رواية هيبة الفصل التاسع عشر19بقلم مريم محمد غريب


رواية هيبة بقلم مريم محمد غريب
رواية هيبة الفصل التاسع عشر19بقلم مريم محمد غريب
 أنتِ أهلي "2"

كان على رأس الحراسة منذ بُكرة الصباح ..

قام قائد الحرس "زين نصر الدين" بالإشراف على خطة الأمن بنفسه، أخذ جولة حول الفيلا، تأكد من أن كل الأمور في نِصابها، ثم عاد إلى الباحة الداخلية حيث كان ينتظره زميله في العمل وصديقه المقرّب "عدي الشرقاوي" ..

تصافحا ما إن إلتقيا وتعانقا عناق الأخوة سريعًا، ثم تراجع "زين" وهو يقول عابسًا:

-أهلًا يا عدي.

رفع "عدي" حاجبه الكثيف قائلًا:

-أهلًا يا عدي؟ في إيه ياض هو أنا كنت بايت في حضنك؟ إيه المقابلة دي. ده أنا بقالي شهر ماشوفتكش.

زين باقتضاب: معلش سامحني بس أعصابي مشدودة أوي.. قولّي جبت لي المعلومات إللي طلبتها منك؟

أومأ له: حصل ..

وأستلّ من وراء طوق خصره المدجج بالسلاح ملفًا مطويّا بعناية، سلّمه إيّاه قائلًا:

-الفايل ده في كل حاجة عن رجل الأعمال نديم الراعي. تاريخه من يوم ما اتولد وتاريخ عيلته كلها.

كان "زين" يتصفّح الأوراق تباعًا وهو يقول عاقدًا حاجبيه بشدة:

-المهم عرفت لي مكانه فين؟ أنا ماعرفتش أوصله لحد دلوقتي.

-عيب يا باشا ده احنا أكبر جهات أمنية في البلد. عيب تسأل السؤال ده. جبت لك كل حاجة.. شوف كده!

رفع "زين" نظراته عن الأوراق وألقى نظرة مطوّلة على شاشة الهاتف المسلّطة أمام وجهه ..

رآى ابنة عمته، رآى "ليلى" في لقطةٍ تمشي في الشارع برفقة المدعو "نديم الراعي"متشابكي الأيدي.. وفي لقطات أخرى معه أيضًا يقفان بنافذة إحدى الشقق الفاخرة في مشهدٍ أثار حفيظته.. حيث كانا يتبادلان القُبل بحرارةٍ ..

يوشك ظنّه أن يتأكد، توشك الحقيقة أن تتكشّف أمام الجميع، و"ليلى" أول من سيدفع الثمن ...

-خير يا زين؟ .. تساءل "عدي" باهتمامٍ:

-مش هاتقولّي إيه الحكاية؟ مزعلك في إيه نديم ده؟

نظر "زين" له وعيناه ملؤهما الحقد والدماء، ثم قال بصوتٍ خافت ينذر بالهلاك:

-تخيّل إنه قدر يزعلني؟ الوحيد في الدنيا دي إللي قدر يعملها.. بس وعزة الله.. لا أزعله.. جامد!!

حاول "عدي" مرةً أخيرة معرفة أيّ تفاصيل أخرى عساه يعاضد صديقه إن كان يحتاجه، لكن "زين" رفض الإفصاح بتاتًا، فلم يصرّ عليه، ودّعه وذهب ليلحق بعمله الطارئ ..

بينما ذهب "زين" إلى الحديقة الخلفية، حيث يتناول جناب السفير "عاصم البدري" الفطور برفقة ابنته "ريهام" ..

أقبل "زين" نحوهما بانضباطه المعهود، كانت الفتاة الشابة تجلس بجوار أبيها، الرجل الذي بلغ احترامه طبقاتٍ ومستويات عُليا، ها هو يهبط لمستوى عقلها المتدني، فتارة يضمّها إلى صدره، وتارة يطعمها بيده، لكنه لاحظ كم إنها تنأى عنه قدر استطاعتها، وكأنها تخافه، أو تراه وحشًا رغم كل ما يفعله لها ...

-صباح الخير سيادة السفير!

تطلّع "عاصم البدري" نحو "زين" مبتسمًا، وقال:

-صباح النور يا زين.. انت مبدّر أوي افتكرتك جاي بعد الضهر.

-مقدرش أتأخر على معاليك أنا في خدمتك طول مدة وجودك في البلد.

-عمومًا أنا ماعنديش مشاوير إنهاردة ورجالتك قايمين بالواجب. لو حابب ممكن تمشي وتشوف أمورك براحتك وبعدين تعالى بكرة.. بكرة عندنا زيارة للقنصلية الساعة 10 الصبح.

-يافندم حضرتك ماتقلقش أنا مافيش ورايا غيرك وأكيد لما أعوز أطلع من الفيلا شوبة هاجي وأستأذن سيادتك زي ما عملت امبارح.. لكن حاليًا أنا تحت أمرك زيي زي رجالتي.

نظر له "عاصم" معجبًا بتركيبته الفريدة، بدا أمامه كضابط كفؤ ورجل قوي يعتمد عليه، هز رأسه قائلًا بلهجة كأنها توسمه بالتقدير الذي يستحقه:

-إللي تشوفه يا يا سيادة الرائد. وأنا إللي تحت أمرك والله لأني حقيقي منبهر بيك. رغم إني قضيت معاك أقل من أسبوع لكن ثقتي فيك مالهاش حدود.

ابتسم "زين" بخفة ابتسامة بالكاد لوحظت وهو يقول بصوته العميق:

-ده شرف ليا معاليك.. أي شيء تحتاجه أنا في الخدمة دايمًا ..

ونقل بصره نحو "ريهام" مكملًا:

-وكمان الأنسة ريهام.. أنا تحت أمرها في أي وقت.

أطلق "عاصم" ضحكة قصيرة وقال وهو ينظر إلى ابنته العابسة:

-الأنسة ريهام زعلانة منك على فكرة وأنا بقالي كام يوم بحاول أحسّن صورتك في عنيها بس الظاهر مافيش فايدة.

هز "زين" رأسه مرددًا:

-أنا عارف. وعارف السبب تقريبًا. بس نفسي الأنسة تفهم إني كنت بعمل شغلي مش أكتر. وإني مش ممكن أكون قاصد أضايقها أو أزعلها.. أنسة ريهام. زعلك على راسي. أنا آسف.

لم ترد "ريهام" عليه وظلّت مُحدقة أمامها في اللاشيء ..

تنهد "زين" وهو ينظر لأبيها مستطردًا:

-أنا كنت عارف إن الأنسة زعلانة مني عشان كده كنت حابب أصالحها بطريقتي.. تسمح لي معاليك؟

وافق "عاصم" على الفور بإيماءة من رأسه، ليلتفت "زين" صوب أحد رجال بالقرب ويعطيه الإشارة، فيرى كلًا من "عاصم" وابنته فردان من الحراسة، أحدهما يجر فوق عربة صغيرة بيتًا خشبيًا قيّمًا مخصص للكلاب، والآخر يحمل فوق ساعديه باقة متنوعة من الشوكولاه البلجيكية المستوردة قد أرسل في طلبها خصيصًا لأجلها، مغلّفة بورق "كرافت" بلون العاج مزيّن برسومات كرتونية مستوحاة من قصص الأميرات، بالإضافة لصندوق خشبي أنيق يحتوي على أدوات تلوين، دفتر رسم، ألعاب صغيرة لشخصيات كرتونية شهيرة، و"ميني سلايم" بألوانٍ مُبهرة ..

ما إن رأت "ريهام" هذه الأشياء حتى هبّت من مكانها مُثارة لروعتها، لكنها لم تجرؤ على إتخاذ خطوة واحدة نحو "زين" أو رجاله ..

في المقابل يبتسم "زين" متيقنًا بنجاح مخططه، اقترب منها خطوة واحدة قائلًا بلطفٍ جمّ:

-أنسة ريهام.. دي هدية بسيطة أتمنى تقبليها مني. أنا ماكنتش أقصد أبدًا أزعلك أو أضايقك. أنا آسف جدًا وعمري ما هاعمل أي حاجة تزعلك تاني.

أخيرًا رفعت "ريهام" عينيها الزرقاوان إليه، شعّ بريقهما في ضوء الشمس ملتمعًا آسرًا، مرّت لحظات دون أن ينبس أحد بكلمة، حتى أفتر ثغرها الحلو عن ابتسامة رقيقة، بريئة ..

رفعت سبابتها قائلة بصوتها ذي الطابع الطفولي:

-مش هازعق في ريري تاني؟ وهاتخلّي ميمي تنام معايا في أوضتي!!

ابتسم "زين" لاعنًا من بين أنفاسه تلك الكلبة الشقيّة ذات النباح المستمر، نباحها ذاك الذي لا يجعله قادرًا على النوم لساعاتٍ طويلة في الليل وهي بالخارج، فكيف لو سمح لها بالدخول إلى المنزل؟

لكنه رغم ذلك رضخ لها وقال:

-عمري ما هازعق في ريري تاني.. وميمي تقدر تنام معاكي في أوضتك من الليلة.. خلاص صالحتيني؟

أومأت له بقوة، ثم قفزت مُصفّقة وهي تنطلق صوب هداياها التي وضعها الرجلين فوق الطاولة القريبة، جثت "ريهام" أمام الشوكولاه والألعاب الأخرى مستكشفة كل شيء، بينما يقترب "زين" من "عاصم" الذي ما فتئ يبتسم له، ثم شكره بامتنانٍ:

-أنا مش عارف أقولك إيه يا زين.. شكرًا بجد.. انت الوحيد إللي خلّيتها تضحك وتتنطط من الفرحة بالشكل ده. ده أنا بعاني معاها بمن ساعة ما وصلت ومقدرتش أخلّيها تبتسم حتى. شكرًا حقيقي.

حافظ "زين" على ابتسامته وقال:

-لا شكر على واجب يافندم.. الأنسة ريهام تستاهل كل شيء جميل. أنا عمري ما شوفت في رقة وبراءة بالشكل ده. ربنا يحفظها لمعاليك. إللي هاتكون من نصييبه أكيد إنسان محظوظ جدًا.

وهنا تلاشت الابتسامة عن وجه "عاصم" شيئًا فشيء، استوقفته كلمات "زين" الأخيرة بشدة، لدرجة أنه حوّل بصره تجاه ابنته وتسمّر تمامًا، كأنه يرى أشياء لا أحد غيره يراها ..

بينما "زين" يبتسم باتساعٍ أكبر، فهو الوحيد الذي يعلم جيدًا ما يدور بعقل الأب، كما يعلم أن أيّ خطوة تالية ستكون من طرفه هو، إن شاء يتخذها في الوقت الذي يحدده.. ولعله يرجو ألا يتخذها مطلقًا ..

إلا إن أضّطُر ...

_____________________________________________

جاثية على ركبتيها منذ دقائق طويلة أمام المرحاض، يديها تستندان على طرف السيراميك البارد، وجسدها ينتفض مع كل موجة قيء تعصف بها ..

أنفاسها متقطعة، ودموع غير إرادية سالت من عينيها وهي تغمضهما بقوة، كأنها تحاول أن تحبس كل ما يؤلمها داخلها ..

في داخلها الآن فوضى لا صوت لها ..

هل يُعقل؟

هل ما تخشاه حقيقي؟

أن يكون هناك كائن ينمو في رحمها.. منها ومنه؟

ولكن كيف يحدث هذا دون علم أحد؟

لا أحد… لا أحد يجب أن يعرف قبل أن يتم إعلان زواجهما بشكلٍ رسمي كما وعدها ..

لن يعلم والدها قبل ذلك.. إن علم فستقتله الصدمة ..

وأمها، على الرغم من توتر العلاقات بينهما طيلة حياتها ولكنها ستنهار أيضًا ..

أخويها كذلك.. ستُصلب في أعينهم وتنحدر للأبد ..

ارتجف جسدها من جديد، ليست لبرودة الحمام وحدها، بل الخوف، الخوف وحده ينهش عظامها ..

ماذا فعلت؟ كيف طاوعته حين أخبرها أن لا حرج لو حدث وحملت منه؟

لقد فرحت حينها، ولكنها الآن مذعورة، ويراودها إحساس مُبهم بأن الأمور ستسوء، وإنها ما كان ينبغي أن تفعل ذلك منذ البادئ ..

ولكن قلبها من جهةٍ أخرى يسيطر عليها، لقد حصلت على حبيبها، من غيره يستحق أن تمنحه جسدها إن كان وحده الذي يملك قلبها؟

لقد تزوجها، لقد وعدها بأن يطلق زوجته ويعلنها هي زوجةً له، وفوق كل ذلك هو ابن عمّها، شرفها شرفه، عِرضها عِرضه، إنها تثق فيه كثيرًا، فهو لا يكذب، لا يخدع، حبيبها "نديم" هو مثال لكل صفات النبل والرجولة بالنسبة لها، إنها تحبه، توليه ثقتها العمياء كاملةً دون أدنى شك رغم كل الخوف بداخلها ...

-لولّا!

سمعت صوته، يتبعه طرق خفيف على باب الحمام ..

لقد عاد!

لم يتأخر كثيرًا، فقد تركها بعد تناول الفطور ونزل ليتسوّق قريبًا من المنزل إذ كانا بحاجة لأشياء كثيرة نفذت منهما، كالطعام والمستلزمات الشخصية الأخرى ..

طرق ثانيةً وهو يهتف بلطفٍ:

-ليلى؟ انتي لسا جوا من ساعة ما نزلت. بقالك كتير كده يا حبيبتي… انتي كويسة؟

رفعت رأسها ببطء، نظرت إلى انعكاسها في المرآة، رغم ضبابية نظرها، رأت وجه شاحب، عيون محمّرة، شعر مشعث ..

إنها حقًا متعبة ..

ردّت بصوتٍ مبحوح ومرهق:

-أيوة يا نديم.. طالعة.. طالعة اهو!

نهضت متثاقلة، فتحت الصنبور، غسلت وجهها مراتٍ عديدة، كأنها تحاول أن تمحو كل آثار الذعر، أن تُنكر، أن تُكذّب الجسد وما يبوح به ..

خرجت من الحمام بخطى بطيئة ..

رأت "نديم" جالسًا على طرف السرير، بهندامه المعتاد، الأنيق، عينيه عالقتان بهاتفه بينما يتحدّث إليها:

-عمي لسا مكلّمني يا لولّا.. فاكر إننا لسا في الغردقة طبعًا. قلت له يومين وراجعين عشان جامعتك.. أنا آخرتك عليها كتير. عارف. أسبوعين وزيادة ..

رفع عينيه أخيرًا ..

إلا إن الكلمات تجمّدت على لسانه عندما رآها ..

وجهها… شاحبٌ وشفتاها جافّتان.. وجسدها بالكاد يحملها ..

ساقاها ترتعشان، وعيناها تطلبان النجدة دون أن تنطق!

ألقى الهاتف جانبًا، ونهض بسرعة، اقترب منها كأن المسافة بينهما فجأة أصبحت أطول ممّا تحتمل ليصل إليها ..

صوته امتلأ بالقلق وهو يسألها بخشونة:

-مالك يا ليلى؟ فيكي إيه؟!

لم تستطع الرد فورًا، فحثها بنفاذ صبر ممسكًا بكتفيها:

-اتكلمي يا ليلى مالك؟ انتي تعبانة ولا إيه قوليلي!!!

باعدت بين شفتاها الشاحبتان، ونطقت أخيرًا بتردد:

-نديم.. أنا... أنا حامل!

ران الصمت للثوانٍ عديدة ..

وكأن وقع الكلمة على أذنيه له صدى غير الذي توقّعه، ثم جرت الكلمات على لسانه فجأة بمنتهى الهدوء:

-انتي عايزة تقولي يعني إنك شاكّة إنك حامل؟

ازدردت ريقها بتوتر وقالت:

-أنا مش متأكدة.. بس حاسة بنفسي.. جسمي متلخبط. وماليش نفس للأكل. ولو كلت معدتي مش بتستحمل. وحاسة بدوخة بقالي يومين وتقل.. أنا خايفة يا نديم!

ابتسم على الفور محاولًا تبديد مخاوفها، أمسك بيدها بين يديه وسحبها لتجلس فوق كرسي قريب، جثى امامها قائلًا بلطف:

-طيب إهدي.. إهدي يا حبيبتي. انتي خايفة من إيه؟ أنا مش قلت لك إني أصلًا عايزك تحملي؟ وأهو حصل. ده أحلى خبر ممكن أسمعه. لو صحيح كمان هكون أسعد راجل في الدنيا. هايكون ليا طفل منك. منك انتي يا ليلى.

عقدت حاجبيها بوهنٍ مرددة:

-بس.. بابا!

طمأنها بهدوء: عمي مش هايعرف غير بعد جوازنا.. أنا عايزك تثقي فيا.. مش هاخلّيكي تواجهي أي حاجة ممكن تئذيكي أو توجعك. هاحل كل المشاكل لوحدي. وبعدها هانتجوز رسمي والدنيا كلها هاتعرف.

نظرت له بحيرة وقالت:

-أنا خايفة بس كل ده يطول.. والحمل يبان عليا!!

شدد قبضته على يدها يبث فيها الأمان أكثر وهو يقول بثقة:

-مش هايطول.. وبكرة الصبح هاخدك ونعمل تحليل عشان نتأكد لو في حمل فعلًا ولا لأ. لو طلع صحيح في ده مافيهوش أي مشكلة. بالعكس. دي هاتكون أحلى بداية لينا.

وقام ليجلس على يد الكرسي بجوارها، ضمّها إلى صدره بقوة متمتمًا:

-أنا وراندا تقريبًا انفصلنا.. مش فاضل غير حاجات صغيرة بس.. هاتتحل في أسرع وقت. وبعدها هاتبقي ملكي.. ومحدش أبدًا هايقدر ياخدك مني.. ولا حتى يقرب لك

تعليقات