
رواية جمر الجليد بقلم شروق مصطفي
رواية جمر الجليد الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12 بقلم شروق مصطفي
قاد سيارته بلا هدف، شاردًا في كلمات ابن عمه التي لم تفارقه. ذكريات الماضي عادت تطارده، صور متقطعة وصوت والدته يختلط بشخص آخر، والدماء تغطي المشهد. حياته تحطمت منذ ذلك اليوم. أصبحت الكراهية والعنف جزءًا من روحه، وبدأ يتلذذ بتعذيب من حوله، خاصة النساء. عيناه ازدادت ظلامًا، ونيران غضبه اشتعلت من جديد، لم تهدأ يومًا.
ضغط على كفه بقوة حتى ابيضت عروقه، وتمتم بعصبية:
"إزاي عاوزني أعيش من جديد؟ وكأن اللي حصل محصلش؟ أنا من جوا ميت. النار دي مش هتطفي أبدًا. أنا اتق.تلت خلاص، والميت عمره ما بيصحى. لازم أكسرها عشان متجيش في بالي تاني. حظها الأسود إنها جات في طريقي، ولازم أنهي وجودها عشان أخلص من التفكير فيها!"
ابتسم ابتسامة شيطانية، وفي غمرة أفكاره وجد نفسه متوقفًا بسيارته أسفل منزلها. نزل بعنف وأغلق الباب بقوة، وكانت هيئته مخيفة للغاية. عيناه توحي كأنه صياد يترصد لفريسته فجأة، لمحها امامه.
كانت قد نزلت من المواصلات، وعندما رأته تجمدت مكانها. كانت نظراته مريبة ومليئة بالشر، ما أثار رعبها على الفور. لم تتحدث ولم تحاول تفسير الموقف، بل اندفعت مسرعة ركضًا نحو منزلها دون أن تنظر خلفها.
دخلت شقتها بسرعة، وأغلقت الباب بإحكام وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة. هرعت إلى النافذة لتتحقق من وجوده. رأته واقفًا بجوار سيارته، يضرب كفه على سقفها مرارًا وكأنه يخطط لشيء ما.
رفع رأسه فجأة، ونظر مباشرة نحو نافذتها بابتسامة خبيثة، كأنه يعلم تمامًا أنها تراقبه. شعرت بارتجافة في جسدها، وتراجعت عن النافذة وهي تمسك قلبها بيدها.
ركب سيارته وانطلق مبتعدًا، لكنها لم تستطع التخلص من شعورها بالخوف. همست لنفسها بصوت مرتجف:
"إيه اللي جابه هنا؟ وعاوز مني إيه؟ أنا نقصاك إنت كمان؟ يا ترى جاي ليه؟"
ظلت واقفة في مكانها، ترتجف بين قوتها الظاهرة وهشاشتها الداخلية، تحاول استيعاب ما حدث وما ينتظرها لاحقًا.
ـــــــــــــــــــــ
رن هاتفها بإشعار على تطبيق الواتساب. تناولته بفضول، وما إن فتحته حتى ظهرت أمامها رسالة منه. كانت صورته تظهر بجانب النص:
"صباح الورد والفل على أجمل وردة شوفتها في حياتي. لكن أنا زعلان منك."
توقفت للحظة وابتسمت بغير وعي. فكرت:
"أكيد زعلان عشان مرحتش قابِلته."
لكنها لم ترد. أغلقت الهاتف بهدوء ووضعته جانبًا دون أن تعطيه أي اهتمام. عادت إلى لوحاتها الغارقة في الألوان والتفاصيل، منشغلة بإكمال عملها استعدادًا للمسابقة التي لم يتبقَّ عليها سوى أيام قليلة.
بين الحين والآخر، تردد صوت إشعارات أخرى، لكن هذه المرة وضعت الهاتف على الوضع الصامت لتتجنب أي تشويش على تركيزها.
سرحت للحظة وهي تحمل الفرشاة بين يديها، وعادت كلمات مي ترن في أذنها:
"هو فاكر إنه لما وصلنا بالعربية هنتقابل عادي ونتكلم؟!"
ابتسمت بخفة وأردفت بينها وبين نفسها:
"ده طيب أوي."
تنهدت بعمق كأنها تحاول طرد تلك الأفكار من ذهنها، ثم أعادت تركيزها إلى لوحتها.
داخل غرفة مظلمة، باردة رن هاتف وظهر صوت رجل بنبرة حادة تحمل غضبًا مكبوتًا:
"لقد حذرتك من قبل! إذا ظهرت صوري مرة أخرى، سأمحي وجودك عن وجه الأرض. ألم تفهم بعد؟"
رد الآخر بخضوع واضح:
"أعتذر، سيدي. سأجد هذه الصحفية وأنهي حياتها للأبد."
جاءه الرد بخبث وابتسامة متوعدة:
"لا... لا أريدك أن تنهي حياتها. أريدها حية. سنلعب معها قليلاً... لتتعلم ما يعنيه اللعب مع الكبار. هل تفهمني؟"
أجاب الرجل الثاني بطاعة:
"أمرك، سيدي. سأرسل رجالي للبحث عنها وأحضرها لك."
صمت للحظة ثم أضاف الرجل الأول بنبرة باردة مشوبة بالغضب:
"وأين باقي الفتيات؟ لماذا لم أستلمهن بعد؟"
تحدث الآخر بتوتر:
"سيدي، الشرطة تراقبنا منذ نشر الصور الأخيرة. لم أستطع التحرك بحرية. أرجوك اعذرني، لكني أعدك، سننهي كل شيء قريبًا. وسأتصل بك لتأكيد التنفيذ."
صرخ الأول بغضب:
"كل هذا بسبب تلك الصحفية الغبية! أريدها هنا فوراً! راقب منزلها جيداً، وأرسلها لي دون أي تأخير. هل هذا واضح؟"
رد الثاني سريعًا:
نعم، نعم، سأراقب منزلها، وأرسلها لك فورا.
أنهى المكالمة بغضب واضح، تاركا الغرفة بصمت ثقيل يخفي خلفه عاصفة تنتظر، الأنفجار.
ـــــــــــــــــــــــ
اقتربت من النافذة مجددًا بعد أن أعادت قطعة الأنتيك لمكانها، وأخذت تنظر إلى الخارج محاولة تهدئة نفسها قليلاً. فجأة، هرولت نحو المطبخ، تبحث بسرعة عن شيء محدد بينما كانت عيناها تراقبان الخارج باستمرار خشية أن يكتشف أمرها. عندما لاحظت خروجه فجأة من مكتبه، وقفت كأنها تتناول كوب ماء، متظاهرة بالهدوء.
خرج هو سريعًا من المنزل متجهًا إلى الخارج، واطمأنت أنه غادر. عادت إلى المطبخ لتكمل بحثها المحموم عن أداة رفيعة يمكنها استخدامها لفتح الباب المغلق.
---
في مكان آخر، كان اللواء يتحدث عبر الهاتف:
"إيه الأخبار عندك؟"
رد عاصم بثقة:
"لسه بتحاول تهرب ومش مستوعبة الموقف، لكن متقلقش، يا فندم. كله تحت السيطرة."
هتف اللواء بنبرة جدية:
"أنا معتمد عليك. ورجالتي شغالين على القضية، إحنا قربنا خلاص، هانت."
رد عاصم:
"تمام يا فندم. ولو احتجت مساعدتي أنا جاهز في أي وقت."
قاطعه اللواء بحزم:
"كفاية عليك المهمة اللي عندك. لو احتجتك، هبقى أقولك تنزل. سلام دلوقتي."
ما إن أغلق عاصم المكالمة حتى ظهرت مكالمة أخرى من رقم مجهول. أجاب بحذر:
"أيوه، مين معايا؟"
جاءه صوت ودي:
"أنا والد سيلا، يا بني. طمّني عليها، هي كويسة وبأمان؟ كنت عاوز أكلمها لو ينفع."
رد عاصم ببرود:
"اطمّن، هي كويسة وفي أمان. بس مش هينفع تكلمها دلوقتي، لدواعي أمنية. أنا اللي هتواصل معاك بعد كده."
تحدث محسن بأسف:
"ماشي، يا بني. كنت قلقان عليها بس. هستنى اتصالك. مع السلامة."
أنهى عاصم المكالمة، ثم توجه إلى صالة الألعاب ليخرج شحنات غضبه المتراكمة.
---
استغلت هي غيابه وواصلت بحثها في درج المطبخ حتى وجدت ما تبحث عنه: أداة صغيرة رفيعة لمعالجة الباب المغلق. لمع بريق عينيها بابتسامة خفية تدل على بداية نجاح مخططها. خبأت الأداة داخل ملابسها، وقررت انتهاز أول فرصة للهروب.
بعد فترة، جلست بجانب المدفأة لتستجمع أفكارها. عاد عاصم متعرقًا بعد تمرينه، واتجه مباشرة إلى غرفته في الطابق العلوي. تابعت تحركاته بنظراتها حتى اختفى.
وقفت بسرعة وتوجهت نحو الباب المغلق، وأخرجت الأداة التي خبأتها. بدأت تحاول فتحه بتحريك الأداة داخل القفل، لكنها لم تنجح. جففت العرق عن جبينها وقالت بصوت خافت:
"مش هيأس... هفضل أحاول."
عادت لتجلس على الطاولة، شاردة الفكر، محاولة ابتكار خطة أخرى. بينما كانت غارقة في أفكارها، نزل عاصم بعد أن استحم، ودخل إلى المطبخ. التفت إليها بينما كان يحضر لنفسه كوبًا من عصير البرتقال، وقال بنبرة تحذير:
"ياريت تكوني فكرتي كويس وعقلتي، عشان لو قلبتي مش هتعجبك. أنا بحذرك، ومش هيهمني أي توصيات. هما عارفين أنا مين وبعمل إيه."
تحدث عاصم بنبرة حادة:
"ومتقوليش إني محذرتكيش! انتي هنا بسبب غبائك واستهتارك، وده مش أول مرة تعمليها!"
نظرت إليه سيلا بثبات وأجابت بتحدٍ:
"انت بتهددني؟ أنا بعمل اللي بعمله بمزاجي، ومش خايفة منك أصلاً. ولو الزمن رجع بيا تاني، هعمل اللي عملته من غير تردد، سواء زمان أو دلوقتي. أنا مقتنعة باللي عملته. مش زيكم، سلبيين، تشوفوا الحقايق وتعملوا نفسكم مش شايفين، أو تتحركوا بعد فوات الأوان!"
اشتعل غضبه وهتف:
"انتي فاكرة نفسك مين؟ لما تعرضي اللي حواليكي للأذى؟! مش في زفت نيابة هي اللي بتحقق وقاضي هو اللي بيحكم؟ مين انتي بقى؟ مجرد صحفية مالهاش أي قيمة!"
قاطعت حديثه بانفعال واضح:
"أنا، واللي زيي، السبب إنكم تتحركوا أصلاً! لأنكم لوحدكم ما بتتحركوش. لازم نموت قدامكم عشان تفكروا تتحركوا. حتى لما حد بيتخطف، ما بتتحركوش غير لما يكون الوقت فات. يكونوا اتذبحوا، أو سافروا بعيد، وساعتها تتحركوا!
أنا عملت اللي عملته عشان حقوق الناس اللي ضاعت. لكن واضح إني بضيع وقتي معاك. مفيش فايدة!"
تركته غاضبة، وصعدت إلى غرفتها في الأعلى. أغلقت الباب خلفها، واستلقت على السرير لتستريح قليلاً، تفكر في خطتها القادمة للهروب. همست لنفسها:
"لا مفر... المرة الجاية لازم أنجح."
---
في الأسفل، تمتم عاصم بيأس:
"فعلاً، مفيش فايدة من الكلام معاكي."
توجه لاستقبال الخادمة التي وصلت لتوها من مصر، السيدة فاطمة، التي كانت تعمل لدى عائلته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. كانت بالنسبة لهم مثل الأم، خاصة بعد انتقالهم للعيش في منزل عمهم.
استقبله الحارس ليبلغه بوصولها، فابتسم عاصم وسارع لاستقبالها:
"نورتي ألمانيا يا ست الكل."
ابتسمت السيدة فاطمة وهي ترد عليه:
"نورك يا ابني."
أشار لها عاصم بابتسامة دافئة:
"يلا ارتاحي في أوضتك شوية، وبعدها حضري لنا أكلة حلوة من إيديك. وحشني أكلك جدًا."
ابتسمت فاطمة وقالت:
"عنيا يا بني."
ثم أضاف عاصم:
"عندي ضيفة هنا في الأوضة اللي فوق، اعملي حسابها في الأكل."
توقفت فاطمة للحظة، ونظرت إليه بدهشة:
"مين دي؟ انت اتجوزت؟!"
تجمد عاصم في مكانه، وأصيب بالصدمة من سؤالها، ولم يعرف بماذا يجيب.
الفصل الثاني عشر12
جمر الجليد الفصل الثاني عشر
عاصم نظر إليها بصدمة، ثم انفجر ضاحكًا:
"أتجوز مين يا ست؟! أنت هتبليني ببلوة! لا طبعا، دي أمانة عندي هنا لحد ما أرجعها."
فاطمة، مدهوشة ومش مصدقة:
"يا لهوي! انت خاطفها يا بني؟! ليه كده؟ دي مش أخلاقك، ولا مشيت في الحرام؟!"
عاصم ضحك بصوت عالي:
"حرام إيه بس؟! ولا خطف إيه؟! روحي ريحي، شكل السفر بقى مأثر على أخلاقك! يلا يلا."
فاطمة نظرت إليه بعينين مشبعتين بالقلق، ثم قالت بلهجة قاسية:
"والله شكلك مش مريحني، لما أطلع أشوفها."
رد عاصم بسرعة:
"سيبيها لحد وقت الغدا، وشوفيها بعدين."
فاطمة هزت رأسها:
"ماشي يا عاصم بيه."
ثم ذهبت إلى غرفتها بجانب المطبخ لترتاح قليلاً.
---
بعد عدة ساعات، استيقظت سيلا على صوت خبط على باب غرفتها. قامت بسرعة وتقدمت للباب.
كانت فاطمة تقف أمام الباب:
"الغدا جاهز يا هانم، وعاصم بيه منتظرك تحت."
تركته فاطمة وغادرت.
اتجهت سيلا للحمام لغسل وجهها، ثم نزلت لأنها لم تأكل منذ الصباح. عندما وصلت إلى الطاولة، وجدته جالسًا، فأشار لها بيده دون أن ينظر إليها، كي تجلس.
جلست بجانبه، وبدأت في تناول الطعام بسرعة، وكأنها لم تشعر بشيء حولها. لكن مع مرور الوقت، انتبهت أنه كان يراقبها، فشعرت بالحرج وقالت:
"أحم، شبعت، الحمد لله."
ابتسم عاصم لها نصف ابتسامة، ثم قال:
"كملي طبقك كله، وقومي بعدين، أنا الحمد لله."
تركها على راحتها، وذهب إلى مكتبه.
ردت سيلا في نفسها:
"أحسن برده عشان آخذ راحتي... حتى اللقمة بصص لي."
بعد أن امتلأت معدتها، جاءت فاطمة لتلم الأطباق.
قالت سيلا مبتسمة:
"تسلم إيدك، الأكل جميل. إنتِ اسمك إيه?"
أجابتها فاطمة:
"اسمي فاطمة."
سيلا ابتسمت وقالت:
"عاشت الأسامي. بس قوليلي، الباب اللي في المطبخ ده بيودي على فين؟"
أجابتها فاطمة:
"ده بيودي على الجنينه اللي بره."
قالت سيلا بتململ:
"آه، طيب. أنا زهقانة عايزة أطلع الجنينه بره. ممكن؟"
فاطمة قالت بجدية:
"هبلغ عاصم بيه الأول، لو ينفع، هخرجك."
سيلا ردت بملل:
"يبقى مش هطلع، أنا بقالى يومين هنا محبوسة أصلاً وزهقت بجد."
فاطمة قالت مطمئنة:
"طالما أنا اللي قولتله، مش هيقولي حاجة. استني بس، هخلص المطبخ وروح استأذنه."
سيلا ابتسمت بانتصار "لم تاخد بالها."
انتظرت حتى خرجت فاطمة من المطبخ، ثم دخلت هي مرة أخرى وأخذت شيئًا كانت قد خبأته سابقًا، ثم جلست تنتظر فاطمة.
عندما دخلت فاطمة، بدت حزينة، وقالت:
"موافقش صح."
ردت سيلا:
"معلش يا بنتي، بكره هكلمه تاني، يمكن يرضى. بس إنتي عملتي إيه مخليه مشدد الحراسة عليكي كده؟ ومش عاوزك تخرجي حتى!"
سيلا ردت بغضب:
"هو أصلاً خاطفني، بيقول إنه بيحميني، وأنا أقدر أحمي نفسي كويس ومستغنية عن خدماته دي!"
فاطمة هزت رأسها وقالت بحكمة:
"لا، يبقى موضوعك كبير طالما بيحميكي. هو أكفأ ضابط مخابرات، مش بيمسك مهمة إلا لو كانت كبيرة قوي."
أضافت فاطمة بنبرة جادة:
"عنده حق إنه مشدد الحراسة عليكي، اسمعي كلامه يا بنتي، عشان مش عاوزين مشاكل معاه. أنا مربياه وفاهماه. ما يغركيش إنه ساكت كتير كده. لما يطلع غضبه، محدش يقدر يتحكم فيه. خلي بالك."
ثم قالت بلطف:
"ولو كنتي زهقتي، استني بكرة، يمكن أخرجك شويه."
سيلا بتفكير:
"هو فين طيب؟ عاوزاه!"
: _ في المكتب "استني، دخلي له القهوة دي معاكِ."
خبطت على الباب، وسمعت صوته يقول:
"ادخلي يا فاطمة."
دخلت سيلا الغرفة فوجدت عاصم مشغولًا بالأوراق أمامه، لم يلاحظ وجودها. اقتربت منه بصمت، وضعت القهوة على المكتب، لكن فور أن نظرت إلى شاشة الحاسوب، فوجئت بما رأته، فوقف جسدها فجأة من الصدمة.
كانت شاشة الحاسوب تعرض مراقبة لكل تحركاتها في المنزل. تفاجأت، ووقف قلبها في مكانه. انتبه لها عاصم، أغلق الحاسوب بسرعة، ونظر إليها باستغراب:
"خير، إيه اللي جابك هنا؟"
جلست سيلا أمامه، محاولة الهدوء:
"ممكن أقعد؟"
عاصم رفع حاجبه بتعجب:
"أمال إنتِ عملتي إيه دلوقتي؟"
سيلا كانت قد جاءت لتحدثه بشأن أمر ما، لكنها قررت تغيير خطتها عندما اكتشفت أنه يراقب تحركاتها. شعرت أن لا مفر من الهروب، لكن قررت إعلان هدنة مؤقتة معه.
قالت سيلا بنبرة هادئة:
"يعني، كنت جايه أقولك إني فكرت بكلامك، يعني وأنا شكلي فعلاً اتسرعت. بس أنا هقعد هنا لامتى؟ مش متعودة على حبسي ده، ومش عارفة أنا فين أصلاً."
عاصم أومأ برأسه:
"كويس إنك فكرتِ، هتقعدي لأمتى لحد ما نمسك أفراد العصابة. إحنا بنراقبهم، وقريب هيتقبض عليهم أول ما يطلعوا من جحورهم."
سيلا بتفاؤل:
"بجد؟ طيب كويس، بس ما قلتليش إحنا فين؟"
عاصم بضجر:
"في ألمانيا."
سيلا صُدمت وقالت:
"هااااه؟ بجد؟ طيب إزاي وجيت هنا إزاي؟"
عاصم:
"مش عاوزة رغي كتير. عندي شغل، اتفضلي قومي."
سيلا بحذر:
"ممكن استعير كتاب من عندك أقرأه بدل الزهق ده؟"
عاصم نظر إليها قليلاً، ثم قال:
"ماشي، خدي. المكتب مليان كتب."
سيلا بابتسامة صفراء:
"ميرسي."
ثم قامت تبحث في المكتب عن كتاب، رغم أنها لم تكن تحب القراءة، لكنها وجدت أنها لا تملك خيارًا آخر لتمضية الوقت.
أمسكت بكتاب لفت نظرها بعنوان "موجوع قلبي"، وهمست لنفسها:
"وده إيه اللي وجع قلبه ده كمان؟ عشان يجيب "موجوع قلبي"، هي ناقصة وجع قلب! عدينا المرحلة دي من زمان."
عاصم، الذي كان يراقبها، رد مازحًا:
"ها، خلصتي كلام مع نفسك ولا لسه؟"
سيلا ابتسمت ابتسامة باردة وقالت:
"لا، أبدًا. لاقيت كتاب هنا، هقراه وأرجعه تاني."
عاصم:
"ماشي، خدي الباب وانتي طالعة."
سيلا:
"حاضر."
خرجت بالكتاب وذهبت لتقرأه.
دخلت غرفتها، غيرت ملابسها، وجلست على السرير. ظلت تقرأ حتى غلبها النوم، والكتاب داخل حضنها.
بعد أن انتهى من عمله، توجه عاصم إلى غرفته ليستريح. لكنه سمعها تتهمس، ثم طرق الباب، ولم يأتِ الرد. ففتح الباب ودخل ليجدها نائمة، والكتاب فوقها. كانت تتحدث وتبكي أثناء نومها:
"ليه؟ ليه كده؟"
وقف عاصم مترددًا، مستغربًا من حالتها، لم يعرف إن كان يوقظها أم يتركها نائمة. قرر في النهاية تركها وشأنه.
أخذ الكتاب من يديها ووضعه جانبها، ثم غطاها بالبطانية.
رجع إلى غرفته لينام بعمق.
أغلقت همسة عينيها بعد أن قرأت الرسائل التي أرسلها وليد، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة قبل أن تسقط في نوم عميق من شدة التعب. في الجهة الأخرى، كان وليد في حالة من الإحباط بعد أن لم يتلقَ أي رد منها، متسائلًا في نفسه عن السبب وراء تجاهلها لرسالته.
أما معتز، فقد ركب سيارته بعد أن أجرى اتصالًا سريعًا، وقال للمُجيب في الطرف الآخر، "انتو فين؟"، وبعدما تلقى الإجابة، أضاف "طيب تمام، أنا جايلكم. سلام." وقاد سيارته مبتعدًا عن المكان.
دخل معتز الملهى الليلي، وحاول أن يبحث عن حمزة وحسام وسط الأضواء الخافتة والموسيقى الصاخبة. لم يمر وقت طويل حتى عثر عليهم، وكانوا جالسين معًا على إحدى الطاولات.
حمزة: "إيه يا عم، عاش من شافك!" حسام: "لك وحشة، أبرنس! فينك مش بتظهر ليه؟" معتز: "أكون فين يعني؟ في الشغل وقرفه، سيبك مني. أنتم عاملين إيه؟ وأخبار الليلة إيه؟"
حمزة: "إحنا زي الفل، والليلة بدأت تحلو اهيه."
وغمز بعينيه باتجاه فتاة جالسة مواجهتهم، ملابسها تكشف أكثر مما تستر، وكأنها جزء من التسلية في المكان.
حسام: "بس إيه، رماك علينا المرة دي؟ مش بتيجي إلا وإنت وغمزله."
معتز: "عندك، ولا أروح أشوف في مكان تاني؟"
حسام ضحك ضحكة عالية: "عيب تقول الكلام ده، وأنا صاحب المكان، كده بتشتمني! طلبك عندي، بس مش عاوزين قلق."
معتز: "عيب عليك."
حمزة تدخل: "معتز، أنت مش بطلت الموضوع ده بقالك فترة، رجعت له ليه تاني؟"
معتز: "خليك في حالك."
معتز نظر إلى حسام قائلاً: "إيه الكلام؟"
حسام قام قائلاً: "خمسة دقايق وجاي." مرّ بضع دقائق، ثم عاد حسام وغمز لمعتز، قائلاً: "طلبك مستنيك فوق."
معتز قام وصعد إلى الغرفة، مستعدًا لما ينتظره هناك.
… ..
ظلت مي جالسة في غرفتها، عينيها لا تفارق الجدار أمامها، مشاعر القلق تسيطر عليها. كلما تذكرت نظرته الغريبة، كلما شعرت برهبة أكبر. فكرت في نفسها مرارًا: "أكيد جاي هنا صدفة، مفيش غير كده." لكنها لم تستطع التخلص من تلك النظرة التي لا تفارق ذهنها، كانت مرعبة لدرجة أنها بدأت تشك في كل شيء حولها.
"أنا و سيلا كنا عاوزين نسيئ سمعتهم و نكتب عنهم كلام غلط في شركتهم... الحمد لله، ملحقناش." قالت لنفسها، محاولة أن تجد مبررًا لما حدث. "يا لهوي، ده كان موتني بشكله ده."
استمر التفكير يتوالى في رأسها حتى غلبها النعاس، وغفت على سريرها، بينما كانت الصورة المرعبة التي تركها في ذهنها لا تزال عالقة، تفكر في ما إذا كانت ستلتقي به مرة أخرى، وكيف سيكون رد فعلها حينها.
ــــــــــــــــــــــــــ
دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه بعنف، عينيه مليئة بالغضب والانفعال. كانت جالسة تنتظره، لكنها تراجعت إلى الوراء، بعدما رأته واقف أمامها يخلع حزامه ويلفه حول يده، ملامحه مشدودة وعينيه مليئة بالغضب، ثم بدأ في صوته القاسي وهو يردد كلمات مؤلمة عن الخيانة، و ضرباته على جسدها كانت عميقة في تأثيرها، أنتهى منها أرتدى ملابسه، ثم قام بأخراج دفتر الشيكات والقي أمامها، تاركا المكان وهو غارق في أفكاره المشتتة والضبابية.
بينما هو في طريقه إلى منزله، عينيه لا تبرح صورة وجهها الذي لا يزال في ذهنه. كان يحاول الهروب من ذكرياته بطرق مختلفة، لكنه لم يستطع. عندما وصل إلى غرفته، توجه إلى حقيبة الملاكمة ليخرج ما تبقى من غضبه على الحقيبة المعلقة، محاولاً أن يتخلص من تلك المشاعر التي تحاصره.
أخذ حمامًا باردًا على أمل أن يهدأ قلبه، ثم جلس في مكانه، يردد كلمات غير واضحة، وكأنها محاولة لتبرير نفسه. لكن في أعماقه كان يعلم أن ما فعله لن يكون قادرًا على تهدئة تلك النار المشتعلة داخله.
في صباح اليوم التالي، استفاقت سيلا وجلست على السرير لبعض الوقت قبل أن تنهض وتنزل إلى الأسفل. هناك، قابلت فاطمة التي كانت تحضر الفطور.
"صباح الخير"، قالت سيلا بابتسامة.
"صباح الخير يا حبيبتي"، ردت فاطمة بحنان، "بحضر الفطار ثواني ويكون جاهز."
"لا، أنا محتاجة قهوة مش بفطر"، قالت سيلا وهي تقترب من المطبخ، "خليكي هعملها أنا."
تحدثت فاطمة بنبرة الأم الحانية: "لا قهوة ايه، لازم تفطري الأول."
ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة وقالت: "عارفة، بتفكريني بماما كل يوم الصبح نفس الكلام ده لحد ما غلبت معايا."
"عارفة، واحشتني أوي هي وبابا وهمسة..." قالت سيلا بتأثر، ثم صمتت فجأة عندما سمعت صوته خلفها.
عاصم، الذي كان يقف خلفها، قال: " روحي جهزي الفطار يا دادا."
"حاضر يا بني"، قالت فاطمة بسرعة، وتركتهما وذهبت لتكمل تحضير الفطور.
ثم نظر عاصم إلى سيلا وقال بنبرة حازمة: "تعالي يا سيلا، على مكتبي، عاوزك."
لم تلتفت له فور سماعها صوته، لكنها مسحت بيدها بقايا دمعة هربت منها، محاولة إخفاء مشاعرها