رواية بك احيا الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم ناهد خالد


 رواية بك احيا الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم ناهد خالد

 (مُختل!)

منتصف أكتوبر لعام ٢٠٠٦..
مرت أيام عدة لم يراها بها، ولأول مرة منذُ دلفت لحياته تغيب عنهُ هكذا، حقيقًة وبعد مواظبته على ممارسة رياضة (الكاراتية) التي لم يكن يستهواها لاسبوعان حتى الآن فهو لم يعد يخشى والده، لكنه يخشى عليها هي منهُ، وهذا ما يدفعه للابتعاد عنها، واليوم بلغ الاشتياق أشده فاتفق مع سائقه الخاص أن يقله لمدرستها بعد خروجه من مدرسته مبكرًا عن المعتاد على أن يبقى الأمر سرًا بينهما، ولأن السائق يعلم تعلق الصغيران ببعضهما كما يعلم صرامة رب عمله وقسوته على الصغير التي شهدها أكثر من مرة لم يعترض بل وافق بكل رحابة، وها هو يقف أمام بوابة مدرستها ينتظر خروجها، هي ليست مثله، ليس لديها سائق خاص ينتظرها ليقلها للمنزل، هي فقط ترتاد حافلة المدرسة مع الباقية، لم ينتظر سوى أربعون دقيقة فقط كان بامكانه الانتظار أكثر! ووجدها تطل عليهِ تسير وحيدة تمامًا ورأسها مُنكسة تطالع خطوات حذائها، بدت مهزومة بشكل ما! توترت ملامحه بقلق وهو يشعر بأنها تعاني من مشكلة ما، تحرك بخطواته حتى أصبح قريبًا منها فهتف باسمها ينبهها:

_ ديجا! 

رفعت رأسها فورًا بعدما سمعت لصوته يناديها، ظنت في بداية الأمر أنها تتوهم لكن حين رفعت رأسها ورأته أمامها أدركت أنها لا تتوهم وأنه هنا! وفي اللحظة التالية كانت تركض لتحتضنه فلم تطل منهُ شيء سوى خصره الذي احاطته بذراعيها بقوة وقد سندت رأسها عليهِ، شدد هو الآخر من احتضانها مغمضًا عيناه مستشعرًا الشعور بها بعد كل هذه الأيام والتي ربما بلغت العشرين! مرت ثواني قبل ان ينتبه هو للوضع ففصل عناقهما حين لاحظ نظرات الفضول من حولهما، وحدثها بقلق بينما عيناه لم تفارق عيناها التي اشتاقهما:

_ مالك يا ديجا؟ في حاجة حصلت في المدرسة؟ 

نفت برأسها بحزن وهي تجيبه ببراءة:

_ لأ، بس أنتَ وحشتني. 

ابتسم نصف ابتسامة وهو يردد بمكر:

_ ده بعد ما شوفتيني، لكن قبل ما تشوفيني كنتِ ماشية متضايقه ليه بقى؟ 

رفعت عيناها البُنية التي تجذبه دومًا وهي تردد بلمحة حزن:

_ عشان معنديش صحاب، بفضل طول اليوم لوحدي ومفيش حد بكلمه. 

قطب حاجبيهِ باستغراب:

_ وليه معندكيش صحاب؟ 

رفعت منكبيها بجهل:

_ مش عارفه، بس كل البنات هنا ليهم صحاب تانيين، ومحدش بيحاول يصاحبني. 

_ مش لازم هم الي يحاولوا يا ديجا، أنتِ شوفي بنت كويسة وحاولي تصاحبيها. 

أخبرها بهدوء، لتنفي برأسها وهي تردد بضيق طفولي:

_ أصلاً أنا مش عاوزه يكون عندي صاحب غيرك.

جملة عفوية قالتها بتفكيرها الطفولي الذي يكتفي بصديق واحد فقط، ولكنها لم تعلم أن هذه الجملة ستلازمها طويلاً وستكون يومًا ما سببًا في دمار حياتها. 

ابتسم باتساع وقد أرضته جملتها التي تخبره من خلالها عن مدى مكانته لديها، فأخبرها بصدق:

_ ولا انا عاوز غيرك.

لم تصدقه وهي تسأله بعتاب:

_ اومال ليه مبقتش تسأل عني وبقالي كتير مشوفتكش؟ 

تنهد زافرًا أنفاسه بضيق من ذِكر أي شيء يتعلق بذلك الموضوع، لكنه ملزم أن يبرر لها أفعاله:

_ بصي يا ديجا، أنا صحيح مش خايف من بابا ولا يهمني ممكن يعمل ايه لو عرف إننا بنتكلم، بس خايف عليكِ منه، شوفتي آخر مرة كان هيعمل ايه فيكِ، عشان كده محاولتش اشوفك او اكلمك وكنت طول الوقت في اوضتي، عشان احميكِ، بس متخافيش مش هنفضل كتير كده، انا خلاص اتعلمت كاراتيه ومش هسمح لحد يمشي كلامه عليَّ، ولا يأذيكِ أنتِ أو ماما. 

بدى عليها أنها لم تفهم شيئًا ما فسألته:

_ اتعلمت ايه؟ 

حاول شرح الأمر لها فقال:

_ دي رياضة اسمها كاراتيه، بنتعلم حاجات فيها زي مهارات كده. 

لم تفهم تحديدًا ماهية تلك الرياضة، فسألته ثانيًة بجهل:

_ يعني بتعمل ايه بيها؟ 

تمعن النظر فيها وهو يجيبها بحذر:

_ اقدر ادافع عن نفسي لو حد ضربني..

وقبل أن يسمح لها بالتمادي أكثر في الأسئلة كان يقول:

_ هنرجع نشوف بعض وهو مش موجود، بس هناخد بالنا اكتر لان مواعيده مبقتش ثابته، خلينا نتقابل كل يوم الساعه ١٠ عند الحوض. 

وكان يقصد بحديثه "حوض الزهور" الذي يقبع في الحديقة الخلفية للمنزل ورغم وضوحه إلا أنه لا يُظهر من يجلس خلفه وخاصًة مع صِغر أحجامهما، فهو مكان مناسب تمامًا للجلوس خلفه كي لا يراهما أحد والأمر الآن لا يتعلق فقط بوالده، وهذا ما وضحه وهو يقول:

_ بس خدي بالك حد يشوفك، اكيد انكل مصطفى قالك متتكلميش معايا تاني صح؟ 

اومأت برأسها بحزن وهي تخبره:

_ ايوه، وقال لماما وماما حلفت لو عرفت اني بكلمك هتضربني. 

احتدت نظراته وهو يسألها بحدة وبنفس الوقت عتاب:

_ مقولتليش قبل كده ان مامتك بتضربك! 

توترت في الحال ونظرت له بقلق طفيف لا تعرف بما تجيبه، ولكن انقذتها إحدى زميلاتها التي نادت باسمها وهي تخبرها:

_ خديجة، يلا الباص هيمشي. 

زفر أنفاسه بهدوء قبل أن يخبرها بجمود:

_ روحي عشان الباص.. وبكره هنتكلم. 

تحركت بتوتر تجاه الحافلة، وهي تفكر ماذا ستخبره غدًا! هل تخبره الحقيقة؟ ام تستمر في الإنكار لتحاشي مشكلة كبيرة قد تحدث! 

----------------

مساءً.. 

كانت تشاهد التلفاز بغرفة المعيشة حين جفاها النوم، فوجدته يدلف للغرفة وحذائه يصطدم بالأرضية فيصدر صوتًا باتت تكرهه فقط لأنه يرتبط بوجوده، اغلقت عيناها لوهلة تستغفر الله كي تهدأ من ذاتها، فكم تكن ثقيلة تلك الدقائق التي تمر عليها وهو يشاركها فيها المكان والنفس وتستمع لصوته مرغمة، ثقيلة للحد التي تتمنى لو يأتِ يومًا لا تعش فيهِ تلك الدقائق الكريهة لنفسها، فكل يوم صباحًا تُجبر على مشاركته الإفطار في محاولة بائسة منها لتوفير بعض اللحظات العائلية لطفلها، لا تريده أن يدرك انفاصلهما الآن على الأقل، لا تريد للأمر أن يؤثر في نفسيته أكثر، فيكفي ما يفعله معه والده، ولكن ما لا تعلمه أن طفلها لم يعد طفلاً من كثرة ما لقاه، وأنه على دراية تامة بحقيقة العلاقة بينهما! 

جلس على أحد الكراسي وهو يطالعها بنظراته لثواني دون حديث، حتى هتفت هي ونظراتها مازالت مصوبة على شاشة التلفاز الصغير:

_ هتفضل تبصلي كتير؟ 

أشاح بنظره عنها بسأم، وصمت لثواني أخرى قبل أن يردف فجأة:

_ انا قررت اتجوز.

اتسعت عيناها بصدمة، حقًا لم تتوقع أن يقبل على شيء كهذا! ورغم أنها لا تهتم له ولا يعنيها أمره، إلا أنها أنثى! أنثى آلمها أن يخبرها زوجها ببرود أنه سيتزوج عليها وكأنه من بين السطور يخبرها أنها لم يعد لها فائدة بعد مرضها! 

تحكمت في تلك الغصة التي احتلت حلقها وهتفت بنبرة مستنكرة:

_ هتتجوز عليَّ يا حسن؟! يااه، ده أنتَ حبك ليَّ طلع عظيم اوي! متحملتش شهرين اتشليت فيهم ورايح تتجوز قوام كده؟!! طب حتى اصبر شوية حسسني إنك كنت صادق في حبك! 

أنهت جملتها بسخرية تامة وهي تحتقره بنظراتها التي تطلق سهامًا عليهِ، ولضيق أفقه كان يأخذ الأمر بمنحنى آخر تمامًا حين سألها بمغزى:

_ أنتِ اضايقتي؟ الحقيقة مكنتش متوقع ده، كنت فاكر الموضوع مش هيفرق معاكِ.. ثم جوازي ملوش علاقة بالوضع الي أنتِ فيه، أنتِ الي منعتي نفسك عني بإرادتك، وعمومًا احنا لسه فيها، لو راجعتي نفسك وقبلتِ تكوني زوجة ليَّ من تاني جوازي هيتلغي تمامًا. 

نظرت له لعدة ثواني دون أي رد، فقط تطالعه بنظرات غامضة، وفجأة، صدحت ضحكاتها ترن بالأرجاء، تحت نظراته المذهولة وهو لا يفهم سبب ضحكها هذا، هل هو استهزاء بحديثه، أم فقدت عقلها بعد علمها برغبته في الزواج!؟ 

تنهدت وهي تتوقف عن الضحك، وبنظرات قوية، ثابتة كانت تقول مستهزأه:

_ اراجع نفسي! لا أنتَ فهمت غلط، أنا مش متضايقة إنك هتتجوز، ولا حتى بعاتبك، أنا بس كنت بكشفك قدام نفسك، أصلك ياحرام ضاحك عليها ومفهمها إنك قال ايه بتحبني.. وأنتَ مبتعرفش تحب يا حسن، لا عرفت تحب مراتك ولا حتى عرفت تحب ابنك، يا جدع ده أنتَ معرفتش تحب ابوك وامك! واقولك حاجة أنتَ حتى نفسك معرفتش تحبها.. لو كنت عرفت تحبها مكنتش سبتها لحد ما بقيت بالوحاشة دي! روح اتجوز، وقلبي داعيلك والله، ولا فارق معايا، الحمد لله قلبي عرف يخرجك منه ويفنيك خالص، عشان كده بجد مش فارق معايا، المهم تبعد عني وعن ابني، والأهم بقى تطلقني، لأني مبقتش طايقه حتى افضل على اسمك. 

ملامحه لم تكن مبشرة بالمرة، بدى عليهِ الغضب واضحًا كوضوح الشمس وقت الظهيرة، وبدت نظراته حارقة كحرارة الشمس حينها، بعدما نهض يقترب منها بخطوات دبت الذعر في قلبها لكنها حاولت التحلي بالشجاعة والصمود وهي تتمسك بجانب كرسيها تستمد منه الآمان!! 
انحنى عليها يمسك ذراعها الأيمن بقسوة وهو يردد لها بفحيح بدى مرعبًا حقًا:

_ أ ايه؟ اطلقك؟ أنتِ قد كلمتك دي؟ طب أنتِ تعرفي إن حسن وهدان بيتلوي دراعه أو حد يجبره يعمل حاجه مش عاوزها؟! 

تألمت كثيرًا من قبضته عليها، لتحاول إفلات ذراعها فقالت بوجع:

_ اوعى، سيب دراعي وابعد عني. 

التوى جانب فمه ساخرًا ولم يتحرك أنشًا واحدًا وهو يقول:

_ لما أنتِ جبانة ومش قد كلمتك بتقوليها ليه؟! عاجبك وضعك دلوقتي؟ 

أغمضت عيناها وتهاوت دموعها بعجز ووجع، والآن أكد لها "حسن" أنها باتت بلا فائدة فهي حتى لا تستطيع دفع الأذى عن ذاتها، ولكنها فتحت عيناها بفزع على صوت علىَ يقول:

_ ابعد عن مامي. 

نظرت لصغيرها "مراد" الواقف على مسافة قريبة منهما وقد بدت الجدية واضحة على ملامحه، فخشت عليهِ من بطش والده، خاصًة وأنه غاضب الآن، فهتفت ب"مراد" :

_ اطلع اوضتك يا مراد ملكش دعوة. 

كانت نظرات الصغير جادة للغاية، وبها بعض الإصرار، فيبدو أنه لم ينوي ترك والدته والسماع لحديثها، وهذا ما ظهر حين ردد ثانيًة بجدية:

_ قولتلك ابعد عن مامي. 

استقام "حسن" ينظر خلفه للصغير وهو مازال قابضًا على ذراعها، ليبتسم ساخرًا وهو يحدثه:

_ هي مش مامي قالتلك اطلع اوضتك.. اطلع اوضتك يا روح امك. 

جز "مراد" على أسنانه وهو يفهم سخرية والده بهِ، هو يظنه سيخشاه ويبتعد ككل مرة، لكنه هذه المرة أقوى ويستطيع أن يدافع عن والدته وعن نفسه أيضًا، هذا ما حدث بهِ ذاته وهو يتذكر جملة المدرب له "الخوف الحقيقي يا مراد جوانا، لو قدرت تتغلب على الخوف الي جواك مفيش حاجة في الدنيا ممكن تخوفك"، وقد نوى الآن أن يتغلب على خوفه من والده الذي يسكن ثناياه، فرفع رأسه بكبرياء وهو يتقدم منهما.. 

ترك "حسن" ذراعها ينفضه بلامبالاة وهو ينظر ل"مراد" الذي وقف أمامه الآن بسخرية وقال:

_ مش قولتلك اتزفت اطلع فوق! 

نفى برأسه وعيناه الثابتة تدل على شجاعته التي يراها "حسن" لأول مرة وقال:

- مش هسيب مامي لوحدها. 

رفع "حسن" حاجبه باستهجان وهو يسأله:

- ليه هعضها؟ امشي ياض أنتَ غور على فوق. 

تدخلت "ليلى" في الحديث وهي تشعر بأن القادم سيؤذي صغيرها فقالت برجاء:

_ مراد، حبيبي اسمع الكلام واطلع فوق. 

أصرَ الصغير على موقفه، فلم يتحرك خطوة، بل هتف بما صدم الاثنان حين قال بملامح غاضبه تعلن عن ذاتها أمام أبيه لأول مرة:

_ مش هتعضها بس هتأذيها، هي بقت كده بسببك، مبقتش تقدر تمشي بسببك،انا عارف كل حاجة. 

شهقة مصدومة خرجت من فاه والدته وهي تستمع لحديثه، لم تتوقع أن يكون على دراية بسبب شللها! ناهيك عن صدمتها في طريقة حديثه ووقوفه أمام والده هكذا! 
لم يستطع "حسن" منع ذاته من التفاجئ هو الآخر، لكنه يستطيع السيطرة على معالم وجهه باتقان، فلم يُبدي صدمته بل ردد بسخرية:

_ خوفتني صدق! مش هعيد كلامي تاني اطلع فوق قولتلك. 

"ومن تعلمنا منهم القسوة يكونوا أول من يذوقوا قسوتنا"

تجسدت هذه المقولة تمامًا الآن، حين فردَ" مراد" ظهره كأنه يكتسب الثقة بهذه الطريقة، وثبتت نظرة عيناه الجامدة على والده وهو يقول:

_ مش هطلع، ومن النهاردة أنتَ مش هتقدر تعملي حاجة لا أنا ولا ماما. 

ليلى؟! وأين ليلى الآن؟! إنها تموت رعبًا والمثير للسخرية أنها ليست من "حسن"، ولا خوفًا على "مراد" بل منهُ!! ما هذه النظرة التي سكنت عيناه للتو؟؟ تقسم أنها رأت عين "حسن" تنعكس في وجه طفلها! وجهها يبدو كالصنم الآن وهي فقط تنظر ل"مراد" وعقلها يفكر هل ما خشت منهُ دومًا سيتحقق رغمًا عنها؟! هل ابنها يركض في طريقه لأن يكون نسخة أخرى من والده دون أن تشعر! رباه، لا تريد أن ترى هذه النظرة تحتل أعين ولدها مرة أخرى. 

ضيق "حسن" عيناه وهو يطالع ولده، راقه تلك النظرة التي ظهرت في عيني الصغير لأول مرة، راقه أن يقف أمامه شامخ الرأس هكذا ويدافع عن ذاته، فدفعه هذا لاستفزازه أكثر ليرى إلاما يصل بهِ الأمر، فمدَ كفه يمسك بذراع "ليلى" مرة أخرى قاصدًا استفزاز "مراد" :

_ ولو عملتلها حاجة، أنتَ هتقدر تعمل ايه؟! 

حسنًا لقد نجح في استفزازه، حين اقترب الصغير بخطوات مُسرعه ليمسك بكف والده يفصله عن ذراع والدته بعنف دافعًا والده للخلف بعدما صدم صدره بقبضتيهِ ووقف يتنفس بعنف تحت نظرات "ليلى" المصدومة من فعل ولدها، ونظرات" حسن" الغامضة.

خرجت "ليلى" عن صمتها وهي تزجره بنظرات ظهر بها خزيها من فعلته:

_ مراد أنتَ اتجننت! ازاي تعمل كده؟ ده مهما كان باباك ميصحش ترفع ايدك وتزقه كده! 

أشاح الصغير بنظره عنها بعدما لم يتحمل نظراتها، لكنه غمغم باقتناع:

_ هو الي اضطرني لكده، هو كمان بيرفع ايده ويضربك ويضربني، وانا مبقتش هسمح لحد يأذينا. 

كادت تعقب على حديثه رافضة طريقته الجديدة في الحديث والتفكير، لكن اوقفها "حسن" حين تقدم بخطواته تجاه "مراد" الذي لم يتحرك ولم يهتز لتقدم والده بل وقف برأس شامخ يتابع تقدمه، لكنها خشت عليهِ فاقتربت خطوة بكرسيها لتصبح جواره وهي تقول ل "حسن" :

_ حسن أرجوك بلاش، ده طفل لسه صغير، أنا هفهمه غلطه. 

قالت الأخيرة وهي تمسك بكف صغيرها تحتضنه بخوف عليهِ من ردة فعل والده، لكنها تفاجأت بالصغير يربط هو على كفها بكفه الآخر! كأنه يوصل لها رسالة واضحة أنا لا اهتم! ولم أعد أخشى أحد. 

حولت نظرها ل "حسن" برعب، وظلت تتابع المشهد بلا حيلة فقط تنتظر خطوة "حسن" التالية، والتي تتوقعها على الأغلب صفعة عنيفة ستطيح بالصغير أرضًا كالعادة، وبالفعل رفع "حسن" يده لتغمض هي عيناها بألم وحسرة على الصغير، بينما هو لم تهتز نظراته فقد درب نفسه كثيرًا الفترة الماضية على مواجهة كهذه وعن الصفعات فقد اعتاد عليها، وما حدث خالف كل التوقعات، حين وضع "حسن" كفه على منكب "مراد" وهو يردد بابتسامة مبهمة:

_ النهاردة بس اقدر اقولك إنك ابن حسن مش ابن وهدان بس، النهاردة استحقيت إنك تكون ابني زي ما كنت شايفه. 

فتحت عيناها بصدمة مما استمعت إليه، هل جُنَ حسن؟ هل فقد عقله؟ ياله من مُختل يسعد لأن ولده وقف أمامه ورفع يده دافعًا إياه بقسوة!! يبدو أنه رأى الموضوع بأبعاد أخرى، ولكن تبًا لأبعاده فهي لا تريد أن يكون ابنها هكذا! 

_ بس الي عاوزك تتعلمه كمان، إن ايدك دي لما تترفع، تترفع عشان تدافع عن حقك أنتَ بس.. مش عن حق غيرك، محدش يستاهل تدافع عنه غير نفسك يا مراد. 

هذا ما قاله "حسن" وهو ينظر للصغير بتمعن كأنه يدلف الحديث عنوة لعقله، وصدح صوت "ليلى" معترضًا:

_ ازاي يعني! أنتَ بتعلم الولد ايه؟ بتعلمه يبقى زيك؟ 

رفع منكبيهِ ببرود:

- وماله زيي! بعدين انا بعلمه يكون احسن مني مش زيي، انا زمان مكنش عندي القدرة ولا الشجاعة اقف قدام ابويا الوقفة دي، رغم إن كتير كنت بتخيلها في دماغي بس عمري ما نفذتها في الواقع، عشان كده كنت عاوز ابني ميطلعش زيي، يطلع احسن مني، يقف في وش اي حد وياخذ حقه.. 
اكمل وهو ينظر لمراد:
_كل مرة ضربتك فيها كنت مستني في مرة تثور وتدافع عن نفسك، بس كنت جبان، عشان كده قررت اعلمك الكاراتيه، واهو التجربة نجحت. 

صدح صوت "ليلى" ثانيًة وهي تقول باستنكار:

_ بصرف النظر عن تفكيرك المختل ده، مفيش حاجه اسمها محدش يستاهل، ابني مش هيعيش منبوذ من الناس زيك، مش هيعيش لوحده في الدنيا وميلاقيش حد حواليه زيك! إذا كان أنتَ نفسك مش متحمل الوحدة دي وعاوز تتجوز. 

عقب على حديثها بهدوء تام كأنها لم تصفه بصفه سيئة للتو! :

_ اولاً انا مش هتجوز ولا حاجة انا كنت بضايقك، لكن الحقيقة إني معنديش طاقة ادخل حد حياتي، ثانيًا قرب الناس لعنة، هيخليه يتنازل ويضحي ويشغل وقته على ناس في الآخر هيكتشف انهم ميستاهلوش، محدش يستاهل انه يضيع وقته عليه،كل ما بعد عن الناس، كل ما بقى أنجح وقدر
يوصل للي هو عاوزه.. برافو يا مراد. 

قال جملته الأخيرة وهو ينظر لمراد بفخر! فخر كرهه مراد ذاته، فهو لا يريده أن يفخر بهِ، هو لا يريده بحياته من الأساس! 

_ مراد، اوعى تسمع كلامه يابني، متسمعش له ده هيدمرك. 

رددتها "ليلى" بذعر وهي تجذب كف ولدها بخوف، ليربط "مراد" على كفها بتروي وهو مقررًا ألا يرمي بالاً لحديث والده، ولكن ما لم يعلمه أن حديثه كالسم الذي تسلله لجسده بغتة دون أن يشعر ليسمم كل ما يقابله! 

------------------

وهذا ما حدث.. سار مراد على نهج والده دون أن يشعر، كأن نهجه سحر خفي يجذبه ناحيته دون إراده منهُ..!!

أصبح "مراد" أقوى وتعلم الكثير من المهارات في رياضة الكاراتية، فلم يكتفي بها بل دلف لعالم الملاكمة أيضًا، وارتاد الخيل، أصبح شخصًا رياضيًا بحق، والي جانب هذا أظهر تفوقًا لا بأس بهِ في الدراسة، علاقته ب "خديجة" كل يوم تصبح أقوى، حتى باتت كالنفس الذي يتنفسه، لم يلاقي عنفًا من أبيه منذُ ذلك اليوم الذي أظهر فيهِ شجاعته، بل أصبح "حسن" يعامله كأنه شابًا بالغًا! وهذا لم يغير شعور حسن تجاهه مثقال ذرة! وعن والدته فرغم اعتراضها على الرياضات التي يمارسها إلا أنها تصمت وهي ترى شغفه تجاهها، والأهم لا تراه يتحول للأسوء! وهذا ما ظهرَ لها، ولكن الحقيقة هي ما حدث في الثالث عشر من اغسطس لعام ٢٠٠٨ حين ارتكب "مراد" أول جريمة قتل له..!!! 

بك احيا 
ناهد خالد 
الفصل السادس "مقتل سارة!" 

"هناك أخطاء قاتلة، زلات لا يمكن غفرها، حتى وإن كانت بدون قصد، فالنتيجة واحدة، أن الفعل قد وقع، والفاعل لا بد من أن يُعاقب حتى وإن كان غير متعمد!"

الثالث عشر من أغسطس لعام ٢٠٠٨..

ركض خارجًا من الفيلا حين استمع لصوتها المألوف موصومًا ببكاءٍ عالٍ، أبصرها تجلس في الحديقة الخلفية فوق العشب الأخضر الزاهي، ممسكة بقدمها بألم وعيناها لم تتوقف عن ذرف الدموع، وشقيقتها التي تكبرها بعامان تقف هناك أمامها تتحدث لها بشئ ما.. اسرع من خطواته حتى اقترب منها فجثى على ركبتيهِ يتفحص قدمها وهو يسألها بقلقٍ:

_ ايه الي حصل يا ديجا؟

بنبرتها الباكية كانت تجيبه شاكيًة:

_ سارة وقعتني.

وهنا عقبت "سارة" بضيق:

_ قولتلك مكنتش اقصد، انا كنت بهزر معرفش إنك هتقعي وتتعوري.

نفت برأسها وقد ارتفع بكاءها وباصرار قالت:

_ لا، هي كانت قاصدة يا مراد.. عشان كسبتها.

وبهدوء تام كان يهتف:

_ خلاص يا حبيبتي متزعليش، المهم تعالي اعقملك الجرح ده.

نهض وجذبها معه برفق تحت تأوهاتها المتألمة، حتى دلف معها للداخل أسفل أنظار "سارة" المغتاظة، ورددت لذاتها:

- عيلة مقرفة.. معرفش مهتم بيها كل الاهتمام ده ليه؟ ياربي كان لازم ماما وبابا يخلفوها يعني! كان زمان مراد مبيلعبش غير معايا ومش مهتم غير بيَّ.

رددتها بعقلية طفلة حانقة من اهتمام الولد الوحيد الموجود بحياتهما بأختها فقط دونها، رغم كونها هي الأكبر والأقرب سنًا له، فالفارق بينها وبين "مراد" ثلاثة أعوام فقط، ورغم هذا هو أقرب لشقيقتها التي تصغره بخمسة أعوام..

انتهى من تضميد جرحها وسط تألمها ووسط كلماته الحانية التي تخفف ألمها من حين لآخر، وما إن فعل حتى جلس أمامها مباشرةً ينظر لها لثواني بصمت، فأردفت هي بأعين دامعة:

_ مراد.. هي وقعتني قصد، أنا متأكدة عشان هي اتغاظت لما أنا الي كسبت اللعبة.

ابتسم بهدوء تام وهو يقول:

_ وأنا قولتلك ايه؟

قطبت حاجبيها بعدم فهم، لتسأله بحيرة:

_ في ايه؟

سكن الشر عينيهِ وهو يجيبها بابتسامة ثابتة:

_ مش قولتلك متسبيش حقك، الي يأذيكِ قراط أأذيه ٢٤.

توترت ملامحها وهي تجيبه:

_ بس دي أختي!

رفع كفه يلمس وجنتها بتروي وهو يتحدث بهدوء تام كأنه يريد أن يجعل الحديث يدلف عنوة لعقلها:

_ ولو أبوكِ يا حبيبتي.. أخد الحق مفيهوش استثنا..

من يستمع لحديث مثل هذا لن يصدق أنه يخرج من فاه طفل لم يتعدى الثا عشر بعد!

اومأت بإيجاب كأن لمسته وحديثه فيهما سحرًا، ليبتسم باتساع وهو يرى استجابتها له، ظنًا منه أنه هكذا يوجهها للصواب!

وقفت بأنفاس متوترة وهي تحدق بالباب الذي توارت خلفه شقيقتها بصحبة "مراد" وهي تقف لتراقب المكان كي لا يراهما أحد... أخبرها أنه سيبقيها لدقائق فقط في الخزانة التي تقبع في المخزن والتي هجرت منذً زمن، فقط لتشعر بالخوف وتبكي وهكذا تكون قد استردت حقها... بسهولة كانا يستدرجناها للمخزن، وبسهولة أكثر كانت تدلف معه لتلك الغرفة القديمة، لم ترى نظرة عيناه الغريبة، ولا تمريره للسانه بدائرية داخل فمه، ولا إمالته لرأسه لليمين قليلاً.. وفجأة وجدت ذاتها تُدفع عنوة للخزانة ويغلق عليها الباب من الخارج بالمفتاح دون اهتمام لصراخها المرتعد.

_ حصل ايه؟

تسائلت بها بقلق بالغ حين خرج لها، ابتسم ورد بهدوء:

_ كله تمام... خمس دقايق وهنخرجها.

توترت نظراتها أكثر وهي تسأله بخوف:

_ مش كتير؟

ذم شفتيهِ بلامبالاة:

- لا، بيقولوا الانسان يقدر يعيش من غير تنفس ل ١٠ دقايق. 

واكتفى بهذه المعلومة دون إكمالها قاصدًا.. فلم يخبرها مثلاً أن علميًا بعد ثلاث دقائق من عدم التنفس قد تبدأ بعض أنسجة المخ في التلف، وأن الإنسان أقصى مدة قد يتحملها دون تنفس لا تصل للعشر دقائق بل هي لا تتعدى الخمس سوى بدقيقتان او ثلاثة.. وإن وصلت للعشر سيكون ميتًا حتمًا. 

وبالداخل أخذت تضرب بقبضتيها على الخزانة برعب وهي تصرخ:

_ افتح الباب، حرام عليك هموت.. حد يلحقني انا بتخنق والله.. مرااد!!! 

وبالفعل كانت تشعر بأنفاسها تثقل، وضيقها ورعبها من المكان أزادوا شعورها.. 

لتصرخ ثانيًة:

_ أنا أسفة، والله ماهضايقها تاني.. افتحوا الباب بقى.. خديجة.. خديجة افتحيلي بالله عليكِ، عشان خاطري..أنا أسفه.. افتحوا بقى.. 

ولكن لم تسمع ردًا، أو صوتًا يدل على اكتراث أحدهم. 

بالخارج استمعت لحديث شقيقتها، لتدمع عيناها وهي تنوي الدلوف لها:

_ لا كفاية كده.. دي خايفة اوي. 

امسك ذراعها يوقفها لتنظر له، فنظر لعيناها مباشرةً وهو يقول:

_ لما تنوي تاخدي حقك متجيش في نص الطريق وتترددي.. ومتسمحيش لقلبك ومشاعرك يتحكموا فيكِ. 

ردت بتبرير وعيناها تنظر للداخل:

_ بس دي خايفة اوي حرام كده.. كمان خايفة يحصل لها حاجة. 

احتدت نظرته وهو يسألها كأنه لم يسمعها:

_ سمعتِ قولت ايه؟ 

وبقلة حيلة كالعادة تستمع لحديثه وكأنه شيطانًا ما يوسوس لها وهي تقتنع فورًا! فأومأت برأسها وهي تقف بجواره صامتة.. 

مرت الخمس دقائق.. صوتها اختفى منذُ قليل جدًا فظنوا أنها تعبت من الصراخ.. اتجها للخزانة وأدار "مراد" المفتاح بها وما إن جذب الباب حتى شهقت "خديجة" صارخة بفزع حين أبصرت شقيقتها كالجثة الهامدة في أرضية الخزانة ورأسها مائلة لأحد الجانبين بلا حراك... تُرى هل ساعدت في قتل شقيقتها للتو؟! 

رجعت للوراء وهي تهز رأسها بهستيرية بانكار مما توصل له عقلها، لا بالطبع لن يحدث هذا، شقيقتها بخير، لن تكون سببًا في مقتلها، لن تكون سببًا في أن يصيبها مكروهًا ما. 

وعنه لم يقل صدمًة عنها، لم يتوقع أن تزهق روح الفتاة بهذه السرعة، توقع أن تصمد أكثر، حسنًا لربما فقدت وعيها فقط! 

كان هو الأسرع في التحرك حين اقترب منها يتحسس نبضها، امسك معصمها لم يجد فيهِ نبضًا محسوسًا، لتصعد كفه للعرق النابض برقبتها فوجد نفس النتيجة! حسنًا لقد تيقن الآن من أن الفتاة قد زُهقت روحها.. 

ابتلع ريقه الجاف وهو ينظر لها بعجز عن التصرف، وأذنه تستمع لبكاء "خديجة" المصدوم الذي يأتي من خلفه، هز رأسه ينفض الصدمة عنه ليستطع التصرف وبنفس اللحظة كانت "خديجة" قد فقدت السيطرة على ذاتها فارتفعت شهاقتها، وارتفع صوتها وهي تنادي على شقيقتها:

_ سارة! س.. ساا... سارة، لا.. 

نهض واقفًا حين بدأ صوتها يعلو أكثر فالتفت لها ليُصاب قلبه بغصة مؤلمة من حالتها، كانت منزوية بأحد الجوانب عيناها مثبتة على شقيقتها وتذرف أنهارًا من الدموع ومقلتيها حمراء كالدماء، وجهها شاحب، ورأسها تتحرك يمينًا ويسارًا بانكار، وشفتيها المرتجفتين تردد باسم شقيقتها دون توقف. 

اقترب منها بأنفاس ذاهبة من الموقف ومن حالتها، ودقاته متسارعة بعنف، وقف أمامها حاجبًا الرؤية عنها، لتحول أنظارها له بتلقائية، ووقتها وعت لِمَ يحدث لتنظر له وكأنه طوق نجاتها وهي تستنجد بهِ:

_ مراد.. سارة، هي.. هي كويسة صح؟ قول اه، قول اه أرجوك.. مر.. 

قاطعها وهو ينحني ليمسك وجهها بكفيهِ ليجعلها تهدأ وهو يقول بثبات يُحسد عليه في مثل هذا الموقف وبمثل هذا السن:

_ اهدي يا خديجة.. احنا معملناش حاجة، احنا كنا بنأدبها بس مكنش قصدنا نأذيها صح؟ 

اومأت برأسها بتأكيد سريعًا وهتفت من بين بكاءها:

_ اه، بس هي... 

أخذ نفسًا عميقًا جدًا وهو يتجهز ليلقي قنبلته عليها، وقبلاً كان يبعد كفيهِ عن وجهها ويحتضن جسدها بأكمله بدلاً عن وجهها فقط، احتضنها بقوة وقد اراحت رأسها على بطنه، لينحني برأسه هامسًا في أذنها:

_ خديجة، سارة ماتت. 

شعر بتصلب جسدها، شعر بتوقف أنفاسها لوهلة، وثم اختفى الدفئ الذي كان ينبعث من جسدها الملامس لجسده، حاول ابعادها ليرى ما بها، لكنها كمن ثُبت في أرضه، هتف باسمها بقلق:

_ خديجة! 

وهنا هي من ابتعدت لسنتيمترات قليلة وهي تنظر له بهذيان، ثم رددت بعدم وعي:

_ ماتت! احنا قتلناها! 

امسك ذراعيها وهو يهزها بعنف لتفوق من صدمتها ولسانه يردد بتحذير:

_اوعي اسمعك تقولي الكلام ده تاني، احنا منعرفش حاجة عن الي حصل سامعة يا خديجة؟ احنا مشوفناش سارة من الصبح ومنعرفش حاجة عنها سمعاني؟ 

كانت نظراتها تائهة، تدور في كل مكان، كأنها لا تسمعه او لا تفهم ما يقوله، وجهها يزداد شحوبًا، ثم وفجأة قررت الاستسلام، قررت أن تريح عقلها الصغير من صدمة لا يستوعبها عقل شخص بالغ، لتسقط فجأة فاقدة الوعي، ولكن لم تصطدم بالأرض ذلك الاصطدام القاسي، هذا لأنه قد التقط جسدها بين ذراعيهِ قبل أن يسقط، اراحها برفق على الأرضية ووقف يفكر فيما يجب عليهِ فعله. 

لقد رأى الكثير من أفلام الاكشن والجريمة طوال العام السابق، فقد أصبحت هذه النوعية من الأفلام تستهويه، تلك الأفلام التي لربما تكن آداة ليست بهينة في الكثير من الجرائم، تلك الأفلام التي لا أعلم إن كان منتجيها يعلمون ما قد تتسبب بهِ تلك القصص التي يتناولونها أم لا، ولكن على سبيل المثال شخص ك "مراد" من أين له أن يعلم عن أمر البصمات التي تكن سببًا رئيسيًا في التعرف على المجرم إن لم يشاهد تلك الأفلام، صدق أو لا تصدق ولكن الكثير من الجرائم التي تحدث على أرض الواقع تُخفى بأحد الخدع التي تبناها ذلك البطل في فيلمه ليخفي جريمته! 

وهذا ما فعله "مراد" الآن، حين أتى على خلده أمر البصمات، وأن الجثة حين تُحلل سيُكتشف أنها ماتت أثر الاختناق، إذًا ما الحل؟ وهذا ما فكر بهِ لدقائق قليلة جدًا قبل أن يقوم بالتالي:

ابعد "خديجة" عن ساحة الجريمة تمامًا، وجلب قطعة قماش وجدها في تلك الغرفة التي بها الكثير من التلفيات والاشياء عديمة القيمة، وبها جذب جسد سارة ليجعلها مسطحة بشكل مستقيم فوق الأرضية، ثم اتجه للخزانة التي كانت متوسطة الحجم لحد ما، وحاول دفعها برفق لتسقط... لتسقط فوقها! فيبدو الأمر انها اختنقت من سقوط الخزانة فوقها ولم تستطع ازاحتها، لم يقدر على دفعها وخشى إن سقطت عليها ستحدث أضرارًا بالغة في جسدها، أضرار ربما ستكن سببًا في كشف الحقيقة، فوقف بجسده أمام الخزانة بعدما فتح بابها وظل يجذبها بجسده الذي يحمل قوة مضاعفة من رياضته العنيفة التي يمارسها، حتى باتت على قرب سنتيمترات قليلة من جسد "سارة" فتركها منسحبًا بجسده بعيدًا فباتت فوقها كما أراد، وسيظهر الأمر انه اختناق من سقوطها فوقها. 

وقف يلتقط أنفاسه بعنف، وعقله يفكر ماذا فعل هو؟ هل كان الأمر يستدعي أن يتورط في جريمة قتل؟ سارة، رغم انه لم يحبها يومًا إلا أنها لم تستحق أن تفقد حياتها هكذا! طيف من الدموع غزى مقلتيهِ لبرهة من الزمن، قبل أن يزفر أنفاسه بقوة مقررًا انه ليس وقته أبدًا التفكير في أي شيء، اتجه ناحية "خديجة" وحملها مبتعدًا عن المكان بحرص كي لا يراه أحد. 

-----------------

ساعة كاملة مرت... 

وهو يجلس فوق فراشه بجوارها، كفه يمسد على خصلاتها برفق، وعيناه سارحة في ملكوت آخر، تلك الساعة سمحت لضميره بتأنيبه وجلده بقسوة على ما فعله، وسمحت لعقله بالتفكير في الأمر لأكثر من مرة من كل الجهات، من ناحية ما فعله وكيف سيتخطاه، ومن ناحية كيف سيجعل خديجة تصمت عما حدث، والأهم ماذا سيفعل معها كي تصبح بخير، فهي أصغر منه سنًا، وأرهف منه في مشاعرها، لن تتحمل ما حدث ولن يمر عليها بخير، عليهِ أن يقف بجوارها الفترة المقبلة أكثر من أي وقت مضى. 

شعر ببدأ استفاقتها ليتحفز جسده لأي شيء قد يتلقاه منها. 

في أول الأمر لم يفقه عقلها شيئًا عما حدث قبل اغماءها، ولكن لم يمر دقيقتان حتى بدأت تصرخ فجأة دون أي كلمة قبلها، ليسرع واضعًا كفه فوق فمها كي يمنع صوت صراخها من الصدوح، لكن هاله ما رآه في عينيها، لقد رأى الخوف يتراقص في عينيها، منهُ؟! هل بدأت تخشاه؟ هتف يحاول طمأنتها:

_ متخافيش يا ديجا، بس بطلي صريخ هيسمعوا صوتك بره. 

هزت رأسها موافقة بخوف حقيقي، ليزفر أنفاسه بضيق وهو يرى خوفها لا زال يلازمها، حسنًا يبدو أن الأمر سيأخذ وقتًا، وقتًا ليس بهينًا ولكنه على استعداد لمواجهة أي شيء غير خوفها منه الذي لا يتحمله، ازال كفه من فوق فمها وحاول محادثتها بلطف:

_ خديجة أنتِ لازم تهدي يا حبيبتي، الي حصل مكنش قصدنا، الي حصل ده غصب عنا وأي كلمة منك دلوقتي هتودينا في داهية. 

هوت الدموع بحرقة من عينيها، وذمت شفتيها تشهق ببكاء، وارتجف جسدها على ذكرى ما حدث وخرج صوتها مبحوحًا محملاً بالكثير من الحسرة والألم لفتاة في مثل سنها وهي لم تبلغ التاسعة بعد:

_ سارة.. سارة ماتت يا مراد، احنا الي قتلناها، هي ماتت بسببنا. 

أغمض عيناه لوهلة يستدعي الهدوء قبل أن يفتحهما وهو يسألها بلين:

_ احنا كان قصدنا نموتها؟ 

نفت برأسها بذعر كأنها ترفض أن تلتصق تلك الجريمة النكراء بها، ليهز رأسه مشجعًا وهو يقول:

_ شوفتي، يبقى بلاش تلومي نفسك، لأنك مكنتيش تقصدي، هي لما وقعتك وعورتك كانت قاصدة تعورك؟ ولا هي بس وقعتك؟

نفت برأسها أولاً ثم عادت لتومئ على سؤاله الأخير وهي لا تكف عن البكاء، ليرفع كفيهِ محيطًا وجهها ماسحًا دموعها بحنان وقال بتحذير:

_ يبقى مش لازم حد يعرف حاجة عن الي حصل. 

وكأنها استوعبت أين هي، لتنظر حولها باستغراب وهي ترى ذاتها في غرفته! فسألته بحيرة من بين بكاءها:

_ أنا ايه الي جابني هنا؟ وهي، هي عملت فيها ايه؟ 

ازاح كفيهِ عنها وهو يزفر انفاسه بتعب، وأخبرها:

_ هي سبتها مكانها، هم اكيد هيلاحظوا غيابها ويدوروا عليها وقتها هيلاقوها، وأنتِ اغمى عليكِ فجبتك هنا. 

انخرطت في البكاء أكثر وهي تتخيل حالة والديها حين يعلمان بمقتل شقيقتها، أي ذنب ارتكبت هي لِمَ وافقته على ذلك الانتقام الجنوني؟ لِمَ استمعت لحديثه كالبلهاء ولم توقفه عن أذية شقيقتها؟ كيف ليس لهما ذنب؟ كل الذنب يقع عليهما لقد فقدت "سارة" حياتها بسببهما؟! 

هزت رأسها بتأنيب ضمير وهي تقول ببكاء حارق:

_ لأ، انا هقول لبابا.. انا لازم اقوله عشان يسامحني. 

احتلت السخرية وجهه وهو يسألها باستنكار:

_ يسامحك؟ هو لو والدك عرف هيسامحك؟ هيسامحك ازاي؟ محدش هيستوعب الي حصل ولا هيتفهم اننا مكناش نقصد، هيحطوا اللوم عليكي ومحدش هيسامحك. 

نفت برأسها رفضًا للاستماع لحديثه مره أخرى، واصرت على موقفها وهي تقول:

_ لأ، انا لازم اقوله، انا.. انا مش هقدر اخبي عنه، مش هعرف. 

طفح الكيل من حديثها وتعنتها ليمسك ذراعها كي تنتبه له وهو يقول بحزم:

_ خديجة، انا قولتلك محدش هيعرف حاجة عن الي حصل. 

جذبت ذراعها منهُ بقوتها الواهية وهي تصرخ بهِ ودموعها تغرق وجنتيها:

_ ملكش دعوة بيَّ، انا مش عاوزه اصاحبك تاني، أنتَ السبب في الي حصل.. وانا مش هسكت انا هقول لبابا عشان لازم يعرف، لازم يسامحني ويعرف اني مكنتش اقصد. 

احتدت ملامحه بشدة وهو يستمع لحديثها، كيف لها أن تلقي حديثها السام هكذا في وجه؟ ألم تعد تريد معرفته!! حسنًا سيتجاوز ما تقوله الآن فقط لأنها بالتأكيد غير واعية لحديثها، ضغط على نواجزه بشدة وهو يقول:

_ طب بصي بقى لو حد عرف حاجة عن الي حصل هزعلك، وأنتِ مجربتيش زعلي لحد دلوقتي بس نصيحة مني بلاش تجربية. 

انفلتت منها شهقة بكاء وهي تسأله بخوف:

_ هتعمل ايه يعني هتقتلني زيها؟! 

حسنًا هي تستفزه لأقصى درجة، وهو ليس بإنسان ألي ليتحكم في غضبه الذي خرج الآن وتلك النظرة القاتمة المخيفة تحتل عيناه وهو يقترب بجسده منها ويقول بفحيح بدى مرعبًا لها:

_في حاجات كتير أبشع من القتل اعتقد عقلك الصغير ميستوعبهاش!

لقد خشته حقًا، وانتفض قلبها رعبًا، من نظرته لتجد ذاتها تردد بدون وعي منها وعيناها بدت كهرة خائفة:

_ مراد أنا خايفة. 

انتبه الآن فقط لغضبه الذي سيطر عليه وجعله يتفوه بحماقة كهذه لها، اغمض عيناه قليلاً ليهدأ وتنفس عميقًا جدًا، وما إن شعر أن عيناه لم تعد مخيفة، حتى فتح عيناه وهو ينظر لها بذلك الصفاء الذي عهدته، التقط كفها بين كفيهِ رغم خوفها وارتجافتها منهُ، لكنه طمأنها بربطه على كفها وهو يقول بنبرته الدافئة التي عهدتها:

- خديجة انا خايف عليكِ، صدقيني مش هاممني نفسي انا خايف عليكِ أنتِ، أنتِ عارفه لو حد عرف الي حصل هيحصل ايه؟ 

بدت مهتمة بما يقوله، ليستكمل حديثه:

_ هيطلبوا الشرطة، ووقتها مش هيلاقوا حاجة علينا غير كلامك بس، وكلامك مش هيكون دليل يحبسنا، واكيد ابويا هيخرجني من الموضوع بسهولة، ووقتها أنتِ الي هتعاني.. عارفه ازاي، أبوكِ وأمك عمرهم ما هيسامحوكِ، هيكرهوكِ يا خديجة وهيعاملوكِ اسوء مما تتخيلي، هتندمي إنك عرفتيهم صدقيني.. أنتِ اضعف من إنك تتحملي عقابهم ليكِ، صدقيني يا خديجة أنا والله خايف عليكِ. 

صمت يحاول معرفة ما إن اقتنعت بحديثه أم لا، لكنه جهل قراءة ملامحها، لأول مرة يجد ملامح وجهها فارغة هكذا، فضغط على كفها يدعهما أكثر وهو يقول بصدق:

_ لو لسه مصممة، قوليلهم يا خديجة، بس متجبيش سيرتك في الموضوع، اوعي تقولي إنك كنتِ معايا، قولي إنك شوفتيني وانا بحبسها في الدولاب، قولي إني اتخانقت انا وهي وبعدها شوفتيني بحبسها في الدولاب وسبتها ومشيت، ولو هتقولي ده فهتقولي كمان اني شوفتك لما شوفتيني فخدتك عندي الاوضة عشان متقوليش لحد، فاهمة؟ 

لقد حاك لها سناريو رائع لتحكيه للجميع، وعليها فقط التنفيذ ولكن السؤال الأهم هل هي ستفعل هذا؟ هل ستوشي بهِ حقًا؟! 

ظلت صامته لثواني حتى.. حتى تغلب خوفها عليها، خشت.. خشت من عقاب والديها وتدخل الشرطة إن قالت الحقيقة، وخشت أيضًا أن تستخدم السناريو الذي حاكه لها "مراد" ولا تعلم السبب! 

أخفضت رأسها بيأس وانكسار وهي تقول ببكاء:

_ مش هقول.. مش هقول خلاص. 

تنفس براحة حين استمع لجملتها واقترب مقبلاً جبهتها بعمق قبل أن يبتعد وهو يقول:

_ شاطرة يا ديجا، ده الصح صدقيني. 

اغمضت عيناها بقهر وهي لا تعرف ما إن كان ما فعلته هو الصواب أم زادت من ثِقل ذنبها؟! 

-----------------

صراخ وعويل ودموع تتساقط هنا وهناك، صدمة، وقهرة، وقلوب أدماها مظهر الصغيرة التي فقدت حياتها في غمضة عين. 

"دينا" لم تتحمل ما رأته وخبر وفاة صغيرتها، فأخذت تصرخ بكل طاقتها وهي جاثية أرضًا، دموعها كجمرات النار، وصوتها الذي يصرخ باسم صغيرتها ينزل على القلوب نزول السوط على الجسد. 

و"محمود" سقط جالسًا أرضًا بصدمة، لم يتفوه بحرف أو بصرخة، فقط باهت، مصدوم، تائه، بمعالم أب فقد ابنته للتو. 

انتشرت رجال الشرطة بالمكان بعدما أخرجوا الصغيرة، ووقفت "ليلى" تحمل الصغير " مصطفى" الذي بالكاد بلغ الأربع أعوام وأصابه الذعر من الذي يشاهده أمامه، وعلى مقربة منهُ كان يقف "مراد" محتضنًا خديجة التي انهارت في البكاء وهي ترى المشهد الذي خشت منهُ، المشهد الذي يجلدها ويجلد ضميرها مرات و مرات، وهو لن ينكر أن عيناه غامت بالكثير من الدموع والتي سقطت على وجنتيهِ من المشهد الذي يراه، وتمنى لو فقط تريث قليلاً فيما فعله، تمنى لو باستطاعته العودة للوراء ليلحق بها قبل أن تزهق روحها، ولكن ليت.. لم يجني أحد منها شيئًا. 

-----------

قاسية هي الحياة حين تعلمنا درسًا يماثل قسوتها ونحن مازلنا صغار لسنا حمل ذلك الدرس ولا تلك القسوة،
قاسية هي الحياة التي تترك في روحنا ندوب لا تُمحى ولا يواريها الزمن،
قاسية هي الحياة التي تسلب منا عزيزًا لم نعتاد العيش بدونه، وتنفرنا من حبيبًا لم نظن أننا سننفره يومًا،
بقسوة الحياة، تقسو قلوبنا، ونقسو معها حتى وإن كنا مازلنا مجرد صبية! 

نهاية نوفمبر لنفس العام.. 

"خديجة" لم تعد خديجة، تلك الفتاة الصغيرة، الحنونة، المرحة، النقية، لم تعد أيًا من هذا، باتت فتاة أخرى، باهتة، صامتة، لم تعد نقية بحملها لذنب قتل شقيقتها! لم تعد علاقتها ب"مراد" كالسابق أبدًا، لم تراه في الشهر ونصف المنصرمين سوى مرات قليلة جدًا، وهو تركها.. تركها تأخذ فترة نقاهة، يعلم أن الأمر صنع حاجزًا ما بينهما، لكنه سيهدمه قريبًا فقط ليترك لها بعض الوقت. 

اقتربت من والدها الذي جلس بجوار حوض الزهور بضعف لم يبدو عليهِ سابقًا، فقط بدى عليهِ من بعد وفاة شقيقتها، جلست جواره بأسى على حاله، ففتح ذراعيهِ لها يحتضنها بحنانه المعهود، فبكت.. بكت وهي ترى نفسها سببًا في حالة أبيها الملكوم، لكنه لم يفهم سبب بكاءها فسألها وهو يحاول تهدأتها:

_ في ايه يا ديدي مالك يا حبيبتي؟ ماما زعقتلك؟ 

"ديدي" كنيتها المفضلة لدى أبيها، والدتها! وهل عادت والدتها تنهرها أو ترفع صوتها حتى، والدتها لم تعد كما كانت هي الأخرى، والدتها أصبحت أم بائسة، حزينة، فاقدة للحياة بعد رحيل ابنتها الكبرى، تعلم أن "سارة" كانت المفضلة بشكل ما لدى والدتها بالطبع لم تكن المفضلة عن شقيقها "مصطفى" لكن كانت المفضلة عنها، لذا مرارة فقدها ليست هينة. 

رفعت رأسها لوالدها تستجديه بنظراتها ألا يردها خائبة وهي تطلب منه للمرة الثالثة:

_ بابا، عشان خاطري خلينا نمشي من هنا، أنتَ قولتلي هفكر، خلينا نمشي يا بابا بقى. 

نظر لها بحيرة وهو يسألها مستغربًا:

_ وأنتِ ليه عاوزه تمشي من هنا للدرجادي؟ 

وبمكر ودهاء لم تعرفه "خديجة" من قبل لكن الأيام كفيلة أن تُعلم! كانت تقول:

_ عشان مش قادرة اعيش هنا من غير سارة، كل مكان بشوفها معايا فيه، بابا انا مبعرفش انام بليل، بخاف اوي وبحس إن سارة حوليا، غير إن ماما كل يوم تيجي تقعد قدام باب المخزن الي ماتت فيه وتقعد تعيط. 

وجملتها الأخيرة كانت صادقة وشهدها "محمود" بنفسه اكثر من مرة، لذا بعد صمت دام لثواني كان يقول باستسلام وقد هداه عقله أن هذا الحل الأمثل:

_ معاكِ حق، طول ماحنا هنا مش هنقدر نخرج من حزننا أبدًا، كفاية الي حصلنا هنا لحد كده.. هنمشي يا خديجة، هنرجع بلدنا يا بنتي يمكن نقدر نتعايش. 

نفسها الآن هادئ، هادئ لدرجة لم تجربها منذُ وفاة سارة، أخيرًا ما سعت له منذُ شهر كامل على وشك التحقق.. ستهرب، ستركض بعيدًا عنه، لن تستطيع تقبله بعدما كان السبب في مقتل شقيقتها، لن تستطيع البقاء في مكان واحد معه، عليها بالهرب قبل أن يورطها في جريمة أخرى وتنساق خلفه بكل حماقتها 

تعليقات