
رواية ساهر الفصل الثاني2 بقلم داليا السيد
لست تلك الفتاة
توقف العالم حولها وهي ترى نفس الرجل العملاق الذي اصطدمت به على الرصيف ولم تصدق أنه المهندس المصري الذي أتى ليعرض خبرته، توقفت عيونه على عيونها التي أبهرته بالأسفل ولولا محادثة عامر لتبعها وجذبها بكلماته المعهودة ونال موعد للمساء ولكن أن تكون هي المرأة التي أتى ليجري معها لقاؤه الشخصي فذلك لن يمنحه الفرصة لممارسة هوايته معها
صوت غلق الباب أعاد كلاهم للواقع فتقدم هو للداخل وقال بإنجليزية واضحة بلا خطأ "أنتم تمزحون معي أليس كذلك؟"
توقف أمام مكتبها وتراجعت هي بمقعدها وعيونها تمتلئ بالتساؤلات وهي تقول بصوت رقيق وجاد بنفس الوقت "عذرا، من هم الذين يمزحون معك؟ وأين المزاح بالأساس؟"
أعجبه بريق عيونها فابتسم وقال "من المفترض أن نجري اللقاء مع المسؤولة عن المجموعة لا فتاة لم تتخطى العشرين"
هي تعلم أن وجهها تورد بشكل ضايقها من حرارتها التي ارتفعت، كلماته كانت صريحة وبدا أنه لم يدرك أنها ابنة صاحب المجموعة وهذا لم يضايقها وربما هو أفضل لذا لم تصحح الأمر بل وقالت بهدوء غريب تعلمته من جورج "وماذا يعني هذا؟"
لم يتحرك وبدا حقا مثيرا، جذابا، مكتمل من كل النواحي عدا نظرته الساخرة أو المازحة ونبرته الغير واضحة وهو يجيب "يعني أن تلك الشركة قد لا تقوم من سباتها مرة أخرى"
ظلت تنظر له وهي تفكر برد لائق، عملها بشركات جورج علمها عدم التهور والتفكير قبل الحديث لذا اختارت العقل وهي تقول "إذن لا داعي لوجودك هنا طالما أنك ترى ذلك"
ظل يحدق بها، ثابتة، رزينة رغم عمرها الصغير، واثقة من نفسها ولا تهتز فقال "وهل هذا يعني أن الشركة تراجعت بطلبها لخبير؟"
أخفضت وجهها للمكتب لحظة وشعر وقتها كأن الشمس رحلت للمغيب والنهار سقط صريعا بالظلام، قالت دون النظر له "الشركة لم تتراجع بأي شيء، هو أنت من تريدها بشروطك"
وضع يداه بجيوبه وابتسم وهو يجيب "لا"
رفعت عيونها له فأشرق المكان بعودتها وهي تلتقي بنظراته المازحة وشعرت أن رجل مثله لا يملك إلا المزاح والسخرية لن يفيدها بشيء، جلس أخيرا وهو يفتح جاكته الفاخر وقال "سنفعلها بطريقتك، لنبدأ اللقاء آنستي الجميلة"
شعرت بأنها تفقد السيطرة على هدوءها فحاولت التماسك وهي تحرك وجهها للجهاز ثم قالت "مستر ساهر دويدار، من ملفك يبدو أنك لست بحاجة لنا فهل تخبرني سبب تقدمك؟"
لم تذهب ابتسامته وهو يعبث بأصابعه على طرف المكتب وقال "أحب التحدي"
ظلت تواجه نظراته حتى قالت "هل لي بتفسير؟"
اتسعت ابتسامته وهو يقول "لم أعرف اسم صاحبة تلك العيون البريئة والجميلة؟"
عادت للتورد، اللعنة تكره نفسها عندما تفعل ولكن جورج كان يضحك من غضبها هذا ويقول "ستظلين بريئة هكذا كقلبك البريء حبيبتي"
أبعدت أفكارها رغم ارتباكها من كلماته ولكنها قالت "ليس هذا من شأنك مستر ساهر، هل تخبرني سبب مجيئك اليوم وعرض خدماتك؟"
أعجبه عدم استسلامها لكلمات الغزل وعرف أنها ليست مثل من عرفهم ممن يسقطن تحت أقدامه بمجرد كلمة، جديتها تقفز من عيونها الغاضبة، قال بجدية "ما أصاب الشركة لفت انتباهي مما جعلني أتابع الأمور ومن دراستي للأمر وجدت بعض نقاط الضعف التي يمكن مراجعتها وحلها ولدي بعض الاقتراحات لحل أزمة المشروع الجديد لذا وقت عرفت بإعلان الشركة لم أتردد، لا أحب رؤية صرح كهذا ينهار بسهولة هكذا"
ظلت صامتة تستوعب كلماته ثم عادت للملف ورأت انجازاته كلها وتأكدت من أنه ليس بشخص عابث كما يبدو ولكن العمل ينفصل عن الشخص، عادت له وقالت "هل يمكنك منحي فكرة عن أفكارك"
تناقش معها بجدية فهو وقت العمل لا يمزح واتضح لكلاهم أن كلا منهما يملك عقل عملي جيد بمجاله ولم يفتها ثقته الواضحة بالنفس ولم يضايقها
عندما انتهت المناقشة قالت "مقترحاتك ممتازة مستر ساهر ولكن أنا لن يمكنني تقديم فترة زمنية محددة لعملك معنا ولكن يمكنك تحديد الأجر الذي يناسبك"
هز رأسه بتفهم وقال "هذا يعني بدأ عملي"
قالت دون أن تتحرك وكأنها جمدت بمكانها بسبب وجوده القوي "سيتم إبلاغك بالنتيجة"
ظل جالسا بارتياح بمقعده وهو يتجول بنظراته عليها حتى قال "منذ متى تعملين هنا؟"
تراجعت وقد تأكدت أنه لا يعرف أنها ابنة الفيومي وهي لم يهمها تغيير فكرته فقالت "ليس كثير، سنهاتفك كما أخبرتك، شكرا لوقتك مستر ساهر"
جفافها جعله يشعر بالغضب ورحيل مزاحه بعيدا ولكنها كانت واضحة منذ البداية، لا مجال للمزاح معها ولا لألاعيبه هنا وهو لا يريد تضييع وقته مع الأستاذة ذات العقد فقط ينقصها المنظار الطبي
نهض واقفا وقال "لن يمكنكم الحصول على أي خبراء"
رفعت وجهها لقامته الطويلة جدا وعيونها كلها غضب ولكنها لم تبديه وهي تقول "والسبب؟"
انحنى وأسند يداه على طرف المكتب ليصل بوجهه لمستوى وجهها ويثبت بعيونه على عيونها الحائرة وقال "ذلك التعالي الذي تتعاملين به يلقي بمن أمامك بعيدا عن هنا"
لم تهتز ولم تغضب وهي ترد "هل هذا يعني أني ألقيتك بعيدا وأنك تتراجع عن منحنا خدماتك الثمينة؟"
لا يصدق أنه يواجه امرأة بهذه القوة والجرأة بحيث أنها لا تهتم بفقدان خبير مثله بسبب طريقتها المهينة، ضغط بيده على المكتب بقوة وهو يقول "هذا يعني أن موافقتكم من عدمها لا تعني لي أي شيء"
وتحرك للباب وهو يكمل "نصيحة لفتاة مثلك، لو علم رؤسائك بطريقتك هذه فسيلقون بك خارج الشركة فحاولي التغيير"
وخرج دون أن يغلق الباب خلفه وتنفست هي وكأنها كانت توقف أنفاسها بصدرها وتراجعت بالمقعد وكأنها متهالكة من سباق طويل بلا راحة، أسندت رأسها على يدها وهي لا تعرف ما الذي كان يحدث هنا منذ قليل، صوت ماريا أعادها "مستر أنطون الخبير الثاني وهناك ثلاثة آخرين"
نظرت لماريا ثم هزت رأسها وقالت "ليدخل"
ما أن قفز داخل سيارته المستأجرة حتى ظل جامدا مكانه وهو ما زال يرى عيونها الخضراء تحدق به بلا معاني، فتاة عشرينية كما ظن، هادئة بشكل يثير الجنون، ربما لحد البرود، لم تعامله امرأة من قبل بمثل هذا البرود واللامبالاة، دفع أصابعه بشعره للخلف ونفخ بقوة وهو يقول
"لا مجال لأن تخطو تجاها خطوة واحدة ستتجمد من برودتها وأنت تهوى اللهيب وتتمتع بالحرارة المحرقة"
ضحك على تعليقه وأدار السيارة وهو ينفضها من رأسه وتحرك ليستمتع بالمدينة باقي اليوم ولو تم الرفض فلا مجال لعتاب رفيق له فتلك الفتاة لن تقبل به وهو يعلم ذلك، إهانته لها ستجعلها تختار كرامتها على العمل فلا يهمها المصلحة بقدر كرامتها ككل النساء
انتهت من المقابلات كلها والتي استهلكتها بطريقة زادت من الصداع، دخلت ماريا وقالت "لقد انتهوا"
هزت رأسها ونهضت تفك جسدها وتحركت للنافذة وهي تقول "الكل يسعى للشهرة بدلا من مصلحة الشركة ماريا، كلهم يتحدثون عن البداية من جديد وليس إنقاذ ما هو موجود بالفعل"
أجابت المرأة "هذا يعني أن ولا واحد سيمكنه مساعدتنا؟"
التفتت لماريا وهي ما زالت تذكر المصري ولكن غطرسته تجعلها تستبعده، قالت "لن أتسرع بالقرار سأدرس ملف كل واحد منهم مرة أخرى جيدا قبل اتخاذ القرار، هل تطلبي لي أي طعام لن أذهب لأي مكان للغداء وأي أقراص للصداع وبالطبع قهوة"
ابتسمت ماريا وتحركت ثم توقفت وقالت "ذلك المصري، أظن أنه نال جائزة كبرى هنا من أجل مشروع عملاق له لم لا تدرسين ملفه جيدا؟ هو الأفضل بين المتقدمين"
لم ترد وماريا تذهب للخارج وهي تعيد اللقاء والكلمات واقتراح ماريا، هو بالفعل الأفضل حتى الآن ولكن هل يمكنها تقبل غروره وكلماته طوال فترة وجوده؟
مرت على المشفى ككل يوم وتحركت للسيارة والسائق يفتح لها، هي لم تعتد تلك المعاملة، حياتها مع والدتها وجورج كانت بسيطة جدا ومع ذلك عليها التأقلم، ما أن دخلت السيارة حتى رن هاتفها فأخرجته لترى اسم يوسف، هو ابن صديق والدها عرفته بإجازة من الاجازات التي كانت تقضيها هنا، لا تنكر أنه جذاب ومرح ومعجب بها ولكنه لا يحرك بها أي مشاعر لذا رفضت العلاقة وطالبت بالصداقة وهو لم يمانع
أجابت "مرحبا يوسف كيف حالك؟"
جاء صوته مرحا وهو يرد "بأفضل حال خاصة عندما وصلت وعرفت بوجودك، ما رأيك بالعشاء؟"
كانت السادسة وهي تشعر بالتعب فقالت "يوسف بالتأكيد أنت تعلم بما أصابنا مؤخرا لذا أنا متعبة و"
قاطعها "عشاء عادي آسيا، ليس رسمي وبأي مكان تفضليه ربما تحتاجين صديقك الوحيد"
هي بالفعل بحاجة لصديق ولكن ليس وهي تعرف مشاعره تجاها ومع ذلك لن يمكنها الاعتراض، لا تحب أن تجرحه أو تؤلمه فقالت "حسنا امنحني ساعة لتبديل ملابسي"
هتف بسعادة "رائع سأمر بالسابعة"
المطعم كان بسيط كما أخبرها بشوارع لندن القديمة وهو يعلم أنها تحب تلك الأماكن البسيطة وترتاح بها، مطعم وبار ومرقص وأشخاص عادية دون تكلف لذا لم تتكلف بالفستان الأسود الذي بالكاد يصل لركبتها، يغطي جسدها دون ذراعيها البيضاء، شعرها الأشقر كالعادة مرفوع لأعلى بكعكة بمنتصف رأسها، لا مساحيق تجميل
ابتسم يوسف عن أسنان بيضاء متناسقة، هو وسيم حقا ولكنه لم يجذبها له بتلك الطريقة التي تجلها تتقبل حتى لمسة يده، لا رجل نجح بذلك منذ وقت طويل، أخذ الرجل الطلبات وابتعد وقال يوسف "افتقدتك آسيا"
حاولت الابتسام وهي تقول "ألم تعتاد على ذلك يوسف؟"
تراجع وعيونه البنية تلاحقها بإعجاب وقال "أعتاد على بعدك؟ أنت لا تقدرين مشاعري جيدا آسيا"
رحلت ابتسامتها وهي تواجه كلماته وقالت "لن تبدأ يوسف، أرجوك أنا حقا متعبة"
هز رأسه وقال باستسلام "أعلم، الأخبار تطير بكل مكان، هل هناك أمل للنجاة؟ له وللشركة؟"
حدقت بأظافرها الباهتة وقالت "هو بغيبوبة ولا يعلم الأطباء متى سيعود منها، الشركة تحتاج للكثير كي تعود وما زلت أحاول"
رن هاتفه فنظر لها وقال "اسمحي لي"
هزت رأسها فنهض خارجا فأسندت رأسها المنهك على يداها حتى وصل لها ضحكة مرتفعة لامرأة مما جعلها تبعد رأسها وتفتح عيونها لترى مصدر الضحكة لتتراجع بمكانها وهي ترى ظهر عاري لامرأة تجلس على البار وفستانها عاري الظهر لا يصل لمنتصف فخذها ولا ترى وجهها ولكنها تسمرت عندما رأت الرجل الجالس أمامها والذي يحرك المشروب الذهبي داخل الكأس وقد اختلف تماما بقميصه الأزرق مفتوح الصدر وجينز قديم باهت ولكنها عرفت ذلك الوجه الساخر والعيون المازحة، هل يعقل؟ خبير هندسي مثله يخرج مع امرأة كهذه؟
ارتجفت عندما ضحكت المرأة مرة أخرى بنفس الطريقة وهو يبتسم ويرفع كأسه لفمه عندما توقفت يداه وعيونه تلتقي بعيونها، احترق جسدها بلا سبب لمجرد اللقاء بعيونه الساخرة ولم تستطع الفرار من مواجهته فهي ليست جبانة ولم تفر أبدا من أرض المعركة بأي يوم، باللحظة التالية عادت نظرته الساخرة تعتلي عيونه وبدلا من تناول مشروبه رفعه تجاها وكأنه يشرب نخبها وغمز لها بعينه ثم رفع الكأس لفمه وتناول المشروب وعيونه ما زالت تثبت عيونها
أخفضت نظراتها لتفر منه، هي لا تعرفه ليشرب نخبها ولا تريد معرفته بالأساس وحتى لو استقر رأيها عليه فلن تمنحه أي اهتمام أكثر من العمل، صوت يوسف جعلها ترفع عيونها له وهو يجلس بنفس الوقت الذي وجدت ساهر يرتد بمكانه ورحلت نظرته الساخرة لرؤية يوسف ويد رفيقته تلمس يده لتعيده لها وقد فعل وهي تقطع نظراتها عنه وتعود ليوسف الذي قال
"بابا سيصل بعد اسبوع ويبلغك تحياته وحزنه على ما حدث"
هزت رأسها والرجل يضع الطعام، حاولت ألا تنظر تجاه ذلك الرجل ولكنها لم تستطع لترى الفتاة تنهض وتجذبه بيدها من يده فترك الكأس وتحرك معها للخارج فغلت الدماء بعروقها ذلك المستهتر هل يجرؤ على ذلك؟ ولكن ما شأنها إنها حياته ولا دخل لها بها
العشاء كان مرهق أكثر ويوسف لم يتوقف عن الحكايات عن عمله كبروفيسور بالجامعة وعن محاضراته حتى أعلنت عن رغبتها بالذهاب فلم يمانع لإدراكه بالتعب الواضح على ملامحها وما أن توقف بسيارته أمام بيتها حتى قالت
"شكرا يوسف طابت ليلتك"
كادت تفتح الباب وتنزل ولكنه أمسك معصمها فالتفتت له وهو يقول "آسيا، ألا مجال حتى لقبلة المساء؟"
تعصبت وهو يعلم جيدا أنها لم ولن تفعل معه أو مع سواه وقد أخبرته بذلك من قبل، نظرت ليده التي تقبض على يدها وقالت "اترك يدي يوسف، أنت تعلم جيدا أني لست تلك الفتاة"
لم يترك يدها وهو يقول "ما أريده لا يعني أنك فتاة سيئة آسيا فقط يعني أني كأي رجل معجب بفتاة ويريدها"
سحبت يدها من يده ورفعت وجهها له والغضب يرتفع لملامحها وهي ترد "هذا بالنسبة لك لكن لا يعني أني بالمثل فأنت تعلم مشاعري جيدا يوسف أنا لم أخدعك بأي وقت وتحدثنا بهذا الأمر كثيرا من قبل"
شحب وجهه وهو يتابع كلماتها ثم أبعد وجهه لحظة قبل أن يقول "آسيا لم تصرين على ذلك دون منحنا فرصة واحدة حتى ربما ننجح؟"
كانت بالفعل مجهدة ولا روح لديها للجدال ومع ذلك كان عليها إنهاء الأمر فقالت "لأني حاولت من قبل يوسف لم تصر على أن تجعلني أجرحك؟ أنا حقا لا أريد ذلك فأنت صديق عزيز علي ولكن الأمر لن يتخطى ذلك فهل نتوقف هنا؟"
هز رأسه وقال "حسنا آسيا، فقط لا تبعديني فأنا أجد الراحة بقربك"
حدقت به ولا تجد كلمات يمكنها أن تردعه عما برأسه فقالت "طابت ليلتك يوسف"
وتركته ونزلت للبيت دون النظر له مرة أخرى والصداع يرهقها بقوة، ما أن دخلت حتى أخذت مارجو منها المعطف وقال "مستر ميشيل بالداخل ينتظرك"
التفتت لها والغضب يشع من عيونها وهي لا تفهم كيف يجرؤ على التواجد هنا بعد كل ما كان سبب به؟