رواية انت عمري الفصل الرابع والاربعون44 الاخير بقلم امل مصطفي


 رواية انت عمري الفصل الرابع والاربعون44 الاخير بقلم امل مصطفي

كان أدهم، وفهد، وسالم في طريقهم إلى الداخل، عندما اصطدمت كرة صغيرة بقدم سالم . انحنى يلتقطها وهو يبتسم، هاتفًا:

– عندكم حد بيلعب كورة؟

تعجب أدهم، فلم يكن يتوقع شيئًا كهذا، وهتف مستنكرًا:

– لا، ابني لسه صغير!

وما هي إلا لحظات حتى اقتربت فتاة في حياء، تطلب منهم الكرة بصوت خفيض. مدّ سالم يده مبتسمًا:

– اتفضلي.

بينما رحّب بها أدهم بلطف:

– أخبارك يا آنسة فريال؟ نورتينا.

لم ترفع عينيها، وهي تردّ بصوت خافت:

– منور بأهله... بعد إذنك.

تحركت مبتعدة، وعيون سالم تتبعها بصمت.

أما فريال، فعادت إلى صديقتها ووجهها محمّر من الحرج. ألقت الكرة على عزة بضيق وهي تهتف:

– ابقي العبي لوحدك بعد كده! خليتيني شكلي وحش وأنا بجري ورا الكورة، وألاقي نفسي وسط ثلاث رجالة! هيقولوا عليّ إيه دلوقت؟

وقفت عزة ببرود، واقتربت منها تمرر يدها على كتفها بحنان، قائلة:

– الكتكوت بتاعي يتكسف؟ يا ختي... كميلة!

بينما سألتها عشق بهمس:

– هو أدهم معاه حد؟

جلست بندم، وقالت:

– آه، معاه اتنين رجالة لابسين جلاليب.

---

في تلك الأثناء، كانت فردوس تبكي في غرفتها، يغمرها الحزن والعجز. لا تعلم كيف تتصرف، ولا مع من تتحدث.

دخل أيمن الغرفة بابتسامة:

– فوفه، حبيبتي... إنتِ فين يا قمر؟

لكنه عبس فور أن رآها جالسة، تعطيه ظهرها. اقترب من الفراش، حتى صار أمامها، فوجدها تمسح دموعها بحزن. جلس بسرعة، يسألها بلهفة:

– مالك يا فردوس؟ حصل إيه؟ الولاد كويسين؟

تأملته بصمت، وأعصابه كانت قد تدمرت من الخوف. قال بتوتر:

– في إيه يا فردوس؟ اتكلمي، أرجوكي!

هتفت بصوت مرتجف، تخشى ردة فعله:

– في أخبار مش كويسة... وخايفة من رد فعلك.

مدّ يده، يحركها على وجنتيها بحنان:

– تخافي مني أنا؟ أنا أيمن... حبيبك.

ليتها لم تتحدث، أو ليتني صُبت بالصمم، ولم أسمع تلك الكلمات التي غرست في جسدي كالسِهام، بلا رحمة، على يد أقرب الناس إلى قلبي...

قالت:

– أنا حامل... ومش عارفة إزاي! أنا باخد برشام!

اتسعت عيناه بصدمة، وكرر كلماتها:

– بتقولي... بتاخدي برشام؟ إيه؟ مش ممكن!

نكّست رأسها بحزن، فرفع ذقنها بيده، وهتف:

– بتبكي وتقولي "أخبار مش كويسة"؟! ده ربنا عوّضني بعد العمر ده بحِتّة منك! عمري ما كنت أتخيّل أن حاجه زي دي تحصل ...

شهقت، وهي تفهم خطأه لحالتها، وهتفت بسرعة:

– والله الموضوع مش زي ما أنت فاهم! أنا بتكلم عن الحياة والناس... أنا جدة! ومعايا خالد... راجل، ما شاء الله.

الناس مش بترحم، ومش عارفة الولاد هيتقبلوا الوضع ولا لأ!

وقف مبتعدًا، فقد جُرح من تفكيرها. هي تبحث عن رضا الجميع... إلّا هو!

وقفت تمسك يده برجاء:

– أرجوك يا أيمن!

جذب يده، وهو يهتف بحزن:

– أرجوك؟! آخر حاجة كنت أتوقعها منك إنك تفكري في مشاعر الكل... إلا أنا!

مش متخيلة أنا حاسس بإيه؟! وأنا حلمي المستحيل اتحقق في لحظة!

من غير إراده مني  تمنيت طول عمري يكون ليا طفل... من صلبي، ومنك إنت بالذات! وبعد ده كله ألاقيكي شايلة همّ وزعلانه؟!

لو كنتي بتحبيني، كنتي فرحتي... ومفكرتيش في حد غيري.

ثم ترك الغرفة، وابتعد.

---

بعد يومين، لاحظ خالد أن أيمن تغيّر. به شيء يخفيه، وأمه أيضًا عيونها منتفخة، وصامتة دائمًا. أراد أن يعرف ما حدث، لكنه فضّل أن يتركهم حتى يتصافوا.

في المساء، طلب أيمن جمع العائلة. لاحظ الجميع التوتر بينهما، بينما وقف أيمن يتحدث بحزن:

– أنا طلبت أجمعكم النهاردة، لأن عندي موضوع مهم... وبما إنكم عيلتي الوحيدة، حبيت أرجع لكم قبل ما أتصرف.

جذب كلامه انتباه الجميع، ثم هتف بعتاب:

– فردوس... حامل.

شهقت البنات، بينما وقف الأولاد يركضون إليه ويحتضنونه بسعادة.

أما خالد، فقد ظلّ صامتًا... يعلم أن هناك المزيد.

أكمل أيمن بصوت منخفض:

– فردوس زعلانة... وشايفة إن حملها مني كارثة وفضيحة ليها وليكم. نسيت مشاعري أنا... وللأسف مفكّرتش فيها. علشان كده، حبيت آخد رأيكم. واللي هتقولوا عليه، أنا هنفذه من غير كلام... ننزل الطفل؟ ولا نسيبه؟

هتف الجميع دون تردد:

– نسيبه طبعًا!

سالت دموع فردوس بصمت... لم تكن تتوقع أن موقفها يجرحه بهذا الشكل. أيمن ينزف من الألم، وللمرة الثانية، تكون هي سبب جرحه... وهو الذي عاش عمره من أجلها.

كانت الشهور الماضية الأجمل في حياتها، حولها من ربة منزل ذابلة، إلى سيدة قصر مدللة. وماذا أعطته بالمقابل؟!

ابتسم لهم بحزن، وهو يقول:

– أتمنى تقدروا تقنعوها... بعد إذنكم.

تابعته بنظرات ملتاعة، بينما جلست بجوارها زينب وندى. تحدثت ندى بحنان:

– ليه عملتي كده يا ماما؟ وكسرتي فرحتكم؟

نظرت لها فردوس بخوف:

– خايفة عليكي يا حبيبتي... من مسخرة أهل جوزك، وحماتك، على أمك اللي حملت في السن ده! وعلى شكل أخوكي بين أصحابه...

أرادت ندى التخفيف عنها، فهتفت بسخرية:

– مسخرة إيه يا مزّة؟! دي حاجة ترفع الراس! إن أمي لسه صغيرة وبتخلف... مش هم اللي عجزوا!

أما خالد، فكان صامتًا منذ بداية الجلسة. كانت فردوس تترقب رأيه بشدة. فقرر أن يريحها:

– أولًا، يا أمي... ده أمر ربنا، وملناش دخل فيه.

– وعلى أصحابي وشكلي قدام الناس؟ ميهمنيش رأي حد. دي حياتنا، ومحدش ليه فيها غيرنا.

– أنا كل اللي يهمني دلوقت إنك تصالحي بابا أيمن... شكله موجوع من رد فعلك جدًا، وهو ميستحقش كده.

---

---

---

لم تصعد فردوس إلى غرفتها، بل خرجت إلى الحديقة تنتظر عودته. لم تجف دموعها، وكانت تراجع نفسها مرارًا وتكرارًا. علمت كم كانت قاسية عليه برد فعلها وكلماتها. حاولت التواصل معه، لكن هاتفه كان مغلقًا.

وبعد مرور ساعتين، عاد أيمن إلى المنزل، حزن شديد يملأ قلبه، يشعر بأنه كبر فوق عمره مما فعلته. أوقف سيارته وسار بأكتافٍ متهدلة نحو الباب، لكنه لم يصل إليه، عندما سمع صوت نداء فردوس.

حاول التماسك، ورسم البرود على ملامحه، حين رآها تقبل عليه بلهفة. ألقت عليه التحية، فردّها ببرودٍ وعدم اهتمام.

سالت دموعها مرة أخرى، وهي تشعر بنفوره وعدم رغبته في الحديث. هتفت بصوت متهدّج من البكاء:

– ممكن نقعد نتكلم مع بعض شوية؟

رفع عينيه، والتقت نظراته بعينيها المنتفختين من البكاء:

– لسه في حاجة عايزة تقوليها؟ أظن الموضوع منتهي... وإنتِ خدتِ قرارك.

أمسكت كف يده برجاء:

– أرجوك يا أيمن، اسمعني.

تحرك بجوارها بقلبٍ موجوع، من رد فعلها وعيناها المتورمتان من البكاء. هو الذي أخذ على نفسه عهدًا بتعويضها عن ما عاشته مع طليقها.

جلست، وجلس أمامها، يضع كفيه على الطاولة، ينتظر حديثها.

ابتلعت ريقها، تحاول جمع أفكارها، لعلها تنهي الحزن الذي بينهما.

قالت بصوت متهدّج:

– أيمن... بالنسبة لفردوس،  الجنة اللي فُزت بيها بعد صبر طويل، على عذاب ومرار الحياة مع أسوأ شخص ممكن إنسان يقابله.

أنت الجبر اللي جه بعد الصبر.

أنا، قبل ظهورك في حياتي، كنت جثة... مالهاش أي قيمة.
حياتي كلها كنت بعافر علشان أوصل ولادي لبر الأمان.
كنت مدفونة حيّة، ويئست إن حد ينقذني. استسلمت للموت، ومع آخر نفس خرج مني... لاقيتك.
انتشلتني بكل قوتك، زلّلت التراب من على جثتي، ورديت فيها الروح.
يعني حياتي دلوقتي... ملكك أنت.

أنا آسفة إني جرحتك. آسفة إن الموقف شتّتني، ونسّاني إنك الوحيد اللي ليك الحق فيه.

رفعت كفوفه بين يديها، وانحنت تقبلهما بحب ودموع، مما جعل كل حصونه تنهار. وقف، وجذبها إلى صدره، يقبّل رأسها بحنان:

– قلبي وجعني قوي من رد فعلك اللي مكنتش مصدقه!
بقي إنتِ حبّيتي ولادك، وحافظتي عليهم... اللي من أكتر راجل بتكرهيه.
والطفل اللي جاي مني... تنفريه وتبقي كارهة وجوده؟

هتفت بنفي سريع:

– أبدًا يا أيمن! ابنك هيبقى أغلى الغاليين.
أنا دايمًا كنت بتمنى ولادي يكونوا شايلين اسمك، حتى من قبل ما أقابلك.
وحمدت ربنا إن مافيش واحد منهم خد جينات أبوهم، وإلا كنت مت بحسرتي!

ضمها بقوة:

– بعد الشر عليكي... إياكي تقولي كده تاني.

ثم ابتسم:

– إيه؟ مش هنحتفل بأجمل خبر؟!

ابتسمت، وهي تمسح دموعها:

– أكيد طبعًا نحتفل.

أخذها تحت جناحه، وتوجّه بها إلى غرفتهم.

---

في تلك اللحظة، دخل خالد غرفته، وأغلق الشباك وهو يبتسم. اقتربت منه زينب، وسألته:

– اتصالحوا؟

هزّ رأسه مؤكدًا:

– أيوة... بابا أيمن عاشق، والعاشق ميقدرش يزعل من حبيبه مهما جرح فيه.

تنهد قليلًا وأكمل:

– رغم إني انصدمت من موقف أمي...
إزاي حبيتي ولاد الراجل اللي بهدلك ودمر حياتك؟
وزعلتي لما حملتي من أكتر شخص بتحبيه؟
بس... أنا عذرها. هي خافت من كلام الناس ومعايرتهم.

لكن إحنا خلاص... بعدنا عن الحارة، وعن الناس اللي بتحشر نفسها في كل حاجة.
كان المفروض تفرح وتعيش حياتها بقى.

---
---

في تلك الشقة التي خُصصت لإقامة والد ماسة وأخيه خلال فترة علاجها، ساد الهدوء بعد يوم طويل من المتابعات والزيارات. جلس سالم إلى جوار أخيه إبراهيم، وكانت ملامحه تحمل شيئًا من التردد، لكن عينيه كانتا تلمعان بشيء من الحسم.

قال سالم وهو ينظر أمامه بثبات:
– أنا شُفت بنت في بيت أدهم… وعجبتني جدًا. وعايز أطلبها رسميًا.

انتبه إبراهيم على الفور، بينما قفزت صفاء من مكانها تصيح بفرحة غامرة:
– يا ألف نهار أبيض! ألف مبروك يا حبيبي!

لكن إبراهيم رفع يده قليلاً وقال بهدوء:
– استني يا صفاء… نفهم الأول. هي تبقى قريبة أدهم؟

هز سالم رأسه نافيًا:
– لا، صديقة مراته. ولما فهد سأله عليها، قال إنها إنسانة محترمة جدًا وأخلاقها عالية.

ابتسم إبراهيم وأومأ برأسه قائلاً:
– يبقى على بركة الله. كلّم فهد يشوف لنا ميعاد معاهم. ولو في قبول، نشرع في الجواز على طول. كفاية عزوبية لحد كده.

وفي مساء اليوم نفسه، كانت عشق تمسك هاتفها، تُجري اتصالًا بفريال. وما إن ردت فريال حتى بادرتها عشق بحماس:
– فريال، عندي لكِ خبر مش طبيعي! سالم، أخو ماسة، عايز يتقدملك.

تجمدت فريال لثوانٍ، قبل أن تنطق بدهشة:
– سالم؟! هو يعرفني منين؟ ده ما شافنيش غير دقيقة لما خدت الكورة منه!

ضحكت عشق وقالت:
– باين إن الدقيقة كانت كفاية بالنسبة له! قال إنه شاف فيك حاجة مختلفة، وسأل فهد عنك، وأكدله إنك محترمة وأخلاق.

تلعثمت فريال وهي تقول:
– بس… ده قرار كبير. أنا مش مستعدة ليه … ومش عارفة بابا وماما هيقولوا إيه.

طمأنتها عشق:
– قولي لهم، وهو هييجي البيت رسمي مع أهله. مش جاي يلعب.

---

في صباح اليوم التالي، كانت فريال تجلس مع والدتها في المطبخ، مترددة في فتح الموضوع. لكن نظرات والدتها كانت كفيلة بجعلها تتكلم:
– ماما، في عريس طلبني… عن طريق أدهم زوج عشق  .

رفعت الأم رأسها بدهشة:
– عريس؟! إمتى وفين؟ هو شافك قبل كده؟

– شافني مرة بس…  بعت يسأل زوج عشق ولما شكر في اخلاقي، طلب يتقدم رسمي.

دخل والدها في تلك اللحظة، لتعيد عليهما فريال الكلام. ساد الصمت لبرهة قبل أن يتحدث والدها بحزم:
– هكلم عشق وأسأل عليه ولو كويس يبقي علي خيرة الله

---

مرت أيام قليلة، وكان سالم يقف أمام منزل فريال، بجواره أخوه إبراهيم وصفاء، . استقبلهم والد فريال بكثير من التحفظ، لكن كلماته كانت موزونة، ورحب بهم بأدب.

بدأ الحديث بين العائلتين، وتحدث سالم بثقة وهدوء:
– أنا مشفتش فريال كتير، لكن شفت منها الاحترام والحياء، وده كفايه يخلي قلبي يرتاح ليها. 
وأنا جاي النهارده أطلبها على سنة الله ورسوله.

نظر والد فريال إليه طويلًا، ثم التفت إلى ابنته الجالسة بخجل في طرف المجلس:
– فريال، رأيك إيه يا بنتي؟

نظرت فريال إلى الأرض، وصوتها بالكاد خرج:
– موافقة يا بابا… لو حضرتك شايف إنه مناسب.

ابتسم الأب أخيرًا وقال:
– طالما بنتي مرتاحة، يبقى على بركة الله.

امتلأ البيت بأجواء البهجة، وعقدت الخطبة في جو عائلي دافئ، حيث تجمعت القلوب على النية الطيبة والاحترام المتبادل.

كانت فريال، للمرة الأولى منذ زمن، تشعر بالطمأنينة. لم يكن سالم رجلاً وسيماً فقط، بل كان ناضجًا، صادقًا في كلماته، ومتحمسًا لحياة تبدأ بالحب والاحترام.

أما سالم، فكان يشعر كأنه حاز على كنز، وكل لحظة تمر قربها، تثبّت في قلبه أنها "الاختيار الصح".

---

اجتمعت فريال مع صديقتها المقربة عشق، و جلسن في الحديقة الخلفية للبيت، تحت ضوء القمر الهادئ، فيما كانت عزة تُعدّ بعض المشروبات الساخنة في المطبخ وتأتي بها إليهن بعد قليل.

عشق كانت تحدق في وجه فريال بإمعان قبل أن تبتسم بمكر وتقول:

– هااا... إيه رأيك بقى في العريس؟ لسه بتقولي ده واحد شفته دقيقة وكنت بجري ورا كورة؟

ضحكت فريال بخجل، ثم نظرت إلى السماء و ردّت بهدوء:
– مكنتش أعرف إن الدقيقة دي هتغير كل حاجة في حياتي.

اقتربت منها عشق، وضعت رأسها على كتفها بدلال وقالت:

– يعني بنحمد ربنا على الكورة اللي جات برجلك؟

هزّت فريال رأسها والابتسامة لا تفارقها:
– الحمد لله... 

في تلك اللحظة، عادت عزة بصينية الشاي وجلست قربهما، وقالت بمرح:

– أحب أنا جو  العيون والكلام الكبير ده، بس أنا اللي شايفة أنه داخل حامي علينا وعايز الخطوبه والفرح في يوم واحد  !

انفجرن بالضحك جميعًا، لكن فجأة خفتت ضحكة فريال، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تنظر لعشق بعينين ممتلئتين بالصدق والامتنان:

– تعرفي يا عشق... أنا عمري ما كنت أتخيل إني ممكن أعيش بعيد عن بيتنا، عن بابا وماما، عنكم. كنت دايمًا لما أسمع كلمة "غربة" قلبي يقبض.

أمسكت عشق بكفها برقة وسألتها:
– طب إيه اللي خلاك تقبلي فجأة؟

أجابت فريال بصوت خافت:
– سالم.

نظرتا إليها في ترقب، فأكملت وهي تسرح في الذكريات القريبة:
– من أول مرة اتكلم معايا، وأنا حاسة إن في أمان في صوته، في نظراته. كان بيبصلي كأني شيء نادر،

كأنه شايفني بعيونه غير اللي كل الناس بتشوفني بيها. ولما زارنا مع أهله، حسيت إن قلبه جاي قبل رجله. ساعتها بس... حسيت إني ممكن أسيب بيتنا، بس هبني بيت تاني معاه.

صمتت الفتاتان للحظة، تتأملان صدق كلماتها، ثم هتفت عزة:

– طالما كده، يبقى أنا بطالب بجائزة نوبل للكورة اللي خلتكوا تتقابلوا!

ضحكت فريال بحرارة، بينما عشق همست لها:
– إنتي هتبقي عروسة جميلة، وربنا كاتب لك الخير معاه. وأنا واثقة إنك هتبقي مبسوطة معاه .

مدت فريال يدها تمسك بكف عشق، ثم بكف عزة:

– من غيركم، مكنتش اوصل للثبات اللي أنا فيه دلوقتي. أنتم سندي … ربنا يخليكم ليا.

---
لم تمر سوى أيام قليلة على الخطبة، حتى بدأ الحديث الجدي عن موعد الزفاف. في العادة، كانت مثل هذه الأمور تأخذ وقتًا، لكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا. سالم، منذ اللحظة الأولى، كان واضحًا وصريحًا:

– مش عايز أطوّل الخطوبة… لو في قبول منكم، نبدأ نجهز على طول.

جلس مع والد فريال ووالدتها يتحدث بهدوء، لكن عينيه كانتا تفضحان لهفته. فريال أيضًا، كانت تبدو خجولة لكنها موافقة، ولم تُبدِ أي اعتراض.

تدخل والدها أخيرًا وهو يسأل بابتسامة خفيفة:
– مستعجل ليه يا سالم؟ لسه الناس ما لحقتش تفرح بيكم.

رد سالم بصدق لا يخلو من الحرج:
– أنا هسافر بعد شهرين شغل خارج البلد، ومش حابب أسيبها من غير ما تكون على ذمتي. كمان… أنا عايز أبدأ حياتي معاها بسرعة، من غير تأجيل.

نظرت الأم إلى ابنتها التي احمرّ وجهها خجلًا، لكنها أومأت برأسها في صمت. ابتسم الأب وقال:
– طالما ده طلبك، وإنتوا متفاهمين، يبقى نبدأ نجهز من بكره.

---

بدأت أيام التحضير تمر كالعاصفة. الجميع كان مشغولًا، وفريال كانت بالكاد تستوعب ما يحدث حولها. للمرة الأولى، ترتب غرفتها لتصبح "غرفة عروسة"، تجرّب فساتين، وتقابل مصممي الكوشة، وتختار الدعوات. وبين كل لحظة وأخرى، كانت تسرق دقيقة لتكلم سالم على الهاتف.

– متخيل يا سالم؟ أنا هبقى مراتك كمان أسبوعين!

ضحك من قلبه، ورد بلهفة:
– وأنا مش مصدق إني خلاص لقيتك. كنت فاكر إن نصيبي اتأخر، طلع مستنيك.

أما عشق، فكانت الأكثر حماسة في البيت، تتحرك كالنحلة، تتابع كل تفصيلة، وتمازح فريال طوال الوقت:
– اتجوزي بسرعة يا فريال، لحسن الولاد في الحارة هيقعدوا يعضّوا صوابعهم ندم!

---

في جلسة هادئة قبل الزفاف بأيام، جلست فريال مع والدتها في المطبخ. سألتها الأم بخفوت:
– إنتِ مرتاحة يا بنتي؟ كل حاجة ماشية بسرعة.

ابتسمت فريال وهي تمسك بكف والدتها:
– آه يا ماما، مرتاحة جدًا. سالم مش بس راجل، ده أمان، وأنا كنت محتاجة الأمان ده من زمان.

مسحت الأم على شعر ابنتها برقة، و همست بدعاء:
– ربنا يكتب لك السعادة يا بنتي، ويجعله سندك في الدنيا.

---

اقترب يوم الزفاف، وكانت القاعة تتزين بالأبيض والورود الهادئة. في قلب الحفل، وسط التهاني والزغاريد، وقف سالم يضع الخاتم في إصبع فريال، وهمس لها بهدوء:

– من النهارده، كل يوم هيكون لنا... مع بعض.

ابتسمت له، والدموع تلمع في عينيها.

– وكل يوم... هيكون أحلى بيك.

******
عند فهد 

خرجت ماسة من المستشفى بعد تحسن حالتها بشكل لافت، و الابتسامة لا تفارق شفتيها، تلك التي كانت بالأمس باهتة و مكسورة.

كانت تسير إلى جوار فهد، وقد بدا عليه الإرهاق الممتزج بالامتنان، عينه تراقب خطواتها وكأنها تمشي فوق قلبه.

ركبت السيارة بهدوء، وأمسك يدها دون أن يتحدث، لم تكن الكلمات تكفي لتصف كم كان خائفًا من فقدانها، لكنها عادت، أقوى و أهدأ وأكثر إصرارًا.

---

مرت الشهور التالية كأنها قطوف من الجنة، لم يتأخر فهد لحظة في الاعتناء بها، كان يلازمه في كل خطوة، يحمل عنها عبء الأيام، و يحيطها بحب لم تشهده من قبل.
صحتها تحسنت، وروحها ازدادت إشراقًا، حتى جاء  … يوم ولادة التوأم.

مرّت الساعات ببطء ثقيل، وكل دقيقة تحمل في طيّاتها قلقًا و مزيجًا من الدعاء والصمت. كانت ماسة في غرفة العمليات، تستعد لاستقبال أول أطفالها، والتوأم الأول في عائلة المنشاوي .

في الخارج، اجتمع الجميع في صالة الانتظار وكأنها بيت صغير اجتمع فيه النبض الواحد. كانت عشق تمسك يد والدتها بخوف، وعيناها لا تفارق باب العمليات. 

جلس فهد على الكرسي المواجه للباب، لا يتحدث، لا يتحرك، عيناه كأنهما نُزعتا من وجهه و سُكنت في الداخل مع ماسة.

كان صوت أجهزة التنفس و الإشعارات في الداخل يختلط مع خفقات قلبه، وكلما مضت دقيقة، انحنى ظهره أكثر، و كأن الانتظار سلبه قوته.

جلس الجد المنشاوي الكبير في زاوية الغرفة، ساكنًا بصمته، يُسبّح بهدوء، ويداه تمسكان بمسبحته التي لم تفارقه يومًا،

لكن ملامح وجهه كانت مختلفة... فيها رجاء وخوف، وفيها لهفة لا تليق إلا بأب يخشى على قلب حفيدته التي لم ينجبها.

وفجأة... فتح الباب.

خرجت الممرضة وهي تبتسم، ثم قالت بنبرة هادئة:

– مبروك، المدام ولدت توأم... ولد وبنت، الأم بخير، بس محتاجة راحة.

ما إن نطقت حتى اندفع فهد واقفًا، ارتج جسده بالكامل، و تقدّم خطوتين لا يدري بعدها أيتكلم أم ينهار.

نزلت دمعة حارة على وجنته، أول دمعة تخرج من حصنه الذي ظل سنوات مشيدًا على الخوف والصبر.

ركضت عشق نحو الممرضة تسأل عن ماسة، بينما صفاء

احتضنت فهد وهي تبكي فرحًا:
– ألف حمد وشكر ليك يا رب... ألف حمد وشكر!

---

دقائق قليلة مرت قبل أن تُفتح أبواب غرفة الإفاقة، و تُدفع ماسة على سريرها ببطء نحو الغرفة الخاصة.

كانت مرهقة، ووجهها شاحب، لكن ابتسامتها الخافتة عند رؤية فهد وهو يركض نحوها كانت كافية لبعث الحياة في المكان.
انحنى عليها، أمسك يدها، ووضع جبينه فوقها، كأن روحه استعادت مكانها.

– ولد وبنت يا ماسة... والله نورتي الدنيا.

هزت رأسها ببسمة مرهقة، ثم أغمضت عينيها مطمئنة، فقد عاد قلبها إليها على هيئة فهد وصوته.

---

دخل الجميع الغرفة بهدوء، و احدًا تلو الآخر، ومع كل شخص دخل، امتلأت الغرفة بدفء جديد.

ثم دخل الجد المنشاوي الكبير، يتقدم خطواته بثقل سنين، لكنه كان يحمل بين يديه شيئًا مختلفًا… دعاء الأجداد.

اقترب من الحاضنة التي وُضع فيها الطفلان، مد يده بثبات، ورفع الطفل الأول – الولد – بين يديه، ثم همس في أذنه:

– الله أكبر… الله أكبر.

أذّن له كما فعل لابنه من قبل، وكما يأمل أن يُفعل له يوم رحيله. ثم أذّن للبنت، و قبّل جبينها.

جلس بعدها على الكرسي، يضم الطفلين على صدره، و تغمره دموع الرجولة الصامتة:

– أولاد فهد… أولاد المنشاوي.

---

خرج بعدها إلى الجميع وقال بصوته الحاسم:

– عشر عجول، العقيقة تكون في ساحة الدار الكبير، يتوزع لحمها على الغريب قبل القريب… عائلة المنشاوي استقبلت النور.

ضحك الجميع، وبكت صفاء، و احتضنت ابنتها ماسة  وهي تقول:

– دي فرحة ربنا بيكافئنا بيها بعد سنين صبر.

---

كان ذاك اليوم ذكرى لا تُنسى.

الصور التي التُقطت، الدعوات التي رُفعت، الابتسامات التي تناثرت في الهواء، جعلت من تلك الولادة ميلادًا جديدًا للعائلة بأكملها…

و لفهد، كان الميلاد الحقيقي لقلبه، حين سمع كلمة "بابا" على لسان الزمن.

*******
بعد شهر بمنزل أدهم 

نزلت درجات السلم بفرحة متناهية الحدود، لقد قتلها الشوق في تلك الفترة التي ابتعد فيها عنها.
لأول مرة منذ زواجهما، يتركها كل تلك الفترة.

ركضت نحوه بفرحة، استقبلها بين أحضانه بشوقٍ غامر، رفعها وهو يقبّلها.

ـ "وحشتيني... وحشتيني يا عشق الروح ونور العين."
ـ "إنتَ اللي وحشتني قوي، قوي يا أدهم. أول وآخر مرة

تبعد عني كل ده... أنا كنت بموت من شوقي ليك."
ـ "أوعدك ماعادش هتتكرر، لأنك وحشتيني أكتر بكتير... مكنتش مركز في أي حاجة."

نسي أمه وابنه، وظل ينهل من شهدها في محاولة فاشلة لإخماد نيران شوقه الثائر.

قالت بعشق، وهي تحرّك أناملها الدافئة على صدره:
ـ "يعني عايز تفهّمني إنك بين الأجنبيات دول، مافيش واحدة لفتت نظرك كده ولا كده؟"

ضحك بصخب، وهو يمسك يدها ويقبّلها:
ـ "هو كان في واحدة لفتت نظري قبلك علشان تلفت بعدك؟!"

ثم غمز لها بمرح:
ـ "رغم إن ده ما يمنعش إنهم حاجة جبارة... من الآخر."

هتفت بغيرة، وهي تضربه على صدره:
ـ "طب خليهم ينفعوك!"

جذبها قبل أن تبتعد، لتقع على صدره مرة أخرى.

مرر عينيه على ملامحها بعشق، ورفع بعض خصلات شعرها بأنامله، وهو يتحدث بحنان:
ـ "مليون مرة أقولك... و لآخر يوم في عمري..."
وضع يدها على قلبه:
ـ "ده فتح علشانك وقفل تاني عليكي. لا بشوف، ولا بسمع، ولا بحس غير بعِشق... عشق بس، هي اللي ملكتني."

ضمّت نفسها أكثر لحضنه، قلعته الحصينة:
ـ "وأنت كمان يا أدهم... من قبل ما أشوفك، وأنت فارس أحلامي. وبعد ما شوفتك، بقيت كل أحلامي.
ربنا يخليك ليا... إنتَ عمري الجميل اللي ابتدى بوجودك.
                      تمت بحمد الله 

تعليقات



<>