
رواية جمر الجليد الفصل التاسع عشر19والعشرون20 بقلم شروق مصطفي
كان عاصم واقفًا في زاوية المكان، يده تستقر في جيبه، وعيناه معلقتان بسيلا التي كانت تتمايل برفق، وكأنها تنسج مع اللحظة حكاية لا يراها غيرها. نظراته كانت تلاحق حركتها في صمت، يراقبها عن كثب دون أن ينبس بكلمة.
وفجأة، تغيرت ملامحها؛ ارتسم على وجهها شبح ألم مفاجئ، جعلها تتوقف عن الحركة، تمسك معدتها بتلقائية كمن يحاول مقاومة وجع باغتها دون سابق إنذار. لم يمضِ سوى لحظات حتى استدارت مبتعدة، تاركة الجميع وراءها، واندفعت راكضة دون أن تنبس بحرف.
مي، التي كانت تقف بجانبها، لاحظت التغيير في حالتها على الفور. ارتسمت علامات القلق على وجهها، وهرولت خلفها دون تردد، تنادي باسمها بخوف مكتوم. أما عاصم، فقد التقط المشهد بعين ثاقبة، لم يغفل عن أي تفصيل.
بخطوات ثابتة لكن مفعمة بالقلق، تبعهما عاصم، يراقب من بعيد دون أن يثير الانتباه. وحين رأى سيلا تختفي داخل الحمام، توقف على مسافة قصيرة، يتأكد من سلامتها بصمته المعتاد. ومع ذلك، لم تغب عن ملامحه تلك النظرة الحادة التي تكشف عن عقل مشغول وأسئلة لا تنتهي.
أشعل عاصم سيجارته بهدوء، بينما التقط أذناه همسات متبادلة بين سيلا ومي. نظراته لم تغفل عنهما، يراقب المشهد من بعيد دون أن يتدخل، لكنه كان يشعر بشيء غريب ينبض في الأجواء.
كانت سيلا منهمكة في تفتيش حقيبتها بارتباك واضح، وكأنها تبحث عن شيء ضاع منها. تحدثت إلى نفسها بصوت خافت، يحمل نفاد الصبر: "هي فين دي بس؟". ملامحها كانت متوترة ومشوشة، مما دفع مي إلى سؤالها بقلق بالغ: "مالك يا سيلا؟ جريتي فجأة ليه؟ تعبانة؟".
ترددت سيلا للحظات، وكأنها تقاوم البوح بحقيقة ما تشعر به. كانت ما تزال تبحث في حقيبتها بعصبية، قبل أن تجيب بتلعثم واضح: "مفيش حاجة، أنا... أنا... مصدعة شوية بس".
ولكن عندما لم تجد ما تبحث عنه، توقف صوتها للحظة، قبل أن ينطلق مختنقًا: "أنا مخنوقة، هطلع آخد هوا بره. تيجي معايا؟".
مي، التي بدا القلق جليًا على وجهها، لم تتردد في الإجابة. وافقت بسرعة قائلة: "يلا، بس تحكيلي مالك."
تحركت الفتاتان نحو الخارج، بحثًا عن هواء يخفف وطأة التوتر. أما عاصم، فكان يراقبهما بصمت. عيناه لم تفارقا خطوات سيلا، لكن إحساسًا داخليًا بدأ يهمس له بأن هناك ما يدعو للقلق.
وفي لحظة خاطفة، وقبل أن تبتعدا كثيرًا، ظهرت سيارة مسرعة من العدم. توقفت بجانبهما فجأة، ونزل منها رجال ملثمون بحركة خاطفة ومربكة. كان كل شيء يحدث كأنه مشهد من كابوس: يد قاسية تختطف سيلا، وأخرى تمسك بمي التي حاولت المقاومة دون جدوى.
اختفت السيارت بسرعة البرق، تاركة خلفها صمتًا ثقيلًا وصدًى في عقل عاصم، الذي وقف متجمدًا للحظة قبل أن ينطلق في سباق مع الزمن.
في السيارة، جلس معتز بجوار عاصم، والقلق يتملكه كليًا، صوته مليء بالتوتر: "في إيه؟ أنطق!"
لم يلتفت عاصم إليه، عيناه كانت مثبتة على الطريق أمامه، ورد بصوت خافت لكنه حاسم: "سيلا ومي اتخطفوا."
عبارة واحدة كانت كافية لتشعل نار الخوف في قلب معتز. عندما أدرك خطورة الموقف، أوقف عاصم السيارة فجأة، مما جعلها تصدر صريرًا حادًا على الطريق. نظر إلى أخيه بوجه متجهم، وقال بلهجة لا تقبل الجدال: "انزل هنا ماينفعش تكون معايا المهمة خطر مفيش وقت. كل ثانية بتعدي خطر عليهم أنزل."
لكن معتز، وقد اشتعل الغضب في عينيه، صاح بعناد: "يلااااه! مفيش وقت مش هسيبك تروح لوحدك! جاي معاك! مش هسيبهم!"
عاد عاصم إلى مقعده، وأدار السيارة بعزم، زاد من سرعتها كأنما يسابق الزمن. في يده كان جهاز التتبع لا يفارق عينيه، بينما يضع سماعة الأذن ليستمع إلى أي إشارة قد تدله على وجهتهم.
وصلوا إلى منطقة نائية، حيث الصحراء تمتد بلا نهاية، وصمت قاتم يحيط بالمكان المهجور الذي دلهم عليه جهاز التتبع. توقف عاصم عند مدخل المبنى القديم، نظر إلى معتز بحزم، وقال بنبرة آمرة: "اسمعني، ما كانش المفروض تيجي معايا. خليك هنا. أنا هادخل، والقوات على وصول. سامعني؟"
لكن معتز، بروح متمردة لا تقبل الأوامر، رد بتلقائية وعزيمة: "مش هقدر أسيبها... أقصد مش هسيبك تدخل لوحدك. رجلي على رجلك."
تفاقم توتر عاصم، قبض على أعصابه، وحذر مجددًا بصوت صارم: "مفيش وقت للهزار! دول مافيا، مش بيرحموا حد. دي أوامر! خليك هنا!"
لكن معتز لم يعر كلامه اهتمامًا. كانت مشاعره تغلي داخله، فكرة أن مي قد تكون في خطر كانت كفيلة بأن تجعله يتجاهل أي منطق. قفز من السيارة دون تردد، وتقدم نحو المبنى بخطوات ثابتة، مصممًا على البقاء إلى جانب أخيه مهما كان الثمن.
في تلك الأثناء، كانت سيلا ومي داخل المبنى، تحاولان المقاومة بكل ما تبقى لديهما من قوة. لكن يدًا قاسية باغتتهما بضربات على رأسيهما، أفقدتهما الوعي. سقطتا أرضًا بلا حراك، ثم قام الخاطفون بحملهما إلى غرفة مظلمة.
داخل الغرفة، كان الظلام كثيفًا، لا شيء سوى صوت الأنفاس المتقطعة. وثقوا أيديهما وأرجلهما بحبال خشنة،
تقدّم مجهول بخطوات راسخة، وصوت كعب حذائه يهز الأرض بقوة، فيرن في المكان كالرعد، يزرع الرعب في القلوب، وكأن الزمن قد تجمّد عند كل خطوة يخطوها، والجوّ من حوله يزداد ثقلاً وبرودًا نظر إليهم لحظة، ثم قذف دلوًا من الماء البارد عليهم، وقطع وثاق أفواههم بعنف. نهضوا فزعين، وجحظت أعينهم في خوف، قبل أن ينفجر قهقهة عالية ملأت المكان: "إنني في غاية السعادة اليوم، وأخيرًا تقابلنا وجه لوجه. من منكما تُدعى سيلا؟"
سيلا، التي تذكرت هذا الوجه من الصور التي كانت قد نشرتها لهم من قبل، ردّت بغضب: "أنت وغد، حقير وأقذر إنسان رأيته بحياتي!"
أما مي، فقد توترت عيونها بين سيلا والموقف، وسألت بحيرة وتوتر: "مين دا؟ أحنا فين؟"
كانت نظرتها مليئة بالكراهية، وتحاول فك نفسها من القيود، لكنها لم تستطع. فقال لها عندما شاهد قوتها: "أنتِ سيلا إذن."
تحت نظراته الماكرة، ابتسم قائلاً: "هذه أسعد لحظات حياتي الآن، ليس واحدة فقط، بل اثنتين معًا، وأجمل اثنتين لا يشبههما شيء."
ثم أشار إلى مي وقال: "أنتِ ستسافرين معي، وجهك...!" نظر إليها بنظرة خبيثة لجسدها الممشوق والوجه المصري الأصيل: "سأستفيد منكِ كثيرا."
ولكنه أشار إلى سيلا وقال: "أما أنتِ، فسأريحكِ تمامًا من هذه الحياة بعد قليل."
وبعد لحظات من لذة الأنتصار، نادى على أحد رجاله قائلاً: "قم بتجهيز غرفة العمليات حالًا لتلك الصحفية."
أجاب الرجل في طاعة: "أمرك سيدي."
ثم نادى على آخر وقال له: "وخذ هذة إلى الغرفة الأخرى سترافقني."
نُقلت مي إلى غرفة أخرى، وأعادوا تكميم فمها مرة أخرى، وتركوا صمت المكان يحيط بها. ثم أطبقوا الباب خلفهم بإحكام، ليغمرها الظلام ويغلق أمامها كل أمل في الهروب.
تم تجهيز غرفة العمليات، ثم أنهى طبيب التخدير مهمته سريعًا، حيث حقنها في الظهر ليبقيها مستيقظة، ثم غادر الغرفة، تاركًا إياها وحدها في عتمة المصير.
بقلم شروق مصطفى
بينما انطلق أحد الرجال ليبلغ الرئيس بذلك، توجه نحوها في صمت ثقيل، خطواته تزداد ثقلاً وكأنها تحمل ثقل العالم. دنا منها ببطء، ومد يده ليُمسح على رأسها بأصابعه الباردة، كأنه يطفئ فيها أي أمل بالهرب. همس في أذنها بصوت منخفض، مفعم بالرعب، يقشعر له الأبدان: "لا وقت للنوم، جميلتي." ثم تابع، كلماتُه تتناثر كالسكاكين: "أريدكِ مستيقظة لترَي هذا العرض المجاني لما نفعله بهؤلاء الفتيات اللاتي تدافعين عنهما. ولكن هذه المرة، سيكون هناك فرق. ستكونين أنتِ، وأنتِ فقط، مستيقظة. ما رأيكِ؟"
كانت عيناها مفتوحتين، لا تشعر بشيء، جسدها ثابت كالجسد الميت، وكأنها قد غادرت عالمها الواقع إلى عالم آخر. استسلمت تمامًا، فقد فقدت كل مقاومة وكل قوة كانت في جسدها. لكنها، فجأة، خطر ببالها عاصم. نظرت إلى معصمها حيث السوار الذي يذكرها بحمايته لها في تلك اللحظات. كأنها قد نسيته، أو لم تشعر به من قبل، ولم تعرف كيفية أزالته. همست باسمه لأول مرة، بصوت خافت يكاد لا يُسمع: "عاصم... أنت فين؟ تحميني منهم؟"
ثم ابتسمت ابتسامة نصفية، تلك الابتسامة التي تخلط بين الحزن والاعتراف بالواقع. وقالت في نفسها، عندما شعرت أنه لا مفر من الموت المحتوم: "بس أنا كده كده ميتة."
وكأن القدر استمع لندائها ودفع الباب بقدميه بقوة، واندفع نحوها بسرعة كأنما يسابق الزمن، يهتف بصوت يفيض بالقلق: "سيلا! سيلا فوقي!" كان صوته ممتزجًا برجاء لا يعرف الانطفاء، محاولًا أن ينتشلها من غياهب الغياب: "أنتِ قوية، ما تستسلميش! فوقي!"
كلماته كانت كخيط رفيع يمتد بين الحياة والموت، ليعيد إليها وعيها الباهت. فتحت عينيها ببطء، نظرت إليه وكأنها رأت فيه كل ما احتاجته لتتشبث بالحياة من جديد. ألقت بنفسها في أحضانه، هامسة باسمه بصوت بالكاد يُسمع: "عاصم..."
ظلت تختبئ في حضنه، وكأن وجوده هو الأمان الوحيد في هذا العالم الموحش، متجاهلة الألم الذي يحيط بهما. لكنه، وفي خضم تلك اللحظة الحانية، شعر بشيء غريب يكتسح داخله، إحساس لم يعهده من قبل. ضمها أكثر إلى صدره يتأكد من شئ، جسده يرتجف نعم! كما لو أن لمستها أثارت داخله شعورًا عميقًا، شعورًا لم يتذوقه من قبل، وكأنه لأول مرة يعيش لحظة حقيقية.
نظر إلى سيلا، فوجدها قد ارتخت بين يديه، وكأنها انسحبت من العالم مرة أخرى. إلا أن صوت طلق ناري مفاجئ شق صمت الليل، أعاده إلى الواقع بقسوة. انتفض فزعًا، متذكرًا أنه ترك شقيقه وحيدًا في إحدى الغرف بعدما تأكد من سلامة واحدة منهم وذهب لإنقاذها.
اندفع بسرعة، مستخدمًا كاتم الصوت لتصفية من يعترض طريقه، مع باقي أفراد الشرطة الذين وصلوا للتو. وحين وصل إلى الغرفة، توقف الزمن فجأة، وعجزت قدماه عن التقدم خطوة أخرى. أمامه كان شقيقه غارقًا في دمائه، يتنفس بصعوبة، بينما كانت هي تبكي بجواره بانهيار. ظل واقفًا في مكانه، يحاول استجماع نفسه، غير قادر على استيعاب المشهد الذي قلب عالمه رأسًا على عقب.
الفصل العشرون_جمر الجليد
مرّت أكثر من سبع ساعات والجميع في حالة ترقب وقلق خارج غرفة العمليات، ينتظرون بفارغ الصبر أي خبر يطمئنهم عن حالته. كان وليد، عامر، ورودينا في حالة يُرثى لها، تملؤهم المخاوف والرهبة مما قد يحدث.
في الجانب الآخر، كانت سيلا قد استعادت وعيها داخل غرفة الإفاقة، محاطةً بعائلتها. والدها ووالدتها يجلسان بجانبها، ومي وهمسة ووالدتها وأخيها يحيطون بها بعدما وصلوا إلى المستشفى على عجل، بعدما علموا بما حدث خلال الحفلة التي انتهت بخبر اختفائهم. تم تأجيل كتب الكتاب، وأصبح الجميع في حالة توتر ينتظرون أي تطورات.
فتحت سيلا عينيها ببطء، تتفحص الوجوه من حولها بارتباك، وسألت بصوت ضعيف:
"أنا فين؟ إيه اللي حصل؟"
ابتسم الجميع براحة وحمدوا الله على سلامتها. احتضنتها والدتها وهي تردد بامتنان:
"حبيبتي، الحمد لله، قومتي بالسلامة. ألف حمد وشكر ليك يا رب!"
تحدث والدها بابتسامة مرحة محاولًا التخفيف من وطأة الموقف:
"واضح إنك كنتِ عاوزة تشوفي غلاوتك عندنا!"
اقترب منها وقبّل جبينها بحب وقال:
"كده تقلقينا عليكي يا حبيبتي؟"
بقلم شروق مصطفى
وأضافت همسة بحب:
"ألف سلامة عليكِ يا حبيبتي."
نظرت سيلا إليهم بخجل وابتسمت:
"الله يسلمكم. أنا آسفة يا همسة... بوظتلك يومك. آسفة يا بابا..."
تدخلت والدتها بسرعة، واحتضنتها بحنان:
"ما تقوليش كده! أهم حاجة إنك وسطنا."
وأضاف والدها بصوت دافئ:
"متأسفيش تاني. أنتِ مالكيش ذنب. يوم بيتعوض، لكن وجودك بيننا لا يمكن تعويضه لو لقدر الله حصل حاجة."
هتفت سيلا بحب وهي تنظر إليهم:
"أنا بحبكم أوي!"
استمتعت بدفء أحضانهم، ثم التفتت نحو أختها، وقالت بابتسامة:
"قربي يا همسة، مش عاوزة تحضنيني؟"
ابتسمت همسة ابتسامة خافتة، تخفي وراءها حزنًا مكبوتًا، وانضمت إلى العناق.
لكن صوت نحيب كسر سكون اللحظة. التفتت سيلا بفزع لتجد مي تجلس على الأريكة، تبكي بحرقة، ووالدتها تحاول تهدئتها. قامت سيلا فجأة، متذكرة ما حدث، وحاولت نزع الكانولا من يدها رغم محاولات الجميع منعها. هرعت نحو مي، وجلست أمامها، تمسك يديها بقلق:
"مي، مالك؟ إيه اللي حصل؟ حد أذاكي؟ اتكلمي!"
ردّت مي بين شهقات بكائها، وصوتها متهدج:
"معتز يا سيلا... بعد ما أنقذني... ضربوا برصاصة غدر في قلبه... وهو مش بينطق. أنا خايفة أوي... أوي. في العمليات بقاله أكتر من ست ساعات ومحدش عارف إيه اللي بيحصل جوه."
تذكرت وقت أقتحامه لغرفتها مشاعر متناقضة أين ذهبت قسوته وحل محلها لهفته خوفه في عيناه هاتفا:
"أنتِ بخير؟ حذ أذاكي ؟ حد قرب منك؟ أتكلمي!..."
لكنها هزت رأسها، نافية بصمت مخنوق بالبكاء. ضمها إلى صدره بقوة، وكأنه يريد أن يخبئها من قسوة العالم، وهمس في أذنها بصوت يفيض طمأنينة:
"هشش، خلاص... أنا هنا. مش هسيبك تاني أبدًا. اهدي... أنا جنبك."
طبع قبلة مطمئنة على جبينها المرتجف، لكن اللحظة لم تدم طويلًا؛ إذ انفتح الباب بعنف، واقتحم المكان شخص غريب بابتسامة ساخرة وعينين تحملان مزيجًا من السخرية والشر. صفق الرجل ببطء، وقال بنبرة تنضح تهكما: "ما أجمل هذا الثنائي العاطفي لكن... ألم تعلم يا هذا أن من يدخل هنا لا يخرج سالما ؟"
وقف معتز بسرعة، واقفا أمامها كالسد المنيع، يحجبها عن الأنظار، ثم أجاب بصوت ثابت يحمل نبرة تهديد واضحة "وأنت، ألم تعلم أن من يقترب من أي شيء يخصني لا يخرج سالما ؟"
تجمدت مي خلف ظهره، مصدومة مما تفوه به. "يخصه ؟" تساءلت في نفسها، لكن الخوف حال دون أن تنطق بكلمة، لتتشبث به لا إراديا، باحثة عن الأمان خلفه.
قهقه الرجل بصوت عال، وقال بسخرية زادت الموقف توترا "أحب هذه الروح كثيرا... لكن للأسف لن تفيدك هنا. وهذه الفتاة..." وأشار إليها بنظرات مليئة بالتهديد "تخصني أنا."
كل هذا حدث بثوان، رفع سلااحه وأطلق رصاصة سقط معتز على أرضًا، يصارع الموت، بينما شهقت مي بفزع، وسقطت بجواره ترتجف من هول المشهد، وقد أدركت أنها باتت وحيدة في مواجهة هذا المجهول.
كاد ان يصوب رصاصه اخري بأتجاهها باغته برصاصه بمنتصف رأسه وقع جثة فورا.
لم يكن سوى قناص يقف متربصا، ثم اقتحم المكان بحذر. لكن ما إن دخل حتى تجمد في مكانه، مصعوقا بما رآه أخيه، بين الحياة والموت، غارقًا في دمائه.
معتز الذي بالكاد يستطيع التنفس، حاول أن ينطق بكلمات، لكن صوته خرج متقطعًا، ينهش قلب مي بألمه. كان يضع يده على جرح ينزف من صدره وعيناه لا تفارق وجهها
"أ... آسف... س- ساميحيني يا مي... أنا...ح - حبيتك... بس... بس ك كنت
بخوفك... علشان.... أنساكي... بس... بس مقدرتش... أنا ... أنا بب... بحبك....
قطعت مي كلماته بوضع يدها على شفتيه، محاولةً منعه من إكمال الحديث، والدموع تغرق وجهها " ارتاح... ما تتعبش نفسك... أرجوك."
لكن معتز أصر، ونظر إليها بتوسل: "لا... س - سيبيني... أتكلم... وأنت تكوني آخر.... حد أشوفه... ق - قبل ما أموت."
لم يتمكن من إكمال جملته صوت أنفاسه انقطع، ورأسه سقط بلا حراك.
صرخت مي بنحيب متواصل، وكأنها تحاول إعادته من الموت "هديك فرصة تانية والله مسامحاك بس قوم... انهارت بجانبه غير قادرة على الحركة أو التفكير، بينما دموعها لا تتوقف. في تلك اللحظة، اخترقت أصوات إطلاق نlار متتالية سكون المكان. رفعت رأسها بفزع، لترى ظلالا تقترب من الباب.
لم تنتبه في البداية لوجود عاصم، لكنه كان هناك، واقفًا بلا حراك عند المدخل وعيناه مسمرة على أخيه المسجى أمامه، غارقًا في دمائه. للحظة، شلت كل حواسه، ووقف في صمت ثقيل، غير مصدق لما يراه.
احتضنتها سيلا بقوة، محاولة طمأنتها:
"إن شاء الله ربنا ينجيه. اهدي... اهدي. تعالي نقوم نشوف وصلوا لإيه ونتطمن عليه."
وقف محسن، وقال لهم:
"طيب، شوفوا وأنا أخلص الحسابات ونستناكم تحت."
خرج الجميع من غرفة الاستعلام، حيث لا تزال الأخبار غامضة، والقلوب مثقلة بالقلق. في تلك اللحظة، لمحها عاصم تقف هناك، وعيناه اشتعلتا بالغضب المكبوت. كأن كل مشاعره انفجرت دفعة واحدة، فانقض عليها فجأة كذئب غاضب، وأمسكها من كتفيها يهزها بعنف، وصوته يهدر كالرعد:
"إنتِ السبب في كل المصايب اللي إحنا فيها! إنتِ اللي وقعتينا في ده كله! معرفتك دمار على كل اللي حواليكِ! عارفة؟ لو جراله حاجة، مش هيكفيني موتك! سامعة؟!"
كانت كلماته كالسياط، تمزق الأجواء بصوتٍ زلزل المكان بأكمله.
أكمل تهديده بنبرة أشد غضبًا:
"حذرتك قبل كده! أنا واللي يخصني خط أحمر، متقربيش مننا! أنتي وهي... كفاية لحد هنا!"
رأت رودينا المشهد من بعيد، وهرولت نحوهما بخطوات غاضبة. ما إن وصلت حتى صرخت بنظرة مملوءة بالكراهية:
"إنتو ليكو عين تيجوا هنا؟! ابعدوا عنا بقى! كفاية! كان عنده حق لما قرر يبعدني عنكم زمان... إنتو دمار! أي حد يقرب منكم بيتأذى. ابعدوا عنا، بلاش نشوف وشكم تاني!"
كانت مي تستمع للاتهامات الموجهة إليها وصديقتها، وكأنها تتلقى صفعات متتالية. عينها امتلأت بالدموع التي تأبى السقوط، وملامحها أضحت فارغة، تائهة بين نظرات عاصم ورودينا.
دفعها عاصم بقسوة للخلف، ثم استدار ليحتضن أخته بحنان، محاولًا تهدئتها. عاد الجميع إلى مقاعدهم، لكن الصمت كان ثقيلًا كأنه سيف معلق فوق رؤوسهم.
مي، التي ما زالت في حالة صدمة من الاتهامات الجارحة، حاولت لملمة شتات نفسها. أخذت نفسًا عميقًا، ثم احتضنت سيلا بحنان وهمست في أذنها بصوت مخنوق:
"يلا يا حبيبتي... ملناش مكان هنا. والدك مستنينا تحت، تعالي نمشي أحسن."
وافقتها سيلا بصمت، وودعتها مي بعناق أخير، ثم انطلقت مع أخيها ووالدتها، تجر خلفها ثقل الحزن والخيبة.
سيلا بدورها لحقت بعائلتها، وركبت معهم السيارة في طريق العودة إلى المنزل، حيث خيم الصمت على الجميع، وكل منهم غارق في أفكاره وألمه.
… .
كانت همسة في حالة يُرثى لها؛ فرحتها التي طالما حلمت بها انقلبت إلى حزن عميق. بقيت صامتة، لا تتحدث مع أحد، وكأن الألم جمد كل مشاعرها.
بعد ساعات من الانتظار، خرج الطبيب، وعلامات الإرهاق بادية عليه. أسرع عاصم نحوه بلهفة، وسأله:
"طمنا يا دكتور، حالته إيه؟"
أجاب الطبيب بنبرة عملية اعتاد عليها:
"عملنا اللي نقدر عليه. الحالة حرجة، وتم نقله للعناية المركزة. لو مرت عليه 48 ساعة وحالته استقرت، يبقى عدى مرحلة الخطر. الرصاصة كانت قريبة جدًا من القلب، ولو تحركت ولو بمقدار بسيط، ماكناش هنلحقه. ادعوله يعدي اليومين دول على خير."
أنهى الطبيب حديثه وغادر، تاركًا الجميع في حالة من التوتر والقلق.
عامر اقترب من عاصم وحاول طمأنته:
"إن شاء الله يقوم بالسلامة. معتز قوي وهيعدي منها. أنا رايح أصلي، تيجي معايا؟"
أومأ عاصم برأسه دون أن ينطق، وذهب معه. لكن في الحقيقة، كل قواه قد خارت، ولم يعد قادرًا على الوقوف. سنده عامر ابن عمه، وأجلسه على أقرب مقعد، محاولًا تهدئته.
عاصم لم يعتبر معتز مجرد أخيه، بل كان بالنسبة له كابن قام بتربيته، كصديق دربه، بل كجزء من روحه. فكرة فقدانه كانت تعني له النهاية، وكأن حياته ستُسلب معه.
بعد فترة، لاحظ عامر أن حالته تزداد سوءًا، فطلب الطبيب. كشف الطبيب عليه، ثم قال بلهجة مطمئنة:
"ده إجهاد زائد. أنا أديته حقنة مهدئة، وهيفوق الصبح. لازم راحة."
ترك عامر عاصم نائمًا وخرج ليجد رودينا ووليد بالخارج. وبعد جدال قصير، أصر عليهم بالعودة إلى المنزل، مشيرًا إلى حالتها:
"مفيش فايدة لقعدتكم هنا. معتز ممنوع من الزيارة، وعاصم هيفوق الصبح. وبعدين، انتي مش ينفع تقعدي بالمنظر ده." وأشار إلى فستانها الذي أصبح غير مرتب من كثرة الجلوس والتوتر.
وافق وليد على إعادتها، وقال لعامر:
"أنا هوصلها، وهرجع على طول."
أصر عامر:
"لا، متسبهاش لوحدها. تعالوا الصبح."
انصاع الجميع لكلامه، وغادروا المستشفى، وكل منهم يحمل ثقلاً كبيرًا في قلبه.
مرت الساعات ببطء، وكأن عقارب الساعة كانت تتعمد تعذيبهم. أخيرًا، استقر وضع معتز بعد تجاوز مرحلة الخطر.
في تلك الأثناء، سافر كل من نرمين ومحسن بعدما تأكدوا أن الخطر قد زال تمامًا بقتل زعيم المافيا. اتفقوا مع وليد على العودة بعد أسبوعين، لإتمام كتب الكتاب والفرح في نفس اليوم، وودعوا الجميع قبل مغادرتهم.
أما في المنزل، فعاد الجميع لمحاولة استعادة حياتهم الطبيعية. لكن همسة كانت متجنبة اختها سيلا تمامًا، ولم تتحدث معها منذ يوم خطبتها. كان الصمت بينهما أشبه بجدار، يحجب كل شيء، حتى الحب الذي كان يجمعهما.
أفاق معتز أخيرًا وتم نقله إلى غرفة أخرى، حيث اجتمع الجميع حوله للاطمئنان عليه. كانت عيونه تبحث عنها، لكنه لم يجدها. لاحظ عاصم ذلك، فاقترب منه قائلاً بابتسامة مطمئنة:
"حمدلله على السلامة يا بطل! كده قلقتنا عليك."
ثم انضمت إليه رودينا بحنان:
"حمدلله على سلامتك يا حبيبي."
ابتسم معتز بهدوء وأجاب:
"الله يسلمكم كلكم."
تدخل وليد بابتسامة دافئة:
"حبيبي، حمدلله على السلامة."
نظر له معتز بأسف وقال معتذرًا:
"آسف يا وليد، بوظت لك أحلى يوم ليك."
ضحك وليد وهز رأسه نافيًا:
"أنت مجنون ولا إيه؟ أهم حاجة إنك تقوم بالسلامة، معندناش أغلى منك. أنت بتشكك في كده؟"
ابتسم معتز وردّ مازحًا:
"وده العشم برده يا وليد."
ثم استدار ناحية عاصم وقال بملل:
"بس أنا هطلع من هنا إمتى؟ مش بحب جو المستشفيات... بتخنقني."
غمز له عاصم بابتسامة ماكرة:
"اهدى يا بطل، لسه شوية. ولا مستعجل على الـ..." ولم يكمل جملته، تاركًا معتز في حيرة.
رد معتز بعدم فهم:
"ها؟ بتقول إيه؟"
اقترب عاصم منه وهمس له ببعض الكلمات جعلت معتز يرد بنفس الكلمة، لكن بعناد:
"هااااه؟"
ضحك عاصم مقلدًا صوته بطريقة مضحكة:
"آه، قعد تفكر كده كتير! هروح أشوف الدكتور يكتبلك خروج إمتى." ثم خرج والابتسامة تزين وجهه.
رودينا، التي كانت تتابع المشهد من بعيد، سألت بمزاح:
"أموت وأعرف بتتوشوشوا على إيه؟"
نظر لها معتز بعناد وابتسم:
"ملكِيش دعوة يا باردة، خليكي في جوزك وعيالك. هما فين بالمناسبة؟"
ردت رودينا بابتسامة:
"في الحضانة. لسه ميعاد خروجهم كمان نص ساعة."
ضحك معتز بخفة:
"حبايب قلبي."
---
في المنزل عادت سيلا مع همسة إلى البيت. شعرت سيلا أن همسة تتجنبها، لكنها لم ترغب في الضغط عليها. بعد قليل، قررت أن تدخل مرسمها. طرقت الباب بهدوء، ولما سمعت الإذن بالدخول، تقدمت قائلة:
"ممكن أتكلم معاكِ شوية؟"
كانت همسة تمسك الفرشاة، تضرب بها لوحتها بلا اكتراث. أجابت دون أن تلتفت:
"اتفضلي، أنا سامعاكِ."
اقتربت منها سيلا وقالت بنبرة قلقة:
"إنتِ زعلانة مني في حاجة؟"
ردت همسة بهدوء زائف:
"وهزعل منك ليه؟ إنتِ عملتِ حاجة تزعل أصلاً؟"
حاولت سيلا تفسير ردها، وقالت:
"مش عارفة، بس حاسة إنك متضايقة مني من يوم الخطوبة. لو فيه حاجة قولي لي."
ابتسمت همسة ابتسامة باهتة وقالت:
"لا، بيتهيألك. مش زعلانة ولا حاجة. أهم حاجة إننا اطمنا عليكِ."
شعرت سيلا أن هناك شيئًا ما لا يُقال. اقتربت منها بحب واحتضنتها قائلة:
"طيب يا حبيبتي. خفت تكوني زعلانة مني. إن شاء الله نعوض اليوم ده بأحلى منه. هسيبك تكملي رسمتك." ثم ابتسمت وخرجت.
---
جلست همسة وحدها، تنظر إلى اللوحة أمامها، وتخربش عليها بلا اهتمام. سرحت في أفكارها، ودموعها حبست نفسها في مقلتيها. همست لنفسها بصوت مختنق:
"أنا مين اللي يحس بيا؟ راحوا العمرة عشانك. ويوم خطوبتي باظ عشانك. وكل الحب بيروح عشانك. وأنا فين؟ حتى يوم خطوبتي اللي كان المفروض يبقى أسعد يوم في حياتي، محدش وساني ولا طيب بخاطري."
تنهدت بعمق، ثم مسحت دموعها سريعًا وهي تلوم نفسها:
"عارفة إنه مش ذنبك... بس فرحتي للأسف اتكسرت."
صباح اليوم التالي، أجرت سيلا مكالمة للطبيب المختص الذي يتابع حالتها، حيث أرادت البدء بالعلاج قبل عودتهم من السفر لتكون في حالة جيدة. طلب منها الطبيب أن تأتي إلى العيادة في اليوم التالي لإعطائها بعض النصائح وإجراء الفحوصات اللازمة قبل بدء العلاج.
بعد ذلك، أجرت مكالمة أخرى لصديقتها مي، وطلبت منها الحضور لأمر هام. وبعد ساعات، حضرت مي ودخلت إلى غرفة سيلا.
قالت مي بفضول: "سافروا خلاص؟"
ردت سيلا بنبرة هادئة: "أه، لسه موصلنهم الصبح أنا وهمسة."
ابتسمت مي قائلة: "يرجعوا بسلامة إن شاء الله. وهمسة أخبارها إيه؟ ما شفتهاش وأنا داخلة."
تنهدت سيلا تنهيدة طويلة وأجابت بحزن: "همسة واخدة جنب لوحدها من يوم خطوبتها وكتب كتابها اللي تأجل بسببي. هي ما قالتش حاجة، بس أنا حاسة إنها متجنبة ومش بتكلمني. والله غصب عني فرحتها ما اكتملتش بسببي. أنا عملت اللي أقدر عليه وضغطت على نفسي عشان اليوم ده، لكن القدر كان ليه رأي تاني."
بدأت سيلا تبكي بحرقة على كل ما حدث بسببها. ثم تابعت بتنهيدة: "حتى معتز... أنا ما عرفش هو وصل إزاي، ولا عاصم، ولا أي حاجة. أنا استسلمت للموت وقتها، والله."
احتضنتها مي بحنان قائلة: "موت إيه اللي بتتكلمي عنه ده؟! ده شغله، ومعتز نصيبه كده. ملكيش أي ذنب في حاجة. أما أختك العبيطة دي، أنا هروح لها وأعقلها. إيه الهبل ده؟ بدل ما تقف جنبك! إحنا كنا مخطوفين، مش بنلعب يعني! ده يوم، ويتعوض بيوم أحلى منه، لكن الإنسان لا يمكن يتعوض. سيبك منها."
حاولت سيلا التخلص من عناق مي وهزت منكبيها قائلة: "أنا عايزة أقولك على حاجة، بس أوعديني الأول ما تقوليش لأي حد.