رواية انت عمري الفصل الثامن والعشرون28 بقلم امل مصطفي


 رواية انت عمري الفصل الثامن والعشرون28 بقلم امل مصطفي
كادت السيارة أن تصدمها عندما جذبها من الخلف إلى أحضانه، وهو يرتعش من فكرة أن يفقدها. ظلّ يحتضنها وعيناه مغمضتان، يحمد الله على عدم خسارتها. استفاق على صوت أحد المارة وهو يقول بارتياح:
ـ الحمد لله يا أستاذ... عدّت على خير.

ظلت متجمدة من الصدمة، وعقلها يرفض استيعاب ما حدث. الخوف من تكرار المحنة، ومن العجز مرة أخرى، سيطر عليها. لكنها هذه المرة لن تتحمل.

حاولت استعادة صوتها لتخفف من قوة ضمته التي تؤلمها، فقالت بصوت مهتز:
ـ مراد... أنا بخير... متقلقش عليا.

أبعدها قليلاً ليمعن النظر في وجهها، ظل يمرر عينيه على ملامحها، وكأنه يتأكد أنها حقاً بخير، ثم ضمها مرة أخرى، وكأنه لا يصدق أنها بين يديه وبخير.

---

في مكان آخر، تحدثت عشق بالهاتف:
ـ طيب يا زينب، ممكن تقابليني؟ إحنا وصلنا الشارع اللي نزلتِ فيه جدة.
صمتت قليلاً ثم تابعت:
ـ أمشي منين؟... طيب، خلاص... أنا بستناكِ.

أغلقت زينب الهاتف ونظرت إلى والدتها التي كانت تتابع المحادثة. قالت بتوتر:
ـ عشق هانم واقفة على أول الحارة، بتقول جايه تشوف جدو... هنعمل إيه يا ماما؟

سناء بابتسامة فرح:
ـ روحي يا قلب أمك، هاتيها وأنا هعمل عصير وأجهز حاجة... ده كله من خيرها.

ارتدت زينب عباءتها السوداء ولفت حجابها بسرعة، ثم خرجت مسرعة لملاقاة عشق.

---

أسرعت زينب في خطواتها عندما رأت السيارة. شعرت بارتباك غريب عندما وجدت نفسها أمام خالد. تلبكت وتبدّل حالها، وخجلت بلا سبب. ثقلت خطواتها حتى وصلت إليهما.

فتح خالد باب السيارة لعشق، التي نزلت بسعادة وهي تحتضن زينب:
ـ إزيك يا زينب؟ وإزي جدو أنور؟

ابتسمت زينب بخجل من تواضع عشق وتمتمت:
ـ كلنا بخير الحمد لله... والفضل يرجعلك.

مررت عشق يدها على كتف زينب بلطف وقالت:
ـ ما تقوليش كده... الفضل دايمًا لربنا.

كان خالد يخرج الزيارة من السيارة ويغلق الباب، بينما تحركت عشق وزينب أمامه، وهو يسير خلفهما. وقبل أن يدخلا الحارة، ناداهما شاب بنبرة فضولية:
ـ مين دول يا زينب؟

التفتت زينب إليه بملامح متجهمة، وتحوّل خجلها إلى حدة:
ـ أظن دي حاجة ما تخصكش!

نظر إليها بغضب واضح وردّ بلهجة حادة:
ـ لا يهمني... وأنتِ عارفة.

لم تعره زينب أي اهتمام، بل التفتت إلى عشق وقالت بابتسامة مُعتذرة:
ـ آسفة جداً... اتفضلي.

غمزت عشق بعينيها وهي تقول ممازحة:
ـ هو فيه جو ولا إيه؟!

ردت زينب بنفور واضح:
ـ أبدًا... هو عايز يخطبني غصب عني وأنا مش طايقاه، ولا هو طموحي أصلاً.

---

وصلوا أمام المنزل، لتجدوا سناء تقف في انتظارهم على الباب، وعيناها تلمعان بالسعادة. عندما رأت عشق، قالت باندهاش:
ـ بسم الله ما شاء الله... ربنا يبارك. معرفوش يوصفوا جمالك.

شعرت عشق بالخجل وتمتمت:
ـ إزي حضرتك يا طنط؟

ضحكت سناء وهي تضم عشق إلى صدرها بحرارة:
ـ طنط إيه؟! أنا ماما سناء... اتفضلي يا بنتي.

رغم بساطة المنزل، إلا أن عشق شعرت بدفء الجو الأسري الذي يغلفه. المكان مرتب ونظيف، وتفوح منه رائحة الحب والسكينة.

---

نظرت عشق حولها وسألت بابتسامة:
ـ فين جدو العجوز ده؟ مش عايز يشوفني؟

سمعت من خلفها صوت ضحكته المفعمة بالحياة، وهو يقول بمرح:
ـ هو جدك يطول ملاك زيك تيجي تشوفه وتطمن عليه؟!

ثم تابع بمزاح:
ـ هي الصنارة غمزت ولا إيه؟!

ضحكت عشق بعذوبة وهي تقول:
ـ طبعًا... مين يقدر يقاوم وسامتك؟! كفاية عيونك اللي لونها لون الزرع والخير.

سلمت عليه وجلست بجواره. بدا أن حالته النفسية أفضل من تلك المرة. بينما كان خالد ما يزال واقفًا يحمل الأشياء، وعيون زينب تتابعه بفضول وخجل.

نادته عشق:
ـ تعال يا خالد... دخل اللي معاك.

توجهت سناء إليه بإحراج قائلة:
ـ متأخذنيش يا بني... اتلبخت.

ردّ بابتسامة مطمئنة:
ـ ولا يهمك يا أمي.

لا تعلم سناء لما قفز قلبها بين ضلوعها من كلمة "يا أمي". شعرت بها بقوة، وكأنها سمعتها من ابنها.

ـ اتفضل يا ضنايا.

نظرت عشق إلى خالد وقالت بحنان:
ـ طيب يا خالد... امشي دلوقتي وساعة وتعالى خدني.

هتفت سناء بإصرار:
ـ لا، ساعة إيه؟! هتتغدى معانا.

ضحكت عشق وقالت بلطف:
ـ والله يا ماما ما ينفعش... أدهم مش بيأكل غير لما أكون معاه.

سناء بنبرة رجاء:
ـ يبقى ساعتين.

تحدث خالد بحزم:
ـ لا، أنا مش همشي وأسيبك... هقعد على القهوة اللي في وش البيت، ولما تخلصي رنّي عليّ.

خرج خالد، وأغلقت سناء الباب وهي ترحب بعشق:
ـ ثواني يا حبيبتي... وجيالك.

عشق بحنان:
ـ براحتك خالص.

ثم وجهت نظرها إلى الجد أنور وسألته:
ـ أخبارك إيه يا جدي؟ بتاخد علاجك ولا إيه؟

ابتسم الجد أنور بحب وقال:
ـ نحمد ربنا اللي جعلك سبب في نجدتنا... الفلوس...

رفضت عشق إكمال الحديث، وقالت بجدية:
ـ الفلوس دي مش مني... ده رزق ربنا اللي بعته، وجعلني سبب مش أكتر.

توجهت إلى زينب، التي كانت تجلس شاردة الذهن، فظنت أنها تفكر فيما حدث مع ذلك الشاب. سألتها بهدوء:
ـ قوليلي يا زينب... مين الشاب ده؟

قبل أن تجيب زينب، خرجت سناء من المطبخ وقد بدت على ملامحها علامات الاستفهام:
ـ شاب مين؟!

تنهدت زينب بضيق وهي تقول:
ـ أمير يا ماما... بيسأل الفلوس دي جت منين، وكلمني بطريقة ضايقتني، كأنه ولي أمري!

اشتعلت العصبية في صوت سناء وهي ترد:
ـ هو مش خلاص خلّصنا من الموضوع ده؟!

حاولت عشق تلطيف الأجواء، فابتسمت وقالت بمزاح:
ـ ما يمكن بيحبها يا ماما سناء! فيها إيه؟

لكن سناء سيطرت على انفعالها بسرعة، وتذكرت أن عشق ضيفة، ولا ينبغي الحديث أمامها بتلك الطريقة. ابتسمت بتكلف وقالت:
ـ لا، إحنا كان علينا إيجار متأخر، وباباه كان بيلوي دراعي عشان يتجوزني، وأبنه يتجوز زينب وهي رفضت. والفلوس جت نجدة، وبرضه مش بيسكت.

نظرت عشق إلى زينب وسألتها:
ـ أنتي يا زينب، معاكي شهادة إيه؟

ردت زينب بصوت خافت:
ـ معايا دبلوم صناعي قسم تفصيل، وماما هتشوف لي شغل في المصنع معاها.

سألتها عشق باستغراب:
ـ هو حضرتك شغالة في مصنع؟

أومأت سناء برأسها وقالت بابتسامة ممزوجة بالأسى:
ـ آه... ده مشغل بيصنع العبايات. وزينب، ما شاء الله، طلعة موهوبة زي باباها الله يرحمه. وكلمت صاحب المشغل، بس لسه مردش... إن شاء الله خير.

---

بينما كان خالد يجلس على كرسي خشبي، يحتسي كوباً من الشاي على ناصية القهوة، لمح شوقي وولده يقتربان منه. جلسا أمامه دون استئذان، وأشار شوقي إلى صبي القهوة الذي جاء على الفور:
ـ هات حاجة ساقعة للضيف.

تابع خالد ما يحدث ببرود تام، دون أن ينطق بكلمة أو يظهر أي اعتراض.

كسر شوقي الصمت وهو يهتف بسؤال:
ـ هو أنتم تعرفوا ست سناء منين؟ دي طول عمرها مالهاش حد.

رفع خالد عينيه نحوه بحدة وقال بصرامة:
ـ أولاً، دي حاجة ما تخصكش... وثانياً، ما عندناش حريم تيجي سيرتها على القهوة.

ثم حول نظره نحو الشاب، ونظراته تحمل تهديداً واضحاً:
ـ وأنت... لو اعترضت طريق الآنسة زينب تاني، أنا اللي هكون في وشك.

ثم تابع بصوت منخفض وحاد:
ـ أنا مليش في التهديد... أنا بنفذ على طول.

رن هاتف خالد فجأة، فأخرج الهاتف وتحدث بلغة مختصرة وبإشارات سريعة. أنهى المكالمة، ثم نهض وهو ينادي على صبي القهوة:
ـ هات الحساب.

وضع المال على الطاولة، وغادر دون أن ينظر إليهم، تاركاً شوقي وابنه يتبادلان النظرات المتوترة.

شوقي وهو ينظر إلى ابنه بتعجب:
ـ مين دول يا واد؟ شكل حد هيخطف مننا البت وأمها... دي تبقى كارثة.

---

في منزل زينب، طرق الباب مرة أخرى.

توجهت زينب إلى الباب، وعندما فتحته، وجدت فتاة صغيرة تتعلق بقدمها. انحنت زينب على الطفلة، حملتها بين ذراعيها وقبلتها وهي تقول بلهفة:
ـ شوشو... حبيبة زوبة! حمد الله على سلامتك يا قلبي.

دخلت زينب وتلك الصغيرة تحتضن عنقها، وتضع قبلة لطيفة على وجنتها. خلفها دخلت فتاتان من نفس العمر تقريباً، تبدو عليهما ملامح التوأم.

عشق بابتسامة واسعة:
ـ الله! مين القمر ده؟

زينب وهي تُنزل شوشو من بين ذراعيها:
ـ دي شوق... القمر بتاع البيت!

أخذتها عشق في حضنها وجلستها على قدمها، ثم قبلتها على وجنتها:
ـ ما شاء الله! إيه الجمال ده كله؟!

ثم نظرت إلى الجد أنور بمزاح:
ـ يظهر إن جدّو بهت على الكل.

ضحكت شوق وهي تضع يدها الصغيرة على وجه عشق:
ـ وأنتي كمان جميلة... وعيونك لون السماء.

ضحكت عشق وهي تقبّلها:
ـ قلبي أنتي.

---

دخلت سناء إلى الغرفة، ووضعت يدها على كتفي الفتاتين بفخر وهي تقول:
ـ دول هنا وجنى... في الصف السادس الابتدائي.

ابتسمت عشق وهي تسلّم عليهما بحب:
ـ والله ما كنتش أعرف إن فيه بنات بالجمال ده في سنكم!

ثم وجهت حديثها لشوق:
ـ وعد يا قمر... المرة الجاية أجيبلك عروسة جميلة وشوكولاتة كتير.

---

جلست عشق وسط الفتيات، يتبادلن الأحاديث والضحكات. كان المنزل بسيطاً، لكنه مليء بالدفء والروح الأسرية. سرحت عشق في وجوه الفتيات، وفي نظرات الجد وسناء، وتذكرت أخواتها ووالديها.

مرّ الوقت سريعاً، وعشق وعدتهم بتكرار الزيارة مرة أخرى.

---

جاء خالد على الباب، وأسرعت زينب لتفتحه. وقفت أمامه بخجل، وخفضت عينيها وهي تقول:
ـ اتفضل...

نظر إليها خالد، وخفض عينيه بدوره وهو يقول بجدية:
ـ أنا كلمت الشاب ده... لو فكر يعترض طريقك تاني، أنا هربيه.

رفعت زينب عينيها بدهشة، وقرأت في نظراته شيئاً غريباً... شيء يشبه الغيرة. حاولت أن ترد، لكن صوت عشق جاء من خلفها:
ـ أنا جاهزة يا خالد!
********

قاد خالد السيارة في صمت، بينما يداه تقبضان على عجلة القيادة بإحكام. كان يشعر بغصة في صدره، ولا يعلم سبب هذا التصرف غير المدروس. هل سيترك عمله فقط لمنع مضايقات أمير لزينب؟ منذ متى وعد وخلف؟

قطع شروده لمحة سريعة في المرآة، حيث لمح صورة عشق وهي مستندة إلى المقعد، وعيناها شاردتان وابتسامة هادئة ترتسم على شفتيها.

هتف خالد وهو ينظر لها عبر المرآة:
ـ شايفك مبسوطة.

هزّت عشق رأسها وهي ترد بنبرة دافئة:
ـ جداً يا خالد... أنا عشت سنين وحيدة ومحرومة من جو الأسرة. مع سناء وزينب والبنات حسيت إني وسط أهلي. افتكرت بابا وماما وأخواتي... الله يرحمهم.

تمتم خالد بخشوع:
ـ الله يرحمهم.

سكت قليلاً ثم تابعت عشق، ناظرة إليه بنظرة متفحصة:
ـ خالد... أنت ما فكرتش تخطب؟

ارتبك خالد من سؤالها المفاجئ، ثم رد بجدية:
ـ الحمل كبير... ومش مخليني أفكر. بس... بصراحة، حاسس إني ناوي أدي نفسي فرصة.

ثم أخذ نفساً عميقاً وأكمل:
ـ تفتكري ينفع؟ وفي واحدة ممكن تقبل تتجوز في شقة مع أهل جوزها؟

ابتسمت عشق بحكمة وقالت:
ـ والله الموضوع ده يرجع لحسن الاختيار ونوعية الواحدة اللي هترتبط بيها.

ثم نظرت إليه بنظرة ذات مغزى وقالت:
ـ إيه رأيك في زينب؟

شعر خالد بتوتر واضح، وبدأ يحرك أصابعه على عجلة القيادة بلا وعي. ثم رد بتردد:
ـ يعني... أطلعها من همّ له همّ؟ وبعدين شكلها صغيرة عليا.

ضحكت عشق وهي تهز رأسها:
ـ سيبك من السن. أنا قصدي الفكرة... البنت كويسة ومن معاملتهم مع بعض بتقول إنها متربية صح. فيه ترابط وألفة بينهم، ودي حاجة كويسة.

ثم تنهدت وتابعت:
ـ وبعدين خلاص... أقدر أقول إني اطمنت على ندى. بقت في بيت جوزها، وأخواتك لسه عليهم بدري.

ظل خالد صامتاً، ينظر إلى الطريق أمامه، وابتسامة خفيفة تلوح على شفتيه. همس وكأنه يحدث نفسه:
ـ ما حدش عارف الأيام مخبية لنا إيه.

---
مرّ أسبوع ثقيل على الجميع، خاصة على مراد، الذي باتت روحه متعبة وذهنه مشتتًا. في شركة أدهم، فتح الباب ودخل مراد بخطوات متثاقلة، وبدا عليه الإرهاق.

رفع أدهم عينيه نحوه، وقام من مقعده ليقابله قائلاً:
ـ جيت ليه النهارده؟ ما فكرتش تاخد مراتك وتخرجوا في أي مكان؟ تغيروا جو؟

جلس مراد على الأريكة، متكئاً برأسه إلى الخلف، بينما تغيم عيناه بنظرة شاردة. كان الأسبوع الماضي بمثابة جحيم له، فقد صار المنزل قفصًا مظلمًا يحبس أفكاره ويتركها تنهش في صدره.

جلس أدهم أمامه، وعيناه تراقبان ملامحه المتعبة. ثم سأله مباشرة:
ـ إنت خايف من روان يا مراد؟

تنهد مراد بعمق، وظهرت علامات الحزن على وجهه وهو يرد:
ـ خايف أكون ظلمتها بوجودها معايا... خايف تكون عايشة معايا جسدها بس وروحها في مكان تاني. خايف يكون حبي أعمى عينيّ عن الحقيقة.

نهض أدهم من مكانه بغضب، وتحدث بصوت قوي:
ـ لو هي فعلاً معاك وبتفكر فيه، أنا أقتلها بإيدي.

انتفض مراد من مكانه، وحدق في أدهم بعينين تقدحان شررًا وهو يهتف بصوت متهدج:
ـ ومين اللي يسمح لك تأذيها؟

رفع أدهم حاجبه بتحدٍّ وقال:
ـ ومين يقدر يمنعني؟ ولا يوقف في طريقي؟

اقترب مراد منه، وتحفز كل عرق في جسده، وهتف بقوة أكبر:
ـ أنا... أنا اللي هقف في وشك! ومش ممكن أسمح لك أو لغيرك إنه يلمسها!

ثم تابع بصوت مملوء بالألم:
ـ لو هي قالت إنها عايزاه، أنا هوديها له بنفسي. أنا بعشقها... فاهم يعني إيه؟ راحتها عندي أهم من تعبي!

ظل أدهم يتطلع إليه، ثم اقترب منه ووضع يده على كتفه، محاولًا تهدئته وهو يقول بنبرة أكثر لطفاً:
ـ هون على نفسك يا حبيبي... روان بتحبك، صدقني. ولو كنت شاكك ولو بنسبة واحد في المية إنها بتفكر فيه، كنت قلت لك أنساها عشان ترتاح.

ثم ابتسم بلطف وهو يربت على كتف مراد:
ـ خدها واطلعوا مكان بعيد يومين... روحوا غيروا جو، يمكن ده يفيدك ويريحك.
*******

جلست روان تبكي بحرقة في حضن عشق، التي مسدت على خصلات شعرها برفق،

 وقلبها يعتصر ألمًا على حالها. كانت روان تشتكي بمرارة مما آل إليه حال مراد. فقد بات مهمومًا،

 رافضًا للطعام، قليل الكلام، دائم الشرود. مهما حاولت إخراجه مما هو فيه، كانت تفشل فشلًا ذريعًا. 

وكأنها تعود معه إلى أسوأ لحظة في حياتهما.

مسحت عشق على رأسها بحنان وهمست بصوت مطمئن:
ـ اهدي يا حبيبتي... والله هيرجع زي الأول، وأحسن كمان. مراد بيعشقك، ومستحيل يفرط فيكي.

لكن قلب غادة، الذي يؤلمها بشدة على حال ابنتها ومراد، لم يستطع الصمت. كانت ترى أن ابنتها أخطأت، وتستحق العذاب الذي تمر به الآن، بينما مراد لا يستحق أبدًا ما يشعر به.

تحدثت غادة بغضب مكبوت:
ـ أنتي تستاهلي اللي بيحصلك! لو كنتي فاكرة مراد فعلًا، كنتي مشيتي من المكان اللي هو فيه وما اديتيش له فرصة يكلمك! مش بس كده... أنتي سمحتي له يمسك إيدك! وجوزك يشوفك كده! عايزاه يفكر إزاي؟ لو كان شافك بتضربيه بالقلم، كان يمكن كمل عليه. لكن يلاقيه حاطط إيده على إيدك وأنتي ساكتة؟! يبقى إنتي موافقة وعاجبك اللي بيحصل!

همست عشق بلوم وهي تحاول تهدئة الأجواء:
ـ أرجوكي يا ماما... براحة شوية. هي ما عرفت تتصرف من الصدمة والموقف. لكنها بتعشق مراد. أرجوكي، بلاش تزودي همها.

رفعت روان رأسها، ودموعها تتلألأ في عينيها، وهتفت بانكسار:
ـ أنتي طول عمرك بتحبي أدهم ومراد أكتر مني؟

انتفضت غادة وكأن سهماً أصاب قلبها. نظرت إلى ابنتها بصدمة، ثم اقتربت منها وجذبتها من أحضان عشق بقوة، وقالت بغضب مكبوت:
ـ إيه الكلام ده يا روان؟ أنا أمك يا غبية! كنت بعامله بحنان علشان ما يحسش بالوحدة أو إنه غريب! 
وبعدين لأنّي أمك وبحبك، بقولك على غلطك! ما ينفعش أقولك أنتي صح وأنا شايفاكي بتدمري حياتك!

حاولت عشق تهدئة الأجواء وهي تربت على كتف روان، قائلة بابتسامة مشجعة:
ـ خلاص يا جماعة، بكره الأمور ترجع أحسن من الأول. 

بس بلاش تبعدي عن حضن جوزك. ارجعي بيتك... تحمليه مهما عمل لحد ما يهدي.

مسحت روان دموعها بأناملها المرتعشة، وهتفت بصوت ضعيف:
ـ حاضر...
******
في مساء ذلك اليوم، نزلت خلود الدرج بخطوات ثقيلة، وقد تملّكها الملل. الجميع قد ناموا، وهي لم ترَ زين طوال اليوم. وبينما كانت تهمّ بترك آخر درجة، شعرت بيد قوية تجذبها إلى زاوية مظلمة. شهقت بذعر وسألت بصوت مرتعش:
ـ مين؟

جاءها صوت زين، هامسًا بشوق قرب أذنها:
ـ أنا يا حبيبتي... زين.

أغمضت عينيها للحظة لتلتقط أنفاسها، ثم همست بقلق:
ـ زين! لو حد شافنا كده... هتحصل كارثة، ممكن يقتلونا!

ابتسم زين رغم ارتباكها، وهمس وهو يضمها إليه بقوة:
ـ أنتي مراتي وأنا مسافر مهمة ممكن أتأخر فيها شوية... وبقيت مهووس بيكي. وحشتيني من قبل ما أسافر. أعمل إيه يا خلود؟ مش عارف... ممكن أرجع من المهمة دي ولا لأ. عايز أشبع منك.

ارتجفت خلود وهي تضع يدها على شفتيه بفزع:
ـ بعد الشر عليك! أوعى تقول كده تاني. أنا أموت فيها.

ابتسم زين بحب، وهمس وهو يمرر أنامله على وجنتها:
ـ لو رجعت من المهمة دي على خير، جدي قال إنه هيحدد فرحنا.

قبل أن تستوعب كلامه، ضمها إليه وقبّلها بشغف. تجمد جسدها بين ذراعيه، وقد شعرت بالصدمة. منذ كتب كتابهما قبل شهرين، لم يقبلها من قبل. كيف حدث ذلك الآن؟

لم يمنحها الوقت للتفكير؛ ضمها مرة أخرى بفرحة مشوبة بالخوف. لكن فرحته لم تكتمل، إذ سمع صوت حركة خلفه. تشبثت خلود به في رعب، فربت على ظهرها برفق وهمس جوار أذنها:
ـ متعمليش صوت...

انتظر لحظات حتى هدأت الحركة، ثم تنفس بارتياح وهمس:
ـ اطلعي على فوق، دلوقتي.

هرعت خلود إلى غرفتها، بينما وقف زين يستعد للتحرك. لكن خطواته توقفت حين سمع صوت جده الحازم خلفه:
ـ تعال معايا غرفتي... دلوقتي.

---

دخل زين خلف جده إلى غرفته وهو يشعر بالضيق والندم على ما فعله. أغلق الجد الباب ثم التفت إليه بنظرات غاضبة وقال بحدة:
ـ أنت اتجننت؟ إزاي تعمل كده في بنت عمك؟ إزاي تسمح لنفسك تحطها في الوضع ده؟ إفرض حد من الخدم شافكوا! هتبقى فضايح!

انحنى زين برأسه خجلًا، ورد بصوت منخفض:
ـ آسف يا جدي... بس ليه فضايح؟ هي مراتي على سنة الله ورسوله.

هتف الجد بغضب أكبر:
ـ كأنك نسيت عوايدنا! مراتك لما تدخل بيتك قدام الناس كلها وفي غرفتك، غير كده لأ! أحمد ربك إن فهد مش هو اللي شاف المنظر ده... وإلا كان زمانك في خبر كان!

أغمض زين عينيه بضيق وهو يشعر بصدق كل كلمة قالها جده. تمتم بصوت متهدج:
ـ والله يا جدي، أنا طلبت كام مرة أتجوز خلود... وماحدش وافق. كأني عيل صغير أو لسه هكون نفسي!

نظر الجد إليه بتعجب وسأله بنبرة أكثر لطفًا:
ـ مالك يا زين؟ فيك إيه؟ مش عادتك ترد عليا كده!

أخفض زين عينيه وهمس بحزن:
ـ آسف يا جدي... بس حاسس إن مش هرجع من المهمة دي. وخلود هتوحشني قوي.

هتف الجد بارتباك وقد ارتعد قلبه:
ـ ليه يا ولدي؟ بتقول كده ليه؟ بعد الشر عليك!

أغمض زين عينيه وهو يشعر بغصة في صدره:
ـ والله يا جدي، ده إحساس كبير جوايا المرة دي...

اقترب الجد منه بلهفة، ثم قال:
ـ طب اعتذر يا ولدي! بلاها المهمة دي!

هتف زين بحدة ورفض:
ـ لا يا جدي! من إمتى بنخاف أو بنستسلم؟!

*******
---

في اليوم التالي، عادت عشق من جامعتها وهي تشعر بإحساس غريب يتزايد مع مرور الوقت. منذ الصباح وهي تشعر بعدم ارتياح، لكن الآن صار الإحساس مضاعفًا. فجأة، هتفت بصوت مرتجف:
ـ أوقف! أوقف يا خالد!

نظر إليها خالد باستغراب وهو يضغط على المكابح بسرعة.
ـ مالك؟ إيه اللي حصل؟

فتحت باب السيارة بسرعة، وهبطت منها وهي تبتعد مسرعة. وقفت على جانب الطريق، وانحنت تستفرغ ما في جوفها، وكأن معدتها كانت تقاوم شيئًا ثقيلًا عليها.

هبط خالد خلفها، وبيده زجاجة ماء، وسألها بقلق:
ـ إنتي كويسة؟

أشارت له بيدها أن يبتعد قليلًا، ثم تناولت منه زجاجة الماء دون أن تنظر إليه.

رفعت رأسها ومسحت وجهها، ثم استدارت لتواجهه. بدت شاحبة، وكأنها فقدت كل طاقتها. شعرت بدوار شديد وكأن قدميها لا تقويان على حملها.

اقترب خالد منها وقال بلهفة:
ـ تعالي، أسندك... تقعدي شوية.

مدت عشق يدها إليه لتتوازن، فاحتضن ذراعها وساعدها حتى جلست على حجر كبير تحت الكوبري.

ـ إيه اللي حاسة بيه؟
ـ بطني بتوجعني جدًا!

نظر إليها خالد بقلق، ثم قال:
ـ ممكن تكوني واخدة برد؟
ـ مش عارفة... بس ممكن يكون كلامك صح.

نظر خالد حوله باستنكار:
ـ طيب تعالي، ارتاحي في العربية... المكان هنا مش كويس، وريحته وحشة جدًا.

نهضت عشق وهي تتشبث بذراعه لتستند عليه، لكن فجأة توقفت. شعرت بشيء ما خلف الحجر. تراجعت خطوة للوراء وحدقت باتجاهه.

ـ خالد... أنا... أنا شايفة حاجة هناك!

نظر خالد إليها بدهشة:
ـ إيه اللي شايفاه؟

اتجهت بخطوات بطيئة نحو الحجر، ثم وقفت خلفه وأطلقت صرخة فزع:
ـ خالد!

اندفع خالد نحوها، وقد تملكه القلق:
ـ في إيه؟ مالك؟

أشارت عشق بيد مرتعشة إلى شيء ملقى على الأرض. كان طفلًا صغيرًا، بالكاد يبلغ عمره سنوات كريم. اقترب خالد وانحنى ليفحصه.

قالت عشق وهي تكاد تختنق بالبكاء:
ـ ده... ده ميت، مش كده؟ شكله مش بيتحرك!

لم يرد خالد، بل أمسك بيده الصغيرة، وضع أصابعه على عنقه ليتحسس نبضه. ثم قال بارتياح نسبي:
ـ لا، لسه حي... لكن حرارته عالية جدًا.

غطت عشق فمها بيدها، والدموع تنهمر من عينيها:
ـ طيب شيله بسرعة! تعال، نوديه المستشفى!

لم يتردد خالد، حمل الطفل بين ذراعيه برفق، ثم وضعه في المقعد الخلفي للسيارة. جلست عشق إلى جانبه وهي لا تكف عن البكاء، بينما قاد خالد السيارة بسرعة وهو يتمتم بغضب:
ـ إيه الأهل اللي يرمو عيالهم في الشارع بالشكل ده؟ ناس قلوبها حجر!
*********
عاد مراد إلى المنزل بعد يوم طويل، وكانت نفسُه ثقيلة ومرهقة. فتح الباب، ودخل ليجدها تضع الطعام على الطاولة. كانت ملامحها منهكة وعيناها متورمتين من كثرة البكاء.

تألم قلبه من المشهد. لم يتحمل أن يرى الحزن مرسومًا على وجهها. اقترب منها بخطوات بطيئة، ووضع يده فوق يدها التي كانت ترتجف وهي تضع الأطباق.

نظرت له روان بحزن، وزادت دموعها هطولًا، دون أن تنطق بكلمة.

رفع مراد يده ليمسح دموعها بلطف، ثم أمسك بيدها الأخرى ووضعها على صدره، حيث كان قلبه ينبض بسرعة من شدة الألم. همس بصوت متحشرج:
ـ ده عمره ما دق غير ليكي... من وأنتي لسه في أولى ثانوي.

ثم أغمض عينيه، وأخذ نفسًا عميقًا وهو يكمل:
ـ ورغم ده كله، مش قادر يكرهك... مش قادر يبعد عنك... رغم إحساس الغدر والخيانة اللي ضربوه في مقتل.

نظر إليها بعينين تملؤهما الرجاء:
ـ أنا محتاج منك تريحيني... قوليلي الحقيقة. صدقيني، أنا هعمل أي حاجة تريحك... بس ارجوكِ... إنتشليني من الدوامة والضياع ده.

ارتجفت شفتاها وهي تنظر له بحب ودموعها تزداد انهمارًا. اقتربت منه خطوة، وأمسكت وجهه بكلتا يديها، وهمست بقوة:
ـ عمري ما خنتك يا مراد... عمري ما هعملها.

هز رأسه ببطء وهو يشعر بالتشتت، بينما أكملت روان بصوت مختنق:
ـ أنا بعشقك يا قلبي... بلاش تعطي فرصة للشيطان أو حيوان زي ده إنه يدمر حياتنا الجميلة.

ازدادت أنفاسه اضطرابًا، لكن لم يقاطعها.

ـ أنا بحبك... ومقدرش أكمل من غيرك. وحياة روان عندك، صدقني.

رفعت رأسه بيدها، وأجبرته على النظر في عينيها مباشرة:
ـ أنت ليا... أبويا، وأخويا، وحبيبي. ومافيش في حياتي غيرك.

أغمض مراد عينيه بقوة، وكأن دموعه تأبى الانهمار. مشهد يد وائل فوق يدها لا يفارقه، لكنه لا يريد أن يخسرها. فتح عينيه من جديد، وحدق بها طويلًا قبل أن يقول:
ـ طيب... جهزي هدومك ويلا علشان...

وضعت روان يدها على فمه، وأومأت برأسها بشدة:
ـ أوعى تقول هروح بيت أهلي!

قبّل مراد يدها بحنان، وقال بصوت ضعيف:
ـ مش قادر أفرط فيكي... إحنا مسافرين يومين.

---

في غرفة فهد، كان يجلس مسترخيًا على الأريكة، يتصفح هاتفه دون اكتراث. فجأة، رن الهاتف بنغمة معتادة، فتغيرت ملامحه عندما ظهرت كلمة عشق على الشاشة.

اعتدل بسرعة ورد على الفور:
ـ ألو، أخبارك يا عشق؟

جاءه صوتها المرتجف من الطرف الآخر. كان بكاؤها واضحًا، يقطع قلبه إلى أشلاء. انتفض فهد من مكانه، مما أفزع ماسه التي كانت مستلقية إلى جواره.

ـ مالك يا عشق؟ فيكِ إيه؟

ارتفع صوتها بين شهقاتها:
ـ تعال حالًا يا أبيه... أنا محتاجاك أوي.

وقف فهد وهو يحاول تهدئتها بصوته القلق:
ـ طيب اهدي... أنا جاي لكِ. بس قوليلي إيه اللي حصل؟ في حاجة بينك وبين أدهم؟

ازدادت شهقاتها ألمًا وهي ترد:
ـ لا يا أبيه... بس أنا محتاجاك... أرجوك ما تتأخرش.

تنفس فهد بعمق، وحاول السيطرة على أعصابه:
ـ حاضر يا عشق... بطّلي عياط، أنا على الطريق... مسافة السكة وهكون عندك.

أغلق الهاتف بسرعة، واندفع نحو الخزانة ليبدل ملابسه.

راقبته ماسه بقلق، ثم سألت بخوف:
ـ مالها عشق؟ فيها إيه؟

هزّ رأسه بحيرة وهو يحاول ارتداء قميصه:
ـ مش عارف... بس منهارة جدًا. أول مرة أشوفها كده.

ترددت ماسه، لكنها لم تستطع كبح رغبتها في البقاء إلى جواره. تقدمت منه بخطوات مترددة، وقالت بحذر:
ـ ينفع... أجي معاك؟

استدار نحوها، والتقت عيناهما. وجد في عينيها نظرة رجاء وخوف. تردد للحظة، ثم ابتسم برفق:
ـ طيب... يلا.

لم تنتظر ماسه سماع الإجابة كاملة، بل قفزت بسرعة لترتدي عباءتها، ثم اتجهت نحوه وطبعت قبلة خاطفة على وجنته.

أمسك فهد بمفتاح السيارة، واتجه نحو الباب، وهو يشعر بأن شيئًا ثقيلًا ينتظره هناك. 

تعليقات



<>