإزدراء، فاستشف عاصم سبب تذمرها وأوضح لها حقيقة الأمور:
_ أنتِ فهمتي إيه؟ أنا قصدي عايزك في الحلال، نتجوز!
كلما نطق ذلك المختل تتفاجئ وتُصعق، أبت التصديق لنواياه التي يظهرها بريئة وانفعلت عليه:
_ أنت تعرفني منين عشان تطلب مني نتجوز؟ وجبت الثقة دي منين إني أوافق عليك؟!
ولا دي طريقة جديدة في التسلية ببنات الناس تحت مسمى علاقة حلال وقدام الناس؟!
تأفف عاصم بنفاذ صبر وهتف بحنقٍ:
_ أنتِ مصممة تصعبي الأمور وتفهميني غلط ليه، أنا بجد عايزك في الحلال، يمكن معرفش عنك حاجة بس لو وافقتي هنتعرف على بعض أكتر، وطلبي دا أنتِ متعرفيش غيرك يتمناه إزاي..
قاطعته صبا بنفورٍ واشمئزاز لغروره اللعين:
_ وأنا متنازلة لغيري..
أولته ظهرها ومشت نحو الباب فأسرع عاصم واقفًا أمام الباب بمثابة حاجز يمنعها من الخروج، ثم أردف بنيةٍ حسنة:
_ انا لسه مكملتش كلامي، أنا أساسًا مطلبتش من واحدة الجواز قبل كدا، محدش قِدر يخليني أعرض عليه العرض دا غيرك!
زفرت صبا أنفاسها، وجاهدت على التماسك، وألا تفلت أعصابها، تحلت بالصبر وبهدوءٍ لا يشبه نيرانها المتقدة داخلها أردفت:
_ وأنت قولت عرض، وأنا رفضت عرضك يا باشمهندس، لو سمحت عايزة أخرج..
حدق عاصم بها لوقتٍ يتفقد ملامحها الهادئة الناعمة، وعينيها الخضرواين التي تلمع بشكل غريب عند انفعالها، قطعت عليه حبال أفكاره بها بصوتها الآمر:
_ عايزة أخرج..
تنحى عاصم جانبًا، فأسرعت صبا في فتح الباب لكنها تريثت، وعاودت النظر إليه ثم سألته مستفسرة عما حدث له بعد مغادرتها:
_ أنت قومت إزاي ومين اللي ساعدك؟
تقوس ثغره للجانب مشكلًا ابتسامة جذابة، غمزها بمشاكسة وقال بمرحٍ:
_ لو وافقتي هقولك
بنبرة مشمئزة هتفت:
_ خلاص مش مهم أعرف
خرجت تاركة الباب مفتوحًا، لم تخطو خطوتين وتفاجئت بركض زميلتها هدى نحوها، أمسكتها من ذراعها وجرتها خلفها حتى ولجت إلى مكتب صبا فكان قريب منهن، أغلقت هدى الباب ونظرت إلى صبا بذهول:
_ أنتِ إيه اللي عملتيه في المهندس عاصم دا؟
الأن وضحت الصورة كاملة، تنهدت صبا وسألتها لتأكيد حدسها:
_ أنتِ اللي ساعدتيه؟
أكدت هدى سؤالها وشرحت ما حدث البارحة:
_ جيت عندك عشان أشوفك لو لسه ممشتيش نروح مع بعض، واتفاجئت بيه واقع في الأرض وبيتألم، جريت عليه طلب مني إني اساعده وبعد ما خيطت له الجرح حكالي اللي حصل لأني كنت مُصممة أطلب دكتور رمزي احكيله، اتصدمت لما عرفت إنك أنتِ اللي عملتي كدا، واتصدمت أكتر لما طلب مني معرفش حد أنك السبب وقالي كمان أي حد يسألني اللي حصل أقوله إنك أنتِ اللي ساعدتيه!!
كانت تصغي إليها صبا وهي تنظر في نقطةٍ فارغة أمامها، حتى انتهت هدى من قص ما حدث فرددت صبا وعقلها لا يستوعب تصرفاته الخرقاء:
_ واحد مجنون!!
_ هو برده اللي مجنون؟ أنتِ كان ممكن تروحي في داهيه لو لقدر الله حصله حاجة أو حد غيري اللي دخل وشافه في حالته دي
أردفتها هدى بعقلاٍ لا يُصدق فِعلتها وكذلك ردها المُبهم، تنهدت صبا وقالت بعد أن تذكرت وقوف عبدالله:
_ سيبك منه، أنا لازم أرجع دلوقتي..
أمسكت هدى ذراعها فلن تدعها تذهب قبل معرفة حقيقة ما يحدث:
_ استني هنا، احكيلي إيه اللي حصل وليه عملتي كدا؟
بإيجاز قالت:
_ هبقى اكلمك، أنا بجد لازم أمشي دلوقتي، سلام
غادرت تحت نظرات هدى المُتابِعة لها، خرجت من المستشفى بخُطواتٍ مُهرولة حتى وصلت إلى السيارة وركبت متحمسة لرؤية حبيبها، تفاجئت من الوضع الذي كان عليه، فكان يحك يديه في بعضمها منكمشًا على نفسه من البرد، ناهيك عن ملابسه التي تتساقط منها قطرات الماء.
انعكست ملامح وجهها وتأثرت بحالته فلامته بلطفٍ:
_ حرام عليك نفسك يا عبدالله، قولتلك متقلعش الجاكيت، عاجبك حالتك دي؟!
لم يهتم لما قالته، بل تساءل عما دار في الداخل فخرجت نبرته مرتجفة:
_ سيبك مني، عملتي ايه؟
تأثرت للغاية من نبرته المهزوزة، تألم قلبها وشعرت بأنها المُخطئة، كادت تعاود لوم ذاتها لكنه منع ذلك بقوله الجاد:
_ انطقي يا صبا عملتي إيه؟
هدأت ثم فشلت في إخفاء ابتسامتها، فابتسم الآخر بتلقائية لها وهلل:
_ أهي ضحكتك دي دفت قلبي، ها احكيلي إيه اللي حصل؟
ازدادت ابتسامتها السعيدة ثم حمحمت لتخبره القليل دون أن يُزل لسانها:
_ الراجل اللي خبطته كويس، ومرداش يقول إني السبب، قال إنه اتزحلق..
_ طب حلو، المدير كان عايزك ليه طلاما مجابش سيرتك؟
تساءل عبدالله بفضول بينما فاجئها سؤاله فحاولت ترتيب الكلمات قبل إخباره بهم:
_ ماهو قاله إني ساعدته مقالش إني هربت
قطب عبدالله جبينه باستغراب وردد دون تصديق:
_ وهو يقول كدا ليه؟
رفعت صبا كتفيها متصنعة التفكير ثم قالت:
_ قدر خضتي..
نظر عبدالله أمامه فالأمر كان مريبًا بالنسبة له وتمتم وهو يطالع الخارج بحاجبان معقودان:
_ هو لسه فيه حد كدا؟
لكزته صبا في كتفه بخفة مُمَازحة إياه حتى تجرفه من طيار أسئلته التي لا تنتهي:
_ أنت فاكر إنك لوحدك اللي جدع ولا إيه؟
تصرفها أدهش عبدالله، فلم تتعامل بجرأة هكذا من قبل، بل كان من المستحيلات والغير مقبول لديها التلامس، ما الذي تغير الأن؟!
رمقها بطرف عينيه وضحك فرحًا بتعديها حدودها التي وضعتها منذ اليوم الأول لهما وهلل:
_ إش إش دا إحنا اتجرأنا أوي
عضت صبا على شفاها بخجلٍ صريح، فالأمر تطلب افتعال شيئًا يجذب انتباهه إلى موضوعٍ آخر ليكف عن السؤال، لم تقدر على مواجهة عينيه وظلت مُنكسة الرأس تفرك أصابعها بإرتباك واضح.
هذه هي صباه، مهما حاولت فلن تنجح في إخفاء خجلها، فهو ضمن فطرتها ولن تتخلى عنه بسهولة، تذكرت صبا أمرًا فنظرت إليه وحدجته بنظراتٍ ثاقبة ثم هتفت ساخرة:
_ أومال فين الحدود اللي هنحطها؟ ومن ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه والكلام بتاع امبارح دا؟
فغر عبدالله فاهه وسرق نظرة عليها وهو يردد:
_ والله!!
عاد يتابع قيادته وقلدها بنبرة أنثوية وهي تحادثه صباحًا:
_ أنا محتجاك جنبي يا عبدالله..
تفاجئت صبا بتقليده المائع وصرخت رافضة أنها شخصيتها:
_ أنا مش بتكلم كدا!!
تابع عبدالله تقليده الساخر:
_ أنت إزاي حافظني كدا
_ لا لا لا، لا يمكن تكون دي أنا، أنت بتبالغ صح؟!
تساءلت آملة نفيه لذلك الأسلوب المُدلل فحرك عبدالله رأسه نافيًا أي مبالغة يفتعلها فانفجرا كلاهما ضاحكين، رفعت صبا كلتى يديها خافية وجهها وتابعت قهقتها على تقليدهُ لها من جديد.
سيطرت على نوبة الضحك التي وقعت بها وتصنعت الجدية وهتفت:
_ نتكلم جد بقى، نعمل زي ما اتفقنا امبارح
اومأ عبدالله بالقبول وإلتزم الصمت، حتى قطعته هي بوضعها يدها على بطنها ورددت بجوعٍ:
_ أنا جوعت جدًا، نزلت من غير فطار
لم يكترث لها عبدالله وظل ملتزمًا بالهدوء، حتى قابله أحد الأماكن الشعبية التي تُحضِر الفطور، ترجل عبدالله من السيارة وقام بشراء الشطائر وعاد، استقل خلف المقود ثم أخذ يتفحص محتويات الكيس وسحب شطيرة وقام بإلتهامها بشراهة تحت نظرات صبا المذهولة، فهي توقعت أنه قام بشراء الطعام لأجلها فهي من أخبرته منذ قليل أنها جائعة، إذًا ما هذا الآن؟
قرقرت بطنها وصلت لآذان عبدالله فابتسم خِفية بينما لم تعد تستطيع تحمل تل الرائحة الشهية، وهتفت متذمرة:
_ أنت جايب أكل لنفسك بس؟!
تنهد عبدالله وأردف بنبرةٍ هادئة جادة:
_ في حاجة يا دكتورة؟ أكلي مضايقك في حاجة؟
تشدقت صبا بنزق ورددت كلمته:
_ دكتورة!! أنت بتتكلم كدا ليه؟
تأفف عبدالله متصنعًا ضجره وقال:
_ مش قولتي نلتزم باتفاقنا؟!
تجهمت تعابير صبا ثم عقدت ذراعيها على صدرها ولم تُعقب، حرك عبدالله رأسه باستنكار وأطلق ضحكاته الساخرة على حالهما قبل أن يُردف:
_ الوضع دا مش هينفع معانا
حمحم ثم استنشق نفسًا عميقًا وزفره على مهلٍ ثم أضاف بجدية:
_ شكلي كدا هكلم أبوكي..
اتسعت مقلتي صبا وطالعت أمامها بدهشة، فلم تصدق ما سمعته أذنيها، فأسرعت مُتلهفة لسماعه مرة أخرى:
_ قولت ايه؟
غمزها وهو يبتسم ابتسامته العذبة التي تؤثر قلبها وتذوبه عشقًا وقال:
_ مينفعش غير إننا نكمل في النور
عضت صبا على شفاها السفلية ولم تمنع ابتسامتها التي عكست مدى سعادتها، بادلها عبدالله فرحتها بقوله:
_ أنا اللي مأخرني إني كنت مستني اتقدم وأنا معايا مبلغ كويس أقدر أجيبلك حاجة من قيمتك
_ مش كل القيمة فلوس، قيمتي شاب جدع وحنين وبيخاف ربنا وبيراعي ربنا فيا، مفيش أحسن من كدا
قالتها بعيون لامعة تطالعه بقلبٍ عاشق، بينما تنهد عبدالله وقد انعكست ملامحه إلى الضيق الذي جاهد إخفائه وبنبرةٍ مختنقة قال:
_ بس عند أهلك أكيد مهم، هيبصوا على وضعي المادي ووضعية العائلي والدراسي
ضحك بسخرية على وضعه الذي لا يحسد عليه وتابع:
_ وأنا كل أوضاعي يا قلبي لا تحزن
نفض عنه أفكاره السوداوية ونظر إليها نظرة رجلًا يمكنها الإعتماد عليه وهتف بعزمٍ:
_ بس أنا هفضل وراهم لغاية ما يزهقوا وأخدك ليا، يحمدوا ربنا إني سايبك ليهم كل دا
مشاعر عديدة اجتاحت صبا ذلك الحين، ارتفع ادرينالها فتسبب في تزايد الحماسة لديها، تلك الأثناء تفقد عبدالله الوقت فوجد نفسه متأخرًا على صديقه، فانطلق بالسيارة وقام بتوصيل صباه ثم صعد منزله وأبدل ملابسه المُبتلة سريعًا وذهب إلى زكريا ليجدوا حلًا معًا.
***
بعد يومٍ طويل شاق، خرجا كلاهما من النادي الأخير قاطعين آخر أمل لديهم، انحنى زكريا بجسده مستندًا بكفوفه على ركبتيه، أخرج زفيرًا مسموع وهتف بضعف حيلة:
_ وبعدين، القاعات كلها محجوزة؟!
بتأثر شديد لوضع صديقه قال عبدالله:
_ كل دا توقعته يا زكريا بس محبتش أقولك على أمل نلاقي واحدة مش محجوزة
اعتدل زكريا في وقفته وأخرج تنهيدة مُحملة باليأس، انتبه على اهتزازة هاتفه فسحبه من جيب بنطاله فوجدها ليلى تهاتفه للمرة العشرون على التوالي، وضع سبابته وإبهامه على عينيه يفركهم بقوة، ثم أخذ يتنفس بعض الهواء وأجاب باندفاع
_ في إيه يا ليلى ترن ترن ترن ورا بعض، ارحمي نفسك حبة
صعقت ليلى من رده المُندفع وكأن مخاوفها تتجسد أمامها، لم تقدر على السيطرة على خوفها فصاحت بنبرةٍ مهزوزة:
_ أنت بتتكلم كدا ليه؟ أنا من الصبح بكلمك وبحاول أوصلك وأنت مش بترد!! ممكن أعرف مش بترد ليه؟ ولا خلاص أخدت غرضك وأنا هتركن على الرف
بحقك ليس الآن، أغمض زكريا عينيه وقام بخبط جبينه مرات عديدة وصاح بعصبية بالغة:
_ بتتكلمي في إيه أنتِ؟! أنا من الصبح دايخ عشان ألاقي قاعة أحجز فيها بدل اللي جالها قرار إزالة فجأة دي
صدمة اعتلت وجه ليلى أفقدتها النطق لثوانٍ، ثم تخطت حالتها وسألته بتوجسٍ:
_ وبعدين؟ عملت ايه؟
بنبرة غاضبة صاح وهو يركل أحد الأحجار بقدمه:
_ معملتش، مفيش ولا قاعة فاضية كله محجوز
كتمت ليلى شهقتها بيدها محاولة استيعاب الأمر، لم تعد تحتمل وانهارت في البكاء:
_ دا كله بسبب اللي حصل، ربنا بيعاقبنا!! بس انا ذنبي إيه؟ أنا موافقتكش، أنا مكنتش راضية! أنت السبب يا زكريا
رفض زكريا تقبل إلقائها اللوم على عاتقه وثار بصوتٍ عالٍ حتى شعر بصداه يتردد في صدره من شدته:
_ اقفلي يا ليلى، اقفلي
أنهى المكالمة فأسرع نحوه عبدالله محاولًا تهدئته:
_ اهدى ياعم الناس بتبص علينا
كانت عينيه تطلقان شرار لو أن أحد يقف أمامه مباشرةً لاحترق، ربت عبدالله على ذراعه وقال داعمًا:
_ روق يا زكريا، كله هيتحل بس أنت اهدى مفيش حاجة هتتحل بعصبيتك دي
تنهد ثم تفقد المكان حوله فوقع بصره على مقهى قريب منهما، فواصل مقترحًا:
_ تعالى لما نقعد على القهوة نشرب حاجة تروق أعصابك فاتها بقت متفحمة من البنزين اللي بتحرقه دا
رمقه زكريا بنظراتٍ مُشتعلة وهدر به:
_ متهزرش ياعم
أشار عبدالله بأصابعه على فمه وكأنه يغلقه، ثم وضع يده على ظهر صديقه يجبره على السير، فمشى زكريا للأمام برفقة عبدالله الذي شاكسه:
_ هتشرب لمون ولا هتفول بنزين ٩٠؟
حرك زكريا رأسه باستنكار وأسرع من خُطاه فقهقه
عبدالله عاليًا وتَبِعه حتى وصلا إلى المقهى، طلب عبدالله لهما عصير وقال مُمازحًا صديقه وهو يناوله كوب العصير:
_ خد جبتلك مانجا من الغالية عشان تروق دمك
نفخ زكريا بنفاذ صبر والتقط منه الكوب، وبعد أن أنهاه أتاه اتصالًا فقام بالرد دون تفكير:
_ حاج طاهر، معلش اتاخرت عليك، بس كنت مستني أجمع بقيت المبلغ عشان أشتري الأجهزة كلها مرة واحدة..
تجهمت تعابير زكريا وأسود وجهه فجأة وقال:
يعني إيه الأجهزة الكهربائية تمنها اتضاعف؟
واخدت الثدمة بقى 😂😂😂😂😂
براحة عليا 😂