رواية قيود الماضي الفصل الخامس5 الاخير بقلم شروق مصطفي

رواية قيود الماضي الفصل الخامس5 الاخير بقلم شروق مصطفي

انهياري لم يشفع عنده، فقد قاومت كثيرًا... فكّ يديّ وطرحني أرضًا، كان كالثور، أقوى مني بمراحل. زحفت مبتعدة عنه وضربته بقدمي، إلا أنه أمسك بي وتحكم فيّ مجددًا.

أُنهكت من كثرة مقاومتي، وطاقتي قاربت على النفاد. بدأت أعصابي ترتخي، وأسلمت نفسي للمجهول. الرؤية تلاشت، وكل شيء من حولي أصبح معتمًا. كانت الدنيا سوداء في عيني، وبدأت أتلو الشهادة...

فجأة، سمعت صوت إطلاق نار. انتفض واقفًا بسرعة، ولم يُكمل ما أراد فعله بجسدي المحطم. أمسك بي وأقامني عن الأرض، غير مبالٍ بتمزق ثيابي، وأشهر سلاحًا أبيض صغيرًا وضعه حول رقبتي ليحمي نفسه من القوات التي هاجمت المكان. أراد تأمين خروجه، وكان يضحك بهستيريا غير طبيعية.

 اللي هيقرب مني هذ...بحـها!

مش باقي عليها أصلاً، هخرج من هنا حالًا، بلغهم ينزلوا الأسلحة

كان يتحرك بي، بينما أنا كخرقة بالية، فراشة منهكة عاجزة عن المقاومة. استُنزفت قواي بالكامل. وإن كان الموت هو النهاية، فمرحبًا به... فقد عشت أصعب اختبار في حياتي، وإن انتهى بموتي، فسأكون سعيدة لأنني كنت السبب في إنقاذ البلاد من هذا المعتوه المجنون.

شعرت بنصل السكين يضغط على رقبتي، وبدأت روحي في الرحيل. سمعت ضوضاء وأصواتًا كثيرة، وحشودًا تقترب، ورأيت الضابط الذي طمأنني في السابق. لم أشعر بالخوف، بل بالطمأنينة... طمأنينة أن بلدي بخير. لم أستطع أن أنطق بكلمة، ودمعة ألم انسابت من عيني...

ثم أغمضت عيني، ولم أشعر بشيء بعد ذلك...

. . . . . . الله يا ماما، المكان عندك جميل أوي... هو فين بابا؟ مش شايفاه...

رد صوت عذب، صغير ودافئ:

ـ بابا مع حور العين، وأنا جيت أشوفك يا نور...

إنتي قوية يا حبيبتي وهتعدّي. قولي يارب، وأنا وبابا جنبك،

وماتزعليش من هند، أختك بتحبك. خليكوا جنب بعض،

واختاري صح يا نور...

ـ استني يا ماما... خذيني معاكو، مش عايزة أفضل هنا...

الدنيا وحشة أوي...

قالت لي بلطف:

ـ "الدنيا فيها الخير والشر، وإحنا اللي بأيدينا وعقلنا نختار الطريق اللي نمشي فيه.

متنسيش ربنا في حياتك...

ابدئي حياة جديدة واختاري الصح. أنا لازم أرجع، وإنتي ارجعي يا نور.

ـ نور... نور...

كررت اسمي مرارًا... عقلي بدأ يعود للوعي، فتحت عيني بصعوبة بسبب قوة الإضاءة، إلى أن اعتادت عليها. رأيت "هند" وهي تربت على كتفي، تحاول إفاقتي من الغيبوبة التي كنت فيها. عقلي رافض للواقع، رافض للحياة بعد تلك الحادثة المؤلمة.

سمعت صوتها يلوم نفسها، لأنها لم تكن بجانبي في تلك المحنة، خاصة حين فتحت عيني ولم أتكلم، لكنها لم تكن تعلم أنني عاجزة، صوتي لم يخرج، حاولت مرارًا وفشلت، فظنت أنني لا أريد الحديث معها.

ـ نور، عشان خاطري... ماتزعليش مني، أنا مكنتش فاهمة حاجة.

لقيت أحمد جالي البيت منفعل من اللي شافه، وحكى لي حاجات كتير، ووراني كل حاجة، ورمى عليكي اليمين، وبعدها وصلي ورقتك.


وانتي بعدها كلمتيني وطلعتي فيا، واختفيتي فجأة، كل الأدلة كانت ضدك، بس أنا كنت في النص مش فاهمة حاجة.


سامحيني إني مقدرتش أقدملك أي مساعدة، مفهمتش حاجة غير لما أستاذ أدهم كلمني وفهمني كل حاجة، وإن معاكي ظابط اسمه جاسم هيرجعك، وكلمني يوم رجوعك، وانتي بقالك أسبوع نايمة هنا... اتكلمي يا نور، قولي أي حاجة عشان خاطري...




حاولت إخراج صوتي، ولم أستطع... ألم حاد في رقبتي...


هززت رأسي ببطء، وأغمضت عيني، فقد امتلأت دموعي ولم أرد أن تراها.


ربتت على يدي وقالت:




ـ ماشي، حبيبتي، ارتاحي دلوقتي. أنا هروح أبلغ الدكتور إنك فوقتي.




خرجت، وبعد قليل عادت ومعها الطبيب، وأخبرنا أنني تخطيت مرحلة الخطر. فترة قصيرة وأعود كما كنت. وأكّد أن تقرير الطب الشرعي أوضح أن ما حدث كان محاولة اعتداء تم إحباطها في اللحظة الأخيرة. حاول الحديث معي، لكن عدم قدرتي على الرد لم تكن بسبب الإصابة بل نتيجة للصدمة النفسية.




بعد ساعة، سُمِع طرق على الباب. دخل شخص لم أتبينه من كبر باقة الزهور التي يحملها. أدار وجهه... فقامت همسة تستقبله:




ـ أهلا أستاذ جاسم، اتفضل.




ابتسم لها ورد التحية، ثم سألها عني:




ـ ها... طفلتنا عاملة إيه دلوقتي؟




استغربت من كلمته... طفلة؟! مَن؟! لم أفهم شيئًا، إلى أن ردت هند:




ـ الحمد لله، فاقت، والدكتور طمنا عليها.


مكنتش عايزة ترجع زي ما قولت، زي الأطفال...


بس اللي مايعرفش نور... قوية، وهتعدي الأزمة، وأهي فاقت ورجعت...


بس الكلام لسه شوية.




ـ الحمد لله، لسه قابلت الدكتور قبل ما أدخل وطمني.




ثم نظرت إليّ:


ـ عارفة يا نور؟ دا الظابط اللي رجعك ليا،


وكل يوم ييجي يشوفك ويسأل: فوقتي ولا لسه؟




هززت رأسي، فأنا أعرفه بالطبع، لكن لم أكن أعرف اسمه.


طلب من هند أن تتركنا قليلًا، فوافقت وخرجت.


اقترب من سريري وجلس بجواري.




ـ حمد لله على سلامتك يا بطلة مصر.


أنتي عارفة إنك بمساعدتك لينا، الوزير طلبك مخصوص للقاء صحفي على الهوا لتكريمك؟


لأنك ساعدتي في القبض على القاسم، اللي كان هربان...


وبكده أنتي هتردي كرامتك بعد اللي عمله فيكي.


إيه رأيك يا جميل؟ مش نتكلم بقى بسرعة ولا إيه؟




هززت رأسي بمعنى لا... 


لست قادرة على مواجهة أحد، ولا الحديث عما جرى. كل ما أريده أن يُتركوني بسلام.




ـ مفيش حاجة اسمها لأ.


حقك لازم يرجع، وأنا مش بقولك كده عشان تختاري.


دا قرار وزاري وطلع، يعني مجبرة.


بلاش شغل العيال دا وفوقي لنفسك، عشان أحكي لك إيه اللي حصل بعد ما فقدتي وعيك...




. . . . . . . بعد مرور شهرين، بدأت أستعيد صحتي تدريجيًا، وتعافيت جسديًا.


عاد صوتي تدريجيًا إلى طبيعته، لكن نفسيتي لم تعد كما كانت.


صرت أرتجف من الأصوات العالية، وأخاف السير وحدي في الشارع،


فكل وجه أشاهده، أراه هو...




رغم معرفتي المؤكدة أنه قُتل يومها، وأخبرني جاسم بكل التفاصيل لاحقًا حين عاد صوتي.


عاتبته على ما حدث، فذلك لم يكن اتفاقنا.


أخبرني أن الموعد الأصلي للتسليم كان عند الفجر،


لكن حين هاجموا المكان بسبب خلاف، بدأ إطلاق النار.


استطاعوا الإمساك بأفراد الطرف الآخر، أما "قاسم" فأُصيب وهرب.

ظلوا يتتبعونه حتى حددوا مكانه بأجهزتهم الحساسة.

اقتحموا الموقع فورًا، وكان قد أمسك بي والسكين على رقبتي.

لم يكن في وعيه... وكان هناك قناص محترف مع القوة، فأصابه في رأسه فورًا... ومات

نُقلت بعدها إلى المشفى، ثم إلى مصر على طائرة القوات.

وخضعت لعلاج نفسي لعدة جلسات...

ثم حضرت مؤتمر تكريمي تحت ضغط من الظابط وأختي، لاستعادة حقي وكرامتي.

أما جاسم، فقد تمت ترقيته لرتبة أعلى.

آه، ونسيت أن أخبركم،

بعد المؤتمر الذي بُث على التلفزيون وعلى وسائل التواصل،

أرسل طليقي رسالة لأختي، يعبر فيها عن ندمه،

ويريد العودة...

لكن أختي ردت بدلًا مني بكل حسم:

اللي مايوقفش معاك في أزمتك، مايِلزمناش لما تخلص الأزمة.

أما أنا، فقد عدت إلى بيت أهلي، معززة مكرّمة.

أعيش من معاش والدي، وأحاول استعادة كياني من جديد.

أما عن قصة الظابط جاسم،

فقد أصبح صديقًا مقرّبًا لزوج أختي بعد الحادث،

دائم التواصل معه، وأحيانًا نلتقي عند اجتماع العائلتين.

صرنا أصدقاء فقط،

رغم محاولاته في الاقتراب أكثر

لكني من الداخل، لست مستعدة بعد...

تجربتي الأولى ما زالت مؤلمة،

وأحتاج وقتًا كافيًا لأتجاوزها...

وبعدها، ربما...

أفكر في خوض تجربة ثانية.

وهذه... كانت حكايتي.

                        تمت بحمد الله 

لقراءة باقي الفصول من هنا 

تعليقات



<>