رواية وانصهر الجليد الجزء الثاني2 جمر الجليد الفصل الاول1والثاني2 بقلم شروق مصطفي


 رواية وانصهر الجليد الجزء الثاني2 جمر الجليد الفصل الاول1والثاني2 بقلم شروق مصطفي


بعدما توترت الأوضاع وأحاطه القلق، قرر معتز التحرك فورًا. هاتف صديق عاصم، شارحًا له الوضع بتفاصيل دقيقة، وطلب منه المساعدة في الحصول على رقم سيارة مي وهاتفها للتتبع. استجاب الصديق سريعًا، ووعده بتوفير المعلومات في أقرب وقت.




في تلك اللحظة، حاول معتز الاتصال بعاصم مرة أخرى، لكن الهاتف ظل مغلقًا، فزفر بضيق وهو يشعر بأن الانتظار يثقل كاهله. جلس قليلًا محاولًا التركيز في عمله، إلا أن القلق استمر يلاحقه كظلٍّ لا يفارقه. لم يلبث طويلًا حتى قرر الاتصال بهيثم، طالبًا إذنه للخروج مع مي، فوافق الأخير دون تردد. بعد ذلك، أمسك هاتفه واتصل بمي للاطمئنان عليها وإخبارها بالاستعداد.




كانت مي غارقة في نوم عميق، حين رن الهاتف بجانبها. رفعت السماعة بنعاس وصوتها متثاقل:




"ألو، مين معايا؟"


ابتسم معتز وأجاب بمزاح:


"أنا حبيبك يا حياتي، مش كفاية نوم بقى؟ شكلك كسلانة من أولها كده."


ردت مي، والنوم يغلبها:


"هتقول مين ولا أقفل في وشك السكة؟"


ضحك معتز بصوت عالٍ وقال مازحًا:


"طيب اقفلي وشوفي إيه اللي هيحصلك. يابت فوقي وكلّميني كده! آه، لو شوفتك قدامي!"




فتحت مي إحدى عينيها وحاولت تذكر مصدر الصوت، ثم فجأة نهضت من على السرير بصدمة:


"إيه ده؟ معتز!"




رد معتز، وهو يرفع حاجبيه بمكر:


"لا يا شيخة! تصوري؟ مكنتش أعرف إنك لحقتي تنسيني يا مي. ماشي، أشوفك الأول!"




كتمت مي ضحكتها وقالت:


"خلاص بقى، أنا لسه صاحية من النوم. أنا كده لما أصحى مش بفتكر حد."




أحست بالخجل من كلماته الغزلية ولم تعرف كيف ترد، فصمتت. قطع معتز صمتها قائلاً:


"إيه؟ نمتي تاني ولا إيه؟ يا خيبتك السودة يا معتز! ردي طيب! فوقي كده، أنا هعدّي عليكِ كمان نص ساعة نفطر سوا بره."




أخيرًا، نطقت مي بصوت منخفض:


"طيب، قول لهيثم الأول."




رد معتز بغيظ:


"قولتله يا كسلانة قبل ما أكلمك! يلا صحصحي عشان هعدي عليكِ. ولا عايزاني أطلع فوق أصحيكِ بطريقتي؟"




نهضت مي بسرعة وقالت بارتباك:


"لا لا لا، خلاص أنا قمت! سلام بقى عشان ألحق ألبس."




أغلقت الهاتف وخرجت من غرفتها لتصبح على والدتها، التي قالت لها بابتسامة:


"أخوكي كلّمني وقال خطيبك هيعدّي عليكِ تخرجوا. بس ساعة واحدة فاهمة. 


ابتسمت مي لوالدتها وهي تقول بلطف:


"حاضر يا حبيبتي، مش هتأخر."




ردت نبيلة، وهي توصيها:


"روحي يا حبيبتي اتوضي وصلي الظهر الأول قبل ما تنزلي، عشان ميروحش عليكي."




قبّلت مي وجنتي والدتها بمحبة وقالت:




"مش هنسى طبعًا يا أحلى أم في الدنيا. ادعي يا ماما يكون عرف حاجة عن سيلا، وادعيلها نلاقيها. مش عارفة المجنونة دي بتفكر إزاي! فاكرة إنها عايشة لوحدها ومحدش هيزعل عليها. أنا داخلة قبل ما يجي يستعجلني. ادعيلها يا ماما."




دعت الأم بخير وصلاح حال للجميع، بينما أكملت مي تجهيزاتها.




عندما انتهت مي من ارتداء ملابسها، اختارت فستان جينز طويلًا بأكمام طويلة باللون الكحلي، زينته بحزام في الوسط من نفس اللون. رفعت شعرها على هيئة ذيل حصان، تاركة بعض الخصلات تنسدل بعشوائية. انتعلت حذاءً رياضيًا أبيض وحملت حقيبتها. خرجت من غرفتها مبتسمة، لتجد والدتها تستقبلها بإعجاب:




"تبارك الله! ربنا يحميكي يا بنتي. خلي بالك من نفسك."




ابتسمت مي وهي ترد:


"حاضر يا ماما."




رن هاتفها في تلك اللحظة، فأجابت سريعًا:




"ألو... آه، أنا جاهزة. نازلة حالًا، سلام."




ثم نظرت إلى والدتها باستعجال قائلة:


"أنا هنزل يا ماما، مش هغيب."




قبّلتها مرة أخرى على وجنتيها، ثم غادرت.




في الخارج، وجدت معتز متكئًا على سيارته. استقبلها بابتسامة ساحرة وفتح لها باب السيارة، مشيرًا لها بالصعود. جلست مي، ثم التحق بها معتز وقاد السيارة.




تأمل وجهها، فرأى جفونها متورمة من أثر البكاء، فتنهد بضيق وسألها بلطف:


"عاملة إيه دلوقتي؟"




حاولت أن تبتسم رغم ما تشعر به من حزن، وردت بهدوء:


"الحمد لله."




ثم التفتت إليه وسألته بقلق:


"محدش عرف حاجة لسه؟ عاصم معرفش أي حاجة؟"




أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه ببطء، متجنبًا النظر إليها:




"كلمت حد من معارفنا، وإن شاء الله تلاقوها قريب."




داخل السيارة، ظلت مي غارقة في دعائها لصديقتها:


"يا رب نلاقيها بسرعة، أنا خايفة عليها أوي."




بعد قليل، وصلا إلى الكافيه. جلسا على طاولة هادئة، وحين وصل النادل بطلباتهما، لاحظ معتز آثار الدموع على عينيها. تطلع إليها بحزم وقال:




"مي، مش عاوز أشوف دموعك دي تاني. فاهمة؟"




نظرت إليه باستغراب من تغير نبرته المفاجئ، ثم تساءلت داخليًا: "أهذا هو نفسه الذي كان ينتهز أي فرصة لمضايقتي؟" لكنها لم تطل التفكير كثيرًا، وسألته بتردد:




"اشمعنا دلوقتي خايف على دموعي؟ وإنت من الأول..."


بقلم شروق مصطفى قصص الحياة 


توقفت فجأة، مترددة فيما ستقوله.


أدرك معتز ما يجول بخاطرها، فابتسم ابتسامة تحمل حزنًا عميقًا وندمًا. تنهد وقال:


"هقولك كل حاجة، وليه كنت كده سواء معاكي أو مع غيرك."




بدأ يقص عليها ما مروا به: الماضي مأثر علينا كلنا لحد النهارده. عاصم كان الكبير، وشال المسؤولية كلها. حياته كانت جافة، خاصة بحكم شغله في المخابرات. فقد فيها كل إحساس. حياته كلها بقت تجاهل، لامبالاة، وبرود."




ثم أكمل بمرارة:


"أما أنا... كنت عكسه. غضبي كان سلاحي الوحيد. كنت بصبه في أي حد قدامي. مش كنت بفكر."




ابتلع ريقه بصعوبة وأردف بندم:




"بصراحة، أنا مش ملاك. أخطأت كتير، في حق نفسي وفي حق غيري. عصيت ربنا كتير. لكني بحاول أكفر عن كل ده. وأتمنى... أتمنى إنك تسامحيني على كل اللي عملته فيكي. الخوف اللي سببته ليكي، المضايقات، والرعب اللي لسه بشوفه في عينيكي... بيموتني."




حاولت مي أن ترد، لكنه أوقفها بإشارة من يده، وأكمل:




"عارف إنك بتسألي ليه عملت كده معاكي. كنت بحاول أهرب من نفسي. كل مرة كنت أضايقك فيها، كنت بحاول أمحي صورتك من بالي. لكن... كنت بشوفك في كل حاجة حواليا. يوم ما لمست إيدك بالصدفة في العربية، حسيت إنك كهربت كياني كله."




ثم أشار إلى قلبه وقال بصوت مختنق:


"يوم ما اتخطفتِ... حسيت إني بموت. كنت نفسي لو مت، تكوني آخر حد أشوفه."




نظرت إليه مي بلهفة وقالت بصدق:


"بعد الشر عليك! ما تقولش كده تاني."




تأملها معتز بصمت، وكأن كلماته تخونه في التعبير بداخله. مد يده بخفة نحو يدها المرتجفة على الطاولة، عاقدًا أمله أن ينقل لها شيئًا من السكينة التي يفتقدها. لكنها، كمن لامست نارًا، سحبت يدها فجأة، ونظرت إليه بعينين مترددتين مشحونتين بالدموع. همست بصوت مبحوح:


"آسفة... مش هينفع."


بقلم شروق مصطفى


لم يتحرك معتز، بل اكتفى بابتسامة باهتة، نابعة من عمق الألم. قال بهدوء يمزجه الرجاء:


"خايفة عليّا؟"


تلعثمت مي، تحاول الهروب من ثقل الحديث:


"أنا... مش بحب الكلام عن الموت وكده. بس الحمد لله إنك بتحاول تغير من نفسك."




ابتسمت له بامتنان خفيف وهي تضيف:


"أوعدك إني مش هسيبك. هساعدك تعدّي الأزمة دي، لكن لازم تكون عندك نية حقيقية للتوبة، تتقرب من ربنا، وتبدأ صفحة جديدة."




انفرجت أساريره قليلاً، ورمقها بنظرة تحمل كل معاني الامتنان والحب، وقال بصوت يفيض صدقًا:


"أنا مش عارف أقولك إيه... بحبك أوي. مهما قلت لسنين قدام، مش هيكفي أعبّر عن اللي في قلبي. بجد ندمان على كل لحظة ضايقتك فيها أو دمعة نزلت بسبب غلطي."




سكت لحظة، ثم أردف بخجل:


"بس... مش شايفة إن ست شهور كتير؟ أنا بفكر أكلم أخوكي ونقدّم الفرح لأخر الشهر. كل حاجة جاهزة... ليه نستنى؟"




لكنها قاطعته فجأة، وبحزم لم يتوقعه:


"لا، طبعًا لا."




نظر إليها بدهشة من رفضها المفاجئ. كانت تبدو مستعدة لكل شيء منذ لحظات، فما الذي تغيّر؟ لم تتركه لدوامة ظنونه، وأضافت بحزن وهي تغالب دموعها:


"مش هفرح ولا هلبس الفستان الأبيض إلا لما سيلا تكون معايا... لازم أطمّن عليها الأول."




تفهم معتز موقفها دون اعتراض، وهزّ رأسه مطمئنًا:


"حاضر، أوعدك هعمل المستحيل عشان ألاقيها."




نظرت إليه بأمل ضعيف وقالت:


"طب عاصم... مش ممكن يعرف حاجة؟ يمكن يكون عنده وسيلة يساعدنا.


.... 


مر أسبوعان دون جديد، والحال كما هو؛ البحث مستمر عن وسيلة، لكنها ما زالت مختفية دون أثر، وعاصم مختفٍ بدوره وهاتفه مغلق. كلما مرّ الوقت، ازدادت المخاوف، وكأن الغياب يثقل القلوب أكثر فأكثر.




على الجانب الآخر، كانت حياة همسة ووليد تتشكل بوتيرة هادئة، حيث ساد التفاهم بينهما. تأقلمت همسة تدريجيًا مع منزلها الجديد، وبدأت تشعر ببعض الراحة في وجود وليد الذي لم يتركها تواجه حزنها وحدها. ورغم كل هذا، بقي بداخلها شعور غامض بالفراغ، بانقباض قلب يؤلمها دون أن تجد له تفسيرًا.




وليد كان يحاول جاهدًا إبعادها عن هذا الحزن، يخرجها من شرودها، ويشاركها تفاصيل الحياة اليومية ليقرب بينهما. لم يكن يكتفي بالكلمات، بل عمد إلى مشاركتها حتى في أبسط الأمور، مثل أعمال المنزل.




ذات يوم، وبعد انتهائهما من الغداء، حاولت منعه من حمل الصحون قائلة بابتسامة خفيفة:


"سيب يا وليد، أنا هشيل الأطباق. مش كل يوم بقى!"




لكنه ترك ما كان يحمله، أمسك يدها برفق، وقال وهو يغرق في عينيها:


"يا ست البنات، ارتاحي انتي. أنا بحب أساعد، فيها حاجة دي؟"




احمرّ وجهها من الخجل، وابتسمت بحنو:


"انت جميل أوي يا وليد بجد... وحنين أوي. ربنا يباركلي فيك."




رد عليها بابتسامة تحمل كل الحب:


"وإنتي أجمل بنت شافتها عنيه."




وبينما كان يحمل معها الأطباق للمطبخ، أوقفته فجأة لتقول:


"وليد، ممكن أسألك سؤال؟"




نظر إليها متسائلًا:


"طبعًا، قولي."




تنهدت قليلاً قبل أن تتابع:


"يا ترى... هتفضل تساعدني كده على طول؟ ولا ده في الأول بس؟ أنا عارفة إن الرجالة عامةً مش بيحبوا يساعدوا زوجاتهم، بيقولوا إن الزوجة المفروض تعمل كل حاجة... بس أنا شايفاك غير كده، فمش عارفة إذا كان ده طبيعي بين الأزواج، ولا انت حالة استثنائية؟"




قهقه وليد ضاحكًا، ثم قال بعد أن هدأ:


"يعني أساعد مش عاجب، ما أساعدش مش عاجب! إنتوا مش بيعجبكم حاجة أبدًا!"




همسة بادرت بسرعة لتبرر كلامها:


"لا لا، ساعد طبعًا! أنا مش قصدي كده... بس عارفة إن معظم الأزواج بيشوفوا نفسهم سي السيد، والزوجة لازم تعمل كل حاجة!"




جذبها برفق من يدها وأجلسها أمامه، ثم قال بابتسامة هادئة:


"بصي... الزواج قائم على المودة والرحمة. يعني لو شوفتك تعبانة في يوم، لازم أشيلك وأساعدك. ولو لقيتيني بمرّ بظروف صعبة، سواء صحية أو مادية، لازم توقفي جنبي وتصبّري عليا. المودة معناها إن يبقى بيننا ألفة وحب، ونشيل بعض في الحلوة والمُرة ولا أية ؟"




هزّت رأسها بالموافقة وقالت بابتسامة خفيفة:


"آه طبعًا، معاك. يارب أكون قدّ المشاركة دي وتنجح حياتنا."




أجابها وليد بثقة ودفء:


"طالما بينا احترام وحب، ونتقي ربنا في بعض، حياتنا هتنجح بإذن الله."




شعرت همسة بفيض من الامتنان، وقالت بتأثر:


"مش عارفة أقولك إيه... ربنا بيحبني إنه رزقني بيك."




تطلع إليها وليد بحب وقال:


"وأنا ربنا بيحبني إنه رزقني بيكي. وأول ما نطمّن على أختك، هنسافر نزور بيت الله زي ما وعدتك."




هتفت بحماس:


"ياريت بجد!"




لكن نبرة صوتها تبدلت إلى حزن وهي تتابع:


"بس... بقالنا أسبوعين ومفيش أي جديد. أنا قلقانة عليها أوي. حتى لما رحنا وسألنا عن عمي، ما كانش موجود."




ربت وليد على يدها مطمئنًا:


"أنا متفائل خير. قريب هنلاقيها إن شاء الله."




ثم حاول تغيير الموضوع ليخفف عنها:


"طيب... مش ناوية بقى؟"




نظرت إليه بعدم استيعاب:


"ناوية على إيه؟ مش واخدة بالي."




غمز لها بمرح وقال:


"بما إن ربنا رزقنا ببعض وبنحب بعض... تعالي، هقولك سر!"




أمسك يدها برفق وسحبها معه إلى الغرفة، ثم أغلق الباب خلفهما.




قالت بتوتر:


"إيه يا وليد؟ في إيه؟"




ترك يدها برفق، ثم أمسك وجنتيها بأنامله وهمس بحنان:


"إنتي لسه بتخافي مني؟"




هزّت رأسها نافية:


"لا، بالعكس... إنت حنين أوي."




ابتسم، ثم قبلها على وجنتيها برفق وقال:


"طيب يا روحي. يلا بينا نصلي ركعتين نبدأ بيهم حياتنا، عشان ربنا يباركلنا فيها. تعالي نتوضأ."




بعد الصلاة، وضع يده على مقدمة رأسها وقرأ دعاء الزواج بخشوع:


"اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه."




ثم نظر إليها بابتسامة تطمئن قلبها، وقال:


"دلوقتي نبدأ حياتنا بطاعة الله، ونكون لبعض زوج وزوجة قولاً وفعلاً."


… 




ضاقت بها الحياة حتى شعرت أن قلبها يختنق تحت وطأة الوحدة.


اشتاقت لملاذها الآمن، لأيام كانت تحتضن فيها السكينة بعيدًا عن الألم. تذكرت حديثه المليء بالحب والصدق، وشعرت بلهفته وحنانه الذي خفف عنها الكثير، لكنها كانت تخشى عليه من ثقل مرضها. لا تريد أن تلقي عليه مسؤولية آلامها ولا أن يتعلق بها وهي تشعر أن النهاية تقترب.




فاقت من شرودها وهي تمسح دمعة عالقة على خدها. وقفت أمام البحر، موجه يلامس قدميها ويبلل رمال الشاطئ. نثرت المياه بقدميها بعشوائية، ثم تنهدت بعمق، وابتسمت ابتسامة حزينة وهمست وكأنها تخاطب من تحب:


"وحشتوني أوي... أسبوعين وأنا مش عارفة أنام وأنا بعيدة عنكم. يا رب تصبرني على بعدكم."




التفتت عائدة إلى الشاليه، فتحت الباب ودخلت، ولكن فجأة اجتاحها شعور غريب. شمت رائحة عطر مألوفة، رائحة تعرفها جيدًا. عطر يحمل ذكريات حبها. توقفت في مكانها، تتلفت حولها تبحث عن مصدره، لكنها لم تجد أحدًا. شعرت بقشعريرة اجتاحت جسدها، وتمتمت بدهشة:


"غريب... ريحة إيه دي؟!"




حاولت تجاهل شعورها، نفضت الأفكار والهواجس عن عقلها، وأرتمت على الفراش بإرهاق.


آلامها باتت أشد من أن تتحملها. الأدوية والمسكنات لم تعد تؤثر، ومعدتها المنهكة ترفض الطعام. شحب وجهها، وازدادت الهالات الداكنة تحت عينيها، وكأن المرض يلتهمها يومًا بعد يوم.




تناولت بعض الحبوب المهدئة كي تهرب من واقعها إلى النوم. حضنت نفسها كالجنين، تبكي بصوت مكتوم من شدة الوجع، حتى غلبها الإرهاق وأغمضت عينيها.




لكن بعد ساعات قليلة، شعرت بشيء غير متوقع.


قبلة دافئة على وجنتها أيقظتها. صوت همس بجوار أذنها وكف حانية تغطيها بالبطانية. فتحت عينيها ببطء، ما زالت متعبة، لكنها رأت وجهه أمامها! يربت على شعرها بحنان ويهمس:


"أنا معاكي، وهفضل جنبك... حياتي ملهاش طعم من غيرك."




رفعت نفسها بصعوبة عن الفراش، وهي تحاول استيعاب ما يحدث. مسحت عينيها بأناملها لتزيل بقايا النعاس. لكنها صُدمت!


لا أحد في الغرفة... كانت وحدها.




تنهدت بمرارة وهي تهمس بخفوت:


"معقول... كان حلم؟"




وضعت يدها على وجنتها، وكأنها تتحسس أثر القبلة. رغم الألم، ابتسمت. حلمه ترك أثرًا ناعمًا على قلبها المنهك. نظرت إلى الساعة بجانب السرير، فوجدتها لم تتجاوز التاسعة مساءً.




نهضت من فراشها بتكاسل، وتوجهت إلى الدولاب. قررت تبديل ملابسها والخروج قليلًا لاستنشاق الهواء المنعش. شعرت أن الجدران تخنقها.




لكن بينما كانت تتحرك ببطء... حدث ما لم يكن في الحسبان.


الفصل الثاني 




نهضت سيلا من فراشها بتكاسلٍ، تتثاقل في حركاتها كمن يحمل على عاتقه أثقالًا خفية. توجهت نحو الدولاب، ويدها تعبث بخصلات شعرها المتناثرة. قررت أن تبدل ملابسها وتخرج قليلاً علّها تجد في الهواء البارد متنفسًا لصداع الأفكار الذي يثقل رأسها. شعرت أن الجدران تضيق عليها، وكأنها قفص يكتم أنفاسها.




ارتدت كنزة ثقيلة أخرجتها من حقيبةٍ كانت قد أعدّتها على عجل قبل مغادرتها المنزل. ألقت نظرةً عابرة على نفسها في المرآة، ثم عقدت شعرها دون اهتمام. وبينما كانت تستعد للخروج، باغتها صوت دقٍّ على الباب، فتوقفت للحظة تملأها الدهشة والتساؤل.




اقتربت بحذر، وتمتمت بتوتر عن هوية الطارق حتى جاءها صوت رجلٍ بدا متحرجًا:




أسف على الإزعاج... أنا جارك في الشاليه اللي جانبك. الحقيقة النور قطع عندي وأنا كنت بغيّر لمبة، لكن حصلت قفلة. والأسوأ أن موبايلي فصل شحن. ممكن أستعير كشاف أو شمعة، ولو تسمحي أشحن الموبايل عندك؟ نص ساعة وأرجع آخده. آسف جدًا على الإزعاج.




أجابت سيلا بنبرة هادئة خالية من الاكتراث:




لا، ولا يهمك. هات الموبايل والشاحن، وهشوف إذا عندي كشاف أو شمعة. بس لحظة أقفل الباب.




أغلقت الباب خلفها بهدوء، توجهت إلى الغرفة، ووضعت هاتفه على الشاحن. بحثت سريعًا بين أغراضها حتى وجدت كشافًا صغيرًا. عادت وفتحت الباب وهي تمد يدها بالكشاف، قائلة:


أتفضل.




ارتسمت على وجهه ابتسامة امتنان وقال:




ألف شكر! نص ساعة بالكثير وأرجع آخد الموبايل.




أومأت سيلا برأسها وأجابته بلا اهتمام:




مفيش مشكلة.


تراجع خطواته مبتعدًا، بينما ظلت هي تراقبه حتى اختفى عن ناظريها. أغلقت الباب خلفها، لكنها شعرت بحاجة ملحّة للخروج. دفعت باب الشاليه بخفة، استنشقت الهواء العليل، رغم لسعة البرد التي سرت في جسدها. الشتاء كان قاسياً، لكن البرد في الخارج بدا أكثر رحمة من برودة الفراغ داخلها.




جلست سيلا على مقعد صغير أخرجته من الشاليه، ووضعته على الرمال، مواجِهة البحر بأمواجه المتلاطمة التي تصطدم بالشاطئ بقوة، وكأنها تعكس ما يدور بداخلها من صراعات. ظلت تحدّق فيه بشرود، متأملةً قسوته التي رغم شدتها تحمل شيئًا من السكينة. تنهدت بعمق وهمست لنفسها بصوت خافت:


– أد اية الدنيا ما تسواش... كله بيجري ورا مال وشهوات أو أولاد، ونسى وجود ربنا، وأن ممكن في لحظة ننكسر، وما نقدرش نقوم تاني.




جالت بخاطرها ذكريات مؤلمة، وتذكرت ذلك الطمع الذي دفع عمّها لاقتسام ميراث أخيه مرتين، وكأن الموت لم يكن كافيًا لردعه. هزّت رأسها بأسى، وقالت داخليًا




"سبحانك يا رب، قادر على كل شيء... اللهم لا شماتة، لكن الحق أبدًا ما بيضيع". 




تسللت إلى ذاكرتها يوم نزع السوار وركبت سيارتها بلا هدف، تقودها مشاعر متخبطة إلى طريق مجهول. لم تدرك أنها تجاوزت مدخل الإسكندرية إلا بعد أن أنهكها التعب، ولم يساعدها أنها ظلت دون طعام منذ الليلة السابقة. أضف إلى ذلك أنها قادت سيارتها لساعات طويلة دون راحة. أثناء القيادة، شعرت بصداع حاد وبدأت تبحث عن دوائها في حقيبتها، تاركة عجلة القيادة دون انتباه. وفي لحظة فقدت السيطرة على السيارة، فانحرفت يمينًا، واصطدمت برصيف الطريق.




كانت الضربة عنيفة لدرجة أن رأسها اصطدم بالمقود، وصوت بوق السيارة ظل عالقًا حتى توقّف أخيرًا عند وصول شرطي المرور الذي أسرع إليها. بعد أن قدّم لها الإسعافات الأولية، طالبًا من زميله مساعدته في نقلها إلى أقرب مستشفى.




قضت سيلا تلك الليلة في غرفة المشفى، معلق لها محاليل تغذية، بينما كان الأطباء يشكّون في حالتها. هاتفها كان مغلقًا بكلمة سر، ولم يتمكن أحد من الوصول إلى أهلها. نامت سيلا، مثقلة بالإرهاق والوجع.




في صباح اليوم التالي، دخل الطبيب إلى غرفتها للاطمئنان عليها، مبتسمًا بلطف:


– حمد لله على السلامة يا آنسة. عاملة أية دلوقتي؟




تحسست سيلا جبينها الملفوف بضماد، حيث ترك الاصطدام خدشًا بسيطًا. ردّت بصوت خافت:


– الحمد لله يا دكتور، ممكن تكتب لي على الخروج؟




ابتسم الطبيب ابتسامة مائلة للقلق وقال:


– ممكن، لكن الأفضل تفضلي يومين كمان. عندي شكوك لازم أتأكد منها بتحاليل وأشعة. وممكن نتواصل مع أهلك ليطمنوا عليك.




أجابت سيلا كاذبة وهي تحاول إنهاء الحديث:


– شكوكك في محلها، أنا متابعة حالتي مع طبيبي الخاص.




ظهرت علامات الاطمئنان على وجه الطبيب، لكنه استفسر بحذر:


– تمام، كده وفّرتِ علي كتير. لكن إنتِ في أي مرحلة؟ لازم التدخل الجراحي بأسرع وقت.




ابتلعت سيلا ريقها، تحاول إخفاء ارتباكها، وقالت:


– أكيد طبعا، أنا ماشية مع طبيبي، وعلى علم بكل شيء. بس أرجوك، اكتب لي على الخروج.




هزّ الطبيب رأسه، وقال بصوت يشوبه عدم الاقتناع:


– زي ما تحبي. هكتبلك على الخروج، وبعد نص ساعة تقدري تمشي.




خرج الطبيب، فنهضت سيلا من على الفراش بإرهاق. التقطت حقيبتها ومفاتيح سيارتها، وخرجت من الغرفة متجهة نحو قسم الحسابات لإنهاء باقي الإجراءات. لكن قبل أن تصل، لفت انتباهها صوت بكاء مألوف قادم من الغرفة المجاورة. توقفت، وتسللت نظراتها نحو الباب الموارب.




رأت عمّها طريح الفراش، إلى جواره زوجته تنتحب بحرقة. اقتربت أكثر، حتى انتبهت زوجة عمها لوجودها. رفعت رأسها، وقالت بوجع ممزوج بالدموع:


– سيلا... إنتِ هنا عشان تشوفي اللي حصل لعمك؟




لم تتفوّه سيلا بكلمة، بل اكتفت بهزّ رأسها إيجابًا.




تابعت زوجة عمها حديثها، وكأنها تتحدث إلى نفسها:


– شوفتي اللي وصلنا له؟ ابني... آه يا قلبي على ابني. مات وهو لسه في عز شبابه! وعمك، زي ما شايفة، من يومها اتشل ومش بينطق. ربنا يعاقبنا على اللي عملناه.




وضعت يدها على رأسها وهي تواصل بكاءها:


– ظلمناكم، ظلمنا أبوكِ... ومات وهو مش مسامحنا. كل حاجة ضاعت. ابني مات بسبب اللي كان بيشربه... وكل اللي أخدناه راح.




ربتت سيلا على كتفها بحنان، وقالت بهدوء:


– ربنا بيغفر وبيسامح لما نرجع له بتوبة صادقة. وأنا وبابا مسامحينكم من زمان. ربنا يعينكم ويخفف عنكم. 




 تركت سيلا عمها واقتربت منه بحنو، تحاول تهدئته بينما يحاول هو جاهدًا النطق بكلمات تتعثر في حلقه. شفتيه المرتجفتان حاولتا صياغة جملة لكنها خرجت بصوت متقطع:


"أم... أممم..."




ربتت سيلا على كتفه بحنان وهمست بصوت دافئ:


"ما تتعبش نفسك... أنا مسمحاك، وبابا كمان مسامحك. ربنا يقومك بالسلامة قريب."




ثم انحنت لتطبع قبلة على جبينه، ونهضت لتحتضن زوجة عمها برفق:


"ربنا يشفيه ويخفف عنكم... ويرحم محمود."




غادرت المكان بخطوات ثقيلة، مشغولة بشرودها وأفكارها التي حملتها بعيدًا. فجأة، شعرت بقشعريرة باردة سرت في جسدها، وكأنها نذير خطر غير مرئي. التفتت لتغادر، لكن صوت خطوات خلفها جعلها تنتفض. استدارت لتجد ظل شخص يقترب منها.




شهقت سيلا وارتدت للخلف بدهشة، تحاول التقاط أنفاسها:


"هاه! هو... هو أنت؟ جيت إمتى؟"




ابتسم الشاب بحرج ورفع يديه كإشارة للاعتذار:


"آسف... آسف جدًا! مش قصدي أخوفك. أنا جيت وخبطت على الباب، بس محدش رد. شفتك قاعدة قدام البحر... فقلت ممكن أجي أتكلم معاكي. آسف مرة تانية."




تنهدت سيلا بارتياح وحاولت أن تهدأ:


"ولا يهمك."




ابتسم الشاب بلطف ومد يده معرفًا بنفسه:


"أنا مازن."




ردت سيلا بابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيها:


"وأنا سيلا."




تأملها مازن بنظرات متفحصة، وكأنه يحاول أن يفك لغزًا ما:


"تشرفت بمعرفتك... بس حاسس إني شفتك قبل كده. شكلك مش غريب عليا."




حاولت سيلا التهرب منه بنظرات مضطربة:


"ما أعتقدش. مع السلامة."




لكن إصرار مازن ازداد وهو يلاحق أفكاره:


"لا، متأكد إنك مش غريبة عليا... يمكن كنتي مع حد أو في مكان. هحاول أفتكر."




لم تستطع سيلا احتمال المزيد. تقدمت بخطوات سريعة، محاولة الهروب من نظراته المتسائلة. عندما ابتعدت، لاحظت ظلًا أسود يتحرك بجانب الشاليه الخاص بها. ارتعشت أوصالها من الخوف، وخفق قلبها بشدة. بدأت تركض كأنها في سباق مع الرعب، حتى وصلت إلى الشاليه ودخلته بسرعة.




أغلقت الباب بإحكام، وألقت هاتفها على الطاولة دون أن تمنحه فرصة لقول كلمة. ثم سارعت بإغلاق النوافذ كلها، وكأنها تحاول أن تبني حصنًا يحميها من العالم الخارجي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة ومسحت جبينها المبلل بالعرق، رغم برودة الجو.




بعد أن هدأت قليلًا، توجهت إلى المطبخ لإعداد وجبة خفيفة. قامت بتسخين القليل من الشوربة وأضفت إليها قطعتي لحم، ثم تناولتها بصمت. بعد ذلك، أخذت دواءها وحاولت أن تنام. وكعادتها، احتضنت نفسها كما يفعل الجنين في رحم أمه، حتى غلبها النعاس ببطء.




… 


أُغلق الباب في وجه مازن قبل أن يتمكن حتى من شكرها. وقف للحظة مذهولًا من تصرفها، يحمل هاتفه الذي أعادته إليه دون كلمة. كان في نيته شكرها، لكنّ تعبيرات وجهها وتوترها جعلاه يتراجع. تأمل باب الشاليه المغلق للحظة، ثم ابتسم بخفة، وكأنّ تصرفها حمل في طياته سرًا ما. بدا عليه أنها مرتعبة أو تهرب من شيء ما، خاصة مع هيئتها الحزينة التي لم تفارقه. قرر في نفسه أن يسألها صباحًا عن ذلك.


..


في مشهد آخر، كانت سيلا وعاصم يلهوان داخل مياه البحر. ضحكاتهما العالية امتزجت بصوت الأمواج، وملأت أرجاء المكان بالمرح. بعثرت سيلا الماء بيديها على وجهه بسعادة طفولية، وهو يرد عليها بضحكات مفعمة بالحياة:


"والله ما أنا سايبك!"




استمر في رش الماء عليها، بينما هي تبتعد للوراء محاولًة تفاديه، وضحكاتها تملأ الأجواء:


"كفاية! حرمت خلاص، خلاص!"




هدآ قليلًا، والضحكات بدأت تخفت. اقترب عاصم منها وأمسك يدها، ونظر إلى عينيها بشوق وسعادة لا توصف. كل كلمة نطقها خرجت من أعماق قلبه:


"أنا بحبك أوي."




نظرت إليه سيلا، ثم فجأة رفعت صوتها عاليًا، كأنها تصرخ للعالم أجمع:


"وأنا... مش بحبك!"




تفاجأ عاصم من ردها، حدق بها بدهشة:


"بتقولي إيه؟!"




لكنها بسطت ذراعيها للأعلى، وابتسامتها أضاءت وجهها كما لم تفعل من قبل. قفزت عاليًا على سطح المياه وهي تصرخ:


"أنا بعشقك!"




ثم خفضت صوتها بهدوء، واقتربت منه وأمسكت يده. أخذت كفه وأشارت به نحو قلبها، وابتسمت برقة:


"أنت بقيت هنا... وأنا معاك بحس بالأمان اللي كنت بدور عليه. أوعدني... ما تسبنيش يا عاصم، أوعدني!"




رد عليها بنفس الشوق واللهفة، وعينيه تشعان حبًا:


"مش هسيبك. أنت حياتي، أنت النفس اللي بتنفسه. عرفت طعم حياتي معاكي، وعمري ما هسيبك."




صاحت سيلا بصوت مرتفع، وكأنها تطلب تأكيدًا:


"أوعدني!"




رد عليها عاصم، وهو يشدد بيده على يدها في وسط البحر الذي كانت أمواجه ترفعهم وتخفضهم:


"أوعدك. هتفضلي معايا وجانبي دايمًا."




شعرت سيلا بطفولة غامرة تجتاحها. فجأة سحبت يدها منه، ورجعت للخلف وسط موجة من الضحك. قهقهت بصوت عالٍ، ثم بعثرت الماء بوجهه مجددًا:


"طب خد دي بقى!"




ابتعدت عنه بسرعة، وهو يقترب منها بتوعد، مهددًا بابتسامة ماكرة:


"تعالي هنا! رايحة فين؟! أنت فصيلة كده على طول!"




وسط ضحكاتها وسعادتها، لم تلاحظ سيلا ارتفاع مستوى المياه وسحبها نحو الداخل. ظلت تلهو وتزيد من حماسها:


"مش هتقدر تمسكني!"




لكن فجأة قطعت حديثها عندما شعرت بدوار البحر. شهقت، وحاولت الصراخ:


"الحقني! أنا بغرق! الحقني!"




في البداية، ظنها عاصم تمزح كالعادة. لكنها كانت تبتعد عنه بسرعة. أدرك أن الأمر حقيقي عندما سمع صراخها المتوسل:


"عاااااصم! ما تسبنيش! أنت وعدتني!"




رآها تغرق، تصعد وتختفي، تستنشق أنفاسًا متقطعة قبل أن تسقط مجددًا إلى الماء. ظل يصرخ بجنون:


"مش هسيبك يا سيلا! سيلا! لآاااه!"




غطس في الماء، يبحث عنها بجنون، يقفز إلى السطح لالتقاط أنفاسه ثم يغوص مجددًا. صوتها يستغيث به في رأسه:


"ما تسبنيش، عاصم! أنت وعدتني


لكنه لم يجدها



استيقظ عاصم من نومه مذعورًا، يلهث بعنف. كان العرق يتصبب من جبينه، وجسده يرتجف كأنه يحمل أثقالًا على روحه. أمسك رأسه بكلتا يديه، يردد اسمها بصوت مختنق وكأنها ما زالت تُناديه:


"سيلا! سيلا! آه... قلبي..."




ظل يكرر اسمها، وكأن الحلم كان حقيقة مُرَّة لا يريد تصديقها.




شعر بوخزة في قلبه، زفر بضيق ونهض بسرعة ليغسل وجهه. وقف أمام المرآة، مغمض العينين، لكنه لم يستطع منع الألم الذي مزق قلبه من العودة. اعترف لنفسه بهدوء، وبداخله وجع حارق "أفتقدها بشدة... كل ليلة أحلم بها، أبحث عنها ولا أجدها. أمد يدي لأضمها ولا تلمسني، أناديها ولا تسمعني. متى تعود إليّ؟ متى تسعدني؟ أشتاق لعناقها لأحيا من جديد... لا، لن أتخلى عنها، وعدتك ولن أخلف الوعد."




خرج من الحمام بخطوات ثقيلة وجلس على أقرب مقعد، جذب هاتفه بيد مرتجفة وأجرى مكالمة سريعة مع صديقه. أنهى المكالمة وزفر بضيق، ألقى بالهاتف بإهمال ونهض ليستعد لمهمته.




لأول مرة تهتز يده في تنفيذ مهمته؛ ظهر أمامه هدفه لكنه لم يستطع الضغط على الزناد عندما لمحها فجأة. ارتجفت يداه، وتخلى عن المهمة، موكلًا إياها لضابط آخر. نال توبيخًا شديدًا من رئيسه في العمل، لكن قلبه المشوش كان أقوى من كلمات رئيسه الغاضبة.




كلما حاول أن يخرجها من عقله، كلما زاد انقباض قلبه. أخبره صديقه بمكانها وبحادث وقع في مدخل الإسكندرية أدى إلى مبيتها ليلة في المستشفى. أضاف أنه تلقى مكالمة من أخيها يسأل عنها. لكن عاصم طلب منه عدم الرد وعدم إخبار أي شخص بمكانها في الوقت الحالي، قائلًا إن الظروف لا تسمح.




زفر بضيق شديد، متخذًا قراره. ترك مهمته لصديقه وسافر لرؤيتها. حمل حقيبته واستقل طائرته، متجهًا نحو "مجنونته العنيدة"، كما كان يلقبها دائمًا.




مرّ أسبوعان كأنهما دهر. ظل خلالها يراقبها من بعيد، يرى ألمها دون أن يستطيع مواساتها.




وفي أول يوم لمحها فيه، كان يقف بعيدًا يراقبها. ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا بدا كأنه يعكس حزنها. استغل خبرته في المراقبة لتقييم المكان، باحثًا عن أنسب مدخل للشاليه دون إثارة شكوكها.




في أحد الأيام، خرجت من الشاليه لفترة قصيرة. انتهز الفرصة ودخل بكل خفة ومهارة عبر نافذة الشرفة التي تركتها مواربة. كان الشاليه صغيرًا، مكونًا من غرفة واحدة تضم سريرًا متوسط الحجم بجانب الحائط، إلى جانبه منضدة خشبية صغيرة تعج بأنواع مختلفة من الأدوية، بعضها فارغ والبعض الآخر شبه ممتلئ.




تجول عاصم في المكان، فحصه بعناية. الريسبشن كبير ويفتح على مطبخ أمريكي، والشرفة المطلة على البحر تمنح المكان جاذبية خاصة. لكنه لم يكن هناك للاستمتاع بالمشهد. زرع كاميرات صغيرة لا تُرى، واحدة في الريسبشن وأخرى داخل الغرفة، ووضع جهاز تنصت أسفل المنضدة القريبة من السرير.




بينما كان ينهي مهمته، رأى من نافذة الشرفة أنها عائدة. اختبأ بسرعة في الزاوية، وعندما دخلت هي الشاليه، قفز إلى الخارج بصمت.




دلفت إلى الداخل وهي تشم رائحة غريبة، عطرًا فريدًا تعرفه جيدًا. تلفتت حولها بقلق، تبحث عن مصدر الرائحة، لكن المكان كان فارغًا. تمتمت بخفوت: "غريب... إيه الريحة دي؟"




نفضت من عقلها كل الهواجس، ورمت نفسها على السرير. احتضنت نفسها بألم، غارقة في أحزانها، حتى غفت أخيرًا.


… 


خرج عاصم من الشاليه بعد أن انتهى من زراعة الكاميرات ووضع أجهزة التنصت، وقرر استئجار شاليه قريب من شاليه سيلا. أراد أن يكون بجانبها، لكن دون أن يشعرها بوجوده. بمجرد أن دلف إلى الشاليه الجديد، فتح حاسوبه المحمول، وأوصل الكاميرات بأجهزته، وبدأ يتابعها عن كثب.




رآها تجلس داخل شاليهها، وقد تركت شرفتها غير محكمة الإغلاق. لاحظ أنها تناولت دواءها من حقيبتها، ثم تمددت على سريرها، متألمة، حتى غفت.




شعر عاصم بوجع في قلبه وهو يراقبها، حنين جارف اجتاحه لرؤيتها عن قرب، لاحتضانها، لمسح كل هذا الألم الذي أثقل ملامحها. لكنه تردد، متسائلًا: "ماذا سيكون رد فعلها إن رأتني؟"




رغم التردد، قرر الذهاب إليها. دلف إلى شرفتها المفتوحة مرة أخرى بخفة ومهارة. وقف للحظات يتأملها وهي نائمة. كانت ملامحها منكمشة بالألم، وكأنها تخوض معركة مع نفسها حتى وهي في سبات.




اقترب منها بحذر وجثا على ركبتيه بجانبها. مد يده برفق وربت على شعرها، هامسًا بكلمات دافئة بين الحلم واليقظة:


"سيلا... أنا هنا... أنا معكِ..."




لم تستوعب كلماته تمامًا، إذ كانت بين النوم واليقظة، لكنها حركت رأسها قليلًا وكأنها تشعر بحضوره. تمنّى لو اختصر المسافة بينها وبين قلبه، أراد أن يضمها بين ذراعيه، لكنه اكتفى بتقبيل وجنتها بخفة.




دثرها جيدًا بالغطاء، وهمّ بالخروج سريعًا عندما لاحظ أنها بدأت تتحرك وكأنها ستفيق. غادر الغرفة بنفس الهدوء والخفة التي دخل بها، قافزًا عبر الشرفة

لكنه ما إن اقترب من الشاليه الخاص به، حتى لفت نظره ظل شخص يتجه نحو شاليه سيلا. توقف مكانه يراقب بحذر، بينما هي فتحت الباب لهذا الشخص وبدأا الحديث 

                      الفصل الثالث من هنا

لقراءة باقي الفصول الجزء الثاني من هنا


تعليقات