
رواية ساهر بقلم داليا السيد
رواية ساهر الفصل الرابع4 بقلم داليا السيد
رحيل
ظل يتجول بالسيارة بلا هدى ثم توقف بمكان بعيد عن الزحام وتحدث مع عامر من أجل بعض العمل والاطمئنان على الجميع ثم سكن بالسيارة بمكان هادئ بجوار مطعم حيث سيتناول وجبة عشاء قبل أن يعود للفندق والمطر يتساقط بغزارة وما زال غاضبا من رفضها الغريب له، هل ظن أنها ستهرع له كتلك النساء التي اعتاد التعرف عليها والخضوع له من أول نظرة وابتسامة؟
لا، هي مختلفة، كل شيء بها مختلف والأفضل أن يتعامل معها من هذا المنطلق، هي من أول يوم كانت جادة وواضحة بأن العمل هو غايتها الأولى ومن الواضح أن ذلك الرجل الذي كان معها بالمطعم هو حبيبها أو صديقها لذا لا مجال لسواه معها وعليه أن يتراجع عن أفكاره وينتهي من مهمته بأسرع وقت ليرحل إلى مصر ويتابع حياته وكما قالت كلا منهم يعود لطريقه
الفيومي ما زال على حاله، ولكن الأطباء لم تمنحها أي مبشرات للتحسن تحركت لتخرج عندما سمعت اسمها من صوت تذكره فالتفتت لترى جاكوب، زميل من أيام الدراسة عرفته فملامحه لم تتبدل كثيرا رغم مرور السنوات
توقف أمامها بابتسامة جميلة كانت تجعل كل البنات بالمدرسة الثانوية يهرعن خلفه هي الوحيدة التي كانت تقف بالظل وتراقب دون كلمات حتى تعارفا وقت التخرج واقتصر التعارف على بعض الكلمات لا تذكرها حتى
حدق بها وقال "لا أصدق أني أراكِ أمامي آسيا، ماذا تفعلين هنا؟"
تراجعت أمامه، لها اسبوع وأكثر هنا مع والدها ولم تراه واليوم هو يراها يا لها من صدفة غريبة، لم تعرف كيف تبتسم وهي تواجه نظراته وقالت "والدي هنا بالعناية منذ اسبوع"
كانت عيونه الزرقاء تمنحها نظرات غريبة لم تعرفها من قبل وهو يقول "اسبوع!؟ وأنا لا أعلم! نعم لقد نسيت أني كنت بإجازتي السنوية، ماذا به والدك؟"
حكت له باختصار وتناقشت معه بحالته وهو طبيب جراحة وأخيرا قال "لقد انتهى دوامي ما رأيك بالعشاء؟ ربما نناقش حالة والدك ونستعيد بعض ذكريات الدراسة"
ابتسامته أعجبتها، كل البنات كانت تعجب به وبعيونه الزرقاء حتى هي كانت تتمنى منه نظرة لكن خجلها كان يمنعها من الظهور، كانت تختار الابتعاد كي لا يتنمر عليها أحد والآن لديها فرصة رائعة لتكون مع فتى المدرسة الأول بل وهو الآن جراح وبدا أنه ناجح بحياته
ابتسامته جعلتها توافق على العشاء وخرجا سويا، صرفت السائق وفتح لها سيارته فركبت ودخل بجوارها وقاد وهو يتناقش معها عن ذكريات الدراسة وكلاهم يضحك منها
المطعم كان هادئ وصغير، هي لا تفضل الأماكن الفاخرة وجاكوب كان طبيب مجتهد وليس من أسرة معروفة، الطعام كان رائع والذكريات كانت جميلة جعلها تضحك بطريقة لم تعهدها من قبل ولم تنتبه للعيون البنية التي كانت تراقبها من بعيد
كان يهاتف حمزة ليطمئن عليه عندما رآها، نعم هي، نفس الفستان والشعر هو يعرفها جيدا كانت تنزل من سيارة غير سيارتها وتوقفت بانتظار السائق الذي كان شاب بمثل عمرها ابتسم لها وتحركا معا للداخل
شعر بنيران تحرقه من الغضب، هل رفضته من أجل رجل آخر؟ وماذا عن الذي كان معها منذ عدة أيام؟ هل هي تفضل الشباب ممن هم بعمرها؟ هو ليس بهذا الكبر، ما زال بأوائل الثلاثينات و..، اللعنة هتف من داخله بغضب وهو يضرب المقود بيده ولا يصدق أنها فعلت به ذلك تلك الفتاة ليست عادية ولا بريئة كما كان يظن، هي أرادت فقط مصلحتها منه ولكن الحقيقة أنها لم تمنحه أي دليل على التلاعب به هي حتى رفضت العشاء معه ولم تخدعه فلماذا الغضب؟ هي حياتها تعيشها كما تشاء ولا معنى لاهتمامه هذا وغضبه الواضح
كم مرة عليه تذكير نفسه أنها مهمة عليه الانتهاء منها وبعدها يعود لبلده بلا تفكير بتلك المرأة مرة أخرى وإلا استحق أي شيء بعد ذلك
الحديث مع جاكوب كان رائع حقا وهو شخصية تميل للمرح، العشاء كان خفيف وممتع وربما استطاعت نسيان ما مر بها أثناء اليوم وهو لم يتجاوز حتى عادا للسيارة وهي لا تنتبه للسيارة التي كانت تراقبها على الجانب الآخر
عندما وصل جاكوب لبيتها أوقف السيارة والتف تجاها كما فعلت هي بابتسامة رقيقة وقالت "شكرا جاكوب كان عشاء رائع"
بادلها الابتسامة وقال "كان بالنسبة لي أيضا آسيا، الجميع كان يظن أنك فتاة مغرورة وتتكبرين عليهم بابتعادك عنهم لكن أنا كنت أعلم أنه كان مجرد خجل، سعيد جدا بأني تعرفت عليك جيدا"
تورد وجهها ولكن فقط من كلماته وهي تقول "شكرا جاكوب أنا أيضا سعيدة بلقائك، اسمح لي"
كادت تتحرك عندما أمسك يدها فذكرها بساهر عندما فعل معها المثل، التفتت له وعيونه تحبسها داخل تلك الزرقاء السماوية وقال "ألا نختم لقائنا"
جذبت يدها وقلبها يدفع بقوة خلف صدرها وهي تحاول ألا تغضب وتجيب "أنا أفعل جاكوب، طابت ليلتك"
مرة أخرى التفتت لتنزل ولم تلاحظ ابتعاد سيارة ساهر الذي كان يراقبهم وبالطبع عرف أن الشاب سيقبلها فاختار أن يذهب قبل أن يتهور لأشياء لا يعرف ماذا ستكون بينما جذب جاكوب ذراعها ليعدها له بقوة جعلتها تضع يدها الحرة على صدره لتضع مسافة بينهم وهو يقول
"آسيا أنا أعلم أنك تريديني فكفي عن حماقاتك هذه"
دفعته بصدره بعيدا وخلصت ذراعها منه وهي تهتف بغضب "خطأ، أنا ظننت أنه مجرد عشاء إحياء للذكريات ولا شيء مما برأسك صحيح والآن حتى الذكريات لا أريدها جاكوب"
ونزلت وهي تصفع الباب خلفها بقوة ربما يدرك أنها لم تفكر كما فكر ولا رغبة لها بأي شيء مما يفكرون كلهم به، هي أبسط من ذلك بكثير لكن يبدو أن العقول الضعيفة لا تجيد التفكير بالآخرين
دخلت البيت وهي تحاول أن تهدأ وما أن دخلت حتى رأت كاترين تنزل من على السلم بطريقتها المعهودة الدالة على التكبر ونظراتها تغني عن مكنون قلبها، توقفت آسيا بلا حركة وهي تهتف من داخلها متى سينتهي هذا اليوم؟
ظلت تتابعها حتى وقفت أمامها وقالت "هل تعودت على التأخير هكذا خارج البيت؟ مع من كنت الليلة بتلك السيارة؟ ترى كم رجل بحياتك؟"
بالطبع كاترين لا تتوقف عن كلماتها هذه، منذ أن نضجت وأصبحت ابنة الرابعة عشر حتى زاد كرهها لها وبدأت تتهمها بشرفها رغم أنها بالمدرسة كانت كما قال جاكوب أكثر البنات هدوء وأقلهم اجتماعية، لا صداقات ولا علاقات من تلك التي تريدها كل الفتيات ربما خوفا من والدها كي لا يحرمها من الاجازة التي تقضيها مع والدتها ومع الوقت الخوف زاد لدرجة السيطرة على حياتها
بالخامسة عشر بدأت كاترين تتهمها بوجود شباب ورجال بحياتها و..، أعادتها كاترين من شريط الذكريات وهي تقول "لا أسمعك"
كانت دائما تحاول كسب ود تلك المرأة ولكن بلا فائدة والدها لا يرى إلا الأكاذيب التي تخبره بها حتى توقفت عن محاولاتها لذا قالت "ليس لدي إجابة"
وتحركت لتذهب من أمامها ولكن كاترين قالت بغضب "بالطبع تخفين علاقاتك حتى نستيقظ يوم ونراك هاربة مع واحد منهم كوالدتك الخائنة"
ارتدت والغضب بعيونها وقد استكفت من ذلك اليوم الطويل وهتفت "اسمعي أنا تحملت أكاذيبك وادعاءاتك عني فقط من أجل بابا ولكن والدتي لا، إياك والنطق حتى باسمها وإلا أقسم أن أجعلك تندمين"
تراجعت كاترين أمام غضب آسيا ولم تستطع مراجعة كلماتها ولا إيقافها وهي تتحرك للسلم ولكنها قالت "لم تخبريني عن والدك والشركة"
لم تلتفت لها وهي تقول "تعرفين طريق المشفى ولا شأن لك بالشركة"
كانت تصعد وكاترين تصرخ "أنا لي النصف بكل شيء آسيا ولن أترك لك شيء هل تسمعيني"
كانت قد وصلت لنهاية الدرج فنظرت لكاترين وقالت "حق الإدارة لي هذا ما أخبر به أبي المحامي قبل أن يسقط بالمكتب"
وتحركت لغرفتها وهي حقا مجهدة جدا ولا تريد جدال جديد من أي نوع لذا اغتسلت واستبدلت ملابسها ونامت بلا تفكير بأي شيء لأنها لو فكرت ستنهار بسبب كل ما مر بها
ظل يذرع الغرفة بلا توقف من الغضب الذي ما زال يسيطر عليه، لا يستطيع وقف عقله عن استرجاع رؤيتها مع ذلك الشاب داخل المطعم وهما يضحكان أثناء تناول الطعام ولا عندما أمسك يدها بالسيارة قبل أن تنزل وهو يعلم أنه سيقوم بتقبيلها
حدق بالساعة وقد تخطت منتصف الليل، هل يقضي ذلك الشاب ليلته معها لذا نست إرسال البيانات التي ينتظرها منها؟ هل وصل بها الإهمال لهذا الحد لدرجة أنها تجاهلته وهي تعلم أهمية الأمر؟ استشاط غضبا أكثر وأكثر فجذب هاتفه من جيبه ورغم أنه قد تجاوزت منتصف الليل إلا أنه أخرج رقمها الذي تبادلوه أثناء العمل لتبادل الرسائل ولم يتردد وهو يهاتفها مقسما على توجيه كلمات قاسية لها ولكن صوت ناعس أجابه جعله يمتص غضبه وهي تقول
"من!؟"
تراجع وهو يحدق بالهاتف، إنه رقمها ألا تعرفه؟ أعاد الهاتف لأذنه وقال وهو لا يعلم هل كانت نائمة وحدها أم بأحضان ذلك الكلب "نائمة؟"
انتبهت لصوته العميق فاعتدلت والدهشة تحاول أن تعيدها للاستيقاظ فقالت "نعم، هل حدث شيء؟ كم الساعة؟"
تحرك لزجاج الشرفة متابعا المطر ولم يندم لأنه أيقظها وهو يرد "انتظرت البيانات وعندما تأخر الوقت أردت تذكيرك لم أظن أنك نائمة أو ربما مشغولة مع أحد"
أغمضت عيونها وهي تذكر الأمر ورفعت يدها لجبينها وقالت بتعب ونعاس "لا ليس هناك أحد فقط، نائمة، آسفة نسيت حقا وكنت بحاجة للنوم، سأرسلها لك الآن"
كادت تنهض ولكنه عاد وقال "لا، عودي للنوم ربما بالصباح تفعلي، ربما أشغلك عمن معك"
فركت عيونها وانتبهت لكلماته وهي تقول "أخبرتك أن ليس معي أحد، لقد كنت نائمة تعلم أن اليوم كان مرهق"
كاد يرد بأنها نالت ما يذهب بتعبها بنهاية اليوم ولكنه أغلق فمه الكبير كي لا تظن أنه كان يراقبها وهو ما لا حق له فيه ثم اختار رد بسيط وهو يقول "نعم، لتعودي للنوم وبالصباح أرسلي البيانات، طابت ليلتك"
وأغلق وهي تبعد الهاتف وتؤنب نفسها على النسيان والأمر هام ولكن تعب الاسبوع كله وما حدث اليوم ضربها بوقت واحد فلم تشعر، أطفأت النور وعادت للفراش ولكن لا تعلم لماذا نبرة صوته العميقة ظلت ترن بأذنها وربما تذكرت طلبه للعشاء ورفضها، لماذا اندفعت بالرفض بتلك الطريقة؟ ربما كان عشاء عادي ولا شيء من ورائه، وها هي قبلت بعشاء جاكوب فما الفارق؟ لماذا خافت من طريق ساهر وخاضت بلا تفكير بطريق جاكوب؟
ولكن لا، هو ليس ذلك الصالح الذي تظن به ذلك لقد رأته مع تلك المرأة بالبار وعرفت أي نوع من النساء يصاحب وهي ليست كذلك ولن تكون وربما ظن أنها مثلها لذا أغمضت عيونها وعادت للنوم بلا تفكير
استيقظت مبكرا وهي أفضل حال، أخذت حمام وجففت شعرها الذي كان صورة من شعر والدتها راشيل كما هي عيونها، ربطته للخلف وعادت لجهازها وفتحته واندمجت عليه وقت حتى أرسلت البيانات لساهر دون أي كلمات ثم نزلت للإفطار فرأت كاترين تجلس على مائدة الإفطار فتحركت وجلست هي الأخرى بمكانها دون كلمات وتبعتها مارجو بالأطباق حتى قالت كاترين
"تمنعين ميشيل من دخول الشركة وهذا ليس من حقك"
لم تنظر لها وقالت "إذن قاضيني"
نظرت لها كاترين بغضب وقالت "هو أخي ومن حقه متابعة أموالي"
تناولت القهوة مع الخبز المحمص وعليه الزبد وقالت "وهو خسر أموالك وأنا أحاول استرجاع البقية الباقية ولن يطأ بقدمه الشركة"
دقت كاترين على المائدة بغضب وهتفت "المحامي سيمنحه رخصة بذلك"
رفعت وجهها لها وقالت "رائع عندها قد أفكر برد مناسب"
تناولت القهوة ونهضت وكاترين تهتف بنفس الغضب "سأخبر عزت بكل شيء وأنك تدمرين الشركة وسيسحب منك كل شيء"
لم ترد وهي تتحرك للسيارة والسائق يقول "صباح الخير مس فيومي"
ابتسمت له وقالت وهي تدخل السيارة "صباح الخير مايكل، الشركة أولا من فضلك"
هاتفت المشفى ولم تجد مبرر لزيارته وهي لديها الكثير ينتظرها قبل انعقاد مجلس الإدارة كما عليها مقابلة المحامي لمعرفة موقف كاترين وبالتأكيد ساهر سيطالب بجلسة أخرى كالأمس
ما أن دخلت المكتب حتى تبعتها ماريا فقالت "أريد المحامي على الهاتف ماريا وأوراق فرع ويليسدن واجتماع مع المدراء على العاشرة والقهوة من فضلك"
ابتسمت ماريا وقالت "تذكريني بوالدك، كان بنفس الحماس قبل أن يظهر ميشيل بالعمل"
لم تنظر لها وقالت "أتمنى ألا يعود ماريا نصيب أخته يقيدني"
هتفت ماريا "اللعنة، لو عاد سيدمر ما تبقى"
لم ترد وماريا تمنحها الهاتف "المحامي آسيا"
طمأنها المحامي بأن من حقها إيقاف ميشيل عن العمل لكن ما زال حق كاترين موجود
الاجتماع طال لأكثر من ساعتين وبعدها تناولت غداء سريع بالمكتب كالعادة حتى عاد موعد العمل فأمسكت هاتفها وهاتفته، مر وقت قبل أن يجيب بصوت جامد أربكها لحظة ولكنها تجلدت وقالت "هل سنكمل ما بدأناه بالأمس؟"
تراجع بالمكتب وهو لم يشعر بالوقت وقد تناسى ما كان بالأمس وقرر جعل العمل هو الهدف الأساسي له ولا شأن له بحياتها، تناول باقي القهوة الباردة بالكوب ثم قال "ما زال أمامي بعض الأشياء لم تنتهي"
نهضت للنافذة وقالت "الاجتماع غدا مستر دويدار"
رفع حاجبه من عودة الألقاب فهل تريد الآن إعادة الحواجز؟ هو لن يمنحها حرية التحكم بمعاملاتهم، لم ولن يكون، قال "أذكر الموعد جيدا آسيا"
وتعمد أن يضغط على كل حرف من اسمها وهي فهمت بالطبع وارتجفت يدها بالهاتف وارتبكت الكلمات بذهنها قبل أن ترد "ساعة وسأراك بمكتبي"
وأغلقت الهاتف وهي ما زالت ترتجف من طريقته وهي تعلم أن الغضب سيكون عنوان علاقتهم فيما بعد، اعتصر هو الهاتف بأصابعه بقوة وهتف "أنا لا أتلقى أوامر من أحد مس فيومي"
عاد لجهازه والغضب لا يتركه، هو يعمل بكل طاقته لينتهي من الأمر ويرحل، تلك المرأة تثير جنونه بشكل لم يعرفه من قبل لذا كل ما عليه هو تنفيذ قراره بتجاهلها والانتباه لما يفعله وهو ما فعله حتى تناسى موعدها وهو يقف على شاسيه الرسومات الهندسية عندما سمعها تقول
"كان بيننا موعد"
انتبه لها والتقى بنظراتها وفستانها الأزرق القصير فقط بلا أكمام لكنه يدل على الاحتشام وهي تقف على باب المكتب تعقد ذراعيها أمام صدرها وقد اضطرت للحضور عندما رفض الرد عليها بالهاتف ولم يجيب ماريا أيضا، أبعد عيونه للرسم الهندسي وقال
"أنا لم أوافق عليه"
تحركت لجواره وعيونها على الرسم الهندسي وهي بالطبع لا تفهمه، إدارة الأعمال هو عملها والحسابات أيضا كما علمها جورج، قالت "ولكنك تعلم بأهمية الموعد"
لم ينظر لها وقال "عندما يناسبني الوقت سأدق بابك"
كتمت غيظها منه، هي تعلم أن لا سلطة لها عليه، هو ضيف بالشركة حتى ينتهي من مأموريته وما حدث بالأمس رفع حواجز جديدة بينهم لذا تنهدت وقالت "ربما لا أكون موجودة"
أجاب ببرود "هي مشكلتك"
هتفت بلا وعي "حقا؟"
حمدت أن الغرفة لا تسرب الصوت للخارج بينما رفع وجهه لها أخيرا وقال "أنا لا أعمل لديك كم مرة تريدين أن تسمعيها مني؟"
قالت بغضب "ولا مرة سيد دويدار ولا داعي لشغل نفسك بالأمر"
وتحركت خارجة وهي نادمة لأنها أتت من أجله وانتظرت المصعد حتى انفتح فدخلت بغضب والتفتت لتضغط الزر عندما التقت يدها بأصابعه وهو يضغط الزر فرفعت عيونها الغاضبة له لتواجه نظراته الساخرة وهو يقول "لابد أن أشغل نفسي بالأمر فأنا هنا بسببه"
كانت يده تمسك بيدها ودفء غريب مر بجسد كلا منهما والعيون توقفت على بعضها البعض، لماذا هو فقط من يؤثر عليها بهذا الشكل؟ بدأ المصعد يتحرك مما جعلها تسحب يدها من يده وقالت "لقد بينت وجهة نظرك أكثر من مرة سيد دويدار فلا داعي للتكرار"
تحرك تجاها وهي تتراجع أمام تقدمه حتى التصقت بحائط المصعد وهو أصبح قريب بشكل غير طبيعي بالنسبة لها وهو يقول بعيونه المازحة "معك حق فالتكرار يؤدى للملل والبرود ومعك لا يجوز سوى الجمر الملتهب لمجرد القرب منك"
صافرة المصعد جعلتها تتنفس براحة وهي تقول بتماسك كاذب "لقد وصلنا"
حمدت أن ذلك مصعدها الخاص لا يدخله سواها أو بالأحرى كان خاص بوالدها، ابتسم وتراجع ليفسح لها فتحركت وهي تحاول ألا تبدي ارتباكها من قربه، أنفاسه الدافئة ما زالت تمر على وجنتها، رائحة عطره لا تترك أنفها، حرارة جسده القريب كادت تحرقها
دخلت مكتبها وهي تدرك أنه يتبعها، وجوده ليس خفي فهو يترك أثر قوي بأي مكان يتواجد به، أخرجت زجاجة ماء من الثلاجة وتناولت بعض منها لترطب حرارة جسدها، وسمعت الباب يغلق فالتفتت أخيرا لتواجهه وهو يضع جهازه على مائدة الاجتماعات وقال
"بياناتك كانت مفيدة جدا، المشروع الرئيس أجريت عليه بعض التعديلات للتقليل من التكلفة، اقترحت شركة أخرى لتوريد مواد البناء وهي الأفضل بأسعارها هنا وتقدم أفضل الخامات، بعد التعديلات الهندسية المشروع لن يحتاج أكثر من شهرين لينتهي"
كان جاد جدا بحديثه مما جعلها تلفظ ما حدث وتتحرك تجاهه وتبدأ مناقشته بالأمر وقد انجذبت لأفكاره واقتراحاته وكان لديه رد على كل سؤال واستفسار وهي سجلت كل الملاحظات بدفترها حتى تراجع بالمقعد وقال
"وهذا أفضل اقتراح للمشروع الآخر وللرد على البنك"
هزت رأسها وهي تنظر لشاشة جهازه وقالت "هذا كان موضوع بحثك أليس كذلك؟"
نهض وهو يتناول آخر قطرات من القهوة وقال "نعم، هل حاز على إعجابك؟"
قالت بجدية "بل جورج وهو من منحني خطوط عريضة عنه، لماذا رفضت العروض التي قدمت لك هنا؟ أو على الأقل يكون لك مكتب هندسي"
اسم جورج أربك أفكاره وأراد أن يعرف من هو ولكن شبح الرجلان اللذان كانا معها بالمطعم كلا على حدة مروا على ذهنه فأقنع نفسه أنه بالتأكيد واحد منهم، ابتعد من أمامها محاولا تخطي حياتها الشخصية كما أقنع نفسه وقال
"لست بحاجة لكل ذلك، لا رغبة لي بترك بلدي أبدا ولا إخوتي وجودي هنا من أجل الدراسة أو تقديم رأي استشاري أو اتفاقات خاصة بمجموعة آل دويدار"
تراجعت بالمقعد وهي تتابعه ولأول مرة يتحدث عن نفسه فقالت "تبدو كمن يحب بلده وأهله"
التفت لها ونظرة تساؤل على وجهه وهو يقول "ألا تفعلين المثل؟"
أخفضت وجهها وصمتت لحظة قبل أن تقول "لا أعرف؟ لدي أكثر من وطن أنتمي لهم ولا أعلم من أحبه أكثر؟ أحيانا لا أعرف كيف يكون حبه؟"
ضاقت عيونه وهو يتجول على شعرها الأشقر الذي يواجه وهي ترفض النظر له وشعر بمشاعر غريبة تجاهها وإدراك بالغموض يلفها فعاد ليقف بجوارها وقال "لا أحد لديه أكثر من وطن ولستِ بحاجة ليعلمك أحد معنى الحب"
كان عليها أن ترفع عيونها لتواجه نظراته ولكنها لم تجرؤ على ذلك دون سبب وقالت "أنا كذلك، ولدت بأدنبرة بلد والدتي وعشت بها خمسة أعوام لم أتمكن من التعلق بها حتى طالب والدي بي وكسب قضية الحضانة فأعادني هنا، بيته بمكان بعيد عن العاصمة لا جيران ولا أطفال لتلعب معي وزوجته، زوجته لم تتقبل وجودي فعشت وحدي أفتقد أمي وبالتالي لم أتعلق بهنا كوطن وحتى مصر"
ورفعت وجهها له أخيرا وكم شعر بألم بصدره من الحزن العميق الذي سكن عيونها وأذهب جمالهم وهي تكمل "لم أستطع التعرف عليها، زرتها مرة مع بابا، هو يحبها جدا، بيته هناك ما زال موجود، جدتي تقيم به، أقمنا معها فترة قليلة وقت مرضها تعرفت على أماكن كثيرة هناك، كنت بالسابعة عشر وقتها ولكن سرعان ما عدنا، أنا لا أعرف لأي وطن أنتمي سيد دويدار"
ظل صامتا وهي لا تعرف كيف نطق لسانها بجزء من حياتها له وعندما أدركت ما فعلت أخفضت وجهها مرة أخرى وقالت "لم تحدثني عن آل دويدار"
أدرك أنها لا تريد إكمال ما بدأته ولأجل الألم والحزن الذين رآهم بعيونها ابتعد من أمامها وقال "نحن أربعة رجال وابنتان، عامر الكبير أنشأ أول شركة استثمار وبعدها انضممنا جميعا له، جاسم بالفرع الأمني، حمزة الحسابات والبنوك وأنا القسم الهندسي وحولنا الشركة لمجموعة استثمار متحدة خاصة بنا لذا لا واحد منا يمكنه الانفصال عن المجموعة نحن نحيا لها فهي نصفنا الآخر"
نهضت لمكتبها وقالت "لكم تمنيت أخ أو أخت بيوم ما، لم أجرب ذلك الشعور أحسدك على إخوتك مست.."
كانت ترتب مكتبها عندما لمس يدها ليوقفها فرفعت وجهها له وشعرت بصدمة كهربائية تضربها من لمسته وتلك المرة لم تجذب يدها وهو يقول "لماذا تصرين على وضع الحدود؟"
كانت تعلم أنه سيسأل لذا ظلت تنظر بعيونه وقالت "لأن لا مجال لدي لم خطر ببالك بالأمس مستر"
عاد وقاطعها مرة أخرى وهو يضغط على يدها وقد نسى مغامراتها السابقة "ساهر آسيا، أنتِ تعلمين أن ما أردته هو بالضبط ما تريديه ولكنك تخافين"
ظلت صامتة وهي تستوعب كلماته حتى وصل عقلها لنفس القرار فجذبت يدها وقالت "لا ساهر، كلانا مختلفين، أنت من بلد مختلف وثقافة مختلفة بل ولك حياة أيضا مختلفة تماما عني، أنا لا أخاف من أي شيء ساهر ولكني لا أريد ما تريده، لا وقت لدي له، صدقني أنا لا وقت لدي لم تفكر به وربما لا أصلح له، كل ما أريده هو إنقاذ شركات بابا والعودة لماما وحياتي هناك"
كانت الكلمات لنفسها قبل أن تكون له، هي لابد أن تعود لراشيل وجورج فقد وجدت نفسها هناك معهم وربما هناك هو الوطن الذي تحدث عنه، الصمت ظل ثالثهم والعيون لا تنفصل، أراد الحديث عن أولئك الشباب ولكن رنين هاتفها فصلهم فتحركت للمكتب وابتسمت بسعادة لرؤية اسم جورج فأسرعت تجيب وقد نست وجود ساهر
"جورج حبيبي افتقدتك جدا"
شعر بشيء غريب يضربه لسماع كلمة حبيبي منها، هذا هو جورج الذي تحدثت عنه إذن بل وهو حبيبها الذي جعلها ترفضه، أغلق حاسوبه بغضب وأوراقه الهندسية وترك لها ورقة بأنه سيكون موجود غدا بموعد الاجتماع وتحرك خارجا تماما من الشركة وقد أدرك أنه أخطأ بأفكاره، الأجانب يختلفون عن المصريين، بمصر المرأة التي يفكر الرجل بالزواج منها لابد أن يكون الأول بحياتها لكن الأجانب الزواج لا يأتي إلا بعد أن يعيشوا سويا ويتعارفوا جيدا ويتأكدوا أن الزواج هو القرار الصائب لهما
هي على حق، هما مختلفان بكل شيء الأفكار والثقافة، التربية، كل شيء مختلف وها هي تثبت أنها لا يمكن أن تكون بطريقه لأن بحياتها رجل آخر حتى ولو لم تعترف بذلك
تناول العشاء بنفس المطعم ولكنه رفض أي صحبة بتلك الليلة وقد اتخذ قراره بالرحيل بعد انتهاء اجتماع الغد فقد انتهت مهمته وليس لديه شيء آخر ليقدمه ويبقى بسببه
الاجتماع كان طويل ومرهق ولكنه اعترف بكفاءتها بإدارة الأمور لا يمكن أن تكون اكتسبت قدرتها هذه بتلك الأيام هنا، استعاد نفسه عندما قال أحد الأعضاء
"مستر ساهر ما تقترحه لن يكون من السهل تحقيقه"
تراجعت هي بمقعدها وهي تنظر له وهو يسأل "ولم لا مستر جيسون؟"
أجاب الرجل "الأمور الهندسية التي تقترحها من الصعب تنفيذها، أنا أعلم أنها من بحثك الأخير ولكنها لم تنفذ من قبل"
اعتدل هو وقال بعصبية "هل تشكك بتطبيق بحثي على الواقع؟"
لم يرتبك الرجل وهو يقول "بل أطالب بضمانات على صحة تطبيقه"
لم تحاول التدخل وساهر يرد "وأي ضمانات تريدها؟"
رفع الرجل يداه مشيرا للرجال وقال "ليقترح المجلس الضمانات الكافية ومس فيومي تقرر"
احتد الأمر والنقاش وساهر تعصب لكنها اعتدلت وقالت بهدوء ولكن بنبرة قوية "أيها السادة هل نتوقف؟"
توقف الجميع بالفعل وتعلقت العيون بها وهي تقول "لا شيء سينتج من العصبية والغضب"
قال جيسون "هل تعترضين على الضمان آسيا؟"
نظرت له وقالت "لا جيسون ولكن الضمان ليس بالجدال"
نطق رجل آخر "هل لديكِ اقتراح؟"
لفت بنظراتها عليهم حتى توقفت على ساهر الذي واجها فقالت "ماذا لو أشرف هو بنفسه على التنفيذ؟ شهران كما قال تتكفل فيهما الشركة بتكاليف إقامته ويحدد المقابل المناسب حتى ينتهي المشروع ويتم التسليم"
تبادل الرجال النظرات فيما بينهم وهمهمات تدور هنا وهناك بينما قال هو بهدوء "لا"
التفتت العيون كلها له ولكنه كان يصب نظراته عليها وأكمل "مهمتي مجرد اقتراح حلول وقد فعلت أما الباقي فهو خاص بكم"
نهض واقفا وأغلق جاكته وقال بنفس الهدوء المزيف "سعدت بالعمل معكم، اسمحوا لي"
وتحرك خارجا والمفاجأة تضرب الجميع وهي على وجه الخصوص لكنها تذكرت كلماته عن حب وطنه ورفضه البعد عنه وهي التي أرادته أن يبقى شهران هل حقا أرادت ذلك؟ أي مجنون وضع ذلك الاقتراح برأسها