رواية وانصهر الجليد الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم شروق مصطفي


 رواية وانصهر الجليد الجزء الثاني2 جمر الجليد الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم شروق مصطفي

شعرت بسائل دافئ ينهمر من أنفها، ولم تدرك أنه دمها الذي يعكس عمق جرحها الداخلي. غشاها السواد، سواد كثيف ابتلع كل ما حولها، وسقطت في غياهب اللاوعي، حيث لم تعد تشعر بشيء سوى فراغٍ موحش.


اتسعت عيونه فزعًا، وارتعدت أوصاله. لم يشعر بحاله إلا عندما وصل، اندفع بسرعة ودفع الباب بكل قوته باستخدام إحدى أكتافه حتى انفتح الباب على مصراعيه. اندفع نحوها ليجدها غائبة عن الوعي، كما لو كانت خرقة بالية. لم يتحمل رؤيتها هكذا، فاندفع نحوها بهستيريا، لم يعي ما يفعله. جذبها إلى أحضانه، ولم يخطر بباله أن يقدم لها الإسعاف. توقف عقله لحظة، نسي كل ما تعلمه عن الإسعافات الأولية.


"لا، لا، لا! أنتِ هتعيشي! أنا جيت، أنتِ بردانة، صح؟ آه، أنتِ في حضني! اصحي، أنتِ مش بتردي ليه؟ سيلا، ردي عليا عشان خاطري."


صوته كان مليئًا بالذعر والرجاء. "كده هتسيبوني لوحدي تاني؟ مش بعد ما لاقيتك هتسيبيني! مش هسمحلك تسيبيني فاهمه؟"


كان يبكي لأول مرة بحرقه أمامها، يخاف من ضياعها. ظل يهزها بين يديه، وهي تتحرك معه كأنها خرقة، يصرخ "ما تسبينيش! لا! اصحي، أنتِ هتعيشي فاهمة؟ هتعيشي! افتحي عنيكِ! مش هتسيبيني بعد ما لاقيتك، سيلا!"


عقله توقف عن التفكير فجأة، فاق من غيبوبته ورفعها برفق على السرير، محاولًا تثبيت رأسها إلى الوراء ليتوقف النزيف. تحسس نبضها، فوجد أنه منخفض جدًا. نهض بسرعة واحتار، ثم جذب شعرة برأسه بعنف، وتوجه إلى المطبخ ليحضّر كوبًا من الماء والسكر. حملها بأحدى ذراعيه وناولها القليل من الماء، ثم ظل يمسك برأسها لتمتصّه، وكرر المحاولة مرات حتى تحركت جفونها وأحست بحركة.


فوجئت بوجوده بجانبها، ونطقت بتلعثم: "ع... عاصم! أ... أنت جيت هنا"


أعادت له الحياة مرة أخرى. جذبها بقوة إلى حضنه، يخبئها بين ضلوعه، وهمس في أذنها بنبرة ألم: "ما تسيبينيش! كنت هموت لو حصل لك حاجة. ارجوكِ، ما تبعديش عني. هفضل جنبك وفي حضنك، ومش هسيبك تاني أبدًا."


أخرجها من حضنه ونظر إليها بنظرات مليئة بالشوق والحب، كأنما يحفظ معالم وجهها. "أوعي تعملي كده تاني، فاهمة؟ أوعي تسيبيني تاني."


لم تستوعب الكلمات تمامًا، فقط كانت تراقب عينيه باستغراب.


قال عاصم بحزم: "عايزك ترجعي سيلا القوية، مش اللي شايفها دلوقتي، سامعة؟ حتى لو وصلنا لحد أنك تحاربيني من شغلك تاني، فاهمة؟"


نظرت إليه بصدمة، لم تصدق أنه بجانبها الآن، في حضنه. هل هو شعور حقيقي أم حلم ستستفيق منه لتبقى وحيدة كما كانت؟ لكن خفقات قلبها المتسارعة أكدت لها أنه هنا بالفعل. عندما وجدها صامتة، أعاد تكرار كلامه وحركها برفق: "فاهمة؟"


ابتسم لها ابتسامة شاحبة، وهزت رأسها بالإيجاب: "فاهمة... بس مش هتحبسني وتضربني تاني!"


قال عاصم بتأكيد: "عمري ما همد إيدي عليك تاني، تتقطع إيدي لو لمستك تاني..."


قالت سيلا بلهفة، خوفًا عليه: "لا، بعد الشر عليك."


أمسك يدها وقبلها برفق: "من النهاردة مش هتكوني لوحدك تاني أبدًا. رجلي على رجلك، وعنادك ده ليه تصرف تاني معايا."


صمتت ولم تعلق. حملها من على الفراش، شهقت سيلا ومدت يديها حول رقبته خوفًا من أن تسقط، فقال لها بابتسامة: "طول ما انتي معايا، مفيش حاجة اسمها لا."


ابتسمت له سيلا، ودفنت وجهها داخل صدره خجلًا من كلامه، ولكن لم يمر وقت طويل حتى غفت من شدة إرهاقها.


حينما شعر بارتخاء رأسها، نظر إليها بابتسامة رقيقة عندما رآها تنتظم أنفاسها وتغفو. "عادتك، ولا هتشتريها."


ابتسم ثم خرج برفق، وضعها في السيارة، أغلق الباب، ثم دخل الشاليه وأخذ متعلقاتها وكل حاجياتها، وكذلك الكاميرات التي زرعها هناك، ثم خرج وركب السيارة وانطلق بها بعيدًا.


السابعة مساءً، صوت الهاتف يرن بجانب وليد...

 بنعاس: "الو مين؟"

جاء صوت عاصم من الطرف الآخر: "صحصح يا ض، حد ينام الوقت ده؟ اصحى بدل ما أجي أفوقك بطريقتي."


وليد بفرك عينيه ونظرة دهشة على وجهه وهو ينظر لشاشة هاتفه: "عاصم؟ أخيرًا يا بني، فينك؟ أقلقتنا عليك!"


عاصم بتنهيدة خفيفة: "خلاص فوقت... طيب اسمع كويس، أنا لاقيت سيلا..."


وليد يقاطعه بفرحة عارمة: "بجد؟ قول والله! لقيتها فين؟"


تململت همسة بجانبه وجلست تستمع.


عاصم تابع: "إحنا في إسكندرية وراجعين الفيلا، قدامنا ساعتين. فوقوا وتعالوا بسرعة، في موضوع مهم، وهمسة لازم تكون موجودة. وكلم معتز، بلغوه إحنا جايين، موبايلي هيطفى."


وليد: "حاضر حاضر."


أغلق المكالمة...


همسة بفرحة وهي تصفق: "بجد؟ لاقوها؟ الحمد لله! أنا فرحانة أوي أوي!"


ثم اندفعت تقبله على وجنته من شدة سعادتها.


وليد، وقد تفاجأ بما فعلت، أمسك وجنته: "عيدي تاني اللي عملتيه!"


همسة بمكر وضحكة: "إيه؟ أنا فرحانة أوي!"


بدأت تصفق وتضحك، مقلدة حركتها السابقة.


وليد بغضب مزاح: "ما تلعبيش يا بت! اللي بعدها بقا... اللي خبط هنا." وأشار إلى وجنته.


همسة باندهاش مصطنع: "أنا؟! لا، لا، معقول!"


ثم قامت بسرعة تغير الموضوع: "السّاعة كام؟ يلا، يلا، اطلع بره عشان ألبس ونروح لهم!"


لكنها توقفت فجأة متذكرة شيئًا: "إحنا هنا رايحين بيتنا ولا عندهم؟ مش مهم، المهم إن عاصم جايبها!"


همت لتبديل ملابسها، لكنه أمسكها لتجلس مجددًا.


همسة بملل: "إيه يا وليد؟ عايزين نلحقهم، ما فيش وقت يدوبك!"


وليد بمكر: "يدوبك إيه؟ مستعجلة ليه كده؟ قدامهم ساعتين لسه، أنتي عايزة تهربي مني ولا إيه؟"


همسة بتمثيل حزن وهي تمط شفتيها: "إنت مش فرحان برجوعها ولا إيه؟"


وليد بابتسامة ماكرة: "أنا أكتر واحد فرحان. بس قوليلي، هتديني إيه حلاوة رجوعها؟"


همسة بتفكير: "أكيد! لازم يكون فيه حلاوة."


وليد متحمس: "فين بقى؟ أنا مستني على نار."


همسة بابتسامة ماكرة، تقترب منه وتشير إلى عينيها: "عيوني ليك."


ثم قامت فجأة وركضت بعيدة عنه وهي تضحك: "هعملك سندوتش حلاوة حالًا!"


أغلقت الباب وتركته غاضبًا من فعلتها. أمسك الوسادة وضرب بها وجهه وهو يقول لنفسه: "أنا اللي جبته لنفسي."


بعد عدة ساعات...تململت من نومها وهي تشعر بصداع شديد: "آه... دماغي."


نظرت حولها بارتباك: "أنا فين؟ معقول اللي حصل من شوية كان حقيقي؟ طيب أنا فين؟"


بدأت تشتم رائحة عطرة ووجدت بجانبها عاصم، يراقبها بابتسامة.


عاصم بهدوء: "لا، مكنش حلم... كله كان حقيقي."


ثم جذبها بحنان إلى حضنه وهي ترتعش، تبكي، وأخذ يربت على ظهرها: "هشش، خلاص... مش لوحدك دلوقتي. أنا معاكي، ومش هسيبك أبدًا."


حينما هدأت، وضع كفيه على وجنتيها ومسح دموعها. بنظرات مشبعة بالحب، اقترب منها حتى ارتجفت هي خجلًا، لكنه لم يتوقف، وأخذ يبثها مشاعره بقبلاته.


وفجأة... انفتح الباب على مصراعيه، فانتفض الاثنان على الفور.


كان وليد هو من دخل، مبتسمًا: "آسف والله، بس خبطنا كتير،  همسة أسألها."


نهض عاصم متوترًا، بينما اختبأت سيلا تحت الغطاء خجلًا.


وليد بخجل: "سامحني بس اختها عاوزة تشوفها."


خرج عاصم مع وليد، الذي لم يستطع كتم ضحكاته. عاصم بنبرة تهديد: "والله لخبطك في الحيطة!"


لكن ابتسامة عاصم لم تفارقه وهو يتذكر لحظاته مع سيلا.


همسة، وقد بدأت عيناها تلمعان بحزن وعتاب:


"بس أنا أقرب حد ليكي، إزاي متقوليش على تعبك وتسيبيني فجأة كده؟ سيلا، إنتي مش عايشة لوحدك، إحنا كلنا جنبك وحواليكي. أولهم أنا وعاصم ومي. يا سيلا، إنتي مش بس أختي، إنتي أمي الثانية. يعني لازم تحاربي وتحاربي كمان وتبقي أقوى من كده. أنا من غيرك أكون يتّمت للمرة الثانية. أرجوكي، اتحمّلي وحاربي المرض ده. إنتي قوية وهتتغلبي عليه."


سيلا، بابتسامة باهتة:


"حاضر، حبيبتي، هحاول والله."


همسة، بحب وحنان وهي تربت على رأس شقيقتها:


"وأنا موجودة، لو احتجتي إنك تخرجي اللي جواكي، اشكيلي تعبك وهمّك. إحنا مالناش غير بعض دلوقتي. وعاصم بيحبك أوي، متخسروهش بجد."


سيلا شعرت بالندم الشديد عندما أدركت مدى أنانيتها، وأنها فكرت فقط في نفسها وكانت على وشك أن تترك أختها وحيدة للمرة الثانية. جذبت همسة إلى حضنها وبكتا سوياً:


"آسفة... آسفة. حقك عليا. مش هسيبك تاني أبداً. أوعدك."


قطعت هذه اللحظة دلوف مي، التي سعدت كثيراً برؤية سيلا ولم تصدق معتز حين هاتفها وأخبرها بوجودها في المنزل الآن. دخلت مي، ومعها أخوها الذي انتظر في المكتب مع الآخرين.


دلفت مي إلى الغرفة، قفزت على السرير بجانبهم، ونامت وسطهما، وهي تضحك وتمزح:


"وحشتيني أوي أوي يا مضروبة! مش كنتِ خديني معاكي أتفسح بدل التدبيسة اللي اتدبستها مع سي معتز الخنيق ده!"


همسة، رافعة حاجبها:


"تدبيسة؟ طيب والله لأقوله."


مي، بنبرة متعالية وابتسامة واثقة:


"عادي قولي له، ولا يهمني!"


سيلا، بسعادة وهي تنظر إلى مي:


"مي، مبروك الحجاب! شكله جميل أوي عليكي بجد."


مي، بابتسامة سعادة داخلية:


"بجد؟ البركة في همسة، ربنا يباركلها يا رب. ساعدتني. عقبالك يا حبيبتي."


قبل أن ترد سيلا، سُمع صوت طرق الباب، تلاه صوت عاصم يستأذن بالدخول.


"ممكن ندخل؟"


ردت مي وهمسة وسيلا في نفس اللحظة:


"آه، اتفضلوا."


دخل عاصم ومعه وليد وهيثم ومعتز. ثم بدأ عاصم الحديث:


"أحم، أنا جمعتكم كلّكم هنا النهارده عشان أبلغكم حاجة مهمة بلا استثناء حد."


كانت نظراته تتحدى سيلا مباشرة، بعينيه قرار صارم لا يقبل الرفض أو المناقشة:


"كتب كتابي على سيلا بُكره، وكتب كتاب مي على معتز كمان. ووليد وهمسة نعتبرهم في حكم المخطوبين، وفرحنا كلنا لما نرجع أنا وسيلا من السفر. هسافر بُكره أنا وهي بعد كتب الكتاب على طول."


همسة، بسعادة غامرة:


"الله! أحلى خبر بجد! مبروك ليكم كلكم!"


أما وليد، فرفع يده وهو يهزها باستهزاء:


"أنا مش عارف ضمتني ليه، أنا مالي ومالكم؟ أنا راجل اتجوز خلاص!"


ثم أضاف بنبرة ساخرة وهو ينظر إلى همسة:


"فرحانة على إيه ياختي؟"


بدأ وليد بالتمثيل وكأنه يبكي:


"آه يا عيني عليا وعلى بختي المايل! ملحقتش أدخل دنيا، هيدخلوني في خطوبة تاني. مكانش يومك يا وليد!"


وكزه عاصم بكوعه وهمس له بجانب أذنه:


"عشان تخبط قبل ما تدخل زي بقية الناس بعد كده. واسكت بقى فضحتنا. ما إحنا سايبينك ثلاث أسابيع يا حيلتها، جاي تولول دلوقتي ليه؟"


رد وليد بنفس الهمس:


"هتقر ولا إيه؟ ولا تنتقم مني؟ مانا خبط يا رزل."


ثم رفع صوته فجأة:


"لا! أنا برة اللعبة يا عم. مليش فيه."


ثم نظر لمعتز وغمز له:


"فرحان انت طبعاً؟ جات لك على طبطاب، ولا كنت بتحلم؟ جات معاك حلاوة!"


معتز، بحنق:


"هتقر بقى؟ أبعد يا عم عنّا."


أما مي وسيلا، فلم تستوعبا الأمر، إذ نظرتا لبعضهما بدهشة، وفغر فاهما إلى أقصاه، وفجأة...


السادس  وانصهر الجليد

بقلم شروق مصطفى


وليد غمز لهمسة ضاحكًا على هيئتهم وهم مصدومون:

اقفلي بوقهم يا همسة، لحسن حاجة تدخل جواها من كتر الفرحة! مش مصدقين نفسهم يا عيني.


همسة، وهي تضحك بقهقهة:

"لا، دي كمان لسه بتقول كده! تسبيني يا سيلا أدبس في معتز لوحدي؟ اهيه، أدبست وبكرة كمان هتتكتب عليكم زيي!"


مي نظرت لها نظرة نارية وهمست بتهديد:


"ماشي يا سهونة... استني عليّ."


ضحك الجميع عليهم، بينما نظر معتز لمي بتوعد وصمت، مما زاد من توترها.


مي، بتردد وتوتر وهي تخاطب أخيها:


"هيثم... انت وافقت بجد؟ يعني بكرة... بكرة؟"


هيثم أوضح لها بابتسامة خفيفة:


"آه يا ستي، وافقت وكلمت ماما وبلغتها، وقالتلي اللي أشوفه أعمله. الصراحة، عاصم كان بيتكلم عن نفسه، وفجأة معتز تدخل وقال: نكتب  سوا، أخين مع بعض، ونعمل الفرح مع بعض كمان. الفرح هيتعمل لما يرجعوا من سفرهم. فقلت فكرة لطيفة،  يتجوزوا مع بعض. وعاصم دخل وليد في الموضوع كمان، وطالما مفيش فرح لهمسة ووليد، يبقى يتعملوا مع بعض. فوافقت."


همسة، وهي تقف بجانب وليد بسعادة:


"بصراحة، فكرة حلوة أوي يا جماعة. بس أنا اتفقت مع وليد إننا هنطلع عمرة بدل الفرح، بعد ما نلاقي سيلا. فأنا مستنياه ينفذ وعده ليّا."


نظرت إلى وليد بابتسامة حانية:


"صح؟"


ابتسم وليد لها بحنان، وأمسك يدها، وشدد عليها بلطف:


"عاقلة من يومك يا حبيبتي. وأنا عند وعدي."


ثم همس بجانب أذنها بابتسامة ماكرة:


"وعلى وعدي كمان، هخد حلاوتي لما نروح يا جميل."


خجلت همسة ولم ترد عليه.


عاصم، الذي كان يتطلع لسيلا بنظرات عنيدة، شعر بعدم رضاها لكنه قرر تجاهلها هذه المرة:


"خلاص يا وليد، برة عنك الموضوع ده. أبسط يا عم! يلا بينا يا رجالة، إحنا تحت ونسيبهم لوحدهم."


خرج الرجال، وتركوا البنات بمفردهن.


مي قفزت على همسة بمرح:


"والله لأوريكي يا بت! إزاي تسلميلي كده ليه؟"


همسة، وهي تضحك بصوت عالٍ تحت مي:


"مش من شوية كنتِ عاملة سبع رجالة في بعض وبتقولي: قوليله ولا يهمني؟"


مي، بمرح:


"والله لأموت البت دي!"


همسة، وهي تضحك:

"خلاص، خلاص! كنت بغلس عليكِ بس."


قطع ضحكهم صوت اتصال وارد على هاتف مي. نهضت مي من فوق همسة، وعدّلت ملابسها، واستأذنت للذهاب حيث كان أخوها يستعجلها على الهاتف للنزول، فقد تأخر الوقت.


خرجت مي وأغلقت الباب، وبينما كانت تنزل إلى الأسفل، شعرت بشخص يكمم فمها بيده، ويجذبها إلى غرفة مظلمة. شهقت مي، وحاولت الإفلات لترى من هو.


قام الشخص بإدارة وجهها ونظر إليها بنظرة حادة، رافعًا حاجبه:


"بقا أنا تدبيسة، برده؟"


مي، محاوِلة تهدئة توترها:


"أأ... أبدًا! دا... دا أنا كنت بهزر والله. أه، بهزر بس! هي اللي بتغلس عليّا... ب... بس."


معتز، وهو يتأمل وجهها بابتسامة خفيفة:


"بس إيه الحلاوة دي؟ حجابك جميل أوي عليكي. مقولتليش ليه؟"


مي، وهي تزداد توترًا:

"م... مجتش فرصة. جت فجأة."


معتز، وهو يقترب منها بنظراته:


"أفهم من كده إنك موافقة على كتب الكتاب؟"


مي، بتردد واضح:


"مش... مش عارفة!"


معتز، رافعًا حاجبه باستغراب:


"يعني إيه مش عارفة؟! موافقة ولا لأ اظن انا حليت لك نقطة الخروج وكمان صاحبتك ورجعت اظن مفيش اي حجه بعد كده صح؟


مي، بتوتر:

 محتاجة وقت أكتر. نفهم بعض فيه شوية و...

معتز، بنبرة صارمة:


"وإيه؟ اتكلمي!

قبل أن ترد مي، رن هاتفها فجأة داخل حقيبتها، فقفزت:


"أخويا!"

هربت مسرعة إلى الأسفل دون أن تعطيه فرصة للرد.

ابتسم معتز داخليًا لخجلها، وظل يدندن بلحن هادئ، ثم دخل غرفته.


بعد فترة، استأذنت همسة بالخروج بعد اتصال من وليد

سيلا، وهي تمسك بيدها:


"رايحة فين؟ ما تمشيش وتسيبيني. خديني معاكي! أنا خايفة أقعد هنا لوحدي."


همسة، مبتسمة:

"إنتِ مش لوحدك. متقلقيش يا ستي. مش هتأخر، هشوف بس وليد عاوز إيه وراجعالك على طول."


سيلا، بتردد:

"طيب..."

خرجت همسة تبحث عن وليدها،  ثم

دلف عاصم إلى الغرفة بعد أن خرج الجميع، يحمل صينية بها بعض الأطعمة الصحية ومشروب طبيعي. وضع الصينية على المنضدة، وألقى نظرة على سيلا التي كانت مغمضة العينين، تدعي النوم. اقترب منها بخفة، متأملًا وجهها، ولاحظ ارتعاش جفونها. انحنى بجذعه نحوها بخبث وخطف قبلة من شفتيها، ما جعل عينيها تبرقان من الصدمة.


تراجعت بسرعة وهي تضربه بصدره ليبتعد، فابتعد عنها وهو ينظر إليها بتسلية واضحة:


"هتخمي تاني؟ طيب هعملها تاني زي المرة اللي فاتت! أنا مستعد... ها؟"


اعتدلت سيلا في جلستها على الفراش، ووضعت يدها على شفتيها تمسح مكان قبلته بغضب:


"إنت قليل الأدب قوي! وبعدين... أنا مش موافقة على كتب الكتاب برده!"


عاصم، بنبرة تحمل غضبًا مكتومًا:


"تاني عنادك ده يا سيلا؟"


سيلا، وهي تحاول تهدئة الموقف:


"اسمعني الأول... ده مش عناد. بص، أنا موافقة على جوازي منك، لكن... بشرط!"


عاصم، مستغربًا:


"شرط؟ وشرطك إيه بقى؟"


جلس بجانبها على الفراش، وربّع يده وهو ينظر إليها بجدية:


"سمعيني."


سيلا، بتردد واضح:


 يعني لما أخلص العلاج الأول. ولو عشت... ساعتها نكتب الكتاب. وأنا... أنا هبقى موافقة.


قبل أن تنهي كلامها، انتفض عاصم بغضب، وانقض عليها يمسك ذراعيها بعنف، يهزها وهو يصرخ بصوت عالٍ:


"سيلا! إياكي... إياكي تتكلمي في الموضوع ده تاني! فاهمة؟ متجيبيش سيرة الموت دي على لسانك أبدًا، فاااهمة؟"


أغلقت عينيها، والدموع تغمر وجهها من شدة صراخه وقبضته التي تركت أثرًا على ذراعيها. انتحب صوتها وهي تستجديه:


"أ... آسفة. مش هقول كده تاني... بس سيب إيدي."


انتبه عاصم لما فعله، وأدرك حجم غضبه الأعمى الذي أفقده السيطرة. تركها فورًا ونهض مبتعدًا، واضعًا يديه على رأسه، يشد شعره بقوة كأنه يعاقب نفسه. ظل يتحرك في الغرفة ذهابًا وإيابًا، يتنفس بصعوبة ويحاول استيعاب ما حدث.


سيلا ارتمت على الوسادة، تمسك الملاءة بيدها وتنتحب بصوت مرتفع، شهقاتها تمزق قلبه. لم يستطع احتمال رؤيتها في هذا الحال. اقترب منها مجددًا، وجذبها إلى صدره، يضمها برفق محاولًا تهدئتها:


"آسف... حقك عليا، والله ما قصدت أؤلمك."


همس بجانب أذنها برجاء:


"بس بالله عليكي متجيبيش سيرة الموت دي تاني. إنتي هتعيشي، وهنتجوز، وهنجيب عيال كتير... كتير أوي. مش هسمحلك تسيبيني، فاهمة؟"


هزت رأسها موافقة، وعينيها تغمرها الدموع، بينما كانت مستلقية على كتفه بخجل. ابتعدت عنه قليلًا وهي تمسح دموعها بيدها.


عاصم، وهو يبتسم لها بحب:


"خلاص، كفاية دموع. دموعك دي شبه الكرز... عارفه إني مش بعرف أقاومها. فهتمسحيها إنتي ولا أنا اللي أعملها زي مرة اللي فاتت؟ 


اقترب منها ممازحًا، فغطت وجهها بيديها بخجل واضح:


"لا، لا خلاص! مسحتهم أهه."


أصدر عاصم ضحكة رجولية عالية:


"طيب خلاص، مش جاي جنبك. بس شوفي، الأكل برد... أخلي دادا فاطمة تسخنهولك تاني؟"


سيلا رفعت يدها تشير برفض:


"لا، ملوش داعي. أنا تعبانة وعاوزة أنام. أصلاً مليش نفس للأكل خالص."


كادت أن تستلقي لتنام، لكنه استوقفها بخبث:


"مفيش نوم. كلامي يتسمع. إلا لو... إنتي حابة؟"


اقترب منها بخبث واضح، فابتعدت للخلف حتى اصطدمت بظهر الفراش. غطت شفتيها بيديها، وقالت بسرعة:


"لا، لا! خلاص، هسمع كلامك. هاكل الأكل. فين؟ ده أنا جعانة أوي!"


ابتسم عاصم بحب لطريقتها الطفولية:


"شطورة. طيب، هقوم أبدله لك واجي تاني. بس ياريت لما أرجع ألاقيكي نايمة."


قال جملته الأخيرة وهو يغمز لها، ثم خرج من الغرفة وهو يضحك بصوت عالٍ، مغلقًا الباب خلفه.


وضعت سيلا يدها على قلبها الذي كان يخفق بشدة من فرط قربه لها. لمست شفتيها غير مصدقة لما حدث، وهمست بابتسامة خجولة:

"مجنون بجد."


مساءً داخل منزل مي جلست نبيلة تتحدث إلى ابنتها مي بنبرة حازمة:


"هاتي يا مي تليفونك، نكلم عمك ونقوله إننا هنعدي عليه بكره عشان نكتب كتابك، ونكلم خالاتك كمان عشان ما يزعلوش مننا. ولو مجوش النهارده، أهم يجو في الفرح. بس أهم حاجة عمك."


أومأت مي برأسها موافقة، ثم نهضت متجهة إلى غرفتها لتجلب هاتفها. ولكن ما إن فتحت باب الغرفة حتى وجدت شيئًا ما قلب كل الموازين...


---


في مساء اليوم التالي، كان معتز يحاول الاتصال بمي منذ الصباح، لكن دون جدوى. تكررت محاولاته عبثًا، فالخط ظل يرن بلا إجابة، مما زاد قلقه. لم يكتفِ بذلك، بل حاول الوصول إلى أخيها هيثم، لكنه لم يفلح في البداية أيضًا.


ظل القلق ينهش قلبه حتى أجاب هيثم أخيرًا، لكن صوته حمل إرهاقًا واضحًا واعتذارًا ثقيلًا:


"معتز، آسف، مش هنقدر نحضر كتب الكتاب النهاردة. حصلت ظروف عندنا."


شعر معتز بانقباض في صدره، فسأله بلهفة:

مالها حصل أية؟ 


جاءه صوت هيثم متعبًا ومهزوزًا:


"مي في المستشفى، لحد دلوقتي مش عارفين عندها إيه. فجأة أغمى عليها ووقعت، ولما فاقت، مش بتتكلم. قضينا الليلة هناك تحت الملاحظة."


تسارعت أنفاس معتز، وارتعش صوته وهو يسأل:


مستشفى إيه؟ أنا جايلك حالًا!


لكن هيثم قاطعه بحزم:


"معتز، خليك مع أخوك في كتب الكتاب. إحنا لسه خارجين من المستشفى، وعشان كده التليفونات كانت بره التغطية. الدكتور وصانا إنها لازم ترتاح من غير أي ضغط نفسي."


حاول معتز أن يتمالك نفسه، لكنه لم يستطع إخفاء توتره:


"طيب، هخلص كتب كتاب عاصم  وهكلمك تاني. بس بالله عليك، طمّني أول ما يبقى في جديد.


أغلق الهاتف، لكنه ظل ممسكًا به بقوة، وكأنّه يتشبث بأمل خفي. شعر بانقباض غامض في قلبه، إحساس مبهم لم يفارقه. أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا استجماع شتات أفكاره، قبل أن يتحرك إلى مكان عقد القران، وهو يدعو في سره أن تكون بخير.

---

في منزل عاصم، استعدادًا لكتب الكتاب حضر المأذون، والجميع كان متأهبًا لهذه اللحظة السعيدة. انتهت الإجراءات الأولية، وبدأت اللحظة الحاسمة عندما طلب المأذون توقيع العروس.


دخلت سيلا وجلست بجانب المأذون، ملامح التردد واضحة على وجهها، كأنها مجبرة على ما يحدث. في داخلها، كانت تخشى أن تصدم عاصم أو تتركه وحيدًا يعاني فراقها. لم تكن تريد أن يتعلق بها أكثر مما هو عليه.


نظرت إلى جميع الوجوه المحيطة بها، وبالأخص وجه همسة التي بدت طائرة من السعادة. الجميع كان ينظر إليها بتوتر بسبب تأخرها في التوقيع.


ثم رفعت عينيها إلى عاصم، الجالس في المقابل. كانت نظراته مملوءة بالاطمئنان، يحثها على الموافقة بحركة بسيطة من رأسه.


تدخل المأذون بحزم:

"يا بنتي، لو موافقة على الزواج، وقّعي. لا إجبار في الزواج."


نظرت سيلا إلى عاصم مرة أخرى، ووجدت في عينيه أمانًا غريبًا. بدا كأنه يرجوها بالموافقة. بيد مرتعشة، ودموع تلمع في عينيها، أمضت توقيعها أخيرًا.


أعلن المأذون بصوته الجهوري:


"بارك الله لكما وجمع بينكما في خير. ألف مبروك."


انطلقت التهاني والمباركات من الجميع. رودينا وعامر قدما تهانيهما، وأطفالهم كانوا يمرحون في المكان، يضفون أجواءً من البهجة. الجميع كان سعيدًا بزواجهما، متمنين لهما حياة مليئة بالفرح.


---

احت*ضن معتز أخاه بحرارة وهو يقول بصوت مفعم بالفرح:

"مبروك يا حبيبي."


ثم تابع بلهجة تخفي وراءها قلقًا كبيرًا:

"أنا لازم أمشي دلوقتي وأروح أشوف مي وأطمن عليها."


غادر معتز المكان، وفي داخله شعور بالهموم المتراكمة، لكنه حاول أن يبدو قويًا، متوجهًا لمقابلتها ومواساتها.

.... 

عندما التفت لها، وجدها تجلس بصمت، تتجنب النظر إليه، وعلامات التوتر ظاهرة عليها. جلس بجانبها بهدوء، وأمسك يدها بحنان في محاولة لبث الطمأنينة في قلبها.


وجه حديثه للجميع بابتسامة حاول أن يجعلها طبيعية:

أحب أقول للكل إني أنا وسيلا هنسافر إن شاء الله بكرة، عندي شغل برا ومش هقدر أسيبها لوحدها هنا. أول ما نرجع، إن شاء الله هنعمل فرحنا كلنا سوا.


رد الجميع بصوت واحد:

"إن شاء الله تيجوا بالسلامة."


بعد ذلك، استأذن وليد وهمسة وغادرا بعد الاطمئنان عليهما، استعدادًا لرحلتهما القادمة لزيارة بيت الله الحرام.


قبل المغادرة، احتضنت همسة سيلا بقوة وهي تقول بسعادة غامرة:

"مبروك يا حبيبتي، ألف مبروك! تيجي بالسلامة، وأنا هبقى أكلمك أول بأول، ولو عاوزاني أجي معاكي قوليلي."


ردت سيلا بابتسامة باهتة:

"لا خليكي مع جوزك، وما تنسنيش تدعيلي هناك."


ابتسمت همسة وأومأت:

"حاضر يا حبيبتي."


ثم وجهت حديثها إلى عاصم بحزم:

"خلي بالك عليها."


ابتسم عاصم بثقة وقال:

"إزاي مش هخلي بالي من نفسي؟! اطمني وسافري إنتي ووليد، عمرة مقبولة إن شاء الله."


ثم نظر إلى سيلا بنظرة عميقة وأضاف:

"أنا وسيلا إن شاء الله أول ما نرجع هنا هنطلع نعمل عمرتنا كمان."


رفعت سيلا عينيها ونظرت إليه بخجل، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة.


بعد أن غادر الجميع، أمسك عاصم يدها بلطف، بعدما لاحظ ارتجافها الواضح وتوترها. صعدا معًا إلى الغرفة، حيث أغلق الباب خلفهما بهدوء، محاولًا تهدئتها. قال بصوت دافئ:

"مبروك يا حبيبتي... أخيرًا بقيتي ليا."


تلعثمت سيلا، غير قادرة على الرد، بينما كان التوتر والخوف واضحين في عينيها.


تنهد عاصم بحنان وأمسك وجنتيها بلطف، قائلًا:

"سيلا، حبيبتي، اهدي... أنا مش عاوز منك حاجة غير إنك تكوني مطمئنة معايا. أوعي أشوف نظرة الخوف دي في عنيكي. متخافيش مني، يا روحي."


ثم أضاف بصوت مفعم بالصدق:

"أنا وانتي بقينا واحد، مفيش حاجة هتفرق بينا بعد النهارده، فاهمة؟"


ابتسمت سيلا بخجل، وقد بدأ قلبها يشعر بالدفء والأمان بين يديه.


شعر عاصم بتوتر سيلا وخوفها منه، فتنهد بعمق وقال بصوت هادئ مليء بالحنان:

"سيلا، حبيبتي، اهدي... أنا مش عاوز منك حاجة، بجد، غير إني أكون سند ليكي. أوعي أشوف نظرة الخوف دي في عينيك، متخافيش مني يا روحي."


أمسك وجنتيها بحنان، محاولًا أن يُشعرها بالأمان:

"أنا وإنتِ بقينا واحد، فاهمة؟ مفيش فرق بينا."


شعر برجفتها الواضحة، فمد يده وجذبها لتجلس بجانبه على الفراش، ثم جلس بجوارها وقال بصوت واثق مليء بالدفء:

"سيلا، أنا مش هجبرك على أي حاجة، صدقيني. مش هضغط عليكي في حاجة. خلينا نكون أصدقاء... إيه رأيك؟"


لاحظ صمتها المستمر، فتابع حديثه بابتسامة خفيفة:

"سيلا، مهما حاولت أشرح لك اللي جوايا، مش هعرف أوصفه بالكلام. بس هتلاقي مواقف كتير تثبت لك اللي بحسه."


ثم أمسك يدها برفق ووضعها على صدره قائلًا:

"حسي بده... اسمعي نبضه... يمكن تتأكدي من إحساسي. بجد، مش عارف أشرح بس قلبي بيعشقك."


شعرت بنبضات قلبه السريعة التي تكاد تخرج من مكانها، ورفعت عينيها لتنظر إليه، لا تجد سوى الصدق والدفء في عينيه.


تابع عاصم حديثه بصوت مفعم بالإخلاص:

"سيلا، أنا قبل ما أكون زوجك، فأنا حبيب بيعشقك. وهكون ليكي أب للسند والأمان، وصديق دايمًا موجود عشان يدعمك."


ثم أضاف بابتسامة مرحة:

"وحتى أم لو تحبي، لأي نصيحة محتجاها. وأخ كمان دايمًا في ظهرك."


ضحك بخفة وهو يكمل:

"وأخت برضه لو عايزة، عشان تحكيلي كل حاجة من غير خجل."


ثم عاد وأمسك وجنتيها بحب حقيقي وهو يقول:

"أنا كل حاجة ليكي، حاولت أفهمك ده قبل كده، بس إنتِ ما كنتيش بتديني فرصة."


ابتسم لها، وحاول أن يطمئنها أكثر:

"مش عايزك تفكري في أي حاجة وأنا معاكي. ارمي وجعك وهمومك عليا، احكيلي ألمك، وطلعي كل اللي جواكي. الحياة الزوجية مشاركة... شاركيني كل حاجة فيكي، وجعك قبل فرحك. وأنا مش هجبرك تحبيني، بس سيبيني أكون عيلتك وسندك اللي تعتمد عليه."


أخيرًا، خرج صوتها المتردد وهي تنظر إلى عينيه وتجد فيهما الصدق الذي طالما بحثت عنه. همست بصوت خافت:

"ممكن... تحضن..."


لكنها لم تكمل جملتها، إذ جذبها عاصم إلى حضنه بعفوية واحتضنها بقوة، حتى شعرت وكأنها تختبئ داخل أضلعه.


لأول مرة، خفق قلبها بشدة، وشعرت برغبة حقيقية في حضنه ولمسته. رفعت رأسها قليلًا وهمست بجانب أذنه بكلمة مكونة من أربع حروف، لكن وقعها كان كالسحر:

"ب...ح...ب...ك."


تصلب جسده فجأة، وشعر بتيار كهربائي يسري في عروقه. لم يصدق أذنيه، هل سمعها فعلًا؟ أم أنه يتخيل؟! نبضات قلبه تسارعت، وحرارة أنفاسها التي لامست أذنه أشعلت مشاعره.


أمسك بها أكثر، وكأنه يخشى أن تكون مجرد حلم قد يتبخر، ثم همس بصوت مليء بالعشق:


"سيلا... كرريها، عايز أسمعها مليون مرة ومش هشبَع."


انتزعها من بين أحضانه فجأة، ونظر داخل عينيها الرماديتين بلهفة، وكأنه لم يصدق ما سمع. تحدث بصوت يملؤه الشوق، متلهفًا لسماعها مرة أخرى:


"قلتي إيه؟!"


خجلت، وأخفت وجهها داخل أحضانه، تستنشق رائحته التي تبعث فيها الطمأنينة والدفء. لكنه لم يصمت، فقد كان متعطشًا لسماعها مرة أخرى من بين شفتيها:


"يا الله، قلتي إيه؟! قوليها تاني، أنا مش مصدق إنك قولتيها!"


هو قد سمع اعترافها من قبل، عندما زرع جهاز التصنت، لكن الآن… تعترف له أمامه، بلا خوف أو تردد.


جذب رأسها بين كفيه، نظر داخل عينيها بعشق، وبريقهما يعكس مشاعره العميقة، اقترب منها أكثر، وأنفاسه الساخنة تلفح وجهها وهو يهمس برجاء:


"قولي اللي قولتيه تاني… عشان خاطري."


ابتسمت سيلا برقة، وحاولت أن تخفض رأسها خجلًا، لكنه لم يسمح لها بذلك، رفع ذقنها برفق وأجبرها على النظر في عينيه. كانت لغة العيون كافية لتبوح بكل شيء، حتى نطقت أخيرًا من أعماق قلبها، بصوت مرتجف وابتسامة تتراقص على شفتيها:


"ب...ح...ب...ك."


في لحظة، أمسك خصرها ورفعها عاليًا، دار بها في الهواء بينما تعالت ضحكاتها العذبة، أمسكته من عنقه تلقائيًا، وهي تصيح بين ضحكاتها:


"كفاية، كفاية يا مجنون! هدوخ كده، أنا مش قادرة بجد، نزلني يا عاصم بقى!"


أنزلها أخيرًا، وهو يضحك بانتصار:


"أخيرًا! دا إنتي نشفتي ريقي، يا شيخة! يا إيه؟! قلتي إيه؟!"


وضعت إصبعها على شفتيها، تتظاهر بالتفكير:


"مممم... مش فاكرة؟"


نظر إليها عاصم بإصرار، وعيناه تلمعان بدهاء:


"لااا، نطقتِ اسمي... دي أول مرة أسمع اسمي من قلبك! قوليها تاني."


أمسك وجنتيها بين يديه، وعيناه تتغلغلان في أعماقها:


"قوليها تاني، سيلا."


احمرّ وجهها خجلًا، وهمست بصوت يكاد لا يُسمع:


"بس بقى يا عاصم، بتكسفني! هرجع في كلامي تاني، إنت حر!"


أطلق ضحكة رجولية من أعماق قلبه، قبل أن يرد بلهجة مازحة، لكنها تحمل الكثير من الجدية:


"لأاا، مفيش رجوع تاني! انسي… انتي ملك لعاصم دلوقتي، وأصبحتِ من ممتلكاته الخاصة."


نظر إلى ملامحها، فرأى الإرهاق بادٍ على وجهها، شعر ببعض القلق، فأردف بحنان:


"ارتاحي شوية، وبعدين نجهز شنطنا، ماشي؟"


لم يمنحها فرصة للاعتراض، بل حملها بين ذراعيه برفق، ووضعها على الفراش، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، قبل أن يدثرها جيدًا بالغطاء.


استلقى بجانبها، شعر بارتجافها الخفيف، فضمها إليه بحنان، ولف يده حول خصرها بحماية، حتى انتظمت أنفاسها، واستسلمت للنوم بين أحضانه.


ــــــــــــــــــــــ

داخل السيارة مالت برأسها على النافذة، حيث كانت جالسة في الخلف، شاردة الذهن، وعيناها تأبيان تصديق ما رأته… ما شاهدته كان يفوق قدرتها على الاستيعاب.


عادت بذاكرتها إلى ما حدث أمس، حين نهضت داخل غرفتها لجلب الهاتف لوالدتها لمهاتفة عمها ليحضر كتب الكتاب، لكنها انتبهت إلى وصول رسالة وسائط. قامت بفتحها، ويا ليتها لم تفعل…


انصدمت من هول ما شاهدت

عقلها الصغير لم يحتمل رؤية تلك المشاهد اللعينة—امرأة شبه عارية، وشخص يقترب منها، يعذبها بوحشية، ينزع حزام بنطاله، ينهال عليها ضtربًا بلا رحمة، وكأنه يتلذذ بتعذyيبها وإيلامها. صراخها لم يهدأ، توسلاتها لم تجدِ نفعًا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد… بل قام بالاعتtداء عليها بكل عنف وساtدية، حتى انقطع صوتها من شدة الألم والصراخ، وتركها تنزف من كل اتجاه.


لكن الأشد قسوة مما رأته… كان هوية ذلك الجلاد.

 رأت وجهه بوضوح، لم يكن سوى معتز.


شهقت، وارتجفت يداها، وسقط الهاتف من يدها، بينما همست باسمه بنبرة مرتجفة:


"م... م... معتز؟!"


هرعت والدتها إلى غرفتها فور سماعها صوت الارتطام بالأرض، وهتفت بهلع:


"مالك يا بنتي؟! فيكي إيه؟! الحقني يا هيثم، أختك مش بتنطق!"


---


في المشفى خرج الطبيب، ونظر إليهم بوجه متزن، ثم قال:


"انهيار عصبي، نتيجة تعرضها لضغط نفسي شديد، أو سماعها لشيء صادم. عطيناها حقنة مهدئة، وهتفوق بكرة بإذن الله. أرجو أن تحرصوا على إراحتها، وأبعدوها عن أي شيء يسبب لها التوتر أو الضيق."


نظر هيثم إلى والدته، ثم قال بتفكير:


"ممكن تكون لما عرفت إن كتب الكتاب قرب، ده اللي خلاها تتوتر… بس كنت فاكر إنها هتفرح، مش هتزعل كده! شكلنا اتسرعنا، كان لازم نديها فرصة تهيئ نفسها، ولا إيه؟"


تحدثت الأم بقلة حيلة:


"ممكن يا بني… وأنا هحاول أفهمها، ربنا يكتب الخير."

---

وانصهر الجليد حصري بداخل الصفحة قصص الحياة 

عادت إلى الواقع عندما استمعت إلى صوت أخيها وهو يعتذر عبر الهاتف عن سبب عدم حضورهم، لكن ما جعلها تنتفض هو نطق اسمه من فم هيثم.


تألم قلبها، وكأن جرحها نزف من جديد… كيف تأمن على نفسها مع هذا الساtدي؟ كيف كادت أن تقع في شِراكه؟! أليس الله له حكمة في كل شيء؟! هذه رسالة منه لتحمده أنها لم تسلك ذلك الطريق…


لكنها لم تستطع السيطرة على جسدها عندما سمعت أن معتز سيأتي بعد قليل إلى المنزل.


تملكتها رجفة عنيفة، وقشعريرة سرت في جسدها كله، حاولت أن تلتقط أنفاسها، لكن أنفاسها باتت متلاحقة، وضاق صدرها حتى شعرت أنها تختنق، يعلو ويهبط بشكل غير طبيعي.


أدركت والدتها ذلك، فهتفت بخوف:


"مالك يا بنتي؟! فيكي إيه؟! وقف العربية بسرعة يا هيثم!"


ما إن توقفت السيارة، حتى هرعت الأم إلى الخلف، وجلست بجانبها، احتضنتها بقوة علّها تهدأ، بينما تهمس بحنان وقلق:


"نفسي أعرف إيه حصلك بس يا ربي… كان مستخبي لك فين ده؟!"


شدت عليها أكثر، تربت على ظهرها بحنان، وهمست بحب:  

أهدي أهدي يا قلب أمك دا كله هيروح يا ضنايا... 


خرج معتز بعد إتمام كتب كتاب أخيه، واتجه إلى منزلها للاطمئنان عليها.


طرق الباب، ففتحه له هيثم مرحبًا به، ودعاه للدخول. جلسا سويًا، وبعد لحظات، دلفت إليهما الأم وهي تحمل ملامح متوترة، لكنها حاولت رسم ابتسامة باهتة وهي تقول:


"أهلًا يا بني، اتفضل."


نظر إليها معتز بلهفة، والخوف يملأ صوته:


"أهلًا يا ماما، طمنوني… مي مالها؟ حصل لها إيه؟ وليه محدش كلمني من امبارح؟!"


حاولت الأم تهدئته، فأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقول بصوت هادئ، لكنه يحمل بعض الارتباك:


"اهدى يا بني… الواحد مكنش عارف مالها وقتها، ومكنش فينا عقل يفكر، لحد ما نقلناها المستشفى، وباتت هناك الليلة دي بسبب المهدئات اللي أخدتها… ولسه جايين من شوية بس…"


توقفت قليلًا، تقطّعت كلماتها، لم تعتد الكذب، لكنها مضطرة هذه المرة:


"بس هي نايمة دلوقتي."


تنهدت، ثم أكملت بصوت أكثر هدوءًا:


"إحنا مش فاهمين حاجة لحد دلوقتي… فجأة لقيناها مش بتنطق، والدكتور بلغنا إنها صدمة نفسية أو توتر."


لكنها كانت تعلم أنها لم تخبره بالحقيقة كاملة…


عادت بذاكرتها إلى ما حدث في السيارة، عندما حاولت تهدئة ابنتها، لكن مي كانت في حالة هستيرية، تبكي وتشهق بصعوبة، وتردد بكلمات مرتجفة:


"لـ... لا... لا... مش عاوزة أشوفه… لا لا… عشان خاطري… مش عاوزاه! خليه يبعد عني! مش عاوزة أشوفه! مش عاوزة…!"


أخذتها والدتها بين أحضانها، وهي تحاول تهدئتها، مؤكدة لها أنها لن ترى أحدًا الآن. في تلك اللحظة، تأكدت أن ما تمر به ابنتها مجرد توتر قبل الزواج. 

أما معتز، فشعر بانقباض غريب داخل قلبه، وكأن هناك أمرًا آخر تخفيه عنه، أمرًا أعمق من مجرد توتر ما قبل الزواج… لماذا لم ترد رؤيته؟ لماذا تحججوا بأنها نائمة؟


نظر إلى هيثم، ثم قال بإصرار:


"يعني مش هقدر حتى أشوفها؟! أنا بس عايز أطمن عليها، ولو حتى أشوفها لدقيقة واحدة!"


كان يتمنى رؤيتها، ولو للحظات… فقط ليطمئن أنها بخير.


لكن هيثم تدخل بسرعة، محاولًا إنهاء النقاش:


"معلش يا معتز، هطلب منك طلب بايخ شوية، بس ممكن نسيبها يومين تهدى كده؟ أنا وماما هنحاول نتكلم معاها ونفهمها، وأعتقد معظم البنات بيجيلهم مخاوف ورهبة قبل الزواج… على ما أعتقد."


أثار كلامه دهشة معتز، لكنه لم يعلّق. كان يعلم أن هناك شيئًا غير منطقي في الأمر، لكنه لم يكن يملك دليلًا، فاكتفى بالصمت.


تنهد، ثم قال بصوت يحمل بعض التردد:


"طيب… بس أنا محتاج أتكلم معاها برضه، ولا إيه؟"


تدخلت الأم بلطف، محاولة إنهاء الحديث:


"أكيد طبعًا، هيكون ليك دور كبير… بس سيبني أكلمها أنا الأول."


شعر معتز أنه غير مرحب به في الحديث الآن، لكنه لم يكن أمامه سوى الموافقة، رغم أن قلبه لم يهدأ من ذلك الشعور الغريب الذي بدأ يراوده… أن هناك سرًا ما يُخفى عنه 

                      الفصل السابع من هنا

لقراءة باقي الفصول الجزء الثاني من هنا

تعليقات