
رواية وانصهر الجليد الجزء الثاني2 جمر الجليد الفصل الخامس عشر15 والسادس عشر16والسابع عسر17 بقلم شروق مصطفي
مالك؟... أنتي كويسة
انتبهت سيلا إليه، وحاولت رسم ابتسامة متوهة وهي تجيب:
ها؟! آه، أنا كويسة... مبروك مجالكُم، بعد إذنكم.
همّت بالتحرك، لكن باغتها عاصم بسؤال:
مقولتيش... حلمتي بإيه ليا؟
تدخلت آسيا، زوجته، بغيرة واضحة:
إيه ده يا حبيبي؟! مين دي اللي حلمت بيك؟ وتعرفك منين أصلاً عشان تحلم بيه؟!
ضحك عاصم، واحتضنها من خصرها قائلاً:
"وأنا أول مرة أشوفها يا حبيبتي، عشان كده مستغرب وبسألها!"
وجّه الجميع أنظارهم إلى سيلا، التي تماسكت وأجابت ببرود:
"حلم تافه... ونسيته أول ما صحيت. متشغلوش بالكم."
ثم تحركت من أمامهم، وجلست مع البقية، لكنها لم تستطع منع نفسها من النظر إليه بين الحين والآخر، فتجده يضحك معها، يتغزل بها...
فتحت عينيها أكثر، تحاول تصديق ما يحدث أمامها. شعرت بأن قلبها ينكمش أكثر وأكثر، بينما هو... سعيد بغيرها.
و انتهت احتفالية المولد وغادروا، و قام هيثم بتوصيلهم.
ارتمت على فراشها بتعب، و انهمرت دموعها التي أبت أن تسقط سابقًا. انهارت حصونها، وتلاشى تماسكها.
لم تستوعب بعد فقدانها له، ظلت صامتة تحدق في اللا شيء حتى غفت في سبات عميق.
بعد مرور بعض الوقت، تعرّق جبينها، وبدأت تهذي وتحرك رأسها لا إراديًا يمينًا ويسارًا، تئنّ بصوت مكتوم وتنادي باسمه:
– عاصم، ليه ما استنتنيش؟ لا... أنت ليا أنا! أنا بحبك... أمم... عاصم، ما تسبنيش! لا... لا، آسيا، لا! أنا اللي بحبك... ماما، بابا، ماما، انتو فين؟
ثم انتفض جسدها فجأة من شدّة بكائها المكتوم، إلى أن استمعت إلى صوت رخيم بجانبها يهمس لها برقة:
– هشششش... أنا جنبك، معاكِ... اهدي، حبيبتي.
أحست بدفء يغمرها، وذراعين تحيطانها، وأنفاس حارة تحوم حول عنقها. كانت الهمسات تلامس قلبها، فهدأ انتفاض جسدها قليلًا. فتحت عينيها بصعوبة بعدما غرق جسدها في العرق، ثم التفتت لترى من يهمس بأذنيها، ففوجئت بهِ أمامها. أخيرًا، نطقت اسمه بذهول:
– ع... عاصم! أنت هنا بجد؟
ابتسم لها بحب، وهو لا يزال قريبًا منها، لم يتركها. نظر داخل عينيها وقال:
– آه، هنا... عاوزاني أبعد؟
وفجأة، دون تفكير، التفت ذراعاها حول عنقه، تضمه أكثر إليها بشوق ولهفة، وكأنها تخشى أن يضيع منها مجددًا:
– أوعى تفكر تبعد عني! لو عملتها، أنا ممكن أموت فيها... أنت ليا أنا بس، فاهم؟
نظر إليها عاصم بحب وهمس:
– وأنا عمري ما هبعد عنك، ولا حتى في تفكيري الصغير... بس...
لكنه لم يُكمل جملته، فقد ابتعدت عنه فجأة، وأدارت وجهها بعيدًا بغضب. انكمشت ملامحها، ونطقت بضيق:
– لا! أنت بعت عني واتجوزت كمان! وقعدت تسرّح لها شعرها وتضحكوا مع بعض قدامي! ابعد بقى! ما تكلمنيش... أنا زعلانة منك.
اتسعت عيناه بدهشة، لم يستوعب بعد أي "تخريف" هذا! لكنه سرعان ما أدرك أنه كان حلمًا، فضحك بصوت عالٍ وقال بمزاح:
– اتجوزت مرة واحدة؟! طيب يا ريت! هو أنا عارف أتجوز أول مرة، لما أفكر في التانية؟
نظرت إليه بغضب وردّت:
– ويا ريت ليه؟! لا، روحلها بقى وكمل تسريح شعرها الأصفر... ولا عشان أنا معنديش شعر؟
لكن فجأة، ترقرقت عيناها بالدموع، عندما جاء ذكر شعرها الذي فقدته بسبب جلسات العلاج الكيماوي. رفعت يديها وأدارت وجهها في الاتجاه الآخر، محاولة كبح دموعها.
رفع حاجبه وابتسم بخفة، ثم قال بمزاح:
– لا، احنا بنغير بقى ولا إيه؟ طب بتغيري من حلم كمان؟! أنا فكرتك أعقل من كده... يا بنتي، مش لما نتمم جوازنا الأول، أبقى أفكر في التانية؟
وجدها صامتة، فاجتذبها إليه، وأحاطها بذراعيه، ثم همس:
– طيب، هششش، اهدي بقى، وبطلي الجنان ده! أنا بحبك... كلك على بعضك، مش بحب جزء وجزء لا! أنا وأنتِ روح واحدة، ومفيش قوة ممكن تفرقنا إلا الموت.
ابتسمت له بحب، ثم روت له ما رأته في منامها.
نظر إليها عاصم ورد مفسرًا بعض الرؤيا:
بقلم شروق مصظفى وانصهر الجليد قصص الحياة
– طيب، انتي عارفة إن عطية الميت للحي في المنام حلوة أوي؟ وكمان حملك لمولودة بنت يعني "دنيا"... وأنا بقى نفسي في بنوتة، وأسميها "نور"، قمر زيك كده، عشان هي هتبقى نورنا.
ضحكت سيلا بسعادة:
– أنا أول مرة أشوفهم... محدش زارني من يوم فراقهم. بس كانوا وشهم منور، وبيضحكوا، وحضنوا همسة وأنا، وعطونا هدايا وسلسلة فضة! كان حلم جميل أوي لحد ما...
توقفت فجأة، ثم نظرت له وقالت بتردد:
– ولا بلاش...
حاول عاصم كتم ضحكته، لكنه لم يستطع، فتحدث بمزاح:
– لا، قولي بقى كملي.
أشاحت وجهها بعناد وقالت:
– بايخ، مش مكملة.
لكنها صمتت، ثم نظرت إليه نظرة مختلفة... نظرة تفيض بمشاعر لا تُحكى بالكلمات.
– عارف؟ مش متخيلة حياتي من غيرك، كانت هتبقى عاملة إزاي؟! أنت ربنا عوضني بيك بجد... السند، والأمان. معاك بنسى نفسي وروحي... حضنك ده...
أشارت بأناملها إلى صدره، ثم تابعت:
– بحس إني ملكت العالم كله! نفسي بجد أسعدك وأعوضك عن كل اللي اتحرمت منه.
صمتت قليلًا، ثم تابعت بصوت خافت:
بقلم شروق مصطفى
– عاصم، ممكن في يوم تفكر تبعد عني؟
صمتت للحظة تستجمع شجاعتها، ثم تابعت بينما كان ينظر إليها بصمت:
– يعني... لو المرض رجعلي تاني، أو لو الخلفه اتأخرت بسببي؟ مقدرش أحققلك أقل أمنية ليك إنك تبقى أب... ساعتها، مش هظلمك معايا؟
لم تكمل، فانهمرت دموعها، لكنها سارعت بمسحها سريعًا، وهي تنظر له بترقب، تحاول قراءة ملامحه. لكنه ظل صامتًا، وكأنه يحاول السيطرة على غضبه.
كيف تفكر أنها قد تظلمه يومًا ما، وهي السبب في عودته للحياة؟
مسح بأنامله دموعها وهمس بحنان:
– ممكن ما تبكيش؟ لأن لما بشوف دموعك بتنزل، جوّايا حاجة بتتعذب... يرضيكي أتعذب كتير؟
لم ترد، فأصدر تنهيدة حارة وتابع:
– طيب، هسألك سؤال... لو جاوبتي عليه بصراحة، هسمع كلامك، وهبعد عنك، وهشوف حياتي.
تجمدت نظراتها على وجهه، فقال بصوت جاد:
– لو جرالي حاجة بعد جوازنا… أي حاجة، مرض، أو تأخر في الخلفة، ممكن تسيبيني وقتها؟ وتقولي "نصيبي" وتبعدي عني؟ ممكن تعملي كده فعلًا؟
لم تتردد لحظة في الرد:
– لا طبعًا، عمري ما أبعد عنك، الموت هو الوحيد اللي ممكن يفرقنا، غير كده مقدرش أبعد عن حضنك…
نطقت بها، ثم دفنت رأسها في صدره، كأنها تختبئ في أمانه، مستمتعة بأجمل إحساس؛ الطمأنينة.
ربت على ظهرها بحنان، ثم قال:
– يبقى أنا عمري ما أفكر أبعد عنك يا سيلا… أنتِ مش بس مراتي، وقلتلك ده قبل كده، أنتِ بنتي وهتفضلي بنوتي طول العمر.
تنهد ثم أضاف بمرح:
– كنت جاي أصحيك ومحضرلك مفاجأة حلوة، بس خلاص بقى…
بدون تفكير، اقتربت منه وأحاطت عنقه بذراعيها، ثم طبعت قبلة على وجنتيه بامتلاك:
– آسفة حبيبي لو ضايقتك بكلامي، غصب عني… بس آه، لو كنت شفت البنت اللي اتجوزتها وهي بتضحك وماسكة فيك بامتلاك، وأنا كنت مقهورة ببص عليك… كان هاين عليّا أجيبها من شعرها!
ضحك عاصم بقوة وقال بمزاح:
– ومعملتيش كده ليه؟!
أجابت بخفوت وهي تخفض عينيها:
– اممم… كان في ناس وكده، محبتش أعمل مشكلة… المهم، إيه المفاجأة بقى؟ قولي قولي، عشان خاطري!
نظر إليها عاصم بتفكير، ثم قال بابتسامة خفيفة:
– ممم… ماشي، مع إن تصالحك ناشف شوية، بس ملحوقة… المهم، كنت عند الدكتور، وبلغني إننا مش هنقعد أكتر من شهر… وفي كمان مفاجأة تانية
الفصل السادس عشر والسابع عشر🌹
وأنصهر الجليد
كانت مي تجلس في المكان المخصص للاستقبال بالمركز الطبي الذي يعمل به شقيقها، وإلى جانبها صديقتها أمل، التي لم تكف عن جرّها في الأحاديث. لكن شيئًا ما بداخلها حثّها للنظر إلى نفس المكان الذي يجلس فيه ذلك الشخص، وكأن قلبها تعرّف عليه قبل أن تدركه عيناها. أحست بقوة تعصف بكيانها، وأخذ قلبها ينبض بشدة، فاستجابت لهُ، واتجهت أنظارها نحوه. وضعت يدها تلقائيًا على صدرها، محاولة تهدئة دقات قلبها المتسارعة، وأقنعت نفسها بأنه مجرد وهم، ليس حقيقة.
لكنها توقفت فجأة، تتأكد مما رأت، إنه حقيقي، يقف أمامها، لم يفصل بينهما سوى هذا المكتب وبعض مقاعد الانتظار. لم تصدق شعورها بالفرح لرؤيته بعد كل هذه المدة. فقد علمت بمقابلته لشقيقها ومدى صدقه، لكنها لا تعلم إن كان عليها أن تفرح لرؤيته أم تحزن لهجره المفاجئ لها، دون عتاب، دون محاولات للصلح، كأنها لم تكن يومًا في حياته.
تاهت في أفكارها، وازدادت نظراتها شرودًا عندما رأته يبتسم لها. في عينيه بريق غريب لم تفهمه، ومرت بينهما لحظة فقط قبل أن يمتلئ المكان بالمرضى، ويتكدس الصالة بأجساد كثيرة حجبت الرؤية بينهما فجأة.
حمد الله أنها لم ترَ الدمعة التي فرت من عينيه قبل أن يغادر سريعًا، قبل أن يُكشف أمره...
بحثت عنه بعينيها، رفعت رأسها محاولة العثور عليه، لكن دون فائدة. لم تجده، ولكنها لمحته من الخلف وهو يغادر المكان. اكتسى الحزن ملامح وجهها، وانعزلت عن كل ما حولها. لم تنتبه لأي سؤال موجه لها من قِبَل المرضى، حتى اضطرت صديقتها أمل إلى الحلول محلها في الاستقبال لحين انتهاء الزحام.
نظرت أمل إليها بتعجب وقالت:
— مالِك تايهة كده؟ إنتي كويسة؟ وشّك مخطوف، في حاجة حصلت؟
أفاقت مي من شرودها وقالت بتوهان:
— ها؟ لا، أبدًا، مفيش... حسيت بشوية صداع بس.
أمل لم تصمت، بل واصلت ثرثرتها المعتادة:
— شُفتي المِز مشي مع الزحمة؟ مقعدش كتير المرة دي! مع إنه كل يوم بييجي يقعد ساعتين تلاتة! بس عليه جوز عيون... يا لهوي عليه! أنا حاسة بــ... لا، مش إحساس، ده هو نفس الشخص اللي كان ماشي ورانا يوم ما قلت لك إن في حد بيتبعنا؟ ولا...
شعرت مي بالغيرة تنهش قلبها، فقطعت حديثها بغضب وقالت بصوت مرتفع قليلًا:
— ممكن نركز في شغلنا؟ وبطلي كلام عنه!
نظرت لها أمل باستنكار وقالت:
— أنا غلطانة إني بفضفض معاكِ شوية!
لكنها لم تصمت طويلًا، وسرعان ما انتقلت إلى موضوع آخر، وهي تتفحص خاتمها:
— إلا قولي لي، خطيبك، مش ملاحظة إنه مش بيكلمك؟ إنتو متخاصمين ولا إيه؟ ده حتى ولا مرة جالك وروحتوا سوا! غريبة أوي، مش بتوحشوا بعض؟! ده أنا ومحمد لما كنا مخطوبين، يا سلام! أحلى أيام! وقت الخطوبة أصلًا كنا بنتكلم كل ساعتين، ولولا الشغل كان ممكن يبقى كل نص ساعة! غير إننا كنا بنخرج مرة في الأسبوع على قد ظروفنا، وكان يستناني برا بالساعات لكن بعد الجواز؟! ولا مرة! لو كلمني، يقول لي: "إيه، وصلتي؟ طيب، سلام!" ما يكملش دقيقة حتى...
بينما كانت مي منشغلة بإنهاء عملها، لم تكن تتوقع أن تدخل في هذا الحوار مع أمل، التي بدأت تتحدث معها بعفوية عن علاقتها بخطيبها. كلمات أمل أصابتها في مقتل، فقد كانت تحاول جاهدة إقناع نفسها أن كل شيء على ما يرام، لكنها لم تستطع إنكار الحقيقة التي تواجهها كل يوم.
حينما سألتها أمل عن علاقتها بخطيبها، شعرت مي بارتباك مفاجئ، ثم حاولت أن تتدارك الأمر قائلة بتلعثم:
— ها؟ لا، أبدًا... أصل هو مسافر، وبنتكلم في البيت لما أرجع... آه، بيكلمني كل يوم.
أمل، وقد شعرت ببعض التردد في صوت مي، ابتسمت وهي تحاول طمأنتها:
— طيب كويس، فكرتكم متخاصمين. أنا ومحمد لما كنا بنتخاصم، كان لما يصالحني بيجبلي الشوكولاتات اللي بحبها والورد وكل الحاجات الحلوة، بس بعد الجواز؟ لا شوكولاتات ولا حتى وردة أشمها!
ضحكت مي على حديث أمل، محاولة نسيان ما يشغل بالها، وقالت بمزاح:
— مشكلة يا بنتي والله! كده هتخليني أغير رأيي وماتجوزش طالما كل حاجة بتتغير كده!
أمل ابتسمت بحب، وردّت بدعاء صادق:
— ربنا يباركلكم في حياتكم ويرزقكم الخلف الصالح، يا رب.
— آمين، يا رب، وما يحرمنيش منك. بس بجد، في حاجات بتتغير. قبل الجواز، مفيش مسؤوليات، لكن بعده الأولوية بتكون لفتح البيت وتحمل المسؤولية، بس في النهاية كله بيهون لما بتحسي بالأمان مع اللي بتحبيه.
تنهدت أمل وأكملت بنبرة حالمة:
— بصي، طول ما في مودة وحب وتفاهم، مش هتحسي بأي اختلاف، وحتى لو حسيتي، يكفي إنك تلاقي طبطبة أو كلمة "تسلم إيديكي"، دي عندي بالدنيا. والحق يُقال، حتى لو زعلنا، عمره ما بيعدي علينا يوم واحنا متخاصمين. هو عودني على كده، بيقولي إن لو نمنا زعلانين، الملائكة بتلعن الزوجة قبل ما تنام. لازم نتصالح مهما كان الخلاف. محمد علّمني حاجات كتير، ربنا يباركلي فيه.
ابتسمت مي متأثرة بكلام أمل:
— يا رب، انتي طيبة أوي يا أمل، وتستاهلي كل خير، الطيبون للطيبات فعلًا. يلا بقى، أشوفك وانتي ماسكة تلات عيال، هتعملي إيه؟
ضحكت أمل وهي تمازحها:
— أضحكي لما نشوفك انتي كمان!
لكن مي شردت قليلًا، ثم نطقت بتردد:
— ربنا يسهل...
ثم تابعت بعد لحظة صمت:
— أمل، كنت عاوزة أسألك عن حاجة.
— اسألي، يا حبيبتي.
— الشخص اللي بيجي يقعد هنا بقاله قد إيه بيجي؟ ويمشي لوحده ولا مع حد؟
أمل فكرت قليلًا ثم أجابت:
— بقاله تلات أيام، والنهارده اليوم الرابع. أول يوم ما خدتش بالي، بس اليومين اللي فاتوا لاحظته، كان بيمشي قبل ما نخرج، وحسيت إن في حد ماشي ورانا يومها. والغريب إنه جاي النهارده بدري عن كل مرة!
مي، وهي تحاول فهم الأمر:
— طيب... يعني بيقعد ليه؟
— هو أنا أعرف منين؟!
قاطعتها مي بحزم:
— طيب، يلا نخلص اللي ورانا بسرعة ونقفل الحجوزات قبل ما يبدأ الشفت التاني.
بعد فترة، انتهت مي من دوامها، لكنها فوجئت بأخيها هيثم يأتي ليأخذها معه، وأخبرها بألا تغادر حتى يرحلا سويًا.
غمزت أمل ممازحة:
— أيوه بقى! لقيتلك توصيلة النهاردة وهتسيبني؟
ابتسمت مي وردّت:
— شكله جاي يشوف ماما النهارده، بس غريبة! هيسيب مراته لوحدها؟ ما علينا، خلينا نقفل الحجوزات ونمشي.
وبعد قليل، استقلت السيارة مع هيثم، لكن سرعان ما لاحظت أنه غير مسار الطريق، فتحدثت بدهشة:
— احنا رايحين فين؟ ده مش طريق البيت ولا بيتك!
نظر لها هيثم بهدوء وابتسامة خفيفة على شفتيه، ثم قال:
— حابب أتكلم معاكي، ممكن نقعد في مكان؟
تنهدت مي، وقد بدأت تشعر بما ينوي الحديث عنه:
— كنت كلمتني في البيت، مفيش داعي لأي مكان.
ظل صامتًا حتى وصل إلى وجهته، ثم توقف في ساحة الانتظار. وقبل أن يترجل من السيارة، ناداها:
— مي...
التفتت إليه، وهي تحثه على التحدث:
— عاوز تقول إيه، يا هيثم؟ سمعاك.
تردد هيثم قبل أن يترجل من السيارة، ثم تحدث بجدية وهو ينظر إليها: مي، انتي بنتي قبل ما تكوني أختي الصغيرة. الأب مستحيل يشوف الوحش ويقربه من بنته، بالعكس، لو شوفتِ الخطر قريب منك، أنا بنفسي هقف قصاده وأمنعه من الاقتراب. اللي عايز أوصلهولِك يا مي..."
توقف فجأة وأخرج هاتفه عندما تلقى مكالمة، ثم رد بسرعة: أه، تمام، ماشي، مع السلامة.
أغلق الهاتف ونظر إلى مي بابتسامة خفيفة: يلا نكمل جوه، الجو هنا بقى حر أوي.
كان هناك شعور غامض بداخلها يخبرها أن شيئًا ما سيحدث، لكنها لم تستطع تحديده. استجابت لذلك الشعور بصمت، وترجلت معه من السيارة ودخلا إلى الكافيه...
---
في المنزل، عند عودة وليد دخل مرهقًا بعد يوم عمل طويل، بالكاد أغلق الباب حتى وقفت همسة أمامه بغضب واضح: اتأخرت ليه دا كله؟!
نظر إليها وليد بدهشة، لم يكن يفهم سبب تغير تصرفاتها في الأيام الأخيرة.
وليد باندهاش: يا بنتي، أنا جاي في ميعادي كل يوم!
همسة بذهول واندفاع: بنتك كمان؟! آه، دلوقتي بقت بنتك عشان تخنت كام كيلو! مبقتش أعجبك، صح؟!
حاول وليد أن يجاريها، لقد لاحظ أنها تحولت من الهدوء إلى العصبية المفاجئة هذه الأيام.
بنبرة هادئة محاولًا التهدئة: الله يهديكي، مالك اليومين دول؟ بقيتي بتحبي النكد زي عينيكي!
رفعت حاجبها بسخرية: الله يهديني كمان؟ ليه؟! شايفني بشد في شعري؟ واي نكد ده اللي بتتكلم عنه؟ شايفني ماشية في الشارع بقول 'شكل للبيع' مثلًا؟!
نفد صبره وقرر إنهاء النقاش بسرعة:
وليد بتعب: اخلصي بقى، أنا تعبان وعاوز أنام بجد!
تغير تعبير وجهها فجأة وهي تشم رائحة عطره باشمئزاز.: اف! إيه الريحة دي؟ متحطوش تاني! وحشة أوي!
ثم لاحظت ما كان يحمله في يده، فجأة أمسكت به بعفوية وسحبت الأكياس منه.
همسة بحماس طفولي: إيه ده؟! هات كده، جايبلنا إيه معاك؟ أنا جعانة أوي!
ضحك وليد قليلًا وهو يراقب تغير مزاجها السريع، ثم قالت بحماس:
تعالِ بقى نأكل الأول، وبعدين ننام، لأني حاسة إني عاوزة أنام! مش بنام خالص!
نظر إليها وليد بذهول ساخر:
وليد: "لا والله؟! مش بتنامي خالص؟! أمال مين اللي سيبتها نايمة من الساعة تسعة الصبح، والساعة دلوقتي خمسة العصر؟! والمفاجأة بقى إني كلمتك الساعة تلاتة، رديتي وانتي نايمة، وشكلك أصلاً لسه صاحية!
ضحكت وهي تحاول تغيير الموضوع:
انت مركز معايا أوي ليه كده؟!
اقترب منها فجأة وجذبها بجانبه، وضع كفه بحركة دائرية حول بطنها وابتسم برقة:
وليد: لا كده النونو هيطلع كسلان أوي زي مامته!
تأملت كلامه للحظة ثم قالت بإحساس غريب:
مش عارفة بقى، بحس إني منمتش، وعاوزة أنام كتير! مش بشبع من النوم أصلاً!
ابتسم لها وليد بحنان وسحب مقعدًا وأجلسها برفق، ثم بدأ يفتح الأكياس بينما يتحدث:
وليد: "طيب، يلا نأكل، الأكل سخن وهيعجبِك. السمك اللي بتحبيه، طلبته مخصوص عشانك!
فجأة، وضعت يدها على فمها تلقائيًا، وملامح وجهها تغيرت، ثم ركضت مسرعة إلى المرحاض.
تابعها وليد بسرعة وقلق، وهو يهتف:
هزت رأسها فقط حتى خارت قواها وبدأ جسدها بالاسترخاء، لكنه أمسكها من خصرها قبل أن تسقط، وحملها برفق ثم وضعها في غرفتهم على الفراش. وجدها تُصب عرقًا، فأسرع إلى الخارج وجلب لها عصيرًا طازجًا، ثم ناولها بعضه حتى فتحت عينيها. تحدث وليد بقلق:
— "بقيتي كويسة؟ إيه اللي حصل؟ مش كنتي جعانة؟ وسمك اللي بتحبيه إيه اللي حصل؟"
همست همسة بتعب بدا واضحًا عليها:
— "مش مستحملة ريحته… قلبت معدتي بجد، شيله من بره مش طيقاه بجد."
ثم أدارت وجهها للجهة الأخرى مضيفة بصوت ضعيف:
— "ومش طايقة برفانك كمان…"
نهض الآخر من أمامها متحدثًا:
— "طيب خلاص، أنا هقوم أشيل السمك وأخد شاور، بس انتي ريحي، وأنا هعملك حاجة خفيفة تاكليها."
مع بداية حملها، تغيرت شخصيتها وأصبحت متقلبة المزاج، فكانت تبكي لأتفه الأسباب، وأحيانًا تصبح عصبية، وأحيانًا أخرى تغمره بالرومانسية، وأوقاتًا أخرى تشمئز من أشياء كانت تحبها من قبل.
وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى
بعد انتهائه من الاستحمام وإزالة رائحة عطره، جهز لها وجبة أخرى، فتناولتها ثم ابتسمت له بحب، وتحدثت:
— "اعذرني لو بضايقك من تصرفاتي أحيانًا، بس مش عارفة ليه بعمل كده بجد… يمكن من شهور الوحم."
نظر إليها الآخر بنظرة مستنكرة وسألها مازحًا:
— "أحيانًا بس؟! ده كتير يا بيبي! بس ولا يهمك… أقوليلي بقى، شهور الوحم دي هتخلص إمتى بس؟!"
همسة ضمت شفتيها إلى الأمام بملامح حزينة، وبدأت بالبكاء:
— "كده يعني… مش طايقني؟! آه، انت وحش على فكرة!"
قهقه وليد بصوت عالٍ، ثم جذبها إلى داخل أحضانه، يهدئها كما يهدئ طفلته المدللة:
— "آهي قلبت في لحظة! يا بنتي، انتي ما بتصدقي وتتفّتحي! حقك عليا، انتي زي العسل وعلى قلبي زي العسل… بس أنا هموت وأنام بجد، ممكن تسيبيني أنام شوية؟"
ثم عدّل وضعيته، وافترش السرير بجانبها، وهي لا تزال داخل أحضانه. ابتسمت له قائلة:
— "بحبك أوي يا وليد، ربنا يبارك لي فيك يا رب وتستحملني."
غلبه النعاس وأغمض عينيه، ثم ردّ بصوت ناعس:
— "وأنا كمان بحبك أوي والله…"
نظرت همسة إليه وهو نائم كالأطفال، وبدأت تمرر أناملها على وجنتيه بحنان، ثم قبلته وهمست له برقة:
— "بحبك أوي…"
واستسلمت هي الأخرى لسلطان النوم.
...
في إحدى الكافيهات
كانت تجلس بهدوء يُنافي ذاك الصراع المُقيم داخلها، كانت شبه حاضرة؛ فالعقل يعلن العصيان، والقلب ينبض بنبض جديد، معلنًا رفع راية الاستسلام وبدء صفحة جديدة. وحينها، نهرها عقلها بشدة: "أفيقي أيتها البلهاء!" ولكنها فاقت من شرودها على صوت أخيها...
كان هيثم ينظر إليها بحزن، فقد كان أكثر من يشعر بما أصابها منذ الرحيل. حاول أن يجذبها إلى الحديث حتى يخفف عنها، ولكنها كانت في عالم آخر.
"إيه يا بنتي، فينك؟"
انتبهت إلى حديثه وردّت سريعًا:
"معاك، كنت بتقول حاجة؟"
كاد أن يتكلم، لكن رنين هاتفه ارتفع فجأة، فأشار إليها قائلاً:
"هعمل المكالمة وأرجعلك."
غادر هيثم للحظات، بينما ظلت مي تسرح مجددًا حتى شعرت بأحدهم يسحب الكرسي أمامها. ظنت أنه عاد سريعًا، فقالت دون أن ترفع نظرها:
"إيه يا ابني، خلّصت بسر..."
لكنها ابتلعت بقية كلماتها داخل حلقها عندما رفعت بصرها. لم يكن أخيها، بل كان هو! واه، يا قلبها اللعين، ما زلت تخفق من أجل من رحل.
ساد صمت تام بينهما، لم يُسمع فيه سوى هدير أنفاسهما المتسارعة وكأنهما في سباق ماراثون. عيناها كانت تشتعل بعاصفة هوجاء، خليط من الغضب، والاشتياق، والألم، والعتاب، والحنين لتلك الذكرى. أما عيناه، فكانتا مليئتين بالشوق واللهفة والحنين.
قطع شرودها وصول النادل لأخذ طلباتهما، فنظرت إليه في حيرة، بينما كان معتز أكثر انتباهًا، فطلب لهما المشروب وغادر النادل.
ظلّت مي تنظر في جميع الاتجاهات متجنبة عينيه، تودّ لو تلمح أخاها حتى تنسحب. لكن صوت معتز اخترق حاجز صمتها وهو يناديها باسمها:
"مي، بصّي لي ممكن؟"
توجّهت بنظرها إليه سريعًا وردّت بتوتر، بينما عيناها غير ثابتة:
"هو... هو فين هيثم؟"
أخذ نفسًا عميقًا وزفره ببطء، ثم قال:
"مي، أنا اللي طلبت من هيثم يقابلك بره البيت، وهو موجود هنا قريب. أنا بس محتاج أتكلم معاكي، ممكن تديني فرصة؟"
نظرت إليه بتهكم، وقالت بحدة:
"وإيه اللي فكّرك تيجي تتكلم دلوقتي؟ لسه فاكر أصلاً؟ أظن مفيش بينا أي كلام ممكن يتقال، وأنا هعرف هيثم فين..."
قالت جملتها وهي تهمّ بالمغادرة، لكنه وقف أمامها يمنعها، وتحدّث برجاء:
"مي، أرجوكي اقعدي نتكلم الأول بهدوء، ممكن؟"
أدارت وجهها بغضب، لكنها جلست مجددًا، تدفع بأصابعها على الطاولة بعصبية، وعيناها تتجهان إلى كل مكان عدا عينيه. لكنها لم تستطع الصمود، ففي كل مرة كانت تخذلها نظراتها لتلتقي بعينيه، فشعرت بتضارب عنيف بين عقلها وقلبها.
لقد ذاقت مرارة الفراق والبعد، لكن شعورها بالخذلان حين انسحب وسافر دون حتى محاولة أخرى، كان يؤلمها أكثر. لكن لماذا الآن؟
تنهدت بعمق، وظلت تفرك يديها بتوتر، وخفقات قلبها لم تهدأ. وأخيرًا، نظرت إليه وسألته بصوت خرج بالكاد:
"وليه دلوقتي جيت؟"
لمح الخاتم يلمع بين أصابعها، فشعر ببعض الطمأنينة، ثم صمت قليلًا قبل أن يواصل حديثه بنبرة يملؤها الأسف:
"بجد آسف على كل شيء صدر مني، من أول يوم شفتك فيه لحد آخر يوم. بعادي عنك كان بالنسبة لي موت بطيء، مكنتش عايش بجد، وكل ما افتكر نظرة الانكسار والخوف والخذلان في عيونك، كنت بتعذب."
نظر إليها بعمق، ثم تابع بصوت متهدج:
"مي، أنا كنت صريح معاكي من البداية، مكدبتش عليكي. يشهد ربي إني قبل ما أخد أي خطوة معاكي، كنت طويت صفحة الماضي تمامًا. وبعد ما عرفتك، شفت فيكي خوفك من غضب ربنا حتى مني شخصيًا، ووقتها فوقتيني على حاجات كان نفسي نبدأها مع بعض..."
ابتسم بخجل، وقال:
"فرحت جدًا لما لبستِ الحجاب، أوي."
ثم أخذ نفسًا عميقًا، وزفره ببطء، قبل أن يضيف بصوت مبحوح:
"أيوه، سبتك غصب عني. كان لازم أبعد، مي. كنت بعاقب نفسي ببُعادك، وحلفت إني مش هرجع إلا وأنا أستحقك بجد، ودايمًا كنت بدعي إن ربنا يغفر لي."
ظلت صامتة، بينما هو لا يحيد بنظره عنها. تابع بصوت رجاء:
"مي، أنا محتاجك جنبي أوي، محتاج نبدأ صفحة جديدة. حاولي ترمي الماضي بعيد، واغفري لي قسوة الجرح اللي فات. أنا بحبك بجد، إنتِ أول وآخر حب عشته. صدقيني، وارجعي لي، وادّي لعلاقتنا فرصة تانية..."
كانت تستمع إليه بقلبها الذي بدأ يتراقص من السعادة، رغم محاولاتها لإخفاء ذلك. طال صمتها، فتنهد بيأس، وقال:
"مي، أرجوكي، اتكلمي! قولي إنك موافقة تدينا فرصة واحدة! مستعد أنفذ لكِ أي حاجة حتى لو طلبتي أرمي نفسي في النيل!"
وأخيرًا، خرج صوتها متحشرجًا من أثر دموعها التي انهمرت بلا توقف:
"موافقة..."
نهض معتز بسرعة واقترب منها غير مصدّق:
"قلتي إيه؟!"
ابتسمت مي غصبًا من هيئته، لكنه فجأة جثا على ركبته أمامها، ممسكًا بيدها:
"قوليها تاني، سمعيني!"
نظرت حولها في خجل وهمست:
"اقعد مكانك، الناس بتتفرج علينا، يا مجنون!"
لكنه لم يبالِ، وظل مصرًا:
"مش هقعد غير لما أسمعها تاني."
أشاحت بوجهها، وهمست بخجل:
وانصهر الجليد جزء ثاني
"موافقة بقى!"
توقف ولم يتحرك من مكانه، وتمنى في تلك اللحظة أن يضمها بين ذراعيه ويدور بها فرحًا، لكنه سرعان ما عاد إلى واقعه، منتبهًا إلى من حوله. لمح هيثم جالسًا في ركن بعيد، ينظر إليه باستفهام، متسائلًا عن سبب توقفه المفاجئ، لكنه ابتسم له وعاد إلى مكانه. أغمض عينيه وكأن روحه قد عادت إلى مكانها بمجرد سماعه لموافقتها.
معتز، مبتسمًا بسعادة غامرة:
"أنا أسعد واحد بجد النهارده... ياااه، بجد، ربنا بيحبني عشان جعلكِ من نصيبي."
مي، مترددة قليلًا قبل أن تسأله:
"طيب، ممكن أسألك سؤالًا؟"
معتز، بسعادة واضحة لسماع صوتها موجهًا له الحديث:
"سؤال واحد بس؟! لا، اسألي عشرة لو تحبي."
مي، وقد عقدت حاجبيها قليلًا:
"ليه كنت بتجي مكان شغلي؟ وليه كنت بتمشي ورايا؟ إيه السبب؟"
معتز، متنهدًا تنهيدة حارة خارجة من أعماقه:
"كنت بحفظ ملامحكِ قبل ما أقابلكِ النهارده... كنتِ أنتِ اللي هتحددي مصيرنا. لو افترقنا، كنتُ على الأقل مليت عيني منكِ، يمكن يكون ده آخر يوم أشوفكِ فيه. كنت براقب كلامكِ، ضحكتكِ، حركتكِ، وتلقائيتكِ... كنت بحفظهم."
توقف قليلًا، ثم أكمل بصوت تغلفه مشاعر الامتنان:
"لكن الحمد لله، ربنا بيحبني وبيحبكِ لأنه جمعنا تاني. وإن شاء الله، أعوضكِ عن كل اللي فات."
مي، وقد تذكرت حديث والدتها، تحدثت بصوت هادئ مفعم بالتأمل:
"وأنا كمان أخطأت في حق ربنا... تأخيري في ارتداء الحجاب كل السنين دي، ورفضي لكل محاولاتهم في البيت لإقناعي بلبسه، بحجة إني لسه صغيرة، أو لما أتجوز هلبسه، أو لما أقتنع بيه الأول... كل ده كان خطأ مني، لكن رجعت لربنا، وفعلا ربنا غفور رحيم."
توقفت للحظة، ثم أكدت بحزم:
"لكن الأهم إننا نثبت... وما نرجعش لنفس الخطأ والمعصية تاني. لأن وقتها، لا أنا هسامحك، ولا هيبقى فيه فرصة تانية!"
بقلم شروق مصطفى
معتز، وقد ارتسمت الجدية على ملامحه:
"إزاي تقولي كده؟! مش بعد ما ألاقي الذهب في إيدي أروح أدور على الفالصو! أنا نويت، بإذن الله، نبدأ حياتنا مع بعض، ونعمل عمرة، ونرجع كأننا لسه مولودين من جديد، زي خلقتنا الأولى."
مي، مبتسمة بعدما لاحظت أنه لا يزال يحتفظ بخاتمه:
"حاجة كويسة جدًا... ياريت بجد ن..."
لكنها لم تكمل حديثها، إذ قطع كلمتها وقوف معتز فجأة، مبتسمًا لشخص ما. تتبعت عيناه، لتجده هيثم يدخل في أحضانه، يربت على ظهره ويبارك له:
هيثم، بفرحة صادقة:
"كان قلبي حاسس إنكم هتتصافوا... مبروك!"
جلس، ثم نظر إلى أخته مازحًا:
"نقول مبروك؟ أنا شوفت كل حاجة... كنت قاعد ورا، وشوفت معتز وهو بيتنطط!"
احمر وجه مي خجلًا، فقد فهمت الآن ما قصده بكلامه قبل دخولها للمكان، وعلمت أنه كان جزءًا من هذه الترتيبات.
معتز، وقد عادت الحياة إلى وجهه من جديد، ممتنًا:
"أنا بجد مش عارف أشكرك إزاي على وقوفك جنبي، ومساعدتك ليا."
هيثم، بابتسامة أخوية دافئة:
"يا بني، إحنا إخوات، وبعدين، لو كنت لاقيتك مش مناسب، أو إنك شاب طايش وتافه زي معظم شباب اليومين دول، مكنتش ساعدتك. لكن أنا شوفت فيك إنك راجل، أد المسؤولية، ويُعتمد عليك، وهتشيلها في عينيك."
معتز، متحمسًا:
"طيب، أقدر أتقدم رسميًا للبيت إمتى؟"
هيثم، ممازحًا:
"تتقدم إيه! ما أنتو لابسين خواتم الخطوبة، ولا استنى ألبس نظارة وأتأكد؟!"
قهقه ضاحكًا عندما أخفت مي يدها أسفل الطاولة، وشاركهما معتز الضحك، ثم نظر لها بحب، ولاحظ احمرار وجنتيها.
معتز، محاولًا كبح حماسه:
"طيب، نحدد كتب الكتاب إمتى؟ بلاش تأخير، كفاية كل اللي مرينا بيه. إيه رأيكم الخميس اللي بعد اللي جاي؟"
هيثم، معترضًا بلطف:
"إنت مستعجل ليه كده؟! مش لما عاصم يرجع بالسلامة هو ومدام سيلا الأول، وبعدين تكتبوا كتابكم؟ ولا إيه؟"
مي، متدخلة برأيها:
"آه، صح! مفيش حاجة هتتم غير برجوع سيلا."
معتز، موافقًا بعد تفكير:
"اللي أنتم شايفينه مناسب. أنا هكلم عاصم وأبلغه، وأعرف هينزل إمتى."
هيثم، ناهضًا من مكانه:
"على خير الله... إحنا هنمشي دلوقتي، لأني عندي شغل تاني في العيادة. يلا بينا يا مي."
معتز، مبتسمًا لها بجاذبية:
"ماشي... مع السلامة."
غادروا المكان، بينما أخرج معتز هاتفه ليهاتف أخيه عاصم، الذي فرح كثيرًا لفرحته. أبلغه عاصم بموعد رجوعهم، فأغلق معه معتز الهاتف، متنهدًا براحة واطمئنان. دفع الحساب، التقط متعلقاته، ثم غادر، حاملًا بداخله أملاً جديدًا لحياة قادمة