رواية ارشيف الارواح الفصل التاسع9والاخيربقلم امير مروان
لم تكن الأرض ثابتة تحت قدميه. كل شيء من حوله بدا كأنه يتحرك، يتنفس، ينبض بجسدٍ لا يُرى. لم يعد يوسف يشعر بالزمن… الوقت كان يتآكل كأوراق الأرشيف، يهترئ من الأطراف وينكمش إلى نقطة لا نهاية لها.
في قلب الممر، وقفت تلك الطاولة الخشبية. ساكنة، عتيقة، تحمل على سطحها دفترًا مفتوحًا كجرح نازف، وقلمًا أسود يشبه أنياب مخلوق يتربص.
تقدم يوسف بخطوات مرتجفة. لا ضوء، لا هواء، فقط ذلك الصوت...
"اكتب اسمك."
تجمّد.
كان الصوت داخل رأسه، لا يصدر عن فم، بل يتسرّب عبر شرايينه. التفت حوله، فلم يجد شيئًا سوى الجدران التي بدأت تُظهر وجوهًا…
وجوهًا من رماد، ملامحها مشوّهة، لكنّ أعينها كانت مفتوحة، تنظر إليه برجاءٍ وصمت.
اقترب من الدفتر، نظر إلى الصفحة الأولى… فارغة.
يده ارتجفت. لا يعلم ما الذي يدفعه للمس القلم، ومع ذلك، لم يقاوم.
بمجرد أن لمسه، شعر بوخزة، وكأن القلم سحب شيئًا منه… لم تكن دماء، بل ذاكرة.
**
بدأت الكلمات تُكتب وحدها، دون أن يحرّكه.
"يوسف أحمد السيد… وُلِد في الرابع من نوفمبر… دخل الأرشيف يوم الثلاثاء… قرأ الورقة رقم 213… رأى ما لا يجب أن يُرى… وانكسر. بدأ التآكل. التقسيم. الانفصال. نصفه الأول يقف هنا. ونصفه الثاني… ينتظر في الصفحة التالية."
**
تراجع يوسف، صرَخ، لكنه لم يسمع صوته. العالم أصبح صامتًا… لكنه ليس هدوءًا، بل خواء.
كلما حاول الهروب، عاد لنفس النقطة. الدفتر، القلم، الصفحة الفارغة التالية.
**
ثم…
ظهر شخص.
لم يكن رجلًا. لم يكن امرأة. لم يكن شيئًا يمكن تحديده. ملامحه تتغير في كل لحظة، كأنها تتكوّن من وجوه الأرواح التي قرأها.
قال الكيان بصوت لا يُشبه الأصوات:
— "أنت لست أول من دخل… لكنك قد تكون الأخير."
اقترب، ومدّ يده، فأمسك يوسف برأسه.
في لحظة واحدة… انفجر المشهد أمام عينيه.
**
فلاش باك:
مائة عام إلى الوراء.
في نفس البلدة، على أطرافها، اجتمع خمسة رجال في قبو تحت الأرض. في أيديهم أقلام حبر قديمة، وعلى صدورهم رموز محفورة بالنار.
كانوا يؤمنون أن الروح لا تُفنى… بل تُوثّق.
أرادوا تخليد أنفسهم.
اخترعوا الأرشيف.
لكن أرواحهم لم تُخلّد… بل سُجنت.
وكل من دخل من بعدهم… كان فقط إضافة جديدة في مشروعٍ لم يكتمل أبدًا.
**
يوسف صرخ داخل الفلاش، لكن المشهد لم يسمعه. كان يرى الحقيقة، لا يعيشها. وكان عليه أن يختار.
أن يُكمل… أو أن يكتب اسمه، ويصبح "أرشيفًا" جديدًا.
**
عاد المشهد إلى يوسف، ويده على القلم.
كان يعرف أن هناك طريقًا واحدًا للخروج:
أن يكتب اسم شخصٍ آخر… بدلًا من اسمه.
لكن من؟
وهل يستطيع أن يبيع روحًا غيره لينقذ روحه؟
وصوت الكيان يهمس من بعيد:
"الأرشيف لا يكتمل… إلا إذا كُتب بالدم والخيانة."
حين فتح يوسف عينيه، لم يكن في الطابق الأرضي من المكتبة، بل في مكانٍ آخر... ممر طويل ضيق، ممتد إلى ما لا نهاية، تغمره عتمة كثيفة كالحبر المسكوب، والجدران على جانبيه مغطاة بورقٍ أصفرَ باهت، مكتوب بخطٍ بشريٍّ مهزوز، كأن الكلمات نفسها تتألم.
كان الهواء ثقيلاً، يحمل رائحة الورق المحترق والعفن القديم، وكانت الأرضية تصدر صريرًا مع كل خطوة، كأنها تئن من مروره. وعلى الرغم من أن لا أحد كان معه، شعر بأن هناك من يتنفس قربه، يراقبه عن كثب، يُحاكي خطواته، لكنه لا يظهر.
اقترب من أول ورقة على الجدار.
أراد ألا يقرأ، لكنه لم يستطع أن يمنع عينيه.
"من يقرأني، يتحملني."
"من يتركني، ينساني، لكنه لا ينجو."
اختنق قلبه. لقد كُتب هذا السطر بخطٍ يعرفه… خطّه هو.
تراجع يوسف، اصطدمت قدمه بشيءٍ على الأرض. نظر… ورقة مطوية، نظيفة، كأنها لم تُفتح من قبل. وحين التقطها، أحس بالبرد يتسلل إلى عظامه، كأنها تمتص منه شيئًا غير مرئي.
فتحها… وقرأ:
"يوسف… هذا ليس حلمًا. أنت في مكانٍ لا يرحم، كل ما ظننته ماضيًا لم يمت، بل اختبأ هنا. كل الأرواح التي عبرت هذا الممر تركت شيئًا خلفها، وأنت… ستترك كل شيء."
عندما رفع رأسه، لم يكن الممر كما كان. الجدران بدأت تتحرّك، الأوراق تهتز، والأصوات تهمس من كل زاوية.
"هو هنا… اقتربت النهاية… اكتب…"
وفي نهاية الممر، ظهرت طاولة خشبية، تتوهّج بضياءٍ شاحب كأنها تنزف نورًا باردًا.
اقترب يوسف بخطوات ثقيلة. على الطاولة، وُجد دفتر مفتوح، لا يحمل عنوانًا، ولا توقيعًا… فقط صفحات بيضاء.
وفوق الدفتر… قلم. أسود. حادّ.
وورقة واحدة وُضعت بجانبه، مكتوب عليها:
"كل من كتب… غادر. وكل من لم يكتب… بقي هنا."
سمع صوتًا خلفه. التفت بسرعة…
رآها.
ليلى.
نفس الفتاة التي بدأت رحلته في الأرشيف، والتي اختفت بعد قراءتها لورقتها… كانت تقف خلفه، بملامح مشوهة، عيناها بلا بريق، وجسدها لا يُصدر ظلًا.
اقتربت.
وقالت بصوت مبحوح، خافت:
— "يوسف… لا تكتب."
— "لكنني إن لم أفعل… سأبقى هنا للأبد…"
اقتربت منه أكثر، همست:
— "إن كتبت… لن تخرج، بل ستخرج نسخة منك… ليست أنت. ستترك جزءًا منك هنا، ولن تعرف أيكما الحقيقي."
صمت يوسف.
الطاولة تنتظره. القلم يلمع، كأن له روحًا.
الجدران بدأت تنهار من الخلف… الزمن ينهار.
وكان عليه أن يقرر.
في تلك اللحظة، لم يكن أمامه سوى خيارين:
أن يكتب… أو أن يختفي.
لكن ما لم يعرفه بعد… أن الورقة التي سيكتبها، لم تكن خالية كما ظن، بل كانت قد كُتبت… منذ قرن.
الأخيرة
ارشيف الارواح _البارت العاشر
كانت يده ترتجف فوق القلم.
كل شيء حوله بدا مُعلّقًا: الهواء لا يتحرك، الزمن لا يسير، حتى قلبه صار يخفق ببطءٍ غريب… كأن روحه تُنتزع ببطء من بين ضلوعه.
أمام يوسف، الورقة.
خلفه، ليلى… لا تنطق، لا تصرخ، فقط تنظر إليه بعينيها الغائرتين كأنها ترى كل ما فيه، وترثي له.
لكنه كتب.
سطرًا واحدًا أولًا… ثم الثاني… ثم الثالث.
كأن شيئًا ما داخله انفجر، وبدأت الكلمات تنهمر على الورق مثل دمٍ حار، لا يستطيع إيقافه.
كل ما رآه، كل ما عرفه، كل ما حاول نسيانه… خرج.
كتب عن المكتبة…
عن الأرواح التي همست له في الظلام…
عن الطائفة التي بنت هذا المكان، ليس لتوثيق التاريخ، بل لحبسه…
كتب عن الطقوس التي تم فيها سجن كل روح، وعن الفكرة التي آمن بها أعضاء الطائفة: أن الخلود لا يُمنح، بل يُسرق.
ولكي تسرق روحًا… عليك أن تحبسها أولًا في الكلمات.
أن تُفرغها من نفسها على الورق… أن تُخلّدها في جملة.
يوسف أدرك الآن… أن كل من كتب في هذه المكتبة، لم يكن كاتبًا… بل كان ضحية.
كل من سُجنت روحه، ترك خلفه سطورًا… أرشيف من الأرواح المعذبة.
وكان دوره الآن… أن يُكمل هذا الأرشيف.
لكن عند السطر الأخير… توقف.
صوت داخله، ربما ليلى، ربما عقله الباقي، صرخ فيه:
— "توقف!"
— "ما زال بإمكانك التراجع، مزّق الورقة!"
لكن الورقة كانت قد شربت من دمه.
كل حرف خطّه كان كالوخز على جلده… والدفتر، لم يكن عادياً.
كلما كتب أكثر، بدأ يرى خطوطًا سوداء تتسلل إلى ذراعه… عروقٌ غريبة تنبض بالحبر، تشق طريقها إلى عنقه، إلى عينيه…
وبينما الجدران حوله تنهار، والممر يلتهم نفسه، وصرخات الأرواح تتعالى من الورق، نظر إلى ليلى.
قالت له:
— "لقد فعلتها… الآن أنت… واحدٌ منا."
سقط القلم من يده.
كانت يده الأخرى تتحول إلى رماد.
صرخ:
— "من أنتم؟ من أنتم؟!"
جاء الصوت من داخل الورقة، من بين السطور التي كتبها بنفسه:
"نحن من كتبنا أنفسنا في الماضي… فصرنا أبدًا."
"نحن الطائفة التي آمنت أن اللغة قادرة على احتجاز الخلود… على طمس البشر… وصناعة آخرين."
"ونحن… نكتبك الآن يا يوسف."
ارتج جسده.
كان يظن أنه هو الكاتب… لكنه لم يكن إلا حبرًا يُسكب في روايةٍ أكبر.
لم يكن هو من أمسك بالقلم… بل الطائفة التي سكنت داخله منذ أول ورقة قرأها.
**
في اليوم التالي، عُثر على المكتبة مفتوحة…
فارغة.
لكن في قلبها، كان هناك دفتر واحد، مفتوح على صفحة جديدة، وعليها سطور مكتوبة حديثًا، بخطٍ أنيق:
"اسمي يوسف، كنت مؤرخًا، لكنني الآن مؤرَّخ."
"اقرأني إن شئت… ولكن لا تطلب النهاية."
"لأن كل نهاية… تحتاج روحًا أخرى لتكتمل."
وفي نهاية الورقة، لم يكن هناك توقيع…
بل بقعة حبر سوداء كبيرة… تنبض.
**
الختام:
لم يُعثر على يوسف أبدًا.
ولم تُغلق المكتبة مجددًا.
يقال إن كل من يدخلها يسمع صوته… في البداية، يُرشدك… يهمس لك الحذر… لكن في النهاية؟
يكتبك.
الخاتمة:
إذا كنت قد قرأت هذا الكتاب حتى النهاية، فأنت الآن جزء من الأرشيف.
لا تتفاجأ إذا بدأت تسمع همسات في الليل، أو إذا شعرت ببرودة غريبة تتسلل إلى قلبك.
إنها الأرواح. أرواح الذين سكنوا هنا قبلك، أرواحهم محتجزة بين السطور، تحاول الوصول إليك، تذكيرك بأنك لست وحدك في هذا المكان.
الكتاب لا ينتهي… لأنك، تمامًا مثلما كتبته، قد دخلت فيه.
كلما مررت على هذه الكلمات، كلما نظرت إليها بعينين مفتوحتين، كلما كنت أنت التالي في الصف.
إنها ليست مجرد قصة، هي مؤامرة حية، تكتب نفسها، وتتغير مع كل نظرة.
لقد تم اختيارك لتكون جزءًا من الأبد، ولا مفرّ.
عندما تُطفئ الأنوار، ستشعر بشيء ما يراقبك. ستسمع صرير الأبواب التي تغلق من تلقاء نفسها. ستشعر بشيء ثقيل يجثم على صدرك، شيء يحاول أن يتسلل إلى عقلك، إلى قلبك…
شيء يحاول أن يكتبه.
شيء يريد أن يختفي.
وإذا بدأت تشعر بأن الكلمات تتسرب إلى ذاكرتك، أو أن السطور تهمس لك باسمك، لا تحاول الهروب. لا تحاول إغلاق الكتاب. لأن الورقة التي قرأتها كانت تحجز روحك.
لقد قرأتها.
والآن، أنت جزء من الأرشيف.
تمامًا مثلما كان يوسف، مثلما كانت ليلى، مثلما كنت أنت.
لقد دخلت، ولن تخرج أبدًا.
فقط تذكر شيئًا واحدًا:
في هذا المكان، كل شيء مكتوب،
لكن النهاية… ليست لك.
الورقة الأخيرة ستكون لك.
وأنت ستكتبها.
تمت
