رواية وانصهر الجليد الفصل التاسع9والعاشر10 بقلم شروق مصطفي


 رواية وانصهر الجليد الجزء الثاني2 جمر الجليد الفصل التاسع9والعاشر10 بقلم شروق مصطفي

بنفاد صبر، قالت والدتها
"لا بقا، أنا هجيبلك أخوكي أحسن يتصرف معاكي." ثم تركتها وخرجت من غرفتها.

لم تمضِ سوى لحظات حتى دلف أخوها إلى الغرفة، فوجدها جالسة على سريرها بثياب المنزل كما هي. انتبهت لحضوره، فاعتدلت في جلستها، بينما اقترب منها بهدوء، وقال بنبرة حانية:

"ممكن أعرف ليه مش عاوزة تخرجي؟ أنا اتفاجأت بماما بتقولي إنك تعبانة... حاسة بإيه؟"

صمت قليلًا، يراقب تعابير وجهها التي لم توحِ بأي إجابة صريحة، بل بدت وكأنها تمثل الدور. أدرك ذلك في قرارة نفسه، فتابع حديثه بنبرة جادة:

"بصي يا مي، أنا حاسس إن في مشكلة بينكم، والمشكلة دي لازم تتحل. أي خلاف يحصل بينكم، الحل مش بالهروب، لازم تتواجهوا وتتناقشوا. أنتم هتفتحوا بيت، يعني حياة جديدة فيها مشاركة، ومينفعش كل ما يحصل حاجة تهربي. أياً كانت المشكلة، لازم تتحل."

لم تعقّب، وظلت صامتة، فقط رسمت على وجهها ابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيها. لاحظ ذلك، لكنه لم يتوقف، بل أكمل حديثه بإصرار:

"ومتنسيش تعملي اللي قلتلك عليه برضه! أنا حاسس إنك مضايقة من حاجة، فاطلعي معايا وكلميه، قولي له كل اللي مضايقك. الكتمان غلط، بيعمل تراكمات، والتراكمات دي بتوصل لمرحلة الجفاء. فاهماني يا مي؟ أياً كان اللي جواكي، طلّعيه وتكلمي. ولو اتكلمتي وحسيتي إنك مرتحتيش، أنا في ظهرك، متقلقيش من أي حاجة. يلا، قومي البسي حاجة عشان تطلعي تسلمي عليه، وبعد الغداء هسيبكم تتكلموا شويه. يلا يلا."

ثم دفعها برفق لتنهض، قبل أن يغادر الغرفة.

نظرت إلى الباب بعدما أغلقه خلفه، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، مليئة بالامتنان. شعرت بالطمأنينة، فقد أدركت أن أي قرار ستتخذه ستجد من يقف إلى جانبها ويدعمها. نهضت أخيرًا، وبدأت في ارتداء شيء مناسب استعدادًا للخروج.

خرجت من غرفتها، فوجدته جالسًا في انتظارها، وما إن رآها حتى وقف فجأة، كأنما كان يترقب قدومها بكل شوق. ارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة زينت ثغره، وهو يتأمل طلتها الرقيقة، بحجابها الذي زُيّن رأسها وثيابها التي أصبحت تتناسب معه، مما زادها وقارًا وأناقة.

تقدمت إلى غرفة الصالون حيث كان يجلس، وألقت عليه التحية بصوت خافت قبل أن تتخذ مقعدًا بعيدًا عنه، دون أن تنظر إليه. ظل هو واقفًا، يملؤه الاشتياق، لكن سرعان ما تبدلت مشاعره إلى حيرة وألم عندما لاحظ جفاءها الظاهر، وابتعادها عنه كأنها تضع بينهما مسافة كافية للهروب. شعر بانقباض في صدره، وجلس في صمت، يراقبها بأمل أن تلتقي نظراتهما، لكن خاب ظنه، إذ لم تحاول حتى أن ترفع عينيها نحوه.

أما هي، فلم تكن ترغب في رؤيته الآن، إذ كان قلبها ما زال ينزف ألمًا، والوجع يتغلغل في أعماقها.

ساد بينهما صمت ثقيل، لم يقطعه سوى صوت والدتها وهي تناديها لتساعدها في تحضير السفرة.

التف الجميع حول مائدة الطعام، وجلست مي مقابله، مما زاد من إحساسه بالضيق، إذ راح يراقبها بصمت، يلاحظ شرودها الدائم، ومحاولاتها المتكررة لتفادي النظر إليه، حتى لو صُدفةً. كانت تغرق في عالم آخر، تقلب الطعام في طبقها دون اهتمام، بينما تحاول أن تشغل نفسها بأي شيء عدا مواجهته.

شعر بأن هناك شيئًا غير طبيعي، شيء يجعل قلبه ينقبض بقلق. لم يكن يعرف سببه، لكنه كان متأكدًا من أنه متعلق بها، بنظراتها الهاربة، وبالهالة الغامضة التي تحيط بها. لم يكن وحده من لاحظ ذلك، بل حتى أخوها ظل يراقبها بريبة، بينما كانت والدتها تحاول كسر الأجواء الثقيلة بالحديث المستمر والترحاب الزائد بمعتز.

قطعت والدتها الصمت بتوجيه حديثها له بمرح:
"انت مكسوف ولا إيه؟ ولا الأكل مش عجبك؟ أنا كده هزعل، انت ما كلتش حاجة! ينفع كده؟"

أفاق من شروده، ثم همهم سريعًا وهو يحاول استجماع نفسه:
"أحم... لا، أبدًا، الأكل جميل جدًا يا ماما، تسلم إيدِك بجد."

ضحكت والدتها، ثم تابعت بمزاحها المعتاد:
"أمال إيه؟ مش شايفاك بتاكل! تقول علينا بخلاء ولا إيه؟"

حاول أن يرسم ابتسامة مجاملة، لكن عيناه كانتا تتعلقان بمي الجالسة أمامه، والتي لم ترفع رأسها نحوه حتى لمحة، كأنها تتعمد إخفاء وجوده. زادت حيرته، وتساءل في داخله عن السبب وراء هذا التجاهل الواضح، لكن لم يكن أمامه سوى أن يساير الحديث ويمثل أنه يأكل، لعلّ الغداء ينتهي سريعًا ليتمكن من الجلوس معها وفهم ما يحدث.

وأخيرًا، انتهت المائدة، فنهضت مي وبدأت في جمع الأطباق، لكن صوت أخيها هيثم استوقفها وهو يقول وهو يدخل غرفة الصالون مجددًا:
"مي، اعمليلنا اثنين شاي من إيدِك، إحنا قاعدين هنا."

أجابته بفتور:
"حاضر."

كانت تستعد لجمع بقية السفرة عندما أوقفتها والدتها بلطف:
"سيبي دي، أنا هلمهم، روحي انتي اعملي الشاي."

لم تجد مهربًا، فأجابت باستسلام:
"حاضر."

بعد قليل، عادت تحمل صينية الشاي، تقدمت بها إليهم، وما إن وضعتها حتى نهض هيثم وأخذ كوبه، ثم قال بابتسامة خفيفة وهو ينسحب للخارج:
"طيب، أنا هسيبكم تتكلموا شوية مع بعض، هعمل مكالمة في البلكونة اللي قدامكم."

ثم غادر، تاركًا لهما مساحة للحوار، لكنه لم يغب تمامًا، بل وقف عند باب الشرفة يراقبهما عن قرب، متظاهرًا بالانشغال بمكالمته الهاتفية.

كان الوقت قد حان لمواجهة لا مفر منها.

جلست على المقعد المجاور له، لكنها أبقت رأسها منخفضًا، تهرب من نظراته الثاقبة التي تكاد تخترق روحها. كانت تفرك يديها في توتر واضح، مشاعر الخوف تجتاحها، ليس خوفًا عادياً، بل رهبة حقيقية منه. لم تعد تشعر بالأمان، بل باتت تهابه بشدة، تخشى أن يفعل معها ما رأته منه، تلك الأفعال العنيفة السادية التي لم تكن تتخيلها يومًا. لم تستوعب حتى اللحظة ما رأته بأم عينها، وكأن معتز الذي عرفته قد اختفى، وسقط تمامًا من نظرها. لم تجد ما يقال، لم تجد حتى الكلمات، فقط شعرت بأن كل شيء داخليًا قد مات، وكل ما تريده الآن هو إنهاء هذه المسرحية العبثية بأي شكل.

طال صمتها أكثر مما يحتمل، فبادر هو بالكلام، بنبرة رخيمة وهادئة، تحمل قلقًا واضحًا:
"مالك يا مي؟ فيكِ إيه؟ وليه بتهربي مني كده؟"

انتظر منها ردًا، لكنه لم يأتِ. تنهد، ثم أكمل محاولًا الوصول إليها:
"حاسس إن فيكِ حاجة متغيرة... ممكن تبصي لي طيب؟"

لكنها لم تفعل، ظلت صامتة، متماسكة بأقصى ما لديها، غير قادرة حتى على منحه نظرة واحدة.

مرر يده في شعره بانزعاج، ثم قال بنبرة أكثر رجاءً:
"مي، سكوتك بيعذبني بجد! إحنا المفروض كان يكون كتب كتابنا من يومين، ليه مصرة ترجّعينا لنقطة الصفر؟ إيه اللي حصل فجأة وخلاكي تنهاري؟ طيب، لو أنا عملت حاجة ضايقتك أو زعلتك، أرجوكِ فهميني! أنا حاسس إنك حزينة، وقلبــ..."

توقّف فجأة حين رأى نظرة عينيها وهي ترفع رأسها إليه أخيرًا. لم تكن نظرة حب، لم تكن حتى نظرة عتاب، بل كانت نظرة خذلان عميق، غريبة، حادة، وكأنها تراه الآن لأول مرة.

جاء صوتها مختنقًا، بالكاد يُسمع، لكنه كان مشحونًا بمرارة موجعة:
"قلبك!"

قالتها بدهشة ساخرة، ثم تابعت بصوت متماسك بالكاد، تحاول ألا تنهار أمامه:
"هو اللي زيك له قلب أصلاً؟"

تجمد في مكانه، ينظر إليها بذهول، وكأن كلماتها كانت صفعة غير متوقعة. حاول استيعاب معناها، لكنه لم يفهم، فردّ بحيرة ممتزجة بالانزعاج:
"مش فاهم... برده، إيه اللي صدر مني ويخليكي تكلّمني بالطريقة دي؟ فهميني!"

لكنها لم تجبه، فقط عادت إلى صمتها، إلى نظراتها التي ترفض مواجهته. بدأ نفاد صبره يزداد، فتكلم بحدّة واضحة:
"انطقي! اتكلمي! قولي في إيه؟ مالك؟!"

كان الحديث أصعب من أن يُقال، كانت الكلمات تحترق في حلقها قبل أن تخرج. لم تكن ترغب في أن تصل الأمور إلى هذه النقطة، لكن لم يعد هناك مفر.

بيدين مرتجفتين، أخرجت هاتفها وألقته أمامه دون كلمة.

نظر إليها بدهشة، ثم التقط الهاتف ونظر إلى شاشته. للحظة، لم يظهر أي تعبير على وجهه، لكن سرعان ما تغير كل شيء. احتدت نظراته فجأة، تطاير منها غضب قاتم، وكأن حربًا على وشك أن تندلع في المكان.
… .
وقف عاصم خارج الغرفة، يراقب الطبيب ومساعديه وهم يفحصون سيلا. كان صدره يعلو ويهبط بسرعة، وكأن أنفاسه تتسابق مع دقات قلبه التي لم تهدأ منذ أن وجدها ممدة على الأرض بلا حراك.

مرّت الثواني وكأنها دهر، وعيناه معلقتان بها من خلف الزجاج، يتابع كل حركة للطبيب، وكل نظرة يتبادلها مع مساعديه. رفع الطبيب رأسه أخيرًا، واتجه نحو الباب بخطوات هادئة، لكن وقعها في أذن عاصم كان كقرع طبول الحرب.

انتصب عاصم واقفًا فور خروج الطبيب، وعيناه تبحثان في ملامحه عن أي بصيص أمل. لكنه لم ينتظر أن يتحدث الطبيب، بل عاجله بصوت مختنق:

— طمني، هي كويسة؟

توقف الطبيب لوهلة، ثم قال بنبرة مهنية هادئة:

— فقدت وعيها بسبب هبوط حاد في ضغط الدم، ويبدو أنها لم تأكل شيئًا منذ فترة. النزيف من أنفها نتيجة السقوط، لكن لا يوجد كسر، فقط ارتطام قوي.

زفر عاصم بارتياح نسبي، لكنه لم يستطع كبح غضبه من نفسه ومن إهمالها لحالتها. نظر للطبيب بقلق وسأل:

— طيب، هي هتفوق إمتى؟

— قريبًا، أعطيناها محلولًا وستستعيد وعيها خلال وقت قصير. لكن عليك أن تحرص على أن تتغذى جيدًا وتأخذ قسطًا كافيًا من الراحة.

أومأ عاصم بصمت، ثم التفت نحو الغرفة، وعيناه لم تفارقا وجهها الشاحب. كانت ملامحها هادئة، وكأنها نائمة بسلام، لكن قلبه كان يعصف بالقلق.

دلف إلى الداخل بخطوات بطيئة، وجلس بجانبها، ممسكًا بيدها برفق، وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه. تمتم بصوت خافت يكاد لا يُسمع:

— مش هسمحلك تهملي في نفسك تاني، فاهمة؟

ـــــــــــــــــــــــــــ

قبض على الهاتف بشدة حتى برزت عروق يده، وابيضت من شدة اختناقه، ثم أرجع رأسه للخلف ناظرًا إلى أعلى، مغمضًا عينيه، مقهقهًا بسخرية:

— هو ده سبب تغيرك عليا؟

تعجبت من تحوله المفاجئ وابتسامته التي لم تستطع تفسيرها، وزاد توترها ورهبتها أكثر، فأصبحت تفرك الخاتم الذي بيدها بارتباك، محاولًة نزعَه دون وعي. لاحظ ارتباكها، فتعالت ضحكاته أكثر، ضحكات تحمل بين طياتها وجعًا دفينًا وسخرية مريرة.

ردت بصوت متعجب، يحمل بين حروفه شيئًا من التوتر:

— انت بتضحك على إيه؟ هو للدرجادي الموقف يضحك؟

لم يحِد بنظره عنها، وكأنه يودّعها بعينيه قبل كلماته، ثم تكلم، لكن صوته كان مختنقًا، مكسورًا، ممزقًا بحمل ثقيل من الألم:

— بضحك على حلم فجأة صحيت منه، ومش هشوفه تاني، وبضحك على نهايتنا… اللي المفروض تكون بداية لينا، فاكرة؟

ثم زفر بقوة قبل أن يكمل:

— عشان كده قلبي مصدقش نظراتك ليا، وهروبك مني.

تنهد بعمق، كأنه يحاول دفع ثقل يعتصر صدره، ثم تابع:

— هحكيلك على حكاية صغيرة، هفكّرك بحد كده…

نظرت إليه بعدم فهم، وعقدت حاجبيها وهي ترد بارتباك:

— حكاية إيه؟ مش فاهمة؟

واصل معتز استرسال حديثه، وكأنه لم يسمعها:

— أعرف واحد كان عايش حياته طول بعرض، كان بيعمل كل حاجة ممكن عقلك الصغير ما يتخيلهاش…

ابتسم بوجع قبل أن يكمل:

— مش هقول ليه وصل لكده، وبسبب إيه، لأنه مش مبرر، لكن اللي أقدر أقوله إنه قابل ملاك عمره.

كانت ابتسامته هذه المرة صادقة، نابضة من الأعماق، قبل أن يواصل حديثه:

— وعلى ما أعتقد إني اعترفت لها إني مش ملاك، وإني ارتكبت في حق نفسي وفي حق ربنا معاصي كتير، من غير ما أدخل في تفاصيلها لأنها مش ينفع تتحكي أصلاً، لكن كانت نيتي صادقة معاها… إني هتغير.

صمت لبرهة، كأنه يستجمع قواه لمواصلة الحديث، ثم تابع:

— وفعلاً وقتها هي وعدتني إنها هتساعدني، لكن بعدها… عملتي حاجات كنت في الأول بضايق منها، لكن بعدين فهمت إنك مش المفروض تغيريني، أنا اللي لازم أتغير، ولازم يكون ربنا هو هدفي الأول مش أي حد تاني، وفعلاً بدأت، لكن شكلي جيت متأخر… ومش هلحق.

أخرج أنفاسًا حارة، كأنها تحمل بعضًا من الألم المتكدس داخله، ثم واصل:

— بدأت أتغير، وبدأت حاجات كتير، وكان كتب الكتاب من يومين… لكن صحيت فجأة على قلم، وعلى إني سقطت من نظر ملاكي اللي قاعدة قدامي دلوقتي.

ابتلع غصة مرة، وكأنها تخنقه، ثم أكمل بصوت مختنق:

— صدقيني، أنا النهارده يوم دفنتي، أنا اتقتلت النهارده.

ظلت صامتة، تنصت إليه بكل كيانها، تنظر إليه بألم وهي ترى هيئته المكسورة، وشعرت بصدق كلماته تتغلغل في روحها، فخرج صوتها مختنقًا، متأثرًا بدموعها التي انسابت دون مقاومة:

— ح… حاجات إيه اللي عملتها وغيرتك؟

نظر إليها مبتسمًا، لكن ابتسامته كانت تحمل وجع العالم كله، قبل أن يقول:

— معترف إني كنت بضايق لما بحاول أمسك إيديكي، وتسحبيها برفض وتقولي "لا، مش دلوقتي"، ولما كنت تتحججي لو قلتلك نخرج لوحدنا، لأن وقتها أخوكي أو مامتك مش هيقدروا ينزلوا معانا… كنت بضايق في الأول، لأني حتى ما سمعتش منك كلام معسول وقت ما بطلب أنا، لكن بعد كده فهمت… فهمت إنك مش عايزة تغضبي ربنا إرضاء ليا، وإنك كنتي صح… وقتها فهمت إن التغيير مش المفروض يكون عشان حد، لازم يكون نابع مني… وبدأت فعلاً.

تنهد، وكأنما يُخرج ثقلًا دفينًا داخله، ثم نظر إلى الخاتم الذي يزين أصابعها، وهي تعبث به بارتباك، قبل أن يقول بصوت محمل بالمرارة:

— آسف بجد… آسف إني خذلتك فيا، وآسف إني مكنتش الراجل اللي تتسندي عليه.

ثم ابتسم بسخرية ممزوجة بألم قاتل:

— أنتي تستحقي الأحسن مني… حد يكون أنضف مني، حد مشواره مش مكتوب عليه النهاية قبل ما يبتدي… مش هينفع أكمل، وأنا شايف في عيون حبيبتي إني سقطت من نظرها. 
وقف معتز للحظات، ينظر إليها نظرة أخيرة، وكأن عينيه تودعانها قبل أن يودعها لسانه. كانت شهقاتها تهز كيانه، لكنها لم تكن كافية لتثنيه عن قراره. فقد كان يعلم جيدًا أنه لا يمكنه الاستمرار بعدما رأى في عينيها تلك النظرة التي هشمته من الداخل.

استدار ببطء، خطواته ثقيلة كأنها تسير فوق كتل من الألم، وكلما ابتعد، شعر وكأنه يترك خلفه قطعة من روحه. وصل إلى الباب، توقف لبرهة، لم يلتفت، فقط همس بصوت خافت، بالكاد يُسمع لكنه اخترق قلبها كسهم نافذ:

— سلام.

كلمة واحدة، لكنها حملت في طياتها وداعًا لا رجعة فيه.

خرج دون أن ينظر خلفه، وهو يعلم أن روحه ستظل معلقة عند تلك اللحظة، عند تلك الدموع التي لم يستطع مسحها، وعند ذلك القلب الذي خذله رغم أنه كان أقرب ما يكون للخلاص.
وانصهر الجليد، بقلم شروق مصطفى
أما هي، فبقيت جالسة في مكانها، يداها تخفيان وجهها، وجسدها يرتجف تحت وطأة البكاء. كان رحيله صادمًا، موجعًا، لكنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن هذا الفراق قد كُتب منذ البداية، حتى وإن حاول كلاهما إنكاره.

في الخارج، سار معتز في الشوارع بلا وجهة، لا يدري إلى أين تأخذه قدماه. كل ما كان يشعر به هو فراغ قاتل، وكأن قلبه تُرك هناك معها، ينتحب بصمت كما تنتحب هي خلف الأبواب المغلقة.

لقد انتهى كل شيء، لكنه كان يعلم جيدًا… أن هذا الجرح لن يندمل بسهولة.
 ـــــــــــــــــ
على الجانب الآخر داخل المشفى...
دلف إلى الداخل بخطوات بطيئة، وجلس بجانبها، ممسكًا بيدها برفق، وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه. تمتم بصوت خافت يكاد لا يُسمع "مش هسمحلك تهملي في نفسك تاني" 
بعد قليل رمشت قليلاً قبل أن تفتح عينيها، فابتسم لها رغم القلق الذي يسكن قلبه، اقترب منها وهمس بصوت مملوء بالعتاب:
— كده تخضّيني عليكي؟

نظرت إليه بتعجب، وكأنها تحاول تذكر ما حدث، لكن ملامحها انكمشت في ارتباك، وكأنها غير مدركة لما جرى:

— ليه؟ إيه اللي حصل؟ مش فاكرة حاجة…

حاولت النهوض، لكن فجأة شعرت بألم في يدها، تمتمت بوجع وعادت إلى وضعها السابق، عيناها تبحثان عن السبب، حتى وقعت على الغرز الصغيرة في يدها حيث كان المحلول مثبتًا، أشارت إليها بعينيها وقالت بضعف:

— إيه ده؟ أنا آخر حاجة فكراها إني كنت بغسل إيدي ووجهي… ومحستش بحاجة بعد كده.
بقلم شروق مصطفى
اقترب منها أكثر، وقبل جبينها بحنان، كأنه يطبع عليها أمانه الذي تخشى فقدانه، ثم بدأ يسرد لها ما حدث، كيف أغمي عليها فجأة، وكيف وجدها ممددة على الأرض، وكيف هرع الطبيب لإنقاذها.

كانت تستمع إليه في صمت، لكن عندما التقت عيناها بعينيه، وجدت فيهما خوفًا لم ترَه من قبل، فأحست بوخزة في قلبها، شعرت بالذنب لأنها جعلته يمر بتلك اللحظة العصيبة، فتمتمت بأسف:

— آسفة بجد… آسفة إني خليتك تعيش اللحظة دي، وخضيتك عليا.

ثم زفرت بعمق، وكأنها تحاول طرد الاختناق الذي يحيط بها، وبصوت محمل باليأس قالت:

— عاصم… أنا مخنوقة أوي من هنا، عاوزة أخرج… مش قادرة أكمل، سيبني أخرج من هنا وأكمل اللي باقي لي بعيد عن المكان ده.

نظر إليها بدهشة، وكأن كلماتها صدمته في صميم قلبه، عقد حاجبيه وقال باستنكار:

— وتسيبيني لوحدي؟!

سادت لحظة من الصمت الثقيل، كان ينظر إليها مطولًا، وكأنه يحاول أن يفهم سبب تغيرها، ثم قال بنبرة جادة:

— قد إيه إنتي أنانية أوي…

نهض فجأة، مرر يده في شعره بانفعال، وكأن حديثها أيقظ فيه شيئًا لا يريد مواجهته، ثم عاد للجلوس مرة أخرى، أمسك يدها بقوة، نظر إليها نظرة محملة بالخذلان والألم وقال بصوت متحشرج:

— أنا ليا مين غيرك؟ قوليلي ليا مين؟ مش قادرة تكملي عشاني حتى؟ أنا ماليش خاطر عندك للدرجة دي؟! عاوزة تقطعي العلاج… العلاج الوحيد اللي بسببه هتشفِي وترجعي لحياتك… ونعيش حياتنا سوا؟ ليه بقيتي كده؟ إنتي أقوى من كده، سيلا اللي عرفتها قوية، مش ضعيفة… لازم تحاربيه بكل قوتك!

صمت قليلًا، وكأنه يحاول جمع كلماته قبل أن يكمل:

— عارفة؟ ده ابتلاء من ربنا… عاوز يختبر صبرك عليه، وعاوز يشوف إيمانك! طيب، أنا ممكن أكون ماليش خاطر عندك، بس ربنا؟ هتقولي له إيه؟ "أنا تعبت، مقدرتش"؟! لا، لازم تعملي اللي تقدري عليه… ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فاهمة؟ لازم تقاومي المرض اللعين ده، لازم تقفي قدامه وما تسمحيش له ينتصر عليك.

ثم أمسك يدها بقوة أكبر، ونظر إليها بعيون دامعة، لكن صوته كان ثابتًا، كأنه يريد أن يزرع فيها القوة من جديد:

— وبعدين… إنتي شفتي الأطفال هنا بيحاربوا المرض إزاي عشان يعيشوا طفولتهم اللي لسه حتى ما عاشوهاش؟ شفتي الشباب والكبار اللي بيتمسكوا بالحياة رغم كل حاجة؟ هما أقوى منك يا سيلا؟ لو شفتي باقي المستشفى، هتحسي إنك مش لوحدك في الحرب دي، الكل بيحارب… الفرق الوحيد إن في ناس بتكمل، وفي ناس بتستسلم. إنتي مين فيهم؟

تنهد بعمق، ثم قال بنبرة أكثر هدوءًا، لكنها مشحونة بالقوة:
 خلاصة الكلام… ده اختبار من ربنا، ولازم تنجحي فيه، وبامتياز كمان. فاهمة


الفصل العاشر وأنصهر الجليد بقلم شروق مصطفى

بينما كان يشدد يديه حول يديها، يضمها إليه كأنما يمنحها وعدًا صامتًا بأنه لن يتخلى عنها أبدًا، عادت الحياة إلى عينيها، وانهارت دموعها تحت وطأة كلماته التي كانت دائمًا مصدر دعمٍ وسندٍ وأمان. ابتسمت له، وبلغة يغمرها الصدق همست:

— "أنا بحبك أوي، بجد، غالي عندي جدًا، والله بجد، انت مهون عليا كل حاجة... مكنتش أعرف إنك حنين أوي كده."

ابتسم لها وهو يراقب عينيها المتلألئتين:

— "طيب إيه؟ مش عايزة حضن؟"

نظرت إليه بخجل، وأدارت وجهها بعيدًا، فابتسم لحَيائها، ثم أمسك بذقنها برفق، يجبرها على مواجهته بعينيه، لكن حين لمح انتهاء المحلول، جذبها إليه وأحاطها بذراعيه في دفء، وكأنه يحاول أن يخبرها أن وجوده هو الأمان. لكن فجأة، تذكر شيئًا، فابتسم وتحدث ممازحًا:

— "عارفة لو نمتي دلوقتي يا هادمة اللحظات الحلوة انتي؟"

لم تُجبه، بل اختبأت في حضنه مجددًا، فاستسلم لعنادها وهو يربت على رأسها بحنان، وكأنها طفلته الصغيرة.

بعد قليل، تركها ونهض ليُحضر لها بعض الطعام. وبعد محاولات كثيرة، أقنعها بأن يأكلها بيده، وحين حاولت النهوض، استوقفها سريعًا:

— "رايحة فين؟"

نظرت إليه بتعجب:

— "هاغسل إيدي في حاجة؟"

ابتسم لها، ثم، دون سابق إنذار، حملها بين ذراعيه:

— "من النهاردة، أنا اللي هعملك كل حاجة."

شهقت في دهشة وهي تحاول التخلص من قبضته:

— "لا نزلني! إنت بتعمل إيه؟ مش هينفع كده، لا بجد مش مستاهلة."

لكنه تجاهل احتجاجاتها وأنزلها برفق أمام صنبور المياه. نظرت إليه بضيق وهي تدفعه في صدره:

— "خلاص طيب، مش للدرجة دي، أنا بقيت كويسة بجد، امشي بقى."

لم يُعر كلامها أي اهتمام، ولم تؤثر لمساتها الخفيفة على صدره. بل اقترب أكثر، وقف خلفها، ثم احتضنها من الخلف، أمسك بيديها، وأخذ يغسلهما بنفسه، بل ومسح وجهها أيضًا بحنان.

نظرت إليه بتعجب، لكنه باغتها بابتسامته الماكرة:

— "مش هخليكي تعملي أي مجهود، ولو كان بسيط... فاهمة؟"

ظلّت تحدق به في صمت، حتى أكمل بمكر:

— "إيه؟ بتبصيلي كده ليه؟ لا، أنتِ كده بتغريني لحاجات، وأنا ماسك نفسي بالعافية، أنتي حرة بقى!"

احمرّ وجهها خجلًا، وأدارت رأسها للجهة الأخرى وهي تهمس باستنكار:

— "سافل..."

ضحك بخفة:

— "سمعتك على فكرة!"

ثم حملها مجددًا ووضعها برفق على الفراش. نظرت حولها في دهشة عندما رأت مجموعة من الكتب بجوارها، فالتفتت إليه مستفسرة:

— "إيه دول؟"

ابتسم بفخر:

— "لما خرجت وانتي نايمة، لفيت لحد ما جبتلك كتب، قلت تتسلي بيهم شوية."

ابتسمت له بحب، ثم أردفت بامتنان:

— "شكرًا بجد، فعلًا كنت محتاجاهم."

تأمل وجهها للحظة، ثم قال بحماس:

— "وعندي ليكي خبر هيفرحك أوي كمان!"

انتفضت سيلا بحماس:

— "خبر إيه؟ قول بسرعة! ها... همشي من هنا، صح؟"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نهض من أمامها عندما رأى انهيارها، وكأن شيئًا داخله انكسر معها. لم يرد أن يفعل شيئًا قد يندم عليه، فاكتفى بإلقاء كلمة "سلام" بصوت خافت، ثم غادر بخطوات مثقلة، رأسه محني بانكسار. غير أنه لم يبتعد كثيرًا، إذ وجد هيثم يقف أمامه، يراقب المشهد بصمت بعد أن استمع لآخر كلمات دارت بينهما.

نظر له معتز بتعجب، بينما وقعت عيناه على شقيقته المنهارة خلفه، ثم سرعان ما حاول إخفاء حزنه المتفجر في عينيه. بادره هيثم بنبرة هادئة ولكن حازمة:

— مش هخبي عليك، أنا كنت حاسس إن فيه مشكلة بينكم... طيب، تعالى معايا، عايز أتكلم معاك، هننزل تحت أحسن.

لم يجد معتز مفرًا، فغادر المنزل برفقته، تاركًا خلفه أصداء كلماته الأخيرة ودموع مي التي لم تتوقف.

في تلك اللحظة، خرجت نبيلة من المطبخ على أثر صوت إغلاق الباب، لتجد الصالة خاوية، لكنها سرعان ما انتبهت إلى صوت بكاء مكتوم قادم من الغرفة. هرعت إليها بقلق، فوجدت ابنتها جالسة، غارقة في دموعها، فاقتربت منها بخوف:

— هو مشي إمتى؟ مالك يا بنتي؟ فيكي إيه؟ عملك حاجة؟ انطقي!

لم تجد ردًا، فازدادت قلقًا وجلست بجانبها، تحاول استيعاب ما يحدث:

— يا بنتي، في إيه؟ الراجل مشي فجأة ليه، وانتي بتعيطي كده ليه؟ يا حول الله يارب!

اعتدلت مي قليلًا، وابتلع صوتها الحزين كلماتها قبل أن تنطق:

— خلاص يا ماما... سيبنا بعض. مفيش نصيب بينا.

اتسعت عينا نبيلة في صدمة، ووضعت يدها على صدرها، غير مصدقة ما تسمعه:

— بتقولي إيه؟! سبتوا بعض؟ ليه؟ إيه اللي حصل؟

أخذت مي نفسًا عميقًا، ثم قالت بهدوء متكسر:

— طيب، اهدي كده واحكيلي، يا حبيبتي، إيه اللي حصل؟ إزاي وصلتم لكده؟ الراجل ده، أنا بعيني شفت حبه ليكي ولهفته عليكي... مش شفتي كان هيجنن يوم ما دخلتي المستشفى؟

رفعت مي عينيها إلى والدتها، نظرة يملؤها الانكسار:

— خلاص يا ماما... حتى لو بيحبني، مفيش فايدة. جوايا حاجة اتكسرت، وصورته اتهزت في عيني... إزاي أبصله تاني وكأن مفيش حاجة حصلت؟ مستحيل.

ثم نهضت من مكانها، مستأذنة بصوت خافت:
— بعد إذنك، عاوزة أنام.

راقبتها نبيلة بعينين يملؤهما الحزن، قبل أن تخرج وهي تهمس في داخلها بقلق، متجهة إلى ابنها لتعرف منه الحقيقة.

أما مي، فبعدما أغلقت باب غرفتها، همست بصوت لا يكاد يُسمع، وكأنها تحاول إقناع نفسها:

— حتى لو بنحب بعض، جوايا اتكسر خلاص...

ثم حاولت الهروب إلى النوم، لعلها تجد فيه ما يعوضها عن ألم اليقظة.
ـــــــــــــــــــــــــ
"خبر إيه؟ قول بسرعة! ها... همشي من هنا، صح؟"
نظر لها عاصم بعيون مليئة بالتسلية، ثم قال بنبرة خفيفة:

تمشي من فين؟ إحنا لحقنا؟ لا،  فكري … ولا أقولك؟ اديني مقابل، وأقولك على طول.

تمتمت ببعض الكلمات غير الواضحة قبل أن تتمتم بوضوح:
استغلالي أوي!

سمعها عاصم، فابتسم بخفة وأردف:
برطمي براحتك، فكري في المقابل الأول.

فكرت قليلًا ثم قالت بمكر:
لو الخبر حلو، اللي أنت تطلبه هعمله، أما لو معجبنيش، فمفيش حاجة. ها، يلا قول الخبر.

هز عاصم رأسه نافيًا بحزم:

لا، هتنفذي على طول، سواء حلو أو وحش، هيتنفذ.

رفعت سيلا إحدى حاجبيها بتفكير وعناد واضح:

لا، على حسب الخبر!

ابتسم عاصم لها بحب وهو يقول بلطف:
ماشي يا غلباوية، بصي، كمان أسبوع بالضبط، همسة ووليد جايين هنا ومقيمين معانا. في أحلى من كده؟ ها، أستاهل مقابل ولا لا؟

ما إن سمعت الخبر حتى قفزت من فرحتها، ولم تتمالك نفسها، بل اندفعت نحوه لتحتضنه سريعًا وتطبع قبلة رقيقة على وجنته، ثم تراجعت وهي تبتسم بسعادة غامرة:
بجد، تستاهلها! أنا فرحانة أوي أوي!

ظل عاصم متجمدًا في مكانه للحظات، غير مستوعب لما حدث، وضع يده على موضع قبلتها ونظر إليها بعشق، بينما هي ابتعدت عنه تبتسم بسعادة. نظر إليها باندهاش قبل أن يقول:

إيه ده اللي عملتيه دلوقتي؟

تغيرت تعابير وجهها للحظة، لكنها سرعان ما فهمت ما يقصده، فابتسمت له وهي تقول بمكر:

إيه؟ المقابل اللي قولت عليه؟ بصراحة، الخبر حلو أوي وفرحني جدًا، تسلملي يا رب، يا حبيبي.

اقترب منها عاصم بخطوات بطيئة وهو يقول بنبرة ماكرة:

لا، كده أنتِ ضحكتي عليا خالص، ما بدهاش بقى… أنا هاخده بنفسي.

حاولت التراجع بسرعة وهي تتجه نحو الفراش، ثم غطت وجهها بالغطاء قائلة بمرح:

لا، لا، لا! أنت غشاش! امشي يلا بقى، أنا هنام، لأني تعبانة.

توقف عاصم ينظر إليها بدهشة مصطنعة، ثم تمتم وهو يتظاهر بالحزن:

أمشي؟ يعني دا جزاتي في الآخر؟ طيب، ماشي يا سيلا… حسابك تقل أوي معايا، وأنا بقى بجمعهم لك، أنا ماشي أهو.

قالها وهو يهم بالخروج، لكنه توقف عندما سمع صوتها يناديه:
استنى!

التفت إليها سريعًا، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مليئة بالأمل وهو يقترب منها مجددًا:
إيه؟ جيت، أنا كنت عارف إنك مش ههون عليكِ، صح؟

ابتسمت سيلا بخبث قبل أن تقول بمرح:

آه، معلش، قبل ما تمشي، ناولني الريموت دا، واقفل الباب وراك، مش قادرة أقوم.

تجمد في مكانه لثوانٍ، ينظر إليها بصدمة، ثم زفر بضيق وهو يقول مغتاظًا:

ر... إيه؟ ريموت؟! ماشي يا سيلا… اتفضلي، ريموت أهو!

ناولها الريموت بغضب مصطنع، ثم خرج وهو يغلق الباب خلفه، لكنه لم يستطع منع نفسه من الابتسام عندما سمع صوت ضحكاتها العالية تتردد في الغرفة. همس لنفسه وهو يمشي مبتعدًا:

صبرني يا رب… وعدّي الأيام الجاية على خير، ويشفيها ويشفي كل مريض، يا رب.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما خرجا سويًا، قال هيثم بنبرة هادئة:

تعالى، هنروح نقعد في كافيه ونتكلم.

ركب معتز بجانبه على مضض، بينما خيم الصمت بينهما طوال الطريق. وعندما وصلا إلى الكافيه، جلسا معًا، لكن نظرات هيثم كانت تحمل الكثير من التساؤلات، قبل أن ينطق أخيرًا:

ممكن تحكيلي إيه اللي حصل؟ أظن إحنا شباب زي بعض، وبنفهم بعض كويس. كنت حاسس إن في موضوع كبير، من يوم ما وقعت وجالها انهيار، ورفضت تشوفك، وحتى ترددها النهاردة في مقابلتك.

حاول معتز التماسك أمامه وإخفاء انكسار عينيه، لكنه زفر بعمق، ثم قال بصوت مبحوح:

مش هخبي عليك… أنا بحب مي، عمري ما حبيت قبلها ولا هحب بعدها. بس للأسف… خذلتها، وصورتي اتشوهت قدامها.

توقف للحظات، وكأنه يجمع شتات كلماته، ثم تابع:

مش هقولك إني ملاك، ولا هحاول أبرر نفسي. أنا بعترف… كنت شخص سيئ، لدرجة إني عصيت ربنا. بس بجد… اتغيرت. بدأت حياة نظيفة، بعيدة عن السواد اللي كنت فيه. زمان… مكنش عندي حد علشانه أتغير، وده كان غلط، لأن التغيير المفروض يكون لنفسك قبل أي حد. بس حاجات كتير اتغيرت لوحدها أول ما قابلتها… كأني اتولدت من جديد. هي علمتني، فهمتني حاجات عمري ما كنت أفهمها… لكن كله اتهد في لحظة واحدة.

ابتسم بوجع، ثم أكمل:

حياتي القديمة شكلها مش عايزة تسيبني، مش عايزة تديني فرصة أبدأ من جديد. كان لازم أمحي الماضي الأول، بس للأسف… ملحقتش، وسقطت من نظرها. مش قادر أوضح أكتر من كده… لأني مش قادر أتكلم بجد.

ماتت الكلمات في حلقه، وظل داخله يحترق بنيران الحب والفراق في آنٍ واحد. كان هيثم يراقب تعابير وجهه، يحس بانكساره العميق، حتى أنه شعر بالحزن الذي يتغلغل في صوته. ثم قال له بنبرة صادقة:

معتز، أنت بجد اتغيرت. واللي فهمته منك، واللي سمعته قبل ما تمشي، إنك فعلًا شخص مختلف. حياتك القديمة مش من حق حد يحاسبك عليها… ده ماضي، وانتهى. وأنت بنفسك قولت إنك كنت سيئ، وإنك عصيت ربك. إحنا مش ملايكة، كلنا بنغلط، أنا، أو أمي، أو أنت… المهم إننا نتعلم. وربنا بيقبل التوبة… العبد مش هيقبلها؟! الأهم إن توبتك تكون صادقة، مش عشان حد، عشان نفسك قبل أي حاجة. طول ما أنت على الطريق الصح، كمل، والأهم… متوقعش تاني في الخطأ.

ظل يراقب وجهه للحظات، قبل أن يستطرد:

لو مكتوبين لبعض، تأكد إنكم هتكونوا لبعض، حتى لو بعد حين. هي مسألة وقت، بس النفوس تهدأ. ولو مفيش نصيب، فأنت خلاص… الحمد لله، اتغيرت، وربنا راضي عنك، وبقيت إنسان صالح. إياك ترجع زي ما كنت عشان حد أو عشان رفض حد ليك. سيب الأيام تصلح كل شيء بينكم.

ثم وقف، ومد يده له ليصافحه، وقال بابتسامة صادقة:

أنا بجد مبسوط إني اتعرفت على شخص زيك، وإنك دخلت حياتنا واتغيرت للأحسن. وأنا معاك كأخ، لو احتجت أي حاجة.

نهض معتز هو الآخر، وصافحه بحرارة، قبل أن يقول بصوت مختنق:

وأنا اتشرفت بيكم كلكم… بلغ اعتذاري لماما، إني مشيت فجأة… وبلغ اعتذاري ليكم كلكم…

توقف قليلًا، لم يستطع نطق اسمها، فقد شعر أن دموعه ستخونه، ثم تمتم بصوت مرتعش:

وإن شاء الله… الأيام تبين حسن نيتي، وربنا يتقبل توبتي… ولو لنا نصيب…

ربت هيثم على كتفه عدة مرات، قبل أن يحتضنه مودعًا. ثم خرجا معًا من الكافيه، وعندما وصلا إلى السيارة، قال هيثم:

يلا، اركب… رايح فين؟ هوصلك.

لكن معتز أشار بيده رافضًا:

لا، توكل أنت… حابب أتمشى شوية.

ابتسم هيثم له وقال بهدوء:

ماشي، على راحتك.
قاد سيارته ورحل، بينما ظل معتز يتمشى بلا هدف، حتى توقف أمام النيل، ينظر إلى الماء كأنه غارق في حلم لا يريد أن يستيقظ منه. لكن داخله كان يغلي… ولد داخله إحساس جديد… إحساس بالانتقام ممن دمر كل شيء في لحظة. وفي صمت، عقد العزم على فعل شيء ما… ثم رحل.

توجه إلى الملهى الليلي، والغضب يعصف بداخله، عازمًا على الانتقام ممن كانوا سببًا في تدمير حياته. لكن ما إن وصل حتى صُدم بالمشهد أمامه. لم يكن هناك أثر للمكان سوى أطلال متفحمة، كأن النار ابتلعت كل شيء ولم تُبقِ حتى على ذكرى لما كان هنا.

اقترب معتز ببطء، عينيه تجوبان المكان، وكأنهما تبحثان عن دليل يُعيده إلى الواقع. سأل بعض أصحاب المحلات المجاورة، ليكتشف أن الملهى قد احترق بالكامل نتيجة ماس كهربائي مفاجئ، اندلعت منه نيران هائلة التهمت كل شيء، حتى الحديد انصهر تحت لهيبها، ولم ينجُ أحد ممن كانوا في الداخل.

وقف في مكانه للحظات، لم يشعر بجسده، وكأن قدميه لم تعد تحمله. ثم، شيئًا فشيئًا، تسللت ابتسامة خفيفة إلى شفتيه. لم تكن ابتسامة شماتة، بل كانت ابتسامة رضا… رضا من عدالة الله وانتقامه ممن أفسدوا في الأرض. شعر وكأن الله قد حماه من ارتكاب ما كان ينوي فعله، ونجّاه من خطيئة ربما كانت ستعيده إلى ظلام ماضيه.

رفع رأسه إلى السماء، همس بحمدٍ صادق:

الحمد لله… شكرًا لك يا رب.

ثم استدار، ومضى ليبدأ حياته الجديدة، واضعًا خلفه كل ما مضى، مستعدًا للمضي قدمًا.

---

بعد ستة أشهر…

طوال الفترة الماضية، لم يترك عاصم سيلا لحظة واحدة. كان بجانبها في كل خطوة، في كل جلسة علاج، في كل وجبة طعام. كان يعتني بها كأنها روحه، لا يفارقها إلا عند النوم. ومع الوقت، أصبحا روحًا واحدة، لا يقدر أحدهما على الابتعاد عن الآخر.

أما معتز، فلم يتحمل رؤيتها من بعيد، ولم يقوَ على الاقتراب منها، حتى النظر إليها كان أشبه بطعنة في قلبه. كانت قريبة، لكن المسافة بينهما أصبحت أبعد من أي وقت مضى.

لم يكن أمامه سوى الرحيل، فالوجود في نفس المكان معها دون القدرة على الحديث أو حتى اللقاء بعينيها كان أقسى عليه من أي شيء آخر.

قرر السفر، هربًا… ربما من نفسه أكثر من أي شيء آخر. توجه لأخيه، ليقف إلى جانبه كما يجب، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه يبحث عن أكثر من مجرد واجب أخوي. كان بحاجة إلى الهروب من ماضيه، من نظراتها التي لم تعد كما كانت، من ثقل الذكريات التي تلاحقه أينما ذهب.

ربما السفر سيمنحه فرصة لاستعادة ذاته، لإعادة ترتيب فوضى قلبه وعقله، للبحث عن معنى جديد لحياته بعيدًا عن الحزن والندم. لكنه كان يدرك جيدًا أن بعض الذكريات لا تمحى، وبعض القلوب لا تلتئم بسهولة.

ورحل معتز، تاركًا وراءه جزءًا من روحه، وقصة لم تكتمل.

أما همسة، فلم تفارقها إلا ليلًا، حين كانت تعود مع وليد إلى منزله القريب من المستشفى.

---

داخل غرفة العمليات، مرت أكثر من ثلاث ساعات… وفجأة، هرول بعض أفراد الطاقم التمريضي إلى الخارج، ثم عادوا ومعهم أطباء آخرون. عمّت حالة من الهرج والمرج، وصوت الأجهزة الطبية يعلو في الخلفية.

عاصم، الذي كان واقفًا بالقرب من الباب، شعر بقلبه ينقبض فجأة. وضع يده عليه، وكأنه يحاول تهدئته، لكنه لم يستطع. ارتعدت أوصاله، وكأن الخوف يتسلل إلى كل خلية في جسده.

أسرع إليه وليد، ربت على كتفه محاولًا تهدئته:

إن شاء الله هتطلع لنا بالسلامة، ادعِ لها بس.

لكن عاصم كان شاردًا، عيناه تائهتان وهو يرد بصوت مختنق:

مش قادر… حاسس إن روحي هي اللي بتطلع معاها. انت مشوفتش منظرها قبل ما تدخل… ولا الكلام اللي قالته… قلبي مقبوض أوي…

---

قبل ثلاث ساعات…قبل دخولها غرفة العمليات، نظرت سيلا إلى همسة وهمست بصوت ضعيف:
ادعيلي يا حبيبتي.
وانصهر الجليد
لم تتمالك همسة نفسها، ارتمت في حضنها هامسة:
بدعيلك والله… وهتخرجي لنا بالسلامة، إن شاء الله. انتي النور اللي بينور حياتنا كلنا.

بعدها، التفتت سيلا إلى عاصم، الذي كان واقفًا بعيدًا عند الباب، شاردًا في عالم آخر، متجمدًا في مكانه من شدة الخوف. لم يكن قادرًا حتى على الاقتراب، كأن الاقتراب منها يعني مواجهة احتمال فقدانها، وهو ما لا يستطيع تحمله.

ابتسمت له رغم تعبها، رغم أن المرض قد التهم شعرها وأضعف جسدها. مدّت يدها نحوه، تشير له بأن يقترب.
عاصم… تعالى قرب.
بقلم شرق مصطفى
اقترب منها ببطء، أمسك يدها، ضغط عليها بقوة، وكأنه يحاول أن يبعث لها الأمان، أن ينقل إليها قوته، أن يمنحها جزءًا من روحه.

نظرت في عينيه طويلًا، كأنها تريد أن تحفظ ملامحه داخلها إلى الأبد.

عاصم، عاوزاك توعدني وعد.
هز رأسه بسرعة، كأنه يرفض حتى مجرد فكرة الحديث عن أي شيء قد يحمل معنى الوداع.
هشّش… اسكتي، متتكلميش، أرجوكي.

لكنها تمسّكت به، نظرت إليه بترجٍ حارق:
عشان خاطري… اسمعني بس.

تألم من نظرتها، زفر بحدة وقال بنفاد صبر:
عشان خاطري انتي! مش عاوز كلام، انتي هتدخلي، وبعدها هتخرجي لنا، وهنبدأ حياتنا… هاخدك، ونسافر، ونلف العالم كله، و…

قاطعت كلماته، وانهمرت دموعها بصمت:

أرجوك، يا عاصم… بس.

شعر بمرارة في حلقه، ابتلع ريقه بصعوبة، وكبح دموعه وهو يقول:

أرجوكي… انتي بس اطلعي لنا بالسلامة، بعد كده قولي اللي انتي عاوزاه.

اختنق صوتها من أثر كلماته، ثم همست برجاء:
طيب… عاوزاك تحضني… ممكن؟

لم تنتظر أن تكمل كلامها، فقد جذبها إليه بقوة، احتواها داخله، كأنه يريد أن يحميها من العالم بأكمله. كان هذا العناق يحمل كل شيء… الحب، الخوف، الرجاء، التمسك، والانكسار في آنٍ واحد.

لم يشعر أحدهما بالزمن، تناسيا كل شيء، حتى أيقظهما صوت الممرضة وهي تربت على كتف عاصم برفق، تخبره أن الوقت قد حان… يجب أن تذهب.

لكنه لم يتحرك، لم يشأ أن يفلتها.

وكأنها تقرأ أفكاره، ابتعدت عنه ببطء، ونظرت إليه نظرة أخيرة، قبل أن تمسك يدها بيده، وتشد عليها للمرة الأخيرة، ثم تتركها…
ورحلت داخل غرفة العمليات 

تعليقات