
رواية اسد مشكي بقلم رحمه نبيل
رواية اسد مشكي الفصل السابع والثلاثون37بقلم رحمه نبيل
| علام ضاع العمر يا ولدي ؟|
تحرك بخطوات قوية عكس انهياره الداخلي، يسير رافعًا رأسه دون أن ينحني ولو لثانية واحدة حتى .
ما تزال كلمات الجندي يرن صداها بقوة داخل أذنه، شعبه الذي ضحى بحياته بأكملها وافنى عمره لأجلهم وذاق من الأهوال ما تشيب له الرؤوس لأجل مصلحتهم، يطالبه الآن بالرحيل .
ارتسمت بسمة غريبة على فمه، بسمة جانبية ساخرة وهو يتحرك صوب بوابة القصر دون أن يفكر ثانية واحدة، كان جنوده يحيطون به خوفًا أن يؤذيه أحد الرجال في الخارج تحت وطأه غضبهم .
لكن أرسلان فقط منعهم رافعًا كفه لهم، يشير لهم بعيونه لفتح الباب.
بدأت البوابة تُفتح شيئًا بشيء كاشفة عن جموع غاضبة، واعين تكن له من الكره ما ينافس ولائهم سابقًا، راقبهم بملامح جامد واعين مختنقة وسؤال واحد لا ينفك يتردد بأذنه في هذه اللحظة ..
" علام ضاع العمر يا ولدي ؟؟"
لا شيء ....
ابتسم بسمة صغيرة يواجه بها الحشود أمامه وهو يرحب بهم بهدوء وتماسك يُحسد عليه رغم تعجبه النظرات وكأنه يقف أمام غرباء وليس أمام شعبه الذين يعلمهم تمام العلم:
_ شعبي العزيز، طلبتم لقائي، وأنا لبيت النداء، أوامركم للعبد الفقير إلى الله ...
وكلمة واحدة انطلقت من فم أحد الرجال لتصيب صدر أرسلان في منتصف قلبه بالتحديد " أرحل من هنا "
حرك أرسلان عيونه بينهم وقد بدأ البعض منهم يكرر الكلمة بلا هوادة، وكأنهم مبرمجين على تلك الكلمة، منحهم بسمة صغيرة، وهو يرفع يده بكل هدوء يفك عقد معطفه الملكي ليتدحرج ارضًا أسفل أقدامه، ومن ثم رفع لهم كفيه في الهواء :
_ لا بأس لكم ما تريدون، بالتوفيق في إحياء مشكى .
ختم كلماته بكل بساطة وهو يتحرك تاركًا الجميع في صدمتهم من سهولة فعلته وكأن لا شيء يعنيه، وفي الواقع أرسلان في هذه اللحظة لم يكن يعنيه شيء، سبق وبذل الكثير وجزاؤه .....لا شيء.
تابع المعتصم ما يحدث بوجه شاحب وقد شعر بأن ضربات قلبه كادت تتوقف، وقد أسود المستقبل فجأة أمام عيونه يبصر دمار وخراب البلاد من بعد أرسلان، فإن كان هناك سبب من بعد رحمة الله بهم أن تبقى البلاد قائمة حتى هذه اللحظة، فهو وجود ملك كأرسلان ينحت الجبال بكفيه لأجلها.
نظر صوب أرسلان وهو يتحرك صوبه بسرعة يلتقط معطفه عن الارض يلحقه كي يمنعه ما يفكر به، حتى لو وصل به الأمر ليتوسله أمام الجميع.
أما عن أرسلان لم يكد يتحرك داخل القصر حتى صاح أحد الرجال بصوت مرتفع مقهور وكأنه ابى أن تنتهي هذه المسرحية بهكذا مشهد ختامي بسيط، إذ بدا أن أمله في الدمار كان أكبر مما حدث:
_ بهذه البساطة مولاي، بعدما تخلصت من اطفالنا؟؟
توقفت أقدام أرسلان وهو يضيق ما بين حاجبيه بعدم فهم يستدير لهم يحاول معرفة ما يقصده، ليصرخ بوجهه أحدهم بجنون :
_ ترسل لنا غلال مسممة للتخلص منا وتخفيف مسؤولياتك ؟؟ أنت أكثر ملوك هذا العالم حقارة .
_ خســــــئـــــــت أنـــــت وكل من تجرأ ونطـــق بكلمة سوء في حق الملك .
ولم تكن تلك الجملة صادرة من فم أرسلان الذي كان يتابع ما يحدث بصدمة دون القدرة على الرد حتى، بل صدرت من سلمى والتي أبصرت كل شيء من شرفتها تهرول صوب بوابة القصر تصرخ في وجوههم وقد فاض بها الكيل من هؤلاء البشر والذين كلما ضاقت بهم الحياة ألقوا بمصائبهم على أكتاف أرسلان.
_ الأ لعنة الله على عديمي الفائدة الذين كلما أصابتهم وخزة شوكة ركضوا يبكون أن الملك هو من نثر الأشواك في طريقهم ؟! هل تصدقون الهراء الذي تتفوهون به أيها الحمقى .
نظر لها أرسلان بصدمة ومازال ما سمعه يعقد لسانه ويلجمه عن الرد، وكل ما يدور في عقله هو مصيبة تسمم الغلال...
ارتفع صوت سلمى وهي تتقدم أرسلان تدافع عنه أمام الجميع بقهر وغضب جحيمي وهي تتذكر ما تعرض له في طفولته لأجلهم ولأجل البلاد، القهر كان يشتعل داخلها أكثر وأكثر حتى شعرت بعدم قدرتها على الصراخ بصوت مرتفع أكثر:
_ يسمم الغلال ؟؟ بالله عليكم من الوسخ الغبي الحقير الذي اقترح هذه الافكار الحمقاء ؟؟ يسمم غذاء تعب في زراعته شهور لأجل التخلص من بعض الاغبياء مثلكم ؟!
صمت الجميع وعم صمت قاتل بينهم بعد كلمات سلمى القاسية، والأخيرة لم تكتفي وهي تشير حولها على الجنود والذين كانوا متحفزين بشكل مخيف :
_ كان من الأوفر له أن يأمر رجاله بقتلكم ولم يكن سيكلفه الأمر سوى بعض مساحيق التنظيف لمسح دمائكم عن السيوف، لكن أن يسمم الغلال ؟؟ من صاحب هذه الفكرة الحمقاء ها ؟؟
كان أرسلان في هذه اللحظة ورغم كل ما يدور داخل عقله، لا يستطيع التغاضي عن دفاعها المستميت عنه في هذا الوقت، ربما كانت المرة الأولى التي يمثل بها أحدهم خط دفاع له وهو من أعتاد أن يكون كذلك لجميع من حوله .
لكن سلمى كانت تنظر للجميع بتحذير وهي تحرك إصبعها في وجهها:
_ تحلوا ببعض التعقل وابحثوا حولكم عمن يمكن أن يفعل ذلك بكم، فلو كان الملك يريد التخلص منكم، فما غايته من إعمار البلاد إن كان سيبيد شعبها؟؟ يورثها لأبنائه ؟؟
نظر الجميع لبعضهم البعض وقد بدأ حربيّ يشير لرجاله بالأنسحاب من بين الجميع، تحت أعين أنمار والذي كان يتخفى بين الحشود يراقب ما يحدث يبحث عن فرصته لدخول القصر .
أما عن سلمى ابتسمت بسخرية :
_ والله لو كان بيدي، لحكمت أنا البلاد وسيكون أول قرار أصدره هو أن يتم تقطعـ
وقبل إكمال كلماتها سحبها أرسلان بسرعة يدفن رأسها في صدره يمنعها من إكمال كلماتها هامسًا بتحذير:
_ اشش لا تزيدي من الطين بلة يا امرأة .
حاولت أن تبعد رأسها عن صدره بصعوبة، بينما هو ضغط عليها حتى كاد يخنقها يحذرها بصوت هامس:
_ لنا حساب لاحقًا سليمى، دعيني ألملم مصائبي ومن ثم اتفرغ لأكبرهن...
ختم كلماته وهو ينظر لها بحدة مصطنعة تتوارى خلفها نظرات امتنان وسعادة خفية لدفاعها عنه، يرفع عيونه للجميع وقبل التحدث وصله صوت أحدهم وهو يهتف بسخرية :
_ الملك لا يستطيع الرد لا هو ولا جنوده فيصدر امرأته المشهد تدافع عنه و...
_ جلالــــــة الملكــــــة .
كانت كلمة حادة خرجت من أرسلان الذي جذب جسد سلمى بقوة يخفيها خلفه وهو يمنعها عن أعين الجميع يتحدث بصوت جهوري كي يصل للجميع:
_ سماحي لكم بقول ما تريدون منذ دقائق ورضوخي لرغبتكم بتركي العرش، لا يعني أنني سأصمت على حرفٍ يقال في حق امرأتي، أسامح في عرش مشكى وحكمها ولا أسامح في حق زوجتي ولو بنظرة.
صمت يدير عيونه بين الجميع كي يتأكد أن رسالته قد وصل للجميع:
_ اقطعه أربًا لمن يفعل ولن تأخذني به رحمة، قد أتجاوز عن حقي، لكن حق زوجتي انتزعه من أعينكم.
ختم كلماته بشراسة ومن ثم ابتسم لهم وهو يجيب سؤال الرجل :
_ ومن ثم ردًا على سؤالك، فما كان رد جلالة الملكة عليكم تصديرًا للنساء نيابة عني، فلساني كالسوط اجلد به من يقترب مني ولله الحمد، لكنني في العادة اترفع عن التُرهات، وزوجتي العزيزة لا يهون عليها أن تسمع هذه الحماقات عني وتصمت فهي مخلصة لزوجها، شيء ربما لا تعلمون عنه الكثير فأختلط عليكم.
قطع تلك الاحاديث صوت قوي رغم ارتجاف نبرته وقد بدأ الجمع ينفصل للجانبين مفسحًا الطريق أمام المتحدث والذي لم يكن سواه " شيخ مشكى "
استند على عصاه يسير بصعوبة وخلفه جمع غفير من الرجال يفوقون المتمردين عددًا يردد بصوت منخفض :
_ لا تسمع لناكري الجميل مولاي، فالاعمى فقط من لا يبصر افضالك على مشكى وشعبها، واعذرهم فبعض الرجال انساهم الزمان أصولهم وما تربوا عليه .
ختم حديثه ينظر للرجال المتمردين والذين كان نصفهم تقريبًا رجال أصلان، والنصف الآخر ممكن أتبع شيطانه.
وافق الرجال خلف الشيخ كلام الأخير وهم يهتفون بشعارات ودعوات لأرسلان.
_ نعم مولاي لا تستمع لهم نحن جميعًا ندرك قدرك ونعلم من أنت، لا تستمع لمعدومي العقول .
نظر لهم أرسلان بامتنان للحظة وشعر ببصيص أمل صغير أن حياته لم تذهب هباءً يتنهد بصوت مرتفع :
_ لا بأس إذن، إن نسوا من أنا اذكرهم..
ختم حديثه وهو ينتزع معطفه من المعتصم بهدوء شديد ينفضه ومن ثم ارتداه ينظر لهم ببساطة وهو يهتف بجدية وبسمة صغيرة :
_ ها نحن ذا عدنا مجددًا أعزائي، استئتم لتركي الحكم طبقًا لرغبتكم قبل محاكمة عادلة؟؟ إذن لكم ما تريدون .
صمت يدير نظراته في المكان قبل أن يهتف بقوة :
_ حـــــــراس، احضروا الجميـــــع لقاعـــة الـــحكـــم .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسطح على فراشه يتنفس ببطء وكأن رائحتها تعبق الأجواء حوله تمده بسبب للحياة، وكأنه يخشى أن يسحب رائحتها بالكامل، ومن ثم يشرد بعيدًا عنها يتلمس رائحتها كما طيفها .
عيونها ونظراتها، صوتها وبسمتها، كانت المرأة تمثل له فتنة كبيرة يستعيذ بالشيطان كلما سُحب لبحارها.
إن كان أحب زوجته السابقة، فما الذي يحياه الآن مع توبة؟! لماذا هي ولماذا الآن ؟! وكأنه اكتشف وجودها في الحياة للتو .
تنهد بصوت مسموع يستغفر ربه وقد انتوى النهوض ليتوضأ ويصلي يصرف عنه شيطانه الذي يزين له تخيل امرأة لا تحل له، والندم يأكله أكلًا أنه لم يصر على الملك بارق أن يزوجها إياه.
اغمض عيونه يفركها بقوة وما كاد يبعد أصابعه عن عيونه حتى شعر بجسده يرتجف وينتفض بسبب لمسة حنونة على صدره، لمسة جعلته يرتعب من فكرة أن أوهامه بدأت تتجسد في واقعه .
فتح عيونه بفزع بعدما التصق بظهر الفراش بعيدًا عن تلك اليد التي تخيل لثواني، بل لحظات قليلة جدًا أنها تعود لسارقة القلب وسالبة الروح، لكن حينما استوعب ما يحدث حوله أبصر امرأة تظهر من زينتها أكثر مما تخفي، تبدي للرائي ما لا يسمح لخياله بالتصور ...
تبتسم له بسمة ساحرة رقيقة مع ملامح وجه جميلة وللغاية يعترف، لكنها كانت في هذه اللحظة قمئة ومثيرة للإشمئزاز لدرجة ظهرت ملامح التقزز تعلو وجهه بصراحة لم يحاول حتى إخفائها وهو يتحدث بشر ينطلق من نظراته :
_ ما ...ما الذي تفعلينه هنا يا امرأة ؟؟ من ادخلك ومن أنتِ ؟؟
ابتسمت الفتاة برقة ولطف شديد حتى شك نزار لثواني أنها ملاك نقي طاهر هبط بالخطأ في هذا المستنقع، لترتسم بسمة ساخرة على فمه من هيئتها وكلماتها وقد كان كل منهما نقيض الآخر.
_ أنا قمر رأيتك تسير هائمًا وحيدًا حزينًا ففكرت بالمجي لأؤنس وحدتك سيدي، هذا ما حثني عليه قلبي
_ صاحبة واجب أنتِ يا قمر، أولم يخبرك قلبك هذا أنني لا اغتر بمثل هذه الاغراءات الفاشلة الحمقاء وأنه لو كان أرسل لي دجاجة مع بعض الأرز لإغرائي لنجح بدرجة أكبر مما فعل الآن بإرسالك؟!
توترت الفتاة وهي تتقهقر خطوات صغيرة للخلف تحاول التحدث بكلمات مترددة:
_ مـ..ماذا؟؟ عمن تتحدث ؟!
_ قلبك يا طيبة القلب.
هكذا تحدث وبكل سخرية يتحرك عن الفراش يجذب الغطاء من أسفلها بعنف حتى كاد يسقطها ارضًا يلقي به على وجهها نابثًا بصوت جامد :
_ غادري الغرفة .
أبعدت قمر الغطاء عن وجهها وهي تحاول التحدث بكلمات غير مرتبة :
_ أنت لماذا تتعامل معي بهذه الخشونة ؟!
تحدث نزار بغضب بدأ يظهر على ملامحه بعدما فشل في إخفائه :
_ خشونة؟! الخشونة هذه ستبصرينها إن لم تختفي من أمام وجهي، وأخبري ذلك الخنزير أن آخر باب يسلكه لي هو النساء، فهو لا يتعامل مع أحد كلابه الذين يسيل لعابهم لرؤية أجساد نساء .
شحب وجه الفتاة وهي تتحرك عن الفراش وتوترت تحاول التحدث بكلمات تبرأ ساحتها وتحسن من موقفها، لكن أي تحسين هذا وهي أتته بقدميها ودون أمر من أحدهم، انبهرت بقوته وملامحه الخشنة، بسمته ونظراته وكل كلمة كان ينطق بها جذبتها كما الفراشة للنيران .
_ أنا لم ...لقد ...لقد أجبرني على فعل ذلك .
نعم ليعتقد أنها أُجبرت على ذلك بدلًا من معرفة أن الشيء الذي أجبرها على ذلك هو شيطانها، لربما يخفف هذا من نظرات الاحتقار التي تعلو وجهه في هذه اللحظة .
_ لقد جعلني افعلها مرغمة و...
صمتت تدفن وجهها بين كفيها باكية بصوت منفطر تحت نظرات نزار المتعجب والذي كان يبحث في وجهها عن شيء يشي بالقهر وهو يتحدث بهدوء متحركًا صوب باب المنزل يفتحه على مصرعيه يتوقف جواره :
_ ما الذي جعلكِ تستمرين في البقاء هنا، لماذا لم ترحلي مع النساء حينما رحلن بالفعل سابقًا ؟!
توترت المرأة وهي تبعد عيونها عنه، ليبتسم لها نظار بسمة صغيرة ساخرة، يشير صوب بابه بهدوءه :
_ اذهبي وأخبري من ارسلك أنني لا أحيد عما أريد لأجل امرأة، عليه بذل المزيد من الجهد، والآن للخارج.
نظرت له المرأة بصدمة وهي تحاول التحدث بكلمة لتبرأ ساحتها، لكن حتى تلك الكلمة لم يسمح بها نزار وهو يشير لباب المنزل .
تحركت الفتاة صوب الباب بخطوات متباطئة، وحينما وصلت له رفعت عيونها تنظر له، لكنه ترفع بنظراته عنها، لتتحرك هي بعيدًا عن المنزل تاركة إياه ينظر بعيدًا شاردًا وبمجرد أن شعر بها تخرج من المكان حتى صفع الباب في أثرها بحدة يتمتم بكلمات غاضبة .
_ هذا ما ينقصني يلقي بجواريه عليّ، مقزز .
تمدد على الفراش ولم يكد يتنفس الصعداء حتى شعر بيد تهزه بهدوء، لينتفض ضاربًا إياها بعنف شديد جعل صاحبها يتأوه متراجعًا بغضب وهو يصرخ:
_ أيها الحقير ما بك؟؟
اعتدل نزار في جلسته وهو يراقب الوليد الذي ضم كفه لصدره بغضب شديد ووجع، ليبتسم له بسمة صغيرة :
_ هذا أنت ؟!
_ من يأتيك غيري هنا ؟!
_ جميع المصائب بما في ذلك أنت يا الوليد.
كاد يعود للتسطح على الفراش، لكنه توقف عن الفكرة وهو يبتعد حانقًا رافضًا النوم مرة ثانية، يتحرك في المكان يلتقط زجاجة المياه يرتشف منها بهدوء وهو يراقب المكان في الخارج وعقله يدور في نقطة واحدة، كيف سيصل لخطة أصلان؟!
جاءه الجواب على هيئة جملة من الوليد يتحدث ببساطة وهو يحدق في ظهره بجدية كبيرة :
_ بعد دقائق يبدأ إجتماع أصلان مع رجاله........
ـــــــــــــــــــــــــــ
تحرك داخل القاعة يتبعه الجميع وخلفهم الحراس يحرصون على عدم تحرك أحدهم خطوة بعيدًا عن القاعة حتى يصدر الملك عكس ذلك .
أما عن أرسلان فقد توقف في منتصف القاعة يراقبهم بأعين جامدة، يتحرك بها بين الاوجه حتى توقفت على جسد زوجته التي كانت تقف في أحد الأركان تضم يديها لصدرها بترقب وكأنها تنتظر أن ينبث أحدهم بكلمة فتنقض عليه تقطعه أربًا .
ابتسم أرسلان بسمة صغيرة يشير لها بعيونه أن تقترب منه، لتعتدل في وقفتها بتوتر ترمش بعدم فهم، وارسلان فقط حرك لها رأسها يدعوها للأقتراب، فتقدمت منه سلمى ببطء لا تفهم ما يحدث، وبمجرد أن أصبحت أمامه حتى خلع أرسلان معطفه بهدوء يحتويها به، ومن ثم أمسك يدها يقودها صوب عرشه يجلسها عليه بلطف، ومن ثم استدار يراقب الجميع ببسمة صغيرة وكأنه بما فعل يثبت كلماته التي نطقها في الخارج ويرسل رسالة صريحة بمكانة زوجته في القصر .
والآن بعدما خلع معطفه ظل بثوبه الذي يتكون من بنطال اسود قماشي وسترة واسعة بعض الشيء من اللون الأخضر يتحدث بهدوء شديد :
_ والآن اعزائي تريدون محاكمة؟؟ لكم ما أردتم، ولأنني ملك ظالم حقير كما سبق ولمّح البعض في حديثه، إذن دعوني أخبركم أنني سأكون القاضي في هذه المحاكمة كذلك مكملًا سلسلة الظلم.
صمت ثواني ثم راقبهم ببسمة:
_ دعونا نجمع أطراف الخيوط ليأخذ كل ذي حقٍ حقه .
نظر جواره يتحدث بصوت مرتفع :
_ تيم، أجمع لي جميع من امتد إصبعه في هذه الغلال بداية من الوزير ومساعديه وحتى التجار، وخذ وقتك لدينا الوقت بطوله حتى لو استمرت المحاكمة اسبوع كامل .
انتهى من كلماته يشير بعيونه صوب تيم، ومن ثم مال يهمس للمعتصم الذي كان يجاوره بكلمات لم تصل لغيره، ومن ثم أشار بعيونه له، نظر المعتصم جواره للرجال يتحرك بهم صوب الخارج كي يحضر من أمر الملك بحضوره، وارسلان فقط يراقب الجميع بعيونه وقد بدأت عيون البعض تتحرك بتوتر في المكان وكأنهم يبحثون لهم عن مخرج، ومن بينهم أنمار الذي كان يلعن في هذه اللحظة فضوله الذي جعله يسير خلفهم، الآن علق مع أرسلان بسبب مصائب الحقير أصلان ورجاله.
زفر بصوت منخفض وهو يندس بين الجميع وكأنه يبحث له عن ركن يخفي به جسده .
وعيون سلمى تتحرك بين الجميع وكأنها تدرس ردات فعلهم تراقب التوتر الذي بدأ يعلو في المكان بين البعض والخوف الشديد الذي ظهر على أعين البعض الآخر.
تحرك أرسلان حتى توسط الساحة يواجههم ببسمة صغيرة :
_ الآن اعزائي اسمعوني حججكم واتهاماتكم .
لكن كلمة واحدة لم تصدر من أحد أمامه، ليبتسم بسخرية لاذعة:
_ لا اسكت الله لكم حسًا، تحدثوا فهذا ما جئتم لأجله، أردتم خروجي ورحيلي، واخبرتكم أنني سأفعل، لكن ليس وأنا أحمل فوق اكتافي ذنبًا كقتل نفس بريئة بغير نفس، سأرحل لأنني أريد وليس لأنني مخطئ، فإن كان هناك خطأ هنا في هذه اللحظة، فهو تصرفكم .
ارتفعت الهمسات بين الجميع وقد بدأ الخزي يظهر على وجوه البعض، وارسلان يراقبهم ببرود شديد :
_ أفنيت عمري في محاولة للقيام والنهوض بالبلاد، لم أطلب منكم تمجيد لما أفعل أو حتى شكر، لم افعل كل ذلك لأجلكم، بل فعلته كي لا أُسأل أمام الله يوم الحشر عنكم، وعن ولايتي عليكم، كي لا انكس رأسي حينما أُسأل عن مسؤوليتكم .
أشار لنفسه وقد شعر بالنيران تحترق داخل صدره ولحظات حياته تمر أمامه بلمحة مرارة على حياة لم يحياها كما يجب :
_ لقد ...لقد عزلت أبي عن الحكم وصمت عن اتهامات البعض منكم حينما وصفتموني بالجاحد الذي طمع في الحكم، فقط كي لا تسقط البلاد بيد المنبوذين، انقلبت على أبي كي لا تهوى البلاد أكثر مما كانت عليه وانتم تتذكرون جيدًا حال البلاد في آخر فترات حكم أبي بعدما تشعب الفساد بين رجال المملكة.
تنفس بصعوبة بسبب غضبه الذي ارتفع أكثر ثم أكمل بصراخ :
_ أفنيت شبابي وطفولتي لأجلكم، ظلمتموني ووصفتموني بألقاب لا افتخر بها حتى، وتغاضيت عنها، وفي النهاية لم أنتظر منكم شكرًا او عرفانًا بالجميل، فقط انتظرت منكم تقبلًا لي ومساعدة و....
توقف يتنفس بصوت مرتفع بعدما شعر في هذه اللحظة أن كل ما افناه في حياته كان هباءً منثورًا .
صمت يبتلع غصته وهو يحدق بعيونهم والخذلان يزين نبرته :
_ تخليت ولأول مرة في حياتي عن كبريائي و... لأول مرة طالبت بمساعدة الممالك الأخرى لأجلكم، الغلال من سبز والاسلحة من سفيد والثياب من آبى، دهست كبريائي أسفل أقدامي لأجلكم، كي لا أُسأل أمام الله عنكم وأنتم....
ابتسم بقلة حيلة يتنفس بصوت مرتفع :
_ والله أنني اتمنى لو تمنحوني حريتي وترحموني لوجه الله وتطلقون سراحي لأترك لكم العرش، اقسم بالله العظيم إن تقدم منكم رجلٌ الآن وقال أنه قادر على حكم البلاد وفعل ما فعلته ولو نصفه حتى، لتخليت له عن البلاد في هذه الثانية .
نظر الرجال لبعضهم البعض بتردد وقد بدأ الخزي يعلو نظراتهم، والبعض ينظر أرضًا بخجل لفعلته، ولم يجرأ أحدهم على التقدم خطوة واحدة، ليبتسم أرسلان بسمة صغيرة باهتة .
_ هذا ما توقعته، لا أحد يلقي بنفسه للتهلكة .
كل ذلك وسلمى تنظر للجميع نظرة غاضبة ساخطة، كأم تلقي بنظرات حانقة صوب ضارب طفلها، ولو كان الأمر بيدها لأطلقت لسانها عليهم، انتبهت لخطوات أرسلان الذي بدأ يتحرك صوبها بهدوء، ثم نظر نظرات موجوعة ولم يكد يتحدث كلمة وةحدة،
تحرك بخطوات قوية عكس انهياره الداخلي، يسير رافعًا رأسه دون أن ينحني ولو لثانية واحدة حتى .
وحينما وصل لها نظر لعيونها ولم يكد يفتح فمه للتحدث بكلمة، حتى شعر بيد سلمى تضم كفيه بين خاصتها حنان كبير تهمس له بصوت منخفض بكلمات احتاج لسماعها في لحظات انهياره :
_ أنت أروع ملك في التاريخ، ولو مُنحت الفرصة لحذفت صفحات كاملة من التاريخ واكتفيت بذكر اسمك أرسلان، وتبًا لمن يقول عكس هذا .
نظر أرسلان ليدها ثواني قبل أن يرفع عيونه عنها يحدق بملامحها بأعين ملتمعة، وقد بدأت بسمته ترتسم على فمه يهمس بصوت منخفض يرفع كفها يقبل باطن خاصتها بحنان شديد، وقد كان ظهره هو ما يظهر للجميع في الخلف.
_ ولو كانت حياتي كتابًا لأكتفيت أن يتزين بأحرف اسمك وكفى باسمك حياة سليمى .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
راقبها تتحرك داخل القاعة بعدما انصرف جميع مستشاريه والذين انتهى معهم من الاجتماع للتو .
يحرك لها عيونه حتى استقرت أمامه، وقد كان وجهه شاحبًا مرهقًا كروحه، خسر حفيده وكاد يخسر ابنته وبلاده .
وآه من مرارة الغصة التي تستحكم حلقه كلما تذكر أنه خسره دون حتى أن يحتضنه للمرة الأخيرة، أشار على المقعد أمامه:
_ اجلسي توبة .
نظرت له توبة بتردد قبل أن تجلس بهدوء على المقعد تراقبه بأعين هادئة تنتظر تحدثه، وهو فقط اطال النظر لها دون كلمة واحدة لوقت طويل بعض الشيء قبل أن يتحدث بجدية :
_ اخبريني يا ابنتي ما مدى تقبلك لفكرة الارتباط برجل الآخر هذه الفترة، أو حتى لاحقًا؟!
شحب وجه توبة لثانية قبل أن تشعر بقلبها يكاد يتوقف من صدمة وهول ما سمعت، والدها أحضر لها زوج آخر بهذه السرعة، ابتلعت ريقها تحاول الحديث وقد علقت الكلمات في حلقها .
_ أبي أنا... أنا لا ....
ارتجف قلبها من فكرة أن تعايش التجربة لمرة ثانية مع رجل لا تعلم عنه شيء، رجل غيره ...
_ أبي لست ... أنا لست مستعدة لأي ارتباط في الوقت الحالي .
تدرك في قرارة نفسها استحالة ارتباطها بنزار، لذا إن لم يكن هو، لن يكون غيره، وهي تعلم أنه لن يكون بأي شكل من الأشكال، لذا تنفست بصوت مرتفع ترفع رأسها لوالدها الذي كان يراقبها باهتمام ودقة :
_ لست مستعدة لخوضها على الاطلاق، لا اريد...لا اريد الارتباط لقد اغلقت هذا الباب منذ فقدت طفلي وحياتي واكتشافي ما فعل الرجل الذي سبق واخترته ليجاورني حياتي كشريك بها، لذا لست مستعدة أبدًا لخوض التجربة مجددًا .
ضيق والدها عيونه يلمح حزنًا وتوترًا متواريًا خلف نظرات الرفض التي تظهرها :
_ أبدًا ؟!
ابتلعت غصتها وهي تهتف بصوت مذبوح :
_ نعم أبدًا .
هز رأسه متفهمًا ما تمر به في هذه الآونة وقد علم أن هذا سيكون ردها، يعلم يقينًا أن تخطي ما مرت به لن يكون هينًا، لذا سينتظر لربما يبرأ جرحها عما قريب وتمنح نفسها فرصة العيش خارج هذه القوقعة، خاصة أنه كان يبصر نظرات ملتمعة متوارية حينما يُذكر اسم نزار .
_ إذن سأبلغه رفضك .
رفعت رأسها لوالدها بتعجب من كلماته:
_ تبلغه ؟! هل هناك ما حدث ولا اعلمه ؟!
شاب نظراته بعض الغموض والخبث وهو يربت على كتفها بحنان شديد :
_ لا تهتمي، أردت فقط معرفة رأيك في الأمر بشكل عام، ومن يدري ربما يأتيكِ من يغير رأيك ويدفعك للموافقة .
ابتسمت بحسرة وهي ترى أنها لم تكن من المحظوظين في أمور القلب والحب، المرة الأولى لم يُكتب لها أن تقترب حتى من قلب أرسلان والثانية لم يقدر لها أن تقترب من نزار .
والسؤال الذي يدور في صدرها منذ أول خفقة لنزار، هل سبق وأن أحبت أرسلان يومًا أم أنه فقط كان مجرد نجمة بعيدة لامعة اعجبها ضوءها، وقد تأثرت بحديث من حولها حول قوته وتجبره وبأسه على الأعداء وحنانه في الوقت ذاته على شقيقته ومن يعنيه من النساء، شعور داخلي جعلها تتمنى لو اختصها ذلك الرجل القوي بحنانه فتكون استثناءً على جميع النساء .
تعلقت بشعور جديد أحبت تجربته، ولم تفعل، والآن مشاعرها الغير مشروطة لنزار تصفعها لتفيقها من وهم قديم ظنته حبًا، فإن كان ذلك حبًا فما بال مشاعرها لنزار ؟!
انتبهت لوالدها الذي كان يراقبها باهتمام شديد، تمنحه بسمة صغيرة وهي تنظر لكفها شاردة :
_ لا أعتقد ذلك أبي.
هز لها بارق رأسه وهو يهتف بجدية :
_ دعيها لرب العباد وهو يدبر أمرك يا ابنتي .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
_ ما تفعله ليس سوى تسريع لموتك وموتي نزار.
رمى نزار الوليد بنظرات محذرة وهو، يتحرك ببطء شديد حول ذلك المنزل الذي يقبع به إجتماع أصلان مع رجاله، يبحث عن ثغره للوصول إليه.
_ فقط اصمت وليد، وإن لن تساعدني فقط ارحل بهدوء ودعني لما أفعل رجاءً .
_ ما تفعله لن يجدي نفعًا .
استدار له نزار وهو يضربه بقوة على رأسه بضيق، ومن ثم جذبه صوبه متحدثًا بضيق :
_ بدلًا من التحدث والتسبب بصداع نصفي لي، جد لنا ثغرة تدخلنا للمكان يا سيد الثغرات، أم أنك لا تجد سوى الثغرات التي تدخلك للممالك لتشعرني بالمزيد من الذنب ؟!
ختم كلماته يضربه بغيظ في كتفه، ليتأوه الوليد بضيق، يبعد يد نزار عنه، ومن ثم نظر حوله ثواني يتنفس بصوت مرتفع :
_ فقط ابقى هنا وأنا سأجد لك مدخلًا، لكن بالله عليك لا تتصرف بحماقة تودي بك وبي للهلاك، لا أصدق أنك خرجت حيًا من تحت يد أرسلان ليتخلص منك أصلان.
رفع له نزار حاجبه بضيق :
_ فقط تحرك وخلصني من كل هذه الخطب العصماء في الحفاظ على روحي ولا تلعب دور أمي يا الوليد وإلا خلصتك من حياتك التي لا تعلم ما تفعل بها وتلقي بنفسك في أي كارثة تمر من أمامك.
زفر الوليد بضيق وهو يتحرك بعيدًا عن نزار الذي عاد بنظراته صوب المنزل والذي يقبع على بعد خطوات منهم، يراقب الوليد يتحرك صوب الباب الجانبي للحراس هناك يتوقف أمامهم وهو يتحرك بكلمات لم تصل له، يشير في جهة ما .
واستمر الأمر طويلًا حتى كاد نزار ينام من شدة ملله، لكن فجأة أبصر إشارة الوليد له بالتقدم، لتتسع عيونه وهو يتحرك صوبه بريبة شديد، فقد كان ما يزال هناك جنديين عند باب المنزل، لكن حينما وصل أشار له الوليد يتجاهل وجود الجنديين:
_ هيا انتهي مما تريد لنرحل .
نظر له نزار بعدم فهم ومن ثم نظر للجنود بتسائل ليبتسم له الوليد ببساطة، بسمة جعلت نزار يبتلع ريقه بريبة :
_ حسنًا كدت أصدق أنك ساحر تستطيع دخول أي مكان .
ضحك الوليد ضحكة صغيرة وهو يميل على نزار هامسًا بصوت منخفض :
_ ميزة أن تقضي الكثير في الوحل فتعلم كيف يفكر الخنازير..
_ لم أرى يومًا خنزيرًا بمثل ذكائك يا الوليد .
ختم نزار كلماته وهو يربت على كتف الوليد ضاحكًا يتحرك داخل المكان، تاركًا الوليد في الخارج يرمقه بغضب شديد، قبل أن يتنفس بصوت مرتفع، ينظر حوله يراقب المكان .
وفي الداخل تحرك نزار يخفي ملامحه وهو يحاول أن يتخفى عن الأعين المحيطة به وقد كان المكان هادئًا بشكلٍ مريب، لا انوار في المنزل سوى ذلك المنبعث من الغرفة التي يجتمع بها أصلان برجاله .
ابتلع ريقه يتحرك صوبهم بخفة حتى اصبح أمام الغرفة مباشرة يرهف سمعه محاولًا التقاط أي كلمة قد تفلت من أسر الجدران حوله .
وما كان الأمر سوى ثواني قليلة من الصمت حتى ارتفع صوت في الارجاء يهتف :
_ ولماذا منتصف مُحرم بالتحديد ؟! ثم الليلة هي ليلة الخامس عشر من محرم، أي بعد قليل من الساعات، الآن تخبرنا ؟!
_ ليس لشيء، موعد كغيره، هذا اليوم ستكتمل الصفوف وتنتهي الاستعدادات، لذاك رتبت الأمر عليه وايضًا كي يصبح تاريخًا مميزًا ليكون ذكرى نكبتهم .
ضيق نزار عيونه وقد بدأت دقات قلبه تتصارع وهو يحاول التوصل لما يتحدثون عنه، إذ يبدو أن ما يخطط له أصلان سيكون القاسمة لتماسك الممالك.
ابتهل لربه أن يذكر أحدهم أي شيء متعلق بخطة أصلان او حتى يلمح لها .
لكن لا شيء فقط غموض وكأنهم أنفسهم لا يعلمون ما يتحدثون عنه .
شعر نزار بغضب كبير يتلبسه وقد شعر برغبة عارمة في اقتحام المكان وانتزاع ما يريده منهم بالقوة، لكن آخر ذرات تعقله منعته الأمر وهو يتنفس بصوت منخفض يحاول أن يتمالك نفسه .
_ اللعنة عليك أصلان، تحدث بما جئت به أيها الوسخ .
أما عن أصلان في الداخل فقد كان يجلس مراقبًا الجميع حوله باهتمام شديد، ليباغته أحد الرجال متسائلًا :
_ إذن من سينفذ ما تخطط له ؟! هل هو حربي باعتباره الموجود في الوقت الحالي داخل حدود الممالك ؟؟
شرد أصلان وصمت وكأنه لا ينتوي الرد، قبل أن يتحدث بهدوء :
_ لا تشغل عقلك بمن ينفذ، المهم أن يُنفذ ..
صمت ثواني وهو يطيل النظر للرجل يتحدث بهدوء :
_ فثط أشغل عقلك بما سنفعله نحن، فما سيحدث في ذلك اليوم ليس الخطة الأساسية، بل التمويه للخطة .
_ تفجير الممالك ليس الخطة ؟! إذن ما هي الخطة يا ترى ؟!
كانت جملة ساخرة خرجت من فم أحد الرجال لتصيب نزار في مقتل، وهو يشعر بالمكان يدور حوله وقد سقطت الكلمات أعلى رأسه كالصاعقة، تفجير الممالك ؟؟ سيفجرونها ؟! كيف ومتى ومن سيفعل ؟؟ أسئلة كثيرة دارت داخل عقله يحاول إيجاد إجابة لها، لكن الحصيلة صفر .
ابتلع ريقه يرهف السمع لكلمات أصلان ردًا على الرجل :
_ الوصول للحكم المطلق..هذه هي الخطة .
اتسعت البسمات وقد بدأت الأحلام تتطاير في الغرفة، وكلٌ يمني نفسه بمنصب عالٍ، وأموال طائلة، وحاشية ونساء.
تراجع نزار حينما استشعر قرب انتهاء الحوار، ينظر حوله بحثًا عن مخرجًا يهرول خارج المكان وهو يحاول التنفس والتفكير في القادم، هل يرسل لهم رسالة بما وصل له، أم ينتظر حتى يجمع ما يكفيه من المعلومات ؟!
وبمجرد أن خطى خارج المكان استقبله الوليد مبتسمًا :
_ إذن مــ
لكن في هذه اللحظة لم يكن نزار يبصر أمامه من شيء يهرول بعيد عنه وقد استقر على إرسال رسالة لهم يبلغهم بما وصل له، يحثهم على البحث من جهتهم في حين ينتهي هو من جهته فالأمر لا يبدو مزحة، ولا يبدو بعيدًا، بل بعد ساعات يبدأ اليوم الذي حددوه...
يدعو الله داخل صدره ألا ينجح لهم بيعة ولا يجبر لهم خاطر، رحمة بشعوب لا تعلم ما يحاك لأجلها في الخفاء ...
_ لعنة الله على أعوان ابليس، لعنة الله عليك أصلان.......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ أخبرتك أن حالتها لن تتحسن هنا، ساعدني لنخرجها من منزلك لمشفى القصر، الفتاة تحتضر .
نظر إلياس برعب صوب وجه فاطمة والتي لم تعي بعد ما يحدث حولها ولم تستفق حتى هذه اللحظة، كان يمتلك أملًا خافتًا أن تستيقظ ولا يحتاج لإخراجها من منزله، اقترب منها وهو يتحسس وجهها بخوف شديد وبيد مرتجفة سار مع ملامحها.
ابتلع ريقه بصعوبة يرفع عيونه صوب الحكيم والذي كان يتابعه بغضب مرعب :
_ إلياس يا بني هذه زوجتك تحتضر، ما بالك تعاند فيما يخص صحتها هل جننت ؟؟
رفع إلياس نظراته صوب الحكيم وكأنه يفكر جديًا في الأمر لينفض الرجل يديه بغضب وهو يردد بصوت حانق :
_ يا فتى اتقي الله، المرأة شاحبة شحوب الاموات ولا تتحرك، وأنت تصر أنها ستفيق، ولم تفعل، لا امتلك المزيد لأقدمه لك، هنا وانتهى دوري .
ختم كلماته يتحرك بعيدًا عن المنزل تاركًا إلياس يراقب فاطمة برعب باكيًا عليها، يميل بالقرب منها يقبل جبهتها وهو يهمس بصوت منخفض خائف:
_ عزيزتي فاطمة لا بأس، سوف ...سوف أساعدك في ...سوف تصبحين بخير عزيزتي لا تخافي.
نظر حوله وكأنه يبحث عن شيء ضائع قبل أن يعود بنظراته لها يهتف بصوت منخفض :
_ سأفعل أي شيء لتصبحي بخير عزيزتي، حتى لو كان الذهاب بكِ لآخر البلاد وليس فقط قصر سفيد .
ختم كلماته يطبع قبلة صغيرة على كفها، ومن ثم تأكد من إحكام الغطاء عليها، يتحرك خارج الغرفة يفكر في تحضير طعام علها تستيقظ جائعة وكم يتمنى أن تصبح بخير قبل الذهاب للقصر .
نظر لها نظرة أخيرة وقد اتخذ قراره، من اليوم وحتى صباح الغد إن لم تستيقظ، سيتحرك بها لمشفى القصر .
تنهد بتعب ووجع كبير يغلق الباب بهدوء خلفه.
أما على الفراش فبمجرد أن سمعت صوت إغلاق الباب، حتى فتحت عيونها ببطء وهي تنظر صوب الباب ببسمة صغيرة ووجه شاحب باهت لشدة الإرهاق، تقاوم الدوار الذي أصابها، تمني نفسها بمساعدة ستنالها حينما تخرج من هذا المنزل، ستبحث عن الجنود في قصر سفيد وستبلغ الملك ليساعدها، فلا تعتقد أن العجوز سيتمكن من مساعدتها ضد إلياس.
وقد ترددت كلمات إلياس السابقة في أذنها وهو يعد الحكيم أنه سيذهب بها للقصر إن لم تستجب للعلاج، وهي لم يكن أسهل عليها من ادعاء المرض والذي أصابها بالفعل .
نظرت للسقف وهي تهمس بصوت منخفض :
_ أين أنت يا المعتصم ؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فُتحت الأبواب على مصراعيها، يتحرك للداخل تيم بملامح جامد يتبعه الكثير من الرجال، وقد صنع له الجميع طريقًا ليمر من بينهم .
وصل واخيرًا لمنتصف القاعة وخلفه يقف العديد من الرجال ليبتسم بسمة صغيرة وهو يشير للملك لمن خلفه من الرجال :
_ مولاي الوزير وجميع معاونيه.
حرك أرسلان عيونه بهدوء صوب الوزير والذي كان لا يفهم ما يحدث في المكان وقد جاء به تيم دون أن يمنحه حتى فرصة إدراك ما يجري في المكان.
تحرك تيم جانبًا يترك للملك الفرصة للتحدث والتحقيق معهم، وارسلان فقط اكتفى بالنظر لهم ثواني قبل أن يهز رأسه لهم مرحبًا بصمت .
ولم يتحدث أحدهم بكلمة واحدة يكسر بها الصمت، وقد كان أرسلان في هذه اللحظة يراقب الجميع بأعين غامضة لا تشي بما يدور داخل صدره .
فقط يراقب ينتظر شيء لا يعلمه غير، لتمر دقائق دون أي جديد حتى بدأ الجميع في التململ بضيق وملل، وارسلان فقط يراقب بصبر يُحسد عليه .
يضم يديه لصدره وهو يراقبهم بهدوء شديد، قبل أن تمر دقائق أخرى ويبصر الجميع تحرك المعتصم داخل المكان وخلفه الكثير والكثير من الرجال يتحدث بهدوء واحترام :
_ مولاي، جميع تجار العاصمة هنا كما أمرت.
وقف الرجال خلف المعتصم بهدوء واحترام شديد وقد تحدث أحدهم بنبرة واثقة رزينة :
_ أمرت بمجيئنا مولاي، فاللهم خير .
راقبهم أرسلان بهدوء قبل أن يبتسم لهم بسمة صغيرة يرحب بهزة رأس فيهم، ومن ثم تحرك بعيدًا عن العرش يقترب من موضع وقوف الجميع يراقبهم بأعين غامضة قبل أن يتحدث بهدوء وهو يشير للتجار بيده :
_ تفرقوا رجاءً، اتركوا مسافة بينكم .
نظر له البعض بعدم فهم، والبعض الآخر بفضول وترقب للقادم، وارسلان فقط يراقبهم منتظرًا أن ينفذوا أوامره، وسلمى فقط تتابع ما يحدث بهدوء شديد تنتظر الخطوة التالية لزوجها .
أما عن أرسلان فقد كان ينتظر أن ينفذ التجار أوامره، ليتحدث أحدهم اخيرًا بعدما شعر بالريبة :
_ هل ...هل صدر منا شيء خاطئ مولاي ؟!
_ لا، لا شيء فقط نفذوا ما طلبته رجاءً.
نظر التجار لبعضهم البعض، قبل أن يتفرقوا بعيدًا عن بعضهم البعض، ينظر أرسلان لهم، ومن ثم نظر صوب الوزير يتحدث بهدوء شديد :
_ الغلال التي أمرت بتوزيع نصفها، هل تأكدت من صلاحيتها قبل التوزيع ؟!
هز الوزير رأسه بنعم يدافع عن نفسه بهدوء ظنًا أن تهمته في هذه اللحظة هو الإهمال:
_ نعم مولاي، لقد أشرفت بنفسي على توزيعها على التجار المقيد اسمائهم في دفاتر المملكة وراقبت حركة البيع في أول يوم، ومن ثم أناب عني المستشارين .
هز له أرسلان رأسه ومن ثم نظر للتجار الذين اصطفوا أمام الجميع، يتحدث لتيم :
_ هل أحضرت جميع التجار يا المعتصم، متأكد أنك لم تغفل عن أحدهم ؟؟
_ الجميع هنا مولاي .
ابتسم أرسلان وهو يشير للشعب بهدوء شديد :
_ أعتقد أنكم تتذكرون بالفعل من اشتريتم منه الغلال وتعاملتم معه، تفعلون صحيح ؟!
هز البعض رؤوسهم بثقة والبعض الآخر لم تصدر منه حركة ومازالت الريبة تعلو وجوههم في انتظار ما سيصدر من أرسلان.
بينما الأخيرة أشار صوب التجار المرتصين بجدية :
_ إذن ساعدوني لنجد رأس الضُر الذي اصابكم وليوجه كلٌ إصبعه على التاجر الذي ابتاع منه الغلال المسممة.
اتسعت أعين التجار بصدمة كبيرة وقد بدأت حركة قلق ورعب تدب بين صفوفهم والبعض يحاول التحدث مدافعًا عن نفسه، لولا يد أرسلان التي رفعها يمنع الجميع من نطق كلمة واحدة .
يبتسم مشيرًا لشعبه بهدوء شديد :
_ الغلال خرجت دون شائبة تشوبها من مخازننا، إذن فالعيب إما يكون من التاجر او المستهلك ذاته، تحركوا واشيروا على التاجر الذي ابتعتم منه الغلال، أم أنكم لا تتذكرونه ؟؟ لا يعقل أن تنسوا وجه الرجل الذي كُلف بمنطقتكم ليوزع عليها الغلال .
نظر صوب الوزير وكأنه يتأكد مما يقول :
_ حسب معرفتي أن كل منطقة بالعاصمة لها محل خاص يقبع في بدايتها به تاجر يتسلم من الغلال ما يكفي حاجة المنطقة التي تقع تحت أمرته صحيح ؟!
هز الوزير رأسه بنعم، وقد كان ذلك النظام هو المتبع منذ عقود طويلة، فبغض النظر عن المحال الصغيرة التي تقبع في كل ركن من أركان العاصمة والبلاد بأكملها، كان هناك مخزن رئيسي يشرف على توزيع الغلال التي يضخها القصر للشعب بأسعار مخفضة، وأحيانًا يوزع ذلك المخزن ما يفيض عن حاجتهم للمحال الصغيرة، إذن إن كان هناك أي شيء قد حدث خارج القصر فسيكون بدايته المخزن والذي يديره التجار الرسميين له.
نظر أرسلان صوب الشعب ينتظر منهم حركة تدل على سماعهم لكلماته، وبالفعل تقدم بعض الرجال يدورون بعيونهم بين التجار ليستقر كل واحد على تاجر مختلف، ومنهم من اجتمعوا على أحدهم والتوتر يعلو في الإرجاء، بينما بعض الأفراد لم يتحركوا من أماكنهم أو حتى خطوا صوب التجار، كل ذلك وارسلان يراقب ما يحدث يبحث بعيونه عن أكثر شخص اجتمع عليه الرجال .
وبعد دقائق طويلة انتهى الأمر بالجميع يقف البعض عن التجار مشيرين لهم، والبعض الآخر يراقب دون أن يأتي يحركة واحدة، والبعض يتابع ما يحدث .
وارسلان فقط نظر للرجال يتأكد بهدوء :
_ متأكدون أن هؤلاء هم من ساهموا في توزيع تلك الغلال عليكم ؟!
هز أحد الرجال رأسه يتحدث بقهر شديد :
_ نعم مولاي، وكيف انسى وجه من تسبب في سلب ابنتي من بين احضاني ؟!
_ وأين هي الآن ؟؟
انكمشت ملامح الرجل بعدم فهم ليتبع أرسلان كلماته يردد بهدوء :
_ أين هي ابنتك الآن ؟! تركتها ملقاة تنازع الموت لتأتي مطالبًا برحيلي ؟!
رمش الرجل وهو ينظر حوله بعدم فهم وقد ألجم سؤال أرسلان لسانه، لكن أرسلان لم يهتم وهو ينظر للباقيين يتأكد منهم أن هؤلاء هم التجار الذين باعوهم الغلال الفاسدة، وحينما حصل على تأكيد من الجميع، صاح بصوت جهوري رن صداه في الأجواء:
_ حــــــــــراس، ألقــــــــوا القبض عليهم ...
وفي ثواني انتفض الاجساد وهم يبصرون الحراس يهرولون صوب التجار، يتابعون ما يحدث، لكن الصدمة كانت أن الحراس لم يأسروا التجار، بل أسروا المتمردين ممن اوشوا بهم ..........
وعم الصمت فجأة وكأن صاعقة ضربت المكان ولا أحد يفهم ما يحدث في هذه اللحظة .
وسلمى تتابع ما يحدث بأعين متسعة وبسمة مصدومة وملامح متشجنة تتمتم ببرتغالية دون شعور :
_ Você é um enganador. ( أيها المخادع )
تابع أرسلان نظرات الرجال المصدومين من أسرهم ببسمة صغيرة ثم ردد ببساطة كلمات أصابت الجميع بصدمة وقد أدركوا أنه ليست جميع الالعاب ستنطلي على أرسلان.
_ لا يعقل أنكم لم تتعرفوا على تجار الحي الخاص بكم، هذا غريب صحيح !!
تحدث أحد الرجال وهو يحاول الأفلات من يد أحد الجنود:
_ لكننا ...تعرفنا عليهم للتو، هذا هو البائع الذي باعني الغلال المسممة، هل تحاول أن تخفي أفعالك بأسرنا والجميع شاهدون؟! أي وقاحة تمتلك مولاي ؟!
_ أنا حتى هذه اللحظة احترم مكانتي أمام الجميع كملك وإلا لأريتك كيف تكون الوقاحة و...مهلًا أنا الآن لست ملكًا بالفعل.
صمت ثواني وكأنه يستوعب ما يحدث، ومن ثم تحرك صوب الرجل يسقطه ارضًا بعدما أسقط لكمة قوية أعلى فكه يردد ببسمة واسعة :
_ سأكتفي بهذه ردًا، احترامًا لكبار السن والأطفال والنساء، وحينما انفرد بك، سأريك كيف تكون الوقاحة.
تحدث أحد رجال أصلان والذين كانوا بالفعل متنكرين بين الشعب يحاول أن يتحدث بكلمات متماسكة ويده ما تزال اسيرة الجنود :
_ نحن لم نفعل سوى ما امرتنا به، تعرفنا على التجار.
_ من أخبرك أن هؤلاء تجار ؟!
تحدث الرجل وهو يشير صوبهم محاولًا الحديث بكلمات متماسكة وقد شعر بالحيرة وعدم الإدراك يبوح في الأجواء :
_ أنت للتو أخبرتنا أنهم تجار و....
قاطعهم أرسلان ببسمة واسعة مستفزة :
_ وقد كذبت، هؤلاء ليسوا تجار، بل هم جنودي عزيزي ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان يتحرك أمام بوابة القاعة يراقبها من بعيد وكأنه يبحث لعيونه عن مدخل ليسد رمق فضوله الذي يأكله اكلًا، لكن لا شيء ظهر له، سمع صوتًا معترضًا من رفيقه الذي كان مستقرًا على كتفه ليزفر خالد بصوت مرتفع :
_ أهدأ وتوقف عن التحرك، واصمت أصوات اعتراضاتك تلك ودعني أعلم ما يحدث .
ردد موزي بعض الأصوات المحتدة وهو يود التحرك بعيدًا عن كتف خالد يبحث له عن مرتعًا آخر بعيدًا عن هذا المكان، لكن خالد والذي كشف نيته امسك بفخذه قبل القفز يلصقه بكتفه حانقًا :
_ ابقى هنا أيها المتخاذل، دعنا نعلم ما يحدث ونرحل ببساطة، لن أتركك ترحل ولن اتحرك حتى أعلم ما يحدث هنا و....
فجأة تلاشى اعتراضه وتلاشى إصراره وتلاشت معهم نيته في التعسكر أمام بوابة القاعة ليعلم ما يحدث، وهو يبصرها تتحرك في الحديقة المقابلة لممر القاعة، تلاعب صغير ببسمة واسعة جعلت خالد يفتح فمه ببسمة بلهاء ينفض موزي عن كتفه مسقطًا إياه ارضًا دون اهتمام، ومن ثم تحرك صوب الحديقة هائمًا على وجهه .
وموزي يجلس ارضًا يردد أصوات مرتفعة مزعجة لم يهتم لها خالد حتى ولم يعرها أي انتباه، يكمل طريقه ببسمة واسعة وحينما استقر في الحديقة ردد بانبهار وقد أبصر مجددًا وجهها دون غطاء :
_ حور ...
رفعت حور عيونها عن عابد تحركها في الإرجاء بحثًا عن صاحب الصوت لتصطدم في وجه خالد المبتسم والذي اقترب منها دون وضع أي اعتبارات لأي حدود يجب فرضها بينهما ضاربًا بكل ذلك عرض الحائط:
_ ليلة رائعة ها؟! تبدو السماء اليوم صافية مع كل هذه النجوم المتلئلئة، لكن يبدو أن إحداهن سقطت ارضًا ليغشى نورها نور جميع النجوم .
حدقت به حور قبل أن ترفع عيونها صوب السماء والتي كانت خالية تمامًا من أي نجوم، ومن ثم عادت بنظرها مجددًا له تبتسم بسخرية، أما عنه فلم يهتم بأي شيء قدر اهتمامه بها :
_ إذن أخبريني ما يدفع فتاة جميلة مثلك للسهر وحدها في هذا الوقت ؟!
يتحدث ويتغزل ويفتتح أحاديث كثيرة، وحور فقط صامتة لا تصدر كلمة واحدة تراقبه بعجز عن فهم تفكير هذا الرجل .
واخيرًا وبعد صمت تحدثت بصوت منخفض :
_ ماذا تريد أنت ؟!
ابتسم لها وهو يجلس ارضًا جوارها يراقبها بأعين مسحورة بها :
_ جيد أنكِ انتقلتي لصلب الموضوع، أعلم أنكِ لا تطيقين صبرًا لمعرفة سبب مجيئي لذلك سأريحك وأخبرك أنني لا اعلم، أنا فقط أحب الجلوس رفقتك واعلم أن هذا خطأ، أنتِ امرأة متزوجة وهذا خاطئ، لكن ما حيلتنا تجاه قلوبنا ؟!
كانت تسمعه وهي تشعر بالبلاهة من كلماته، بينما هو لم يرحمها وهو يسقط على مسامعها كم أن الحب موجع في حالتهما، لكن ما حيلة قلبيهما وقد كُتب عليهما لعنة الحب وستلاحقهما حتى قبريهما .
_ هل أنت احمق ؟!
كان هذا الرد الوحيد الذي صدر منها بعد كل ما سمعت منه، وهو فقط فتح عيونه بصدمة من ردها وكأنه لم يتوقع هكذا رد بعدما يقتحم على الفتاة جلستها الهانئة ويردد كلمات غريبة على مسامعها وكأنها عاشقين غدرت بهما الحياة .
نهضت تنفض ثيابها وهي تحدق فيه بضيق، تشير لعابد أن يقترب :
_ أي حب محرم هذا وأي زوج؟! هل جننت أنت ؟!
رفع عيونه لها بلهفة:
_ لا تخبريني أنكِ مطلقة ؟!
اتسعت عيونها بصدمة أكبر من إصرار ذلك الرجل على موقفه، هزت رأسها بيأس وهي تتحرك من أمامه تردد كلمات حانقة منه ومن تصرفاته وهو فقط يتابعها بعدم فهم حتى شهق فجأة يردد بإدراك :
_ أيُعقل ؟؟ هي أرملة ؟؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن بعد كلمات أرسلان حدث كل شيء بسرعة إذ تم سحب الرجال الذين القوا بالتهم جزافًا على جنوده باعتبار أنهم التجار الذين باعوهم الغلال المسممة، سُحبوا جانبًا ليواجه أرسلان المتبقي من المعترضين والذين لم يتحركوا لتوجيه التهم .
_ حينما يرغب أحدهم في إسقاط بلاد لا يسقطها بالأسلحة وقد جرب الأمر مسبقًا معهم وفشل، بل سيحاربهم بالنفوس والعقول، وأنتم بضعف إيمانكم وقلة بصيرتكم كنتم لقمة سائغة في أفواه هؤلاء الملاعين، يصرخون برحيلي فتكون اصواتكم صدى لهم، يلوحون برايات الاعتراض فتكون اكفتكم أول من يرفرف بالراية، ولم تفكروا بتعقل لثانية واتبعتم الصوت الأعلى .
ختم حديثه يشير صوب الكثير من المندسين ولم يتبقى من المعترضين سوى القليل فقط وقد اكتشفوا للتو أن الصوت الأعلى لهم كان لمندسين، على الخجل أوجه الجميع وقد شعروا بتسرعهم، ليتحدث أحدهم بقلة حيلة :
_ لكن...لقد ...سقطوا أمام عيوني وابنتي لقد ...
صمت ولم يستطع التحدث بكلمة واحدة وقد شعر ببطلان كافة الحجج ليدرك أرسلان ما يدور داخل عقل الشيخ في هذه اللحظة، يتحرك صوبه بهدوء شديد يربت على كتفه :
_ لقد أرسلت الجنود لسحب الغلال من التجار وكذلك أرسلت قافلة طبية لعمل معاينة كاملة لجميع من تناول الغلال، ادرك ما تشعر به، لكن ليس بالضرورة أن تلقوا بمصائبكم امامي، فأنا وإن أردت بكم سوءًا، ما حاجتي لإعمار البلاد وتكبد كل ذلك العناء، وما حاجتي لزراعة غلال وتكلف خسائر كثيرة فقط للتخلص منكم، يمكنني بكل بساطة ترككم للموت جوعًا، فهذا سيكون أوفر لي .
ختم كلماته ببسمة جعلت الرجل ينظر ارضًا بخجل، بينما رفع أرسلان عيونه صوب وزيره يردد بجدية :
_ أنت المسؤول أمامي عن معرفة كيف وصل السم للغلال، ومنذ اليوم وصاعدًا لن تخرج حبة ذرة واحدة للأسواق قبل التأكد أنها خالية من أي سوء .
رفع عيونه صوب المندسين يتحدث بهدوء :
_ أما عنكم فما زلنا نمتلك الكثير لنتحدث به سويًا، خذوهم للسجون حتى أنظر في أمرهم.
وبالفعل جرهم الحراس للخارج تحت صيحاتهم وأصوات الاعتراض منهم والاستنكار، وكلٌ يصرخ يحاول الإفلات.
وبعد دقائق وحينما خلت القاعة منهم، حرك أرسلان عيونه بين الجميع، ثم هز كتفه ببساطة:
_ الآن وقد انتهت المحاكمة، وباعتباري ملك حقير ظالم، فسيتحتم عليكم تحمل وجودي على عرش مشكى حتى نخرج من هذا النفق المظلم وحينها امنحكم مشكى على طبق من ذهب تفعلون بها ما تشاؤون ولا شأن لي .
كان يتحدث بكلمات بسيطة وكأن الأمر لا يعنيه رغم مرارة حلقه، وقد رفضت كل ذرة داخل صدره ما ينطق به، فمشكى كانت بلاده وبلاد أجداده، الآن يأتي للتخلي عنها بكل بساطة .
ابتلع ريقه بهدوء ولم يكد يتحدث بكلمة حتى ارتفع صوت رجل وهو يتحدث بلهفة مقاطعًا كلمات الشيخ الذي كاد يعترض :
_ لكن ...مولاي نحن لا ...لا يمكننا أن نفعل ذلك و...هذه مشكى لن يحكمها غيرك، ليس بعد كل هذه السنوات .
ترددت الكلمات في الإرجاء بالموافقة والتأييد وارسلان يتابعهم بهدوء دون كلمة واحدة، ينظر خلفه بهدوء وبأعين ضبابية صوب سلمى التي ابتسمت له بمؤازرة .
ليتنهد أرسلان بصوت مرتفع وهو يتمنى أن ينتهي اليوم على خير وقد اثقل كل ما حدث كاهله يشعر بعدم قدرته على التنفس بشكل سليم وقد قرر في قرارة نفسه أن ينعزل بذاته بعيدًا عن الجميع وفي ثواني وحينما أبصر المعتصم يتولى الأمور من حوله لتهدئة الجميع وتولي أمور التحكم في الأمور نيابة عنه حينما أبصر ما يمر به، حتى تحرر أخيرًا ينطلق بعيدًا عن الجميع بعد نظرة أخيرة صوب المعتصم الذي اقترب منه يربت على كتفه بحنان اخوي كبير :
_ هونها تهون مولاي .
ابتسم له أرسلان بسمة صغيرة باهتة :
_ تهون، عساها تهون قريبًا يا المعتصم.
ابتسم المعتصم بسمة لم تصل لعيونه حتى فما يدور داخل صدره من حروب وشعور قوي بالعجز يقتله ويمنعه من الابتسام حتى، لكن رؤية أرسلان يتوجع تؤلمه أكثر، ليربت عليه وهو يضغط على كتفه بمؤازرة:
_ بإذن الله تكون مولاي، ومتى استعصى عليك شيئًا، دعها لرب العباد يدبرها .
ابتسم اخ أرسلان بسمة صغيرة يبتلع ريقه مرددًا بصوت منخفض :
_ ساعد...ساعد الملكة لتصل لغرفتها بسلام وضع حراس عليها وتأكد أنها لا تحتاج لشيء .
ومن ثم رحل بكل بساطة رافضًا أن يستدير لها حتى كي لا تبصر حزنه أو تطلع على اعمق نقاطه السوداء داخل صدره، وهو يعلم ذاته بمجرد أن ينظر لعيونها قد ينهار ارضًا يطالبها بمساعدة لتحرير روحه ..
لكن سلمى والتي علمت ما يدور بخلده تحركت عن العرش تهبط بسرعة خلفه، ليتحرك لها المعتصم ينفذ أوامر الملك يهتف بجدية :
_ مولاتي رجاءً را....
قاطعته سلمى بإصرار وقد اسودت نظراتها مقررة أن اليوم سيكون الاخير لها في المحاولة مع أرسلان، فإما أن يرضخ لها ويعترف بها شريكًا لحياته في الضراء قبل السراء، أو تكون النهاية بينهما .
_ ليس اليوم يا المعتصم، ليس اليوم ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحركت عربته داخل بوابات قصر سفيد وهو ينظر حوله بهدوء وجواره استقر الحكيم والذي أصر على اصطحابه وعدم تركه ليتأكد أنه اوصل فاطمة لمشفى القصر حتى طبيب القصر .
زفر إلياس أنفاسه بغضب وتوتر وهو يتوقف بالعربة على جانب المشفى الخاصة بالقصر يهبط عنها وهو يتحدث بحنق دون شعور :
_ ربما كنت تستطيع مساعدتها دون الحاجة للمجئ هنا يا عم، أنا لا أرتاح للتعامل في الخارج مع أحد غريب ولا أثق في أحد لمعالجة زوجتي .
نظر له الحكيم ولم يجبه أو يناقشه في شيء وهو لم يتوقف منذ تحركهم من المنزل عن الحديث وقد رفض الحكيم أن ينتظر إلياس للصباح مصرًا على إحضارها للمشفى في أسرع وقت .
تحرك تاركًا إياه يردد بجدية :
_ سأُعلم الطبيب بوصولنا، لقد أرسلت له رسالة مسبقة بالفعل ..
ومع هذه الكلمات تركه يتحرك صوب المشفى كي ينادي الطبيب، تاركًا إلياس يراقب فاطمة النائمة بشحوب بجزن يتحسس وجهها بحنان :
_ لا بأس، سأفعل أي شيء لاجلك حبيبتي، فقط كوني بخير لأجلي فاطمة.
قاومت فاطمة إبعاد يده عنها، وهي تدعي الإغماء، بينما هو يراقبها بحب دون القدرة على إبعاد عيونه عنها، ولم يستفق سوى على صوت انطلق خلفه :
_ مرحبًا .
استدار إلياس ببطء صوب المتحدث ليواجهه شاب وسيم يبتسم له بلطف معرفًا عن نفسه وهو يمد له يده :
_ أنا الطبيب مهيار، طبيب القصر .
نظر إلياس صوب يده ثواني قبل أن يصافحه بهدوء يشدد قبضته على يد الاخير متحدثًا بغيرة مشتعلة :
_ أنت من ستفحص زوجتي ؟؟
نظر له مهيار بتعجب، ومن ثم نظر ليده يسحبها من بين كفه مجيبًا بهدوء :
_ لا، لقد أرسلت لمن سيساعدها، أنا سأشرف فقط على حالتها، وسيشرف أحدهم على فحصها وعلاجها بالشكل المطلوب لا تقلق .
نظر له إلياس ثواني قبل أن يهز رأسه ببساطة، ومن ثم أبصر جسد انثوي يقترب منهم بهدوء دون أن يظهر منها شيء حتى توقفت أمامهم تردد بنبرة رقيقة :
_ السلام عليكم .
ابتسم مهيار وهو يشير صوب المرأة معرفًا الجميع عليها :
_ ها هي المسؤولة عن مساعدة زوجتك قد أتت، سمو الأميرة تبارك ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تسحب خارج الجحر وهو يحمل بين كفيه رسالة كتب بها كل ما يريد إيصاله للمالك، ولأن سبز كانت الاقرب له والاقرب للجحر، فقد وقع اختياره عليها وتحرك بخفة صوب الحدود الخاصة بالجحر يوصل الرسالة للملك بارق ليحذرهم مما ينتوي أصلان.
ظلام الليل كان ستار له يختفي بين جنباته، يعلم جيدًا يكيف يخرج دون أن يشعر به أحدهم وكيف يوصل رسالة بكل بساطة، وقد فعلها سابقًا بالفعل .
لكن في خضم أفكاره وهو يشجع نفسه على الانتهاء من الأمر بسرعة، نسي أن الجحر هذه المرة لا يقع تحت امرة أنمار العزيز، بل كان وللأسف الشديد تحت حكم أصلان...
الرجل الذي استحق من بين الآلاف من الجنود أن يحمل لقب قائد جيوش سبز بأكملها عن جدارة.
كانت أنفاس نزار بطيئة وكأنه يخشى أن يسمع أحدهم صوت أنفاسه، وبمجرد أن وصل للحدود الخاصة بالحجر حيث تقبع ثغرتهم التي أخبره بها ملك الثغرات " الوليد" بدأت أنفاسه تعلو وتعلو وهو يهرول بشكل جنوني خارج المكان بسرعة كبيرة يتحرك في طرقات محفوظة، يبحث بين الاشجار عن الحصان الذي تركه استعدادًا لهذه اللحظة .
وبالفعل بمجرد وصوله للشجرة التي ربط بها الحصان، حتى ازدادت هرولته وانفاسه، وما إن صعد فوق ظهره حتى نغزه بسرعة يتحرك في طريقه لأبى والتصميم يعلو نظراته والرعب يسكن قلبه .
يحمل بين يديه رسالته التي خط بها كل ما وصل له، لكن ما كاد الحصان يتجاوز عدد خطوات معدودة حتى شعر به نزار يتهاوى مطلقًا صهيل مرتفع حطم سكون الليل وقد بدى أن الحصان ينازع الموت .
وقد كان، فما إن تحرك بخيله حتى أصاب الحصان سهمًا أسقطه ارضًا بعنف شديد مما تسبب في ارتفاع صرخة نزار والتي كانت مصدومة أكثر منها متألمة ..
لم يشعر سوى بجسده يتدحرج بعنف كبير مع الحصان ارضًا، وقد كان ثقل الأخير يقبع فوقه، ليكبت نزار صرخة أخرى كادت تخرج من فمه يحاول سحب جسده من أسفل الحصان وقد بلغ من الوجع مبلغه، لكن كل محاولاته توقفت تمامًا حينما شعر بظل يخفي ضوء القمر عنه .
رفع عيونه ببطء شديد وقد علم في نفسه من يكون صاحب الظل، وصدق حدسه حينما أبصر بسمة أصلان الذي همس له بصوت بدا كالفحيح :
_ ليس من الآمن التحرك في غابات سبز في مثل هذا الوقت المتأخر سمو الامير خاصة في وجود بعض الاشخاص السيئين في الإرجاء، تمامًا مثلنا ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبواق الحرب انطلقت، أو ربما تلك فقط اصداء متأخرة، وربما الحرب كانت قد بدأت بالفعل دون أن نعي ذلك، والآن فقط ابصرنا نيرانها ....