رواية ايلينورا الفصل السادس6 والاخيربقلم ملك الحريري
مع مرور الوقت في عالم الندى، بدأت ليورا تشعر بعمق التغيرات التي تحدث في نفسها. لقد بدأت تعرف أكثر عن هذه الكائنات الشفافة التي كانت تشبهها في الكثير من الجوانب، لكن الفارق كان جليًا؛ فهي لم تكن تمامًا واحدة منهم. كانت نصف بشرية ونصف ندى، وما بين هذين العنصرين كان هناك صراع خفي، صراع ينعكس على كل خطوة تخطوها.
أوسيان وآنا كانا يقفان إلى جانبها، غير قادرين على فهم تمامًا ماهية هذا الصراع الذي كان يعتمل داخلها، لكنهم كانوا مستعدين لدعمها، مهما كان الثمن.
توجهوا في البداية نحو التلال المضيئة التي كانت تحتفظ بالأنوار الدافئة رغم كونها في قلب الليل. كانت الزهور تنبعث منها ضوءًا ناعمًا، وكأنها تنبض بالحياة، ولكن هناك في الأفق، كان الظلام يتجمع حول نقطة معينة.
"هناك، أرى الظلال تتجمع." قال أوسيان، وهو يحدق في الظلام الذي بدأ يقترب منهم.
"إنه هو، ريح العدم." قالت ليورا بصوت هادئ، لكن ملامح وجهها كانت تشير إلى التوتر. "لقد اقتربنا من قلب المعركة."
تحركت ليورا خطوة إلى الأمام، بينما انتشر صمت غريب في الأرجاء. كانت هذه الأرض، أرض الندى، في أمس الحاجة إلى الحماية، وكل شيء كان يعتمد على قدرتها على الحفاظ على هذا التوازن.
"هل تعتقدين أننا يمكننا هزيمته؟" سأل أوسيان، صوته يحمل شكوكًا، لكن ليورا كانت تعرف أن الإجابة ليست سهلة.
"نعم." قالت ليورا بثقة، رغم التوتر الذي كان يعتصر قلبها. "لكني لن أكون بمفردي. نحن جميعًا هنا من أجل شيء أكبر."
توقفوا عند نقطة كانت تُحاط بأشجار كبيرة وملونة، تنبعث منها أصوات غريبة كما لو كانت هذه الأشجار هي من تتحدث. كانت الأشجار تمنحهم طاقة، كأنهم كانوا يسحبون القوة منها.
"انتبهي، ليورا." قالت آنا، بينما كانت عيونها تركز على نقطة مظلمة تتشكل في الأفق، كانت هناك حركة غريبة، وكأن الأرض نفسها كانت تتنفس. "إنه يقترب بسرعة."
وفجأة، ظهر كائن ضخم في الظلام، كانت عيونه تُشعّ بلون أسود داكن. كان يتنقل بين الظلال بسهولة، وكأن الظلام هو منزله.
"من هنا يبدأ التحدي الحقيقي." همس أوسيان.
"لا، من هنا تبدأ الحقيقة." ردت ليورا بصوت هادئ، بينما رفعت يدها في الهواء.
"سأغني، وسيسمعه كل من في هذا العالم." قالت وهي تهمس بلحن قديم، لحنًا كان يتردد في الذاكرة لكنه كان يبدو جديدًا في ذات الوقت. "كل شيء يبدأ من هنا، من هذه الهمسات، من هذه النغمات."
انبعثت من يديها نغمة ضعيفة، لكنها كانت تتناغم مع الزهور التي حولهم. تسارعت النغمة، وعندما تردد الصوت في المكان، بدأ كل شيء يهدأ. الأشجار اهتزت، والزهور تلألأت أكثر، بينما كانت العيون السوداء للكائن تنبض غيظًا.
"ماذا تفعلين؟" سأل أوسيان، وقد أصابه الدهشة.
"أستمع إلى همسات الندى، أستمع إليها في كل مكان." قالت ليورا، وقد بدأت تتحرك خطواتها نحو الظلام ببطء. "الأصوات القديمة، التي عاشت طويلاً، هي التي ستساعدنا الآن."
وما أن تقدمت أكثر، حتى شعر الجميع بشيء غريب. كان هناك ضوء خافت ينبعث من قلبها، وكان ذلك الضوء يزداد تدريجيًا مع كل خطوة. الأشجار من حولهم بدأت في الاهتزاز أكثر، وكان الصوت يتسارع ليصبح لحنًا متسلسلًا، ومع كل نغمة كانت الظلال التي تحيط بهم تبدأ في التراجع.
"نحن هنا، نعيد التوازن." قالت ليورا، والدموع تتجمع في عينيها، لكنها لم تسمح لها بالانحدار. "هذا هو الطريق الذي نختاره، طريق النور."
كانت الرياح قد بدأت في التحرك مجددًا، ولكن هذه المرة، لم تكن رياحًا حاملة للدمار، بل كانت الرياح ترفرف بلطف حولهم. الكائن الذي كان يتربص بهم بدأ يختفي، وكأن القوة التي أطلقها الندى كانت أكثر من قادرة على مواجهته.
"لقد فعلناها." قال أوسيان، وقد بدت على وجهه علامات الدهشة والانتصار.
لكن ليورا لم ترد عليه، بل كانت تراقب الضوء المتسارع، حيث كان يبتعد عنهم تدريجيًا، كأن النهاية تقترب.
"هذه المعركة لم تنتهِ بعد." قالت ليورا، وهي تهمس في نفسها. "الريح، العدم، الظلام... كل شيء سيكون على المحك."
لكن في تلك اللحظة، شعرت بشيء جديد في أعماقها، شعرت أنها قد وصلت إلى ذروة قوتها، وأن الندى لم يكن مجرد قوة يمكن رؤيتها أو سماعها فقط، بل هو القوة التي تولد من داخلها، من قلبها وروحها، وأن هذا العالم ليس مجرد مكان تقيّده قوانين الطبيعة، بل هو عالم من الهمسات واللحن الذي يملك القدرة على تغيير كل شيء.
كانت الأضواء تضيء السماء الزرقاء ببطء، مشهد غروب الشمس كان يأخذ شكلاً غير تقليدي هذه المرة. لقد اختفت رياح العدم، وبدأت الأرض تتنفس من جديد، ولكن الشعور بالسلام لم يكن كاملاً بعد. كان هناك شيء في داخل ليورا، شعور غير واضح، كأن العاصفة لم تمر بعد.
بينما كان أوسيان وآنا يقفان بجانبها، كانت عيونهم تشع بفرحة النصر، لكن ليورا كانت تنظر في الأفق بترقب، كما لو كانت تتوقع شيئًا آخر. كانت همسات الندى تزداد وضوحًا في أذنيها، همسات لا تُسمع من أي مكان في العالم، بل كانت تنبثق من داخل قلبها وروحها.
"لقد فعلناها، أليس كذلك؟" سأل أوسيان، بينما كانت الرياح الناعمة تداعب شعره. "هل انتهت المعركة؟"
ليورا لم ترد عليه على الفور. كانت تركّز على الهمسات التي كانت تملأ قلبها. كان صوتها الداخلي يناديها، وكان الصوت ينبعث من المكان الذي لا يستطيع أحد رؤيته. "لا، المعركة لم تنتهِ بعد." قالت بصوت هادئ.
"ولكننا هزمنا الرياح، سحقنا الظلال." قال آنا، وقد بدا على وجهها تعبير غير مطمئن.
"نعم، لكن الرياح التي نواجهها لا يمكن أن تُهزم بالموت أو العنف. لا، بل هي تزداد قوة حين نواجهها بالقسوة." ردت ليورا، بينما كانت تقف على أطراف أصابعها، وكأنها تمتص الهواء كله، تبحث عن شيء أعمق من النصر. "النصر لا يعني النهاية."
كانت عيونها تلمع، وتدور حولها همسات هادئة، ولكنها كانت مختلفة عن أي همسات أخرى سمعتها قبل ذلك. كانت همسات تحمل سرًا، سرًا عميقًا حول الحياة نفسها، حول ما كان مخفيًا في قلب هذا العالم المظلم.
"هل ستخبرنا عن هذا السر؟" سأل أوسيان، وقد شعر بقلق عميق.
"السر هو أننا نعيش في هذا العالم، لكننا لا نفهمه بالكامل." قالت ليورا، وهي تتحرك نحو مركز الأزهار التي بدأت تتفتح من حولهم، متوهجة بالألوان والأنوار الخافتة. "لقد حان الوقت لتتعلموا أن كل شيء يحتاج إلى التوازن."
بينما كانت كلماتها تتردد في الهواء، بدأت الأشجار المحيطة بهم تتحرك وكأنها تستجيب لصوتها. الزهور التي كانت تنتشر حولهم بدأت تتفتح بطريقة غير طبيعية، وكأن الأرض نفسها كانت تتنفس، وتعطيهم السلام الذي كانوا يفتقدونه.
"التوازن؟" سأل آنا، بينما اقتربت منها. "ما الذي تعنينه بالتوازن؟"
"التوازن بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين القوة والضعف." قالت ليورا، بينما اقتربت يدها من الزهور، تمسكت بكل زهرة برقة، وكأنها تخشى أن تؤذيها. "لقد تعلمت أن العالم لا يعبر عن النصر أو الهزيمة، بل عن الرحلة التي نقوم بها. الرحلة التي نختار فيها كيف نرى الأمور."
بدأت الأضواء حولهم تتألق، وكانت الأشجار من حولهم تهتز ببطء. همسات الندى أصبحت أكثر وضوحًا، وكأنهم الآن جزء من هذه الأنغام. شعرت ليورا بأن الندى هو جزء منها، جزء من جوهرها، وأن المعركة الحقيقية كانت قد انتهت، ولكن البداية كانت فقط الآن.
"كل شيء بدأ من هنا، وكل شيء سينتهي هنا." قالت ليورا، وهي ترفع يديها نحو السماء.
وفي تلك اللحظة، بدأ شيء غير مرئي يتشكل أمامهم. كان الضوء يتكثف، وتحول إلى شكل يتلألأ بشدة. كانت همسات الندى تتداخل مع الصوت، وتبدو وكأنها لحن لا ينتهي.
"هذا هو الضوء الذي كنا نبحث عنه." قالت آنا، بينما كانت عيونها تشع بالإعجاب. "أنتِ قد أعدتِ التوازن، ليورا."
"لا، لقد كنا جميعًا جزءًا من هذا." قالت ليورا بابتسامة هادئة. "إنه ليس فقط عني، إنه عن الجميع."
وفي تلك اللحظة، ارتفعت الأصوات، وانطلقت من قلبهم جميعًا همسات لحن واحد، لحن الأمل، الذي بدوره بدأ يملأ الفضاء من حولهم. كان الصوت يزداد قوة، وكأن الأرض نفسها كانت ترقص على لحنهم، وكل شيء حولهم يبدأ في الهدوء، وفي اللحظة الأخيرة، اختفت الظلال تمامًا، وجاء النور ليغمر كل شيء.
ابتسمت ليورا، عرفت الآن أن الرحلة قد انتهت، وأن الندى قد عاد إلى مجده، ولكن هذه المرة، كان يحمل سرًا جديدًا، سرًا لا يُقاس بالزمن.
"ها قد بدأ الفصل الجديد." قالت ليورا في همس، بينما كانت عيونها تتلألأ بالسلام، وبداية جديدة.
تمت
