رواية بك احيا الفصل الخامس عشر15 والسادس عشر16 بقلم ناهد خالد


 رواية بك احيا الفصل الخامس عشر15 والسادس عشر16 بقلم ناهد خالد

"رُدت روحي"
"وروحي الغائبة رُدت إليّ في اللحظة التي شعرَ فيها قلبي بكِ، والسكينة سكنت جسدي في الوهلة التي انعكست فيها صورتك في مقلتيّ، روحي وسكينتي ومسكني أنتِ، وكل معنى للراحة مرتبط بذِكر اسم واحد " خديجة" "
مراد وهدان...
____________________

بعد عشرة دقائق....

اتبعها بسيارته دون أن تنتبه, سار خلفها بتروي وهو يشبع نظره من النظر لظهرها بعدما حرمته من وجهها سريعًا, تمنى لو يتوقف الزمن ويتمعن النظر لمعالمها أكثر, يشبع قدرًا قليلاً من اشتياقه منها, ولكن الزمن لم يتوقف ولم تتوقف هي أكثر, ففور أن أخرجت هاتفها حتى تحركت في طريقها وهي تتحدث بالهاتف لدقيقتان بالتمام, وهو تحرك بسيارته يتبعها وقلبه يسبقه, وربما مازال لا يصدق أنها باتت مثالاً حي يتجسد أمامه وليست مجرد خيالات لصورتها تأتي في عقله, لم تعد مجرد ذكرى بلا باتت واقعًا ملموسًا! هل انتهى ركضه أخيرًا؟ هل انقضى مضمار السباق وظهر خط النهاية؟ مؤكد أنها ليست نهاية لطريقه إليها ولكن على الأقل قد قطع الشوط الأول ألا وهو البحث عنها!

وعند "خديجة"....

بعدما نزلت من العمارة وجدت هاتفها يرن فوقفت لتخرجه, ونظرت لشاشته لترى المتصل فوجدته "باهر", فتحت المكالمة وهي تكمل سيرها وابتسامة بسيطة زينت ثغرها:

-  بهبوري وحشتني والله.

استمعت لهمس خافت منه لم تفسره لكنها أدركت أنه سبّاب, فضحكت بمرح ووصلت ضحكتها له ليقول حانقًا:

-  أنتِ يا بت أنتِ مش هتبطلي الدلع الزفت ده؟

استمرت في ضحكها حتى توقفت وهي تسأله ببراءة مصطنعة:

-  بهبوري وحش؟ وحتى لو وحش عاجبني وبيضحكني.

أنهت جملتها بلامبالاة وعاودت الضحك, ليبتسم تلقائيًا لضحكها قبل أن يتنهد باستسلام مقرًا:

-  مفيش فايدة أنا عارف, المهم عاملة ايه يا عملي الأسود.

اتسعت ابتسامتها على ذلك اللقب الذي أطلقه عليها مؤخرًا وهي تجيبه:

-  الحمد لله, أنتَ اخبارك ايه طمني عليك؟

كانت تتوقع إجابته من قبل أن يقولها حتى, وبالفعل استمعت له يقول:

-  سيبك مني, قوليلي الواد مصطفى عامل معاكِ ايه؟ والدنيا معاكوا تمام؟ خديجة مش هفكرك تاني لو احتاجتوا أي حاجة عرفيني.

اختفت ابتسامتها, والتمعت عيناها بالدموع من ضيق حالها الذي ذكَرها بهِ دون قصد, هذه ليست ثاني مرة يعرض عليها المساعدة ربما إنها المرة المائة, فكل مكالمة بينهما يذكرها بأنه موجود إن احتاجت مساعدته, حتى أنه بعد وفاة والدها بشهر وجدته بعث لها بعض الأموال في البريد وطلب منها الذهاب لاستلامهم, لكنها رفضت بشدة وتعنتت مؤكده أنها ليست بحاجة لهم, ورغم غضبه منها حتى أنه بقى لأسبوع بعدها رافضًا الحديث معها ولا يجيب على مكالمتها علّها تغير رأيها, ولكنه وجدها ذات رأس صلد كباقي عائلتها, فسحب أمواله مرة أخرى مجبرًا, ابتلعت تلك الغصة التي بحلقها, وتحدثت بنبرة واثقة لم تُظهر بها اهتزاز مشاعرها:

-  يا حبيبي صدقني احنا كويسين وحالتنا كويسة مش محتاجين حاجة أبدًا, ده انا حتى رايحة اجيب لنا بيتزا النهاردة قلت اروق على الواد محمود شوية.

زفر بضيق وهو يخبرها:

-  والله يا بت أنتِ أنا مش مرتاحلك, في اقرب إجازة ليَّ هكون عندك يكون في علمك.

قطبت حاجيبها بتوتر ثم هدأت ذاتها وهي تهتف بضحكة مصطنعة:

-  يا عم ده أنتَ طالع عينك, يدوب بتروح تلحق تنام بالعافية, قولي يا بهبوري هو مفيش دكتور غيرك في المستشفى ولا هم مستعبدينك؟ ولا يكونش ماسكين عليك زِلة يعني عملية خسعت فيها كده ولا كده!؟

استمعت لصوته الساخر وهو يقول:

-  ايه يا بت الخِفة دي؟ بعدين أي الالفاظ دي, خسعت ويكونش! أنتِ شغالة عند دكتور ولا شغالة في مجزر! بعدين مش عيب يا جزمة تغلطي في أخوكِ الكبير! 

ابتسم ثغرها بعاطفية وهي تغمغم:

-  معاك حق, سوري يا كبير, وبالمناسبة بقى مش ناوي تُفك عقدتك وتتجوز؟ على الأقل تلاقي حد يونسك في الغربة.

استمعت لضحكته وهو يقول مرددًا كلمتها:

- غربة! ما علينا، أنتِ لسه قايلة بلحق انام بالعافية, هتجوزها اعمل بيها ايه بقى؟

أجابته بجدية:

-  باهر أنتَ الي ضاغط نفسك في الشغل زيادة عشان عاوز توصل لمكانة معينة, وده كويس بس بلاش ييجي على حياتك الشخصية, يا حبيبي أنتَ دلوقتي أنسب وقت تبدأ تفكر فيه تكون أسرة وتستقر, مانت أكيد مش هتعرف البنت النهاردة تتجوزها بكرة, لسة فترة خطوبة وحوار هيكون يدوب, ولا هتستنى لما تلاقي الشغل سحلك ونساك حياتك الشخصية؟ متخليش حاجة تيجي على التانية.

-  والله أنا مش رافض, يعني وقت ما هلاقي حد مناسب هدخل برجلي اليمين على طول متقلقيش, بس بما إني لسه ملقتش حد مناسب يبقى اركز في شغلي بقى.

أومأت برأسها بتفهم وكأنه يراها, وهي تعقب:

-  ربنا يوفقك يارب وإن شاء الله تلاقي بنت الحلال قريب.

-  طيب هكلمك بعدين يا ديدي, محتاجني تحت.

-  ماشي , يلا مع السلامة.

-  مع السلامة.

أغلقت الهاتف وهي تبصر محل الفلافل الذي اقتربت منه, فابتسمت بسخرية مؤلمة وهي تتذكر ما أخبرت بهِ "باهر" عن طعام غدائهم اليوم, فها هي البيتزا التي ستأتي بها! تنهدت بعمق وهي تردد بأعين لامعة بحزن وكسرة:

-  يا رب فرجك.

دلفت لمحل الفلافل والفول لتأتي بالطعام لهم على قدر ما تملكه من مال, وانتهت خارجة وهي تحمل كيسة صغيرة بيدها, وأكملت الطريق سيرًا رغم طوله, فهي ليست حِمل تكاليف زائدة أجرة سيارة تصلها للمنزل, ربما لن تكلفها في المرة قيمة الثلاث جنيهات ولكن على مدار الشهر ستكلفها ما يعادل التسعون جنيهًا, ومن الأولى أن توفرهم لشيء أهم, ربما أهم من قدماها التي تتعب من المسير كل هذه المسافة! بعد فترة وصلت للحي الذي تسكن بهِ فدلفت لأحد المحلات, بدى مطعمًا لم تستمر بهِ لثلاث دقائق, ثم خرجت.

ترك سيارته على مدخل الحي الذي دلفت بهِ وترجل متبعًا إياها بتروي كي لا يلفت نظرها, وقف مستغربًا حين رآها تدلف لمطعم مرة أخرى, لقد أتت بطعام بالفعل أستأتي بآخر!؟ ولكن سرعان ما وجدها تخرج دون شيء جديد في يدها فأثار الأمر تساؤله أكثر, لكنه أتبعها كي يصل معها لنهاية طريقها, ولم يفته أبدًا سيرها ذلك الطريق الطويل الذي أخذ منها قرابة الساعة إلا ربع سيرًا, بعد عدة خطوات وجدها تدلف لمكتبة ما, فوقف بجوار حائط المكتبة منتظرًا خروجها.

بالداخل, دلفت بابتسامة طفيفة بدت متوترة وظهر الارتباك جليًا على وجهها وهي تهتف:

-  السلام عليكم.

التفت الشاب الذي كان يرتب الكتب على الأرفف ليمتعض وجهه قليلاً قبل أن يجيبها:

-  وعليكم السلام, اتفضلي يا أنسة خديجة.

اذردت ريقها وهي تقول بهدوء:

-  لو سمحت يا أستاذ جمال عاوزه كتب ال......

أملته أسماء الكتب التي تريدها, فجلبها لها ووقف ينتظر أن تقاضيه, فتنحنحت بارتباك قبل أن تسأله:

-  كده حسابهم كام؟

التقط الآلة الحاسبة وبدأ في جمع سعرهم وما إن انتهى حتى قال:

-  كده كلهم 170. 

قضمت شفتها السفلى بارتباك وقالت برجاء خفي:

-  طب, بستأذنك يعني لو ينفع تضيفهم للحساب وهجيبهملك آخر الشهر.

زفر بصوت مسموع وهو يشيح بوجهه جانبًا وقال بصوت مرتفع قليلاً وقد بدى نزقه:

-  استغفر الله العظيم, يا أنسة خديجة كده هيبقى كتير, مانتِ عليكِ خمسين جنية قديمة, يعني أنتِ أخر الشهر هتجبيلي 220! ولا هتيجي تقوليلي خد ويبقالك!؟

فركت كفيها بتوتر, وشعرت بأنفاسها تختنق في صدرها جراء الانكسار الذي تشعر بهِ, عزة نفسها تعلو فوق كل شيء لديها ولكن أحيانًا تجبرنا الحياة على التنازل كي تستمر! 

-  معلش يعني إن شاء الله هجبيهملك, أنا أصلاً ممكن اشتغل في المطعم الي على أول الشعر, وإن شاء الله هجيبلك الفلوس كلها. 

جذب كيسة كبيرة بعصبية ووضع الكتب بها, ثم مررها لها وهو يقول بملامح مقطبة:

-  اتفضلي, رغم إني هاخد كلمتين من ابويا بس أمري لله.

التقطتها منه بدموع غزت عيناها, ولوهلة ندمت على رفضها مساعدة "باهر" لكنها تعلم أن "باهر" إن ساعدها مرة لن تكون الأخيرة, وستشعر بالانكسار أمامه هو الأخرى, ربما انكسارها أمام الغريب أهون! 

خرجت من المكتبة ووجهها لم يفارق الأرض, تخشى أن رفعت عيناها تجد الجميع ينظر لها بشفقة وكأنهم شهدوا الحديث الذي دار منذ قليل! ظلت هكذا حتى تخطت بيتان والبيت الثالث كان بيتها فدلفت له برأسها المنخفضة أرضًا.

هل تعلم الجحيم؟ بالطبع تعلمه, ولكن هل رأيته؟ إن نظرت لأعين "مراد" الآن لوجدته مستعرًا بعينيهِ, بعدما استمعَ لِمَ حدثَ بالداخل, لم يحتاج أن يعرف حالتها المادية وما تعانيه بعد ما استمعَ إلي حديثها مع ذلك ال**** كما نعته منذُ قليل, كيف استطاع أن يكسر بخاطرها ويصعب الموقف عليها أكثر هكذا؟ كيف استطاع أن ينظر لعينيها الوديعتين ويرفض رجائها هكذا!؟ عيناها التي لو نظرت له بهما بنظرة عادية لتنازل عن حياته لها بصدر رحب! منع ذاته بالكاد من الدلوف لذلك المخنث وهدم مكتبته فوق رأسه, وألهم نفسه الصبر مفكرًا فيما خطط له بلحظة, تحرك مبتعدًا وأخرج هاتفه وهو يتحدث بهِ للرجل المكلف بمراقبتها هو ورجاله:

-  اسمع يا مينا , في ظرف 24 ساعة تجبلي كل معلومة عنها مهما كانت صغيرة, وفي مطعم على ناصية الحي تعرفلي مين صاحبه, وفي أقل من 24 ساعة يبقى باسمي فاهم؟

-  أمرك يا باشا.

أغلق الهاتف بعدما استمعَ لرده, وضغط على أسنانه بقوة محاولاً تحمل كل هذه الآلام التي تضرب بقلبه وهو يتذكر نبرة الرجاء المنكسرة التي تحدثت بها, دون رؤية وجهها يعلم جيدًا كيف كانت عيناها وهي تعبر عن انكسارها وحزنها, يعلم كم الألم الذي تشعر بهِ الآن بعد هذا الموقف السخيف والذي من الواضح لا تتعرض له لأول مرة, وبكم الألم الذي يسكنها يسكن قلبه الآن!

-----------------------

وضعت الكتب أمامه وهي تقول بملامح واجمة:

-  اتفضل يا أستاذ مصطفى كتبك اهي, مطلوب مني حاجة تانية؟

نظر لها ليرى حزنها منه, فنهض واقفًا واقترب منها محتضنًا إياها بمرح وهو يقول:

-  ايه يا ديدي, أنتِ زعلانة بجد بقى! هي يعني اول مرة اتغابي في كلامي؟ أنتِ عارفة أخوكِ مدب متزعليش مني.

نظرت له بجانب عيناها وقد تجمعت الدموع بهما مرة أخرى وقالت بعتابٍ:

-  أنا بزعل من إنك بتحسسني إني مبعملش حاجه عشانك, بتحسسني إن بعد تعبي ده كله في ايدي حاجة زيادة معملتهاش!.

أردف بصدق:

-  والله مش قصدي, بس يا خديجة ايد لوحدها متصقفش, قولتلك مية مرة أنزل اشتغل في الفرن الي جنبنا وأنتِ مبترضيش!

ابتعدت عنه لتواجهه وهي تهتف ببكاء:

-  قولتلك لأ, مش هخليك تقصر في دراستك عشان شغل, كفاية إني مش هكمل تعليمي مش هبقى أنا وأنتَ.

رفع حاجبيهِ مندهشًا وسألها:

-  ايه ده ليه؟ يعني ايه مش هتكملي أنتِ بتهزري؟

مسحت دموعها بكفها والتقطت أنفاسها وهي تقول بقهر:

-  ظروفنا متسمحش, وأنا يمكن اشتغل بليل في المطعم الي على أول الحي, والنهار بروح العيادة, هجيب وقت للكلية منين؟ غير كلية يعني مصاريف كتب ومواصلات, الموضوع مش متحمل.

هز رأسه رافضًا قرارها وأبدى اعتراضه وهو يقول:

-  مفيش الكلام ده, هتروحي الكلية وانا هنزل اشتغل في...

قاطعته بحدة قليلاً ما تتقمسها:

-  أنا كلامي منتهي, مفيش مجال للمجادلة, هدخل اغير هدومي واجي نتغدى.

انهت حديثها واتجهت لغرفتها لكنها توقفت على باباها والتفت له تخبره بتحذير:

-  باهر لو عرف حاجة عن الكلية هتزعل مني يا مصطفى.

انهت حديثها ودلفت للغرفة مغلقة الباب خلفها, فالقى الكتاب الذي بيده على الأرض بغضب وهو يتمتم:

-  باهر! هو انا لو عارف اتواصل معاه كان ده حالنا! على طول هي الي بتكلمه وحتى ممعيش تليفون, دي عيشة تزهق, وقال شاطرة احنا كويسين كويسين لحد ما هنروح نقف على باب الجمعية الخيرية إن شاء الله.

غمغم بها بنزق وهو يفتح أكياس الطعام ليبدأ بوضعه في الاطباق حتى تأتي شقيقته.

وبالداخل القت نفسها على الفراش وسمحت لدموعها بالتهاوي كسيل جارف، تبكي بقهرة على كل شيء، على حلمها في التعليم الذي تحطم باكرًا بعدما حصدت مجموع قضى على ذلك الحلم، وعلى حرمانها من الحصول على شهادة جامعية الآن، تبكي كسرتها أمام من لا يسوي، تبكي قلة حيلتها وعجزها وضيق حالها وهل بيدها سوى البكاء!

" البكاء ليس حلاً لكنه وسيلة ضعيفة أثبتت فاعليتها في تخفيف أحزانًا ولو بقدر قليل، نغلق بابنا خلفنا ونبكي خلفه لدقائق او ساعات نخرج كل مشاعرنا السلبية، نصرخ ونثور، وبعدها نخرج للعالم اقوياء من جديد"

_________________________

بسوهاج.... 

إن قلنا الأرض لا تسعها فهي ليست مبالغة أبدًا, فمنذُ علمت بأنها قد انتسبت لكلية الأسنان جامعة القاهرة وهي تكاد تطير فرحًا, حتى أن خالها "منصور" لم يتوقف عن الضحك عليها طوال الطريق, التفت له وهي تقول بحماس كبير وابتسامة واسعة:
-  يعني هروح القاهرة يا خالي؟ بس تفتكر أمي هتوافج؟ 

هز رأسه بيأس حين استمع لجملتها الخافتة الأخيرة وقد بدأ الحزن يتسرب إليها خوفًا من رفض والدتها, فهي دومًا مصدر تحطيم سعادتها, أجابها "منصور" يطمئنها:

-  يا بت جولتلك متخافيش, مش واثجة "واثقة" في كلام خالك عاد!؟ 

نفت برأسها وهي تردف:

-  العفو يا خالي مجصديش, بس أصل أمي...

قاطعها وهو يقول:

-  أمك لو اتحدتت هشوف شغلي معاها, ملكيش صالح, أنتِ تبدأي تجهزي ورجك وخلاجاتك "هدومك" وكل الي هتحتاجيه, عشان هنتحرك أخر الأسبوع الفجر سامعة؟

أومأت بحماس كبير وهي تجيبه:

-  سامعه يا خالي, أنا بحبك جوي.

مسد بكفه على كتفها وهو يبتسم بود:

-  وأنا بحبك جوي جوي يا جلب خالك.

--------------------------------

بالقاهرة.....
في اليوم التالي ظهراً....

ترجل درجات السلم وهو يفرك عيناه بنوم مازال متمكنًا منه, استمع لصوت "ليلى" الذي ما إن أبصرته حتى قالت باستغراب جلي:

-  ايه يا مراد كل ده نوم؟ ده انا كنت لسه هطلعلك فكرتك تعبان, لولا إني عرفاك مبتحبش حد يصحيك وبتتحول كنت طلعتلك من زمان.
     
اقترب منها مبتسمًا وقال بهدوء:

-  برتاح يا ماما بلاش ارتاح؟ 

ضيقت عيناها تنظر له بشك, بهِ شيئًا مختلفًا! عيناه تلمع بطريقة لم تراها من قبل, ملامحه اكثر استرخاءً, ونومه كل هذه المدة, مهلاً هل يبتسم!!؟ سألته بعدما جلس أمامها:

-  في حاجة صح؟ أنتَ مش طبيعي.

وضحكته التي انطلقت الآن على حديثها أكدت شكوكها, خفتت ضحكته وهو يردف ببراءة مصطنعة:

-  يعني مش طبيعي ازاي؟ مانا كويس اهو.

لوهلة ضرب بعقلها تفسير لحالته هذه, فأردفت بسرعة متلهفة:

-  مراد, هو الموضوع يخص خديجة؟

مسد مؤخرة رأسه بكفه وأردف بابتسامة صغيرة وقد لمعت عيناه أكثر الآن:

-  مش سهلة أنتِ برضو يا لولة! 

ابتسمت بفرحة وهي تنظر للمعة عيناه, وسألته بابتهاج حقيقي:

-  عرفت عنها حاجة؟

هز رأسه نافيًا بعبث مصطنع لتختفي ابتسامتها, ولكن سرعان ما اتسعت مرة أخرى حين قال:

-  شوفتها, شوفتها يا ماما أخيرًا, تخيلي؟ بعد عشر سنين شوفتها..

ابتسم ابتسامة حالمة ونظر بعيدًا شاردًا بنظره, وهي تتابعه بدموع تساقطت فرحًا وتأثرًا بحديثه:

-  ملامحها اتغيرت بس لسه عنيها زي ماهي حتى نفس البراءة الي فيها رغم الحزن الي فيهم, ولسه قلبي بيحس بيها زي زمان, عرفها من قبل عيني ما تعرفها, كان نفسي اجري عليها واحضنها, كان نفسي اروح اعرفها بنفسي واسمع صوتها, كان نفسي في حاجات كتير بس في حاجات اكتر منعتني, بس على الأقل حسيت إن قلبي اتردت فيه الروح من تاني لما عرفت مكانها وشوفتها, جريي ورا سراب بقى حقيقة, السباق خلص ياماما وفزت فيه ولقيتها.

امسكت كفه تحتضنه لينظر لها فوجد الدموع تزين مقلتيها وهي تسأله باستنكار:

-  وليه معملتش كل ده؟ ليه مروحتش ليها وعرفتها بيك؟

ابتسم بثبات وهو يجيب بإجابة لا تمت للصدق بصلة:

-  مش سهل اروح اعرفها بيَّ كده, يعني تفتكري هي لسه فكراني أصلاً؟ وحتى لو افتكرتني مش هتكون بتحبني يعني! دي ممكن تقولي اهلاً وازيك وكلمتين على الماشي وخلاص, متنسيش انها وقتها كانت اصغر مني بكتير, يعني مش بتحمل نفس مشاعري اكيد.

اقتنعت بحديثه فأومأت برأسها متفهمة ثم سألته بحيرة:

-  اومال هتعمل ايه؟

ابتسم لها بهدوء وقال غامزًا بعيناه اليسرى:

-  متقلقيش بتكتك لها, بس ادعيلي.

تنهدت براحة مبتسمة وهي تقول:

-  ربنا يجمعك بيها على خير يابني, كفاية إن سيرتها بس بتنور وشك كده.

اومئ وهو يتحدث بجدية مرِحة:

-  يلا عقبال ما تنور بيتي قريب.

ضحكت والدته على جملته فاتبعها بابتسامته التي جعلتها تحتضنه بفرحة، وهي تشعر أن السعادة تطرق بابا ولدها لأول مرة منذُ زمن.

------------------------

دقت فوق  الباب ودلفت بابتسامة كعادتها, ليسألها "كمال" الجالس خلف مكتبه:

-  ها يا خديجة لسه كشوفات؟

نفت وهي تجيبه:

-  لا يا دكتور خلاص كده النهاردة.

اومئ برأسه متفهمًا ثم قال:

-  لا لسه.

قطبت حاجبيها متسائلة:

-  مين؟

ابتسم لها مجيبًا:

-  أنتِ, يلا ميعاد جلستك.

فركت كفيها بتوتر وهي تقول متهربة:

-  مش مهم النهاردة يا دكتور, شكل حضرتك مرهق خلينا..

قاطعها بحدة وهو يقول:

-  لا, قولت يلا يبقى يلا, اقفلي باب العيادة وتعالي.

خرجت لتغلق باب العيادة وهي ترتب أفكارها كي تقول ما تريده فقط, فهي لا تسمح لنفسها بخطأ يجعله يشك بها أو بصدق حديثها, أغلقت الباب والتفت لتقف بملامح جامدة وهي تبصرها أمامها, تبتسم لها نفس الابتسامة المقيتة وهي تسألها بينما يدها تعبث بشعرها:

-  ايه يا خديجة بتفكري ازاي تكدبي عليه المرة دي كمان وتوهميه إنك مبقتيش تشوفيني؟ بقالك سنتين بتكدبي مزهقتيش؟ ولا حبتيني لدرجة إنك مش عوزاني اسيبك؟ 

ابتسمت "خديجة" ابتسامة هادئة وهي تجيبها:

-  لا, بس اعتبرتك أمر واقع, واتعودت عليكِ, لدرجة إني بشوفك في أي مكان ومببينش لحد, مبقاش الناس يقولوا عليَّ مجنونة بسببك يا سارة....

بك احيا 
ناهد خالد 
الفصل السادس عشر "من الماضي!"

"إليك أربع معلومات عن الماضي 

لا يندثر، لا يُنسى،  يومًا ما سيعود، ومهما طال الزمن سيصر على إكمال القصة التي تُركت مفتوحة دون نهاية مُرضية!" 

نظر لها بهدوء بعدما فتح المسجل وبدأ بالحديث:

_ قوليلي يا خديجة حاسة إنك مرتاحة؟ 

اومأت برأسها باستنكار وهتفت بملل:

_ دكتور انا قولت لحضرتك من فترة طويلة إني كويسة ومبقتش محتاجة الجلسات كمان بس حضرتك مُصمم! 

ابتسامة باردة زينت ثغره وهو يقول:

_ انا اعرفك بقالي ٣ سنين يا خديجة، اول ما شوفتك حسيتك بنت بريئة وطيبه، لدرجة إني متوقعتش إنك في يوم تبقي كدابة شاطرة كده. 

فاجئها بحديثه، فرفعت حاجبيها بذهول وهي تسأله باستغراب شديدٍ:

_ كدابة! انا؟ ليه حضرتك بتقول كدة؟ 

لوى فمه مستنكرًا وهو ينهض ملتفًا حول مكتبه وجلس أمامها مردفًا بغيظ خفي:

_ يعني بقالك سنة منيماني وعمالة تكدبي وبتتمادي في كدبك، قولت بعد فترة هتعقلي وتفكري صح وتبطلي الحوارات الي دخلتِ نفسك فيها برضو مفيش فايدة، انا مصدقتكيش من يوم ما جيتِ فجأة قبل وفاة والدك بشوية تقوليلي انا بقيت تمام يا دكتور، مبقتش اشوف سارة ومبقتش احلم بيها في كوابيسي، وخرجتِ من دور الاكتئاب الي جالك فجأة، كل ده مدخلش عقلي ولا صدقته، بس كنت عاوز اجيب اخرك، كنت عاوز اعرف عقلك بيفكر ازاي عشان تقرري تعملي الي عملتيه فجأة ده، لكن للأسف أخرك طول قوي وبوخ، وانا عشان خايف عليكِ مش قابل اسيبك في الي بتعمليه اكتر من كده.

تحفزت في جلستها بعدما شعرت بأنها باتت مكشوفة أمامه، لقد ظنت أنها استطاعت اقناعه بأحاديثها المخادعة، ظنت انه اقتنع بأنها أصبحت بحال جيد وانه يصر على استمرار الجلسات لزيادة الاطمئنان ليس إلا! رمشت باهدابها بتوتر بالغ استطاعت عيناه رصده بوضوح، فابتسم بثقة وهو يتأكد من شكوكه، اذردت ريقها بارتباك ولكنها حاولت رسم الثقة وهي تردد بعدم فهم مصطنع:

_ ليه حضرتك بتقول كده؟ يعني ليه انا هكدب وهعمل كل ده؟ 

رفع منكبيهِ بجهل حقيقي وأجابها:

_ مهو ده الي مستني اسمعه مِنك.

كادت تعقب ناكرة مرة أخرى أن يكون ما تخبره بهِ ليس حقيقي، لكنه قاطعها حين رأى الكذب يلون مقلتيها قائلاً:

_ بصي يا خديجة، انا اتعلمت في مهنتي كطبيب نفسي، إن المريض الي عندي ده عشان يتعالج لازم يمر بكذا مرحلة اقولهملك؟ 

هزت رأسها مستنكرة وقالت برفض مُهذب:

_ حضرتك انا مش شايفة إن في داعي اعرفهم، أنا مش بخطط اكون دكتورة، بعدي.... 

قاطعها للمرة الثانية بهدوء مستفز لها:

_ هقولهملك، اول حاجة ان المريض يعترف أنه عنده مشكلة ومحتاج حد يساعده، تاني حاجه انه لم يروح للشخص ده الي هو انا مثلاً يكون صريح معاه فعلاً، يقوله ايه سبب انه بقى عنده المشكلة دي، وايه الصراع النفسي الي حاصل جواه وهكذا، بعدها يتبع تعليمات الدكتور وينتظم على الادوية، وكده يكون ماشي في طريقه الصح للعلاج.. والأهم يتحلى بالصبر ويعرف ان مش بين يوم وليلة مشكلته هتتحل! 

اغمضت عيناها لوهلة بنفاذ صبر قبل أن تفتحهما وهي تعقب على حديثه:

_ جميل، وانا عملت كده، اعترفت ان شوفتي لسارة دي مشكلة ومحتاجة حد يساعدني عشان مشوفهاش تاني، وجيت لحضرتك وحكيتلك حكايتي و... 

قاطعها ساخرًا وقد وصلت للنقطة التي أرادها تمامًا، فاعتدل في جلسته بعدما كان يستند بظهره على ظهر الكرسي باسترخاء وخلع نظارته يضعها جانبًا فوق المكتب وقال بضيق ظهر في نبرته:

_ حكتيلي؟ حكتيلي ايه يا خديجة؟ قولتيلي الي اي واحد جاركوا هيكون عارفه مش الي المفروض يعرفه الدكتور الخاص بيكِ، الي هيساعدك زي ما بتقولي، اساعدك ازاي وانتِ حذِرة جدًا في كلامك معايا، بحس إنك بتفكري في كل كلمة قبل ما تقوليها، قولتيلي عن مراد.. 

صمت لوهلة ليتبين رد فعلها على ذِكره فابتسم متهكمًا وهو يشير لوجهها مرددًا:

_ شوفتي؟ اول ما بذكر اسمه بس وشك بيصفر وملامحك بتتوتر، ونفسك بيبقى مش مظبوط، زي دلوقتي كده، حكتيلي بقى ليه الشخص ده مجرد ذِكره بيضايقك؟ حكتيلي عملك ايه الطفل الي مكملش ١٣ سنة وقت ما بعدتي ورجعتي بلدك عشان متبقيش حابه تفتكريه كده؟ لأ، كل الي قولتيه حاجات عادية جدًا وانه كان صديق طفولتك وكان بيهتم بيكِ، مذكرتيش اي حاجة عنه مهمة يعتبر، حتى لما كنت بسألك علاقته بسارة كانت ازاي كنتِ بتتوتري وتتهربي! حكتيلي سبب ان سارة تظهرلك؟ وانا متأكد إنك عارفة السبب، والاغلب يا خديجة في حالات الهلوسة بالشخص الي مات او مبقاش موجود في حياتنا بتكون لسببين ياما كنا متعلقين بيه اوي وموته او فراقه كان صدمة متحملنهاش، يا ذنب عملناه فيه ولسه شايلينه جوانا مش عارفين نسامح نفسنا عليه، وبما إنك بنفسك قولتيلي إنك مكنتيش قريبة لسارة قوي، يبقى السبب التاني، ذنب ايه بقى الي مش قادرة تتخطيه؟ عملتِ فيها ايه عشان تظهرلك على شكل هلاوس؟ عارفه ليه مصدقتكيش انها مبقتش تظهرلك؟ عشان ببساطة مشكلتك مش هتتحل من غير ما تواجهي نفسك باسبابها وتكوني قادره تتكلمي عنها، معرفش أنتِ قررتي تتجاهلي
وجودها ولا بقيتِ تتعاملي معاها كأنها شخص طبيعي موجود، بس في كلا الحالتين، عقلك مش هيتحمل كتير ونهايته هتبقى مأساوية. 

كان وجهها باهت من كثرة ما سمعته منه، صُدمت من انها باتت كالكتاب المكشوف أمامه هكذا! كل ما قاله حقيقة، لم يخطأ في شيء، ولكنها لم تريد أن تصبح شفافة هكذا، لم تريد أن تعود لتلك الدوامة مرة أخرى، ولكن جملته الأخيرة أرعبتها، ماذا يقصد بنهاية مأساوية؟ وهذا ما جعلها تذدرد ريقها بخوف قبل أن تسأله بخفوت من كثرة شعورها بالضياع:

_ يعني ايه؟ قصدك ايه؟ 

شعر بأنه قد حصل على الحصان الرابح في حديثه معها، فتنفس بهدوء وهو يقرر استغلاله اسوء استغلال ألا وهو ترهيبها، فقال بأسى:

_ بصي يا خديجة للاسف مكنتش حابب اقولك الكلام ده قبل كده عشان متخافيش، بس دلوقتي وأنتِ بتتهربي من العلاج وبتتجاهلي مشكلتك بالشكل ده لازم احذرك. 

اخذ نفسه مرة أخرى ببطئ متعمد ليتآكلها التوتر أكثر، ثم قال:

_ العقل لما الضغط بيزيد عليه اوي بيقرر يهرب، والهروب بيكون بطريقتين.. يا انهيار تام فنضطر نعيشه على المهدئات، يا بيوصل أحيانًا للجنون.. وفي كلا الحالتين بيصبح الشخص مغيب عن الدنيا، خصوصًا لو كان الضغط ده نفسي، زي هلاوس، كوابيس صعبة ومتكررة، انفصام، وما شابه ذلك.. يمكن انتِ دلوقتي بتتجاهلي الهلاوس الي بتشوفيها وبتنجحي في ده، برافو.. بس الوضع ده مش هيستمر كتير صدقيني، وعقلك ده من كتر الضغط هيهرب بطريقة من الطريقتين، وفي كلا الحالتين هتغيبي عن الواقع ووقتها اسألي نفسك بقى اخوكِ هيجراله ايه،خصوصًا وانتِ قايلالي ان في مشكلة كبيرة حصلت مع اهلك في البلد، يعني اخوكِ مش هيعرف يروحلهم، المشكلة الي دخلتك في اكتئاب اسبوعين وبرضو معرفتش ايه هي. 

حسنًا لقد نجح، نجح في بث الرعب بداخلها تجاه  مصيرها مع تلك الهلاوس اللعينة والكوابيس الألعن، نجح في جعل عقلها يضطرب ويتوه غير مدركًا ما عليهِ فعله، لكن ما تدركه جيدًا ان القلق تملكها على مصير شقيقها أكثر، فماذا سيحدث إن غابت عنه لأي سبب؟ ماذا سيحدث له إن أصبح بمفرده؟ هل سيطلب مساعدة باهر أم سيكون ذو كبرياء أحمق مثلها، وحينها بالطبع سيترك دراسته ويعمل، والرب وحده أعلم بمن سيقابلهم في طريقه لربما يضلونه ويصبح شاب سيء الخُلق! كل هذا طاف برأسها بلحظة قذف "كمال" لكلماته القاسية عليها، ليست قاسية المعنى لكنها قاسية الوقع، رفعت عيناها التائهة له وقد التقط حيرتها وخوفها من القادم بوضوح، فأدرك أن حديثه قد أصاب الهدف، وهذا ما جعله ينهض واقفًا وهو يبدأ في تجميع أغراضه بينما يقول:

_ عمومًا براحتك يا خديجة، الجلسة انتهت، بما إن مفيش عندك حاجة جديدة تقوليها. 

التفت لها بعدما انتهى وابتسم لها بهدوء مكملاً:

_ قفلي العيادة وامشي.

انهى جملته وخرج من الغرفة تاركًا اياها في دوامة لا تنتهي وقد بدأت تساؤولات جديدة تغزو عقلها، تساؤولات أكثر رعبًا من سابقتها، تساؤولات جعلتها تشعر بخطأها حين قررت تجاهل مشكلتها واهمالها، ولكنها هل هي كفيلة لجعلها تقرر النبش في حطام الماضي من جديد؟

________________

مساءً.. 

في أحد فيلل القاهرة.. 

اطفأت التلفاز وهي تزفر باختناق تشعر بملل كبير وهي تجلس وحيدة هكذا، تشعر بفراغ لغياب والدتها، لم تكن والدتها فقط بل وصديقتها المفضلة، والدتها هي اهم واغلى شخص بحياتها، ولا تنسى والدها أيضًا، لكنه لم يكن دومًا معها لكثرة مشاغله، وبرغم هذا لا تنكر حبها الشديد له، والدها الحنون المتفهم دومًا لها ولاحتياجتها رغم مشاغله الكثيرة، وكأنه جاء على ذِكره، فوجدت هاتفها يرن برقمه، التقطته بابتسامة واسعة وهي تهتف فور إجابتها:

_ دادي وحشتني اوي. 

اتاها صوته الرخيم يجيبها بنبرة حنونة كعادته:

_ حبيبتي انتِ كمان وحشتيني، قوليلي عاملة ايه وأنتِ قاعدة لوحدك؟ اكيد زهقانة وزعلانة وكل المشاعر السلبية صح؟ 

التمعت عيناها لتفهمه لها وقالت بتأكيد:

_ ايوه، بصراحة مش قادرة اقعد لوحدي ومامي مش موجودة، حتى الدادة بنتها تعبانة اوي فراحت تشوفها. 

اتاها صوته الذي تبدلت نبرته للقلق فورًا وهو يسألها:

_ أنتِ لوحدك في الفيلا يا چِسي؟ ازاي متعرفنيش حاجة زي دي؟ 

_ يا دادي مانا هعمل ايه بس، بعدين حضرتك عارف إن الكمبوند متأمن كويس. 

رفض رفضًا قاطعًا وهو يخبرها:

_ مفيش الكلام ده سامعه؟ تقومي حالاً دلوقتي تروحي لناناة وتخليكِ عندها، قومي يلا من غير جدال. 

تعلم نبرته هذه جيدًا فلن يتراجع بعدها أبدًا، فنهضت بضيق وهي تخبره:

_ حاضر يا دادي، هلبس واروحلها، رغم إن ناناة لو روحتلها وعرفت إن مامي في المستشفى هتصر تروحلها وحضرتك عارف صحتها متتحملش بس زي ماتحب بقى. 

لعبت على الوتر الحساس لديهِ ظنًا منها أنه سيتراجع، لكنه أخبرها ببرود:

_ قوليلها إن أنا ومامتك روحنا نحضر حفلة عمل ضرورية في الجونة، وانا هكلمها. 

صعدت درجات السلم الداخلي وهي تسأله:

_ وحضرتك هتيجي امتى؟ 

اجابها بهدوء:

_ بكره بليل هكون عندك، حجزت الطيارة خلاص. 

ابتسم ثغرها بتلقائية وهي تهمس له:

_ توصل بالسلامة يا حبيبي، يلا جود باي. 

اغلقت الهاتف واتجهت لغرفتها الواسعة التي لوُنت حوائطها باللون الرمادي الهادئ، يتوسطها سرير رمادي اللون ذو تصميم رائع، وبجواره كومود من نفس اللون، وعلى بعد قليل أريكة كبيرة تصلح للنوم، وُضعت أمام شاشة تلفاز كبيرة، وأمامها طاولة حديثة الطراز، غير المكتبة الضخمة الي تحتل الحائط المقابل للباب، والغرفة ملحقة بغرفة لتبديل الملابس ومرحاض، دلفت لغرفة تبديل الملابس والتي حوت عدد هائل من ملابسها وأحذيتها وحقائبها، كل هذا دلَ على رفاهية عيشتها، وتيسر حالتهم المادية لدرجة كبيرة... جدًا. 

ارتدت بنطال اسود ضيق للغاية، وكنزة رمادية من لونها المفضل مفتوحة الصدر قليلاً وبنصف أكمام، ورفعت شعرها على هيئة ذيل حصان قبل أن تضع ملون شفاة باللون الوردي وعطرت جسدها بعطرها المفضل ببزخ، ثم ارتدت حذاء ذو كعب عالي اسود اللون والتقطت حقيبتها الصغيرة، وقد قررت المرور بوالدتها أولاً ورؤيتها رغم أنها رأتها عصرًا، ولكن لا يمنع أن تراها مجددًا بما أنها ستخرج. 

__________________

كانت خارجة من منزل خالها بعدما اعطته الاوراق اللازمة كي يبقيها معه لحين قدوم موعد ذهابهم للقاهرة أخر الاسبوع المنصرم، وقد أخبرها أنه هاتف "باهر" ليقابلهما هناك، بل وجعله يبحث لها عن شقة سكنية مجاورة له كي لا تكن بمفردها، فهو لن يأمن عليها العيش في سكن جامعي لا يعلم ما أخلاقيات ساكنيه، ولم يمرر "باهر" الفرصة قبل أن يذُكر والده بتلك الحادثة المشؤمه، فعقب ساخرًا:

_ دلوجتي هتآمن عليها وياي؟ مخايفش يحصل كيف ما حصل مع خديجة ولا ايه؟ على الأجل اهنه مهيبجاش غيري انا وهيَ. 

زفرة خانقة هي ما خرجت من فاه والده قبل أن يعقب بضيق حقيقي:

_ اباه عليك يا باهر وعلى حديتك الي كيف السم! انتَ ليه مُصر تجلب في الجديم يا ولدي؟ 

اتاه رده المتهكم رغم المه الداخلي:

_ الجديم؟ الجديم ده الي بسببه خيك هج وساب البلد، الي بسببه مش طايج انزل البلد، الي بسبه خيك مات وانتوا بعاد ومهتتحدتوش "مهتتكلموش"، وبرضك بسببه بنته رفضت ترجع تجعد في البلد وتايهه في بلاد الله محدش خابر طريجها. 

تجمع الألم في رأس "منصور" وهو يتذكر تلك الأحداث الغابرة والتي قلبت حياتهم رأسًا على عقب بسبب تلك الحية المسماة بشقيقته، نكس رأسه بوجع وهو يتذكر كيف مات شقيقه وهو غاضبًا منهُ حتى وإن أخبره قبل ذهابه بالعكس، فهو يعلم جيدًا أن الأمر لم يخرج من قلب شقيقه، همس بتعب:

_ بكفياك تفكرني بحاجات منسيتهاش، بلاش تجلب عليا المواجع الله يرضى عنيك، وعن بت عمك، فانا خابر زين انك خابر طريجها بس مارايدش تريحني، ويمكن هي الي طالبه اكده، مهضغطش عليك بس مسيري اعرفه في يوم، الي مطمني هبابة انك اكيد معاهم ومسايبهمش، ولاه مهخافش على فريال منك يا باهر، انا خابرك راجل وميطلعش منك العيبة. 

ولم يرد "باهر" الإطالة في الأمر أكثر فانهى الحديث في ذلك الموضوع واخبره انه سيبحث لها عن شقة قريبة له، فاخبرها "منصور" ان تتجهز آخر الاسبوع للذهاب للقاهرة لتقديم الاوراق ورؤية الشقة، والمكوث هناك يومان او ثلاثه لتجهيز كل شيء لها قبل بدأ الدراسة، توقفت ودق قلبها بنبضاته الصاخبة وهي تبصره قادم باتجاهها بعدما صف سيارته في موضعها في ذلك الفناء الواسع أمام المنزل، فركت كفيها بتوتر بالغ يصيبها دومًا حين تراه، وزين ثغرها ابتسامة تلقائية بلهاء، ولا تعلم ما عليها فعله حين يصبح أمامها، هل تلقي تحية وتذهب، أم تلقيها وتنتظر رده وربما يعطف عليها ويتخلى عن صمته المقيت ويسألها عن شيء ما فيطول الحديث بينهما قليلاً! 

بينما هي في افكارها الحمقاء البريئة، كان هو يكتم تأفأفه ما إن رآها أمام باب منزله، ماذا آتَ بها لهنا هذه! أنه لا يطيقها في العموم، ولا يطيقها أكثر بعدما اخبره والده عن إكمالها للتعليم ويبدو أن الأمر برغبة والده أكثر من رغبتها هي شخصيًا وهذا ما جعله يصمت مرغمًا، وقف أمامها مبتلعًا امتعاضه منها وهو يردد بتحية باردة:

_ السلام عليكم، كيفك يا بت عمتي؟ 

حركت رأسها في توتر واضح وهي تخفض نظرها غير قادرة على النظر لعيناه التي تحيرها، فتارة تقع في عشقها وتارة تثير خوفها! بللت شفتيها وهي تجيبه بصوتها المنخفض على استحياء:

_ وعليكم السلام ورحمة الله، أنا زينة، كيفك انتَ؟ 

_ بخير يا بت عمتي. 

رددها ببرود، فقطبت حاجبيها بضيق طفيف لا تعلم لِمَ لا يناديها باسمها يومًا! اهو ثقيل أم لا يدركه؟ ما مشكلته هو بحق الله؟!! ابتلعت ضيقها هي الآخرى وهي ترفع رأسها قليلاً ومازالت تطالع كفيها بتوتر حين سمعته يقول بنبرة لم تتبين هويتها:

_ سمعت إنك هتدخلي الجامعة، جامعة ايه بجى ان شاء الله؟ 

أخذت حديثه بنية جيدة وهي تجيبه بابتسامة جميلة ولمعة حماس بعينيها لسماع رده على ما ستقوله الآن:

_ جالي طب أسنان جامعة القاهرة. 

وهنا اشتعل الغيظ بداخله اكثر، فرفع شفته العليا بسخرية واضحة وهو يردد بنبرة مستنكرة أدركتها الآن:

_ طب اسنان حتة واحدة! وبعد ما تجعدي ٥ سنين في الجامعة هتروحي لفين في الآخر؟ هنتجوز وهتخدميني وتخدمي بيتك وعيالك لزمتها ايه بجى وجع الجلب والكلام الفارغ ده؟ 

اختفت ابتسامتها، وماتت لمعة الحماس في حدقتيها، وارتجف فكها ضيقًا مما يقوله ومن طريقته المستهزأه بها وبأحلامها، ولكنها تنهدت بهدوء وهي تعقب وقد رفعت عيناها لتواجه عيناه الساخره:

_ العلام مش كلام فارغ يا وِلد عمي، ولو كان كلام فارغ اتعلمت ليه؟ بعدين مش ضروري بعد الجواز ميبجاش ليا حاجة غير خدمة بيتي وعيالي كيف ما بتجول، مين جالك اصلاً إني مهعملش فايدة بعلامي؟ أنا ناوية افتح عيادة اهنة و...

قاطعها بحاجبان مقطبان ولمعت حدقتيهِ بضيق واضح:

_ ايه يا ختي؟ عيادة؟ وناوية؟ ده مين الي ناوي؟ مين انتِ عشان تنوي ولا متنويش؟ اياك فاكرة بعد الجواز هيكونلك رأي عشان تجرري "تقرري" من راسك اكده؟ بعدين معندناش حريم تشتغل، فانسي الموضوع ده واصل، ولولا ان ابوي مصدر رأيه في حكاية الجامعة مكنتيش طبتيها من اساسه.

ترقرقت عيناها بالدموع وهي تستمع له يقلل من شأنها بهذا الشكل، نتيجة حديثه واضحه للأعمى، ألا إنها بعد الزواج لن يكن لها رأي أو كلمة حتى فيما يخص حياتها هي، ما قاله الآن يدل على معانتها معه في المستقبل، لن يكن الزوج اللين الذي يسهل التفاهم معه، ودومًا ستُجبر على فعل أي شيء لا تريده والتنازل عما تريد، وكأن زواجها منه تنازلاً منها عن حقوقها كأنسانه ليس إلا!! ولكن ماذا تفعل إن كان حبه يسكن ثنايا قلبها فيجبر أعينها على العمى والسير في طريق زُين باشواك الورد بدلاً منهُ، وللعجب انها ترى الاشواك واضحة كبزوغ الشمس ولكنها تتجاهلها وتنوي السير بهِ مُمنية ذاتها بانتهاء الاشواك رويدًا والشعور بملمس الورد الناعم ليعوضها لحظات الشقاء، فهل ستظهر الورود أم أنها اعتمدت على أمل ربما لن يصيب وتكمل سيرها على الاشواك؟! 

اخفضت نظرها كي لا تخدعها دموعها وتسقط أمامه، وغمغمت بنزق:

_ الكلام ده سابج لآوانه وجتها نبجى نشوف، هروح عشان امي. 

انهت حديثها وهي تذهب من أمامه بخطى سريعة وقد سمحت لدموعها بالتهاوي، لم تتوقع رد فعله هذا، تمنت لو رأت سعادته وفخره بها مثل خالها، تمنت لو لم يخذلها هكذا، لكنه "إبراهيم" الذي كالعادة لم يدعمها يومًا فهل يفعل الآن؟! 

____________________

جلس خلف مقعد السائق بعدما انهى عمله وقرر العودة للمنزل، فك أزرر قميصه جميعها وهو يسمح للهواء بترطيب جسده أكثر، هذه الحركة التي دومًا ما يفعلها حين يشعر بالضيق او يتعمق التفكير في شيء ما، والآن هو يصب جم تفكيره عليها، ويحسب خطواته القادمة معها، عليه أن يكون حذِراً جدًا، فالأمر لا يحتمل خطأ صغير. 

تعالى رنين هاتفه بتلك النغمة المخصصة ل "مينا"، فضغط على السماعه اللاسلكية المثبته في أذنه ليجيب على المكالمة، ارجع رأسه للوراء باسترخاء تام فور سماعه للأخر يقول:

_ تم ياباشا المطعم بقى مِلك سعادتك، تقدر من بكرة تعمل فيه الي تحبه. 

تحركت شفتيهِ الغليظتان بحركات بطيئة، رتيبة، وهو يقول بهدوء:

_ تمام، والمعلومات؟ 

اتته اجابة "مينا" يقول:

_بص ياباشا هقول لحضرتك المعلومات الي قدرت اجمعها لدلوقتي، وهكمل بحث ولو وصلي حاجات تانية هبلغ سعادتك. 

همهمة خافتة هي كل ما خرجت منه لتدفع الآخر للحديث، فتنحنح وهو يبدأ:

_ الي عرفته انها جت المنطقة من سنتين وكام شهر كده، وكان معاها ابوها واخوها، ابوها اشتغل نجار مع واحد هنا من المنطقة، وهي كانت وقتها في الثانوي وكان اخوها في الابتدائي، وحياتهم كانت ماشية طبيعي لحد ما مات ابوها في حادثة من سنة وشهرين بالضبط، وقتها راحت دفنته في البلد ومفضلتش هناك يوم واحد رجعت في نفس اليوم، والي عرفته ان في مشاكل كبيرة بينها وبين اهل ابوها، لدرجة انهم مجوش لها ولا مرة من وقت ابوها ما مات، وغالبا عشان كده ابوها ساب البلد ولنفس السبب لما راحت دفنته مقعدتش هناك، من بعد ابوها ما مات اشتغلت في عيادة الدكتور، الي كانت بتروحله ومتابعة معاه من اول ماجت القاهرة، بس ومن وقتها وحياتها مفيهاش جديد، الصبح الساعة ١١ بتروح العيادة، وبترجع الساعة ٤ العصر، والي عرفته برضو انها بقالها شهر مكلمة صاحب المطعم الي اشتريناه عشان يشغلها، عشان الحالة المادية يعني صعبة شوية، عرفت انها بعد موت ابوها بشهرين اضطرت تبيع حاجات من عفش البيت، ومن وقتها وهي حتى الحاجات الي بتشتريها من اهالي المنطقة بالدين وبتسدد الفلوس وقت ما يبقى معاها وكده، وفي ناس منهم معندهمش مانع وبتصعب عليهم عشان يتيمة وبتصرف على اخوها، وناس تانية مبتوافقش وناس مبتستناش على فلوسها، كده يعني.. عرفت برضو ان كان في واحد من المنطقة اتقدملها من قبل ابوها ما يموت بشهر بس هم رفضوا وقتها عشان كانت لسه مكملتش تعليمها وصغيرة. 

نفسه الخارج والدالف هو فقط ما يدل على أنه جسد حي، غير هذا بدى وكأنه تمثال منحوت! ملامحه الجامدة بشكل مخيف، وعيناه الثابتة دون أن يرمش حتى، وكفه المثبت فوق المقود، وذراعه الموضوع باهمال فوق نافذة الباب المجاور له المفتوحة، هل يستمع للمتحدث؟ هل استمع لكل ما قيل أم أنه شارد؟؟؟ للوهلة الأولي تهاجمك تلك الاسئلة، ولكن في الوهلة الثانية تدرك أن الجحيم المستعر يكمن في جسده، فجسده المشدود بتلك الطريقة ليس شيئًا طبيعيًا، وكيف لا بعد كل ما سمعه؟ كيف لا بعد فظاعة ما سمعه؟! بدءاً من معانتها وحالتها المادية المفتقرة لذلك الأبله الذي تقدم لخطبتها! وكان أول ما نطق بهِ سؤال خرج من بين أسنانه:

_ عرفت هو مين؟ 

اتاه الرد سريعًا:

_ طبعًا يا باشا، طلع شاب كده ابن صاحب مكتبة هنا في الحي، واسمه جمال. 

ضغط على أسنانه بقوة طاحنة حتى كاد أن يتسبب في كسرهم وهو يستمع لاسم ذلك الحقير، فلقد استمع لها تهتف باسمه حين دلفت تلك المكتبة المقيتة، حرر اسنانه وهو يهتف بجملة مختصرة:

_ بكرة تفتح المطعم عادي وانا على الساعة ٤ هكون عندك. 

واغلق المكالمة دون كلمة أخرى، ضرب بقبضته على المقود بضربات هادئة رتيبة، تثير الأعصاب، وهو يتذكر كل ما اخبره بهِ "مينا" منذ قليل، وضغطه على نواجزه يظهر بوضوح من تحرك عضلات وجهه، حتى هتف بعد فترة وقد توقف عن تلك الطرقات فوق المقود:

- ماشي... ماشي. 

رددها بنبرة لم تظهر أهي توعد أم ماذا!؟ قبل أن يشغل السيارة وينطلق بها بسرعته العالية كالعادة، والهواء يعبث بقميصه المفتوح كيفما يشاء. 

__________________

خرجت من غرفة العناية المركزة بعدما رأت والدتها لدقيقتين مثلما سمح لها الطبيب، عدلت من وضع حقيبتها فوق كتفها وهي تسير قاصدة الخروج من المستشفى، لكنها تفاجأت بمن يقول:

_ بقينا ندخل من غير وسايط اهو. 

التفتت على ذلك الصوت المألوف، لتبتسم تلقائيًا وهي تجيبه بعدما أصبح أمامها فقد كان خارجًا من أحد الغرف حين رآها وقرر محادثتها:

_ الحمد لله، عشان مسمحش لحد يكون له فضل عليا. 

التوى فمه بابتسامة طفيفة فبدى أكثر جاذبية وهو يعقب:

_ مش لم تسدي الفضل القديم الأول! 

وهنا تذكرت ما حدث بينهما، لتقول بضيق وقد اختفت ابتسامتها:

_ مش أنتَ قولت عليا مجنونة، خلاص بقى.

رفع أصبعه شارحًا:

_ أولاً مقولتش مجنونة، قولت اثر الصدمة، ثانيًا كنت بخرج من الموقف مشوفتيش الناس كانت بتبصلنا ازاي. 

رفعت رأسها بأنفه وهي تقول بإباء:

_ أيًا كان، دي قصاد معروفك كده خالصين. 

كتم ابتسامته وهو يقول بضيق مصطنع:

_ ياساتر عليكِ، مستخسرة فيا فنجان قهوة حتى تعزميني عليه! 

تغيرت ملامحها في ثانية واحدة وقد بدت حزينة وهي تخبره:

_ هعزمك بس عندي طلب.

تعجب من تغير ملامحها، وشعر بجدية الأمر فسألها:

_ ايه هو؟ 

اجابته بنبرة غلفها الرجاء:

_ عاوزاك تشوف والدتي وتعرفني حالتها ايه بالضبط، حاسة ان الدكتور مخبي حاجة عني. 

_ هو دكتور مين الي متابعها؟ 

_ دكتور محمد المصري، دكتور القلب. 

اومئ برأسه متفهمًا وقال:

_ حاضر، بس احب اعرفك إن دكتور محمد مبيحبش حد يدخل في المرضى بتوعه، فمش هعرف دلوقتي لأنه موجود، ممكن بكره الصبح ان شاء الله. 

ابتسمت بامتنان حقيقي وأردفت:

_ مفيش مشكلة، مرسي اوي بجد. 

رفع سبابته مرة أخرى مذكرًا إياها بمرح:

_ متنسيش فنجان القهوة. 

ضحكت بخفة وهي تقول:

_ مش هنسى don't worry, "لا تقلق"، يلا جود باي. 

انهت حديثها مشيرة له بتوديع، ليجيب وداعها قبل أن يتحرك هو الاخر:

_ مع السلامة. 

____________________

_ ناناة! 

انتفضت بخفة على صوت حفيدتها، لتنظر لها بعتاب وهي تخبرها:

_ كده تخضيني يا چسي؟ 

بررت "جاسمين" وهي تجلس بجوارها محتضنة إياها بود:

_ يا حبيبتي والله فتحت الباب بالمفتاح ودخلت، وناديت من الصالة، ولحد ما وقفت قدام باب الاوضة أنتِ الي مش سمعاني، بصالي في الصورة وسرحانه خالص. 

قالتها وهي تبتعد عنها مشيرة لتلك الصورة المنقلبة على ظهرها الممسكة بها جدتها بين كفيها، ابتسمت الجدة لتظهر تجاعيد وجهها أكثر، وهي تقول:

_ باباكي كلمني وقالي إنك جاية، بس أنا فعلاً سرحت شوية. 

ابتسمت "جاسمين" لجدتها الحنونة التي تحمل حبًا خاصًا لها، ولكن فضولها تجاه من في الصورة جعلها تقول بمشاكسة:

_ مين بقى الي سرحانة فيه اوي كده؟ ها؟ اعترفي يلا صورة لجدو صح؟ 

نفت برأسها وهي تضحك على مشاكستها:

_ لأ يا غلبوية مش صح. 

لمع الفضول اكثر في مقلتيها تسألها:

_ اومال مين ها؟ 

لمعت العبارات في أعين الجدة وهي تبتسم بحنين:

_ ده ابني، وعمك. 

قطبت "جاسمين" حاجبيها بتعجب وعقبت:

_ عمي أنا؟ بس أنا مسمعتش عنه قبل كده! 

عدلت الصورة ليظهر من بها، وهوت دموعها وهي تطالعها وقد شاركتها "جاسمين" في النظر للصورة:

_ عشان محدش يعرف عنه حاجة. 

تذكرت أنها قد رأت تلك الملامح من قبل فقالت:

_ اه، انا شوفته قبل كده في صوره له مع دادي، شوفتها بالصدفة في درج مكتبه، بس فكرته صاحبة من زمان. 

لم يأتي رد من الجدة لتكمل "جاسمين" تسائلها:

_ يعني ايه متعرفوش عنه حاجة يا ناناة؟ وهو اسمه ايه؟ 

رفعت الجدة عيناها الباكية وشردت بنظرها وهي تقول بقهر:

_ بعد ما اتجوز ماعرفناش عنه حاجه، بقاله ٢٤ سنة دلوقتي بعيد عننا، نفسي اشوفه، اعرف اخباره، المحه حتى قبل ما اموت... كان اسمه حسن، عمك حسن وكان اصغر من نبيل بسنتين.. انا... انا حتى معرفش هو عايش ولا ميت.. عشان كده مش عاوزه اسيب بيتي رغم ان نبيل اتحايل عليا كتير اوي بس لسه عندي أمل يرجع في يوم.. لسه عندي أمل بابي يدق ويكون هو.. 

انهت جملتها باكية بشدة، فاحتضنتها "جاسمين" وقد ادمعت عيناها بتأثر شديد....  

تعليقات