رواية اصوات الليل الفصل الخامس5والاخيربقلم فادي مسالمه


رواية اصوات الليل
 الفصل الخامس5والاخير
بقلم فادي مسالمه



مرّت أشهر على تلك الليلة الممطرة، حين طلب سامر يد ريما بلا ضجة، بلا وعودٍ منمّقة… فقط بكفٍ دافئ، وصوتٍ يعرف الطريق إلى القلب. 

بدأت حياتهما معًا بخطواتٍ بسيطة: بيت صغير على أطراف القرية، يطلّ على الحقول، فيه نافذة تُشبه روح ريما، وفنجانان من القهوة لا يبردان أبدًا. 

ريما بدأت تنفّذ حلمها ببطء: المكتبة. جمعت الكتب من بيوت القرويين، استعارت بعضها من مدارس قديمة، وافتتحت أبواب المكان الذي يشبه قلبها: بسيط، مليء بالحكايات، وتدخله الشمس كل صباح كأنها تقرأ معها. 

سامر، بدوره، قرر أن لا يغادر القرية ثانية. علّق شهاداته على جدار الذكريات، وبدأ يكتب… كان يكتب عن العودة، عن فقدان المدن، وعن لقاءٍ غير حياته. ريما كانت أول قارئة… وأول محرّرة. كانت تصحّح له الإملاء، وتربّت على كتفه عندما يكتب عن الوحدة. 

وفي أحد الأيام، بينما كانت ترتّب الكتب، سقط منها دفتر صغير مغلف بالجلد… دفتر "ذكرياتهما". فتحت أول صفحة، وقرأت ما كانت كتبته منذ أشهر: 

"في عينيك، رأيت الضياع واليقين معًا. وفي قلبي، وُلد وطن لا يعرفه سواك." 

ابتسمت. ثم قلبت الصفحات، لتجد رسالة منه، لم ترها من قبل. 

"إلى ريما،
إذا قرأتِ هذا في يومٍ رمادي، فتذكّري:
أنا لم أكن يومًا عابرًا في حياتك، بل كنتُ صوت الليل الذي اختاركِ ليسكن فيه.
وإذا تاهت أصوات القرية، وبقيتِ وحدكِ في المكتبة، فقط افتحي النافذة…
ستجدينني هناك، في الريح، في صوت الحقول، في أوراق الخريف… أقول لكِ مجددًا:
أنا لم أرحل." 

** 

ذلك اليوم، عاد سامر من المشفى. لم يكن مرضه قويًا، لكنه كان كافيًا ليتعلّما أن الحياة لا تُؤخذ كأمر مُسلّم به.
جلسا قرب المدفأة. لم يتكلما كثيرًا.
اكتفيا بالنظر.
ثم قالت ريما، بصوتٍ يخرج من قلبٍ مطمئن: 

"سامر… لو متّ قبلي، لا تترك صمتك ورا روحك. خليه يضلّ يزورني كل ليل." 

ضحك، ثم أمسك يدها، وهمس: 

"ولو متّ قبلك… ما رح موت، لأنكِ كنتِ بداية حياتي." 

** 

في صباحٍ شتوي، كان الهواء باردًا لكن ناعمًا. فتحت ريما النافذة، ودخل الضوء. لم يكن سامر في الغرفة. ظنّت أنه خرج ليحضر الخبز من المخبز القريب. 

لكن رسالة قصيرة كانت تنتظرها على الوسادة: 

"ذهبتُ لأرى إن كانت الشمس لا تزال تشرق من دونك." 

** 

سامر لم يعد ذلك الصباح. 

قالوا إنه فقد الوعي في الطريق… وإن قلبه توقّف للحظات. 

لكنه حين استيقظ بعد يومين، في سريره بالمشفى، لم يسأل عن الأطباء، ولا عن حالته… 

سأل عن ريما. 

** 

مرت سنوات.
صار البيت القديم مليئًا بالصمت… لكن الصمت كان جميلًا. 

ريما لم تتزوج أحدًا. لم تملأ الفراغ، ولم تحاول.
كانت تفتح المكتبة كل صباح، وتنظّف صورته في الإطار، وتضع دفتر الذكريات في واجهة الكتب.
كل يوم أحد، كانت تجلس قرب شجرة الذكريات، تقرأ بصوتٍ خافت رسالة سامر. 

وفي أحد الأيام، جاءت طفلة صغيرة إلى المكتبة وسألتها:
"انتي بتحبي مين؟" 

أجابت ريما بهدوء:
"بحب اللي ما رح يجي… بس عمره ما راح." 

** 

وفي آخر صفحة من الدفتر، بخطّها المرتجف: 

"كان صوته مثل الليل… ساكن، دافئ، لا يُنسى.
ورحل كما يرحل الليل… ليترك في قلبي صوتًا لا يسكت." 
                           تمت بحمد الله 

تعليقات



<>