رواية عن تراض الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم ايه شاكر
كان ليل الشتاء في وجه قبلي يخلّف وراءه بردًا ناعمًا في الصباحات، تصاحبه نسمات عليلة تفوح منها رائحة الطين والماء، ودفء شمس خجولة تنسلّ بين سعف النخل وأغصان الليمون...
ومع إشراقة شمس الصباح سار «نادر» بالعزبة فقد وصل مساء الأمس من القاهرة مع «بدر» لقضاء بعض الوقت في هذا المكان الهادئ الذي أصبح يعشقه ويأتي إليه كل فترة...
تأمل هدوء المكان من حوله كانت عزبة البدري فسيحة تمتد على مرمى البصر، حيث تكتسي الأرض وشاحًا أخضر من الحقول اليانعة، يتوسطها بيت البدري، بيتٌ شامخ الطلعة، يشبه القصر، كأنما نُزع من زمنٍ قديم ووُضع في قلب هذا السكون.
حوله تناثرت بيوت حجرية، لا يزيد أحدها عن طابق أو اثنين، تتجاور كأحجار شطرنج ناعسة تحت سماء فبراير.
النخيل أيضًا كان يقف في خشوع، باسقٌ كشاهدٍ على حياةٍ لا تنقطع، تتمايل سعفه ببطءٍ كأنه يُصغي لما تقوله الأرض.
والحقول من حوله ترتدي عباءتها الشتوية، يملأها القمح والفول، وتتناثر بقع خضراء لزراعات البرسيم والبصل والثوم، بينما يسير الفلاحون بخطًى وئيدة، يحملون مع معاولهم صبر السنين وأحاديث الجدود...
وبين الحقول، تجري مياه الري في جداول ضيقة، تلمع تحت الشمس، وتُسمع من بعيد خريرها الهادئ، أشبه بنغمة قديمة يعرفها كل من نشأ على هذه الأرض.
عاد للبيت مرة أخرى
وقف أمام سلمه الطويل، يلمس التمثال الحجري الذي يشبه أسد، عظيم الهيئة، جامد النظرة، كأنما نُحت ليحرس هذا المكان لا من الناس، بل من النسيان...
جلس على درجة السلم وفتح هاتفه ليتصفح اليوتيوب قليلًا فوقع أمامه مقطع ريلز لـ «سارا» تتحدث بحب عن زوجها «إسلام» فقد مرت الأعوام واشتُهرت «سارا» جدًا بمجال الفن والتمثيل وكذلك «إسلام» وأصبحوا حديث المنصات لأعوام...
همس نادر لنفسه:
-لو كنت كملت تمثيل مش كان زمانك مكان إسلام! وكان زمان منصات التواصل كلها بتقول الممثل الشهير نادر العميد يحب زوجته حبًا شديد.
قالها ساخرًا وضحك...
انتابه الفضول فأخذ يبحث عن أخر أخبارهما إلى أن وجد خبر بإدمان سارا للمـ.ـخد.رات، ودخولها المصحة كما كان هناك خبر أخر أن اسلام طلقها وأخذ ابنهما وسافر بل وتزوج بممثلة أخرى...
-لا حول ولا قوة الا بالله... الحمد لله الذي هدى قلبي، ربنا يهديهم... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قالها «نادر» ثم ترك هاتفه ومسح وجهه وهو يستغفر الله...
وما هي إلا لحظات حتى لاحت له الحافلة تقترب من القصر، تثير الغبار وتُحرّك السكون.
ابتسم، ونهض واقفًا حين لمح «أروى» _ابنة نداء _ تُلوّح له من خلف النافذة الزجاجية، بعفويتها التي اعتادها.
لكن ابتسامته تلاشت سريعًا، وارتبك وجهه حين ظهرت على المقعد الخلفي، تلك التي قضى سنوات يتجنّب رؤيتها… «رحمة».
تسارعت نبضاته، ومرّت في خاطره كل تلك الليالي التي أمضاها في الفرار منها، لا كرها، بل خشية من شبح الماضي.
أيعقل أن اللقاء قد فُرض عليه الآن؟
ألم يأن لقلبه أن يبرأ؟
أليس من الإنصاف أن يمنح نفسه فرصة للسلام؟
أم أن الحكمة تقتضي الرحيل مجددًا؟
فقلبه لم يخذله يومًا في حنينه إليها،
ولم يتوقف، ولو للحظة، عن تتبّع أخبارها من بعيد، بصمت، وبلهفة لا تليق برجل ادّعى النسيان.
********
ترجلوا من الحافلة بخطى هادئة، تتناثر على جوانبها ابتسامات الفلاحين العذبة، لوّح لهم طفل صغير كان يختبئ خلف والده وسط الزرع، ثم انطلق يعدو نحو البيت، يصيح بحماس وهو ينادي كارم والبدري مبشّرًا بوصول الضيوف.
وما إن انفتح باب القصر حتى انطلق «بدر» هابطًا الدرج بخفة ولهفة، وعلى وجهه ابتسامة ترحيب...
ما لبث أن تبعه بقية الخدم، يصطفّون واحدًا تلو الآخر، يلقون التحية ويهرعون لحمل الأمتعة.
ورغم الحفاوة، بدا التوتر واضحًا على حركات «نادر»، تسلّل إلى ملامحه كضوء خافت يرتجف... لم يلبث أن انسحب من بين الجمع بخفة مرتبكة...
لاحظ «بدر» ارتباك صديقه، فقد كان يعرف قلب نادر ويقرأ صمته...
وفي غمرة الزحام، التقت عيناه بنظرة من «رغدة»، خاطفة، مشبعة بأكثر مما قيل...
رمقها بنظرة سارع بإخمادها، وبدورها لم تجرؤ على رفع عينيها مرة أخرى.
سرعان ما التقط بدر أنفاسه، وانتشل نفسه من دوامة اللحظة، فابتسم محاولًا كسر الصمت:
-آآ... اتفضلوا... العزبة كلها نورت بوصولكم.
تقدّم «يحيى» بخطوة واحتضن كتف بدر بمحبة صادقة، قائلاً:
-إنتوا هنا من إمتى؟
-وصلنا من القاهرة امبارح... كويس إنك جيت يا شيخ يحيى، عشان تصور مع نادر هنا بدل الشغل اللي عبر المسافات دي.
تجول بصر «يحيى» في المكان، مستنشقًا عبق الهواء العذب، ثم قال بانبهار صادق:
-فعلاً... المكان حلو أوي.
استغفروا 🌸
************
دلف البقية إلى البيت وانبهروا بجماله من الداخل؛ الأثاث الفخم، الإضاءة الدافئة، والرائحة الخفيفة التي تعبق بالمكان...
لكن ما أبهر سراب لم يكن البيت... بل هي.
«نرمين»...
كانت تقف هناك، بثبات غريب، ترتدي حجابًا بلون رمادي هادئ، لم يتغيّر فيها الكثير سوى لمعة في عينيها تشي بأنها صارت غير تلك الفتاة التي كانت تُسمي نفسها «هند»...
أقبلت نحو «سراب» بابتسامة صافية، كأنها تطوي بها سنوات الصمت، لكن سراب لم ترَ سوى شبح الماضي ينهض من تحت ملامحها، يقترب كلما اقتربت هي... وكأن قلبها ارتطم بجدار من الذكريات؛ أول لقاء، ثم اختفاء جدّها كارم، ثم حسين، وكل ما فعله بها...
ابتلعت «سراب» ريقها في توتر، تراجعت خطوة بخوف لا يُرى، ونظرت نحو «عمرو« تستنجد بعينيها المرتبكتين، لكنه كان منشغلًا بالسلام على البدري، لا يراها، لا يشعر بها.
ثم جاءت اللحظة، حين وقفت «نرمين» أمامها تمامًا، وقالت بصوت بدا طبيعيًا، لكنه طعن «سراب» في هشاشتها:
-أخيرًا اتقابلنا... إزيك يا سراب؟
وقبل أن تجيب سراب، اندفعت «نرمين» واحتضنتها...
هنا، مادت الأرض تحت قدمي «سراب»، تهدّل جسدها كأنه فقد كل قوامه، وغامت الرؤية في عينيها...
لم تُكمل العناق...
تهاوت فجأة، لكن «عمرو» لمحها في اللحظة الأخيرة، فانطلق نحوها قبل أن تصطدم بالأرض، محتضنًا جسدها المرتخي، وهو يصيح بفزع:
-سراب!
أخذ يربّت على خدّيها برفق، يحاول إيقاظها، بينما أسرع أحد الحضور بجلب قارورة عطر، ينثر منه على وجهها.
أما «نرمين»، فكانت قد تراجعت خطوتين، وقد أطبقت يدها على فمها، تنظر إلى ما يحدث بعينين ممتلئتين بالخوف، والندم، والشك.
بينما وقف باسل، زوجها، إلى جوارها، يربّت على كتفها دون أن ينطق...
وكان الخوفُ متجلّيًا على الوجوه، صامتًا لكنه حاضر، يثقل الصدور ويعقّد الأنفاس.
الكل يترقّب، يحدّق في ملامح «سراب» المغمى عليها، إلى أن تحركت جفونها ببطء... ثم فتحت عينيها.
لم تنطق...
بمجرد أن أدركت أين هي، تسلّلت يدها المرتجفة إلى ملابس عمرو، تشبثت به وكأنها تغرق، ثم انفــجرت باكية بصوت مكتوم...
لم يقل عمرو شيئًا، فقط أحاطها بذراعيه بحذر، كأنها شيء هشّ، يكاد يتفتت من اللمس.
اقترب منها «كارم» وما أن وقعت عيناها عليه أفلتت «عمرو»، واندفعت نحوه، احتضنته بذراعين مرتجفتين، دفنت وجهها في صدره، وتعلّقت بملابسه كما لو كانت تعود إلى بيتها الأول… بيتها الآمن...
وكان هو، رغم صدمته، يربت على ظهرها بصمت، وقد بدا التأثر جليًّا في عينيه الواسعتين...
ظل «عمرو» يراقب المشهد، دون أن يحاول التدخّل.
كان يعرف جيدًا… يعرف حجم ما تحمله.
هناك جرح في قلبها لم يندمل، جرح لم يُفتح مرة واحدة، بل تكرّر انشقاقه مع كل صدمة...
حاول كثيرًا أن يقنعها بالذهاب إلى طبيبة نفسية...
لكنها كانت تبتسم ابتسامة باهتة وتهمس:
"أنا كويسة يا عمرو… والله كويسة."
وهو يعرف… أنها ليست كذلك.
لم تكن بخير يومًا منذ بدأ الخوف يسكن نظرتها… ويطفئ صوتها، لكنه جوارها يحاول قدر استطاعته التعامل مع هشاشتها تلك....
رددوا
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر 🌸
************
خارج البيت،
وقف «يحيى» على بُعد خطوات من الباب، ينتظر حتى دلف الجميع إلى الداخل...
ألقى نظرة سريعة على المكان من حوله، ثم التفت إلى «بدر» وهمس بنبرة دافئة تخالطها دعابة حانية:
-إيه بقى يا بدر؟ مش ناوي؟ مش هنفرح بيك ولا إيه؟
رفع «بدر» حاجبيه وابتسم ابتسامة شاحبة وهو يُخرج تنهيدة ثقيلة من صدره، ثم رد:
-هو أنا كنت في إيه ولا في إيه يا شيخ يحيى؟!
أومأ يحيى بتفهم، وملامحه تميل إلى الجد هذه المرة:
-عارف إنك مريت بفترة صعبة... بس أنت اتقدمت لـ«رغدة» زمان وسكت، ماكملتش ليه؟
ثم اقترب منه قليلًا وخفض صوته أكثر:
-عمي ضياء سألني عنك، عشان في عريس متقدملها.
انعقد حاجبا بدر، واتسعت عيناه بدهشة حقيقية:
-عريس؟!
-أيوه، البنت كبرت... لو مش واخد بالك!
قالها يحيى ثم مط فمه بينما سكن بدر للحظة، كأن شيئًا ما استيقظ داخله...
نظر أمامه دون تركيز، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، فيها من الحنين قدر ما فيها من تسليم:
-طيب يا شيخي... أنا هكلم عمي ضياء.
ابتسم «يحيى» مطمئنًا، ووضع يده على كتف بدر برفق، ثم همس وكأنه يُلقي سرًا:
-وياريت تقول لـ«نادر» كمان يتوكل على الله،
مش هيلاقي حد زي رحمه...
ضحك «بدر» وهو يهز رأسه:
-والله يا شيخ، الواد ده واضح عليه أوي...
دا لما بييجي سيرة «رحمه»، عينه بتطلع قلوب!
ولا لما شافها دلوقتي؟ حاله اتشقلب، ووشه اتغير خالص...
ثم انفجر «بدر» بالضحك، بينما مدّ «يحيى» يده ولكزه في كتفه بخفة، وقال ضاحكًا بنبرة لا تخلو من العتاب المرح:
-خلاص بقى، مش هنشتغل نمامين! هو إحنا نحذر الناس من الغِيبة ونقع فيها؟!
ضحك «بدر» و«يحيى»، وتمايلت ضحكاتهما مع نسمات الصباح التي لفحتهما بلطف، فدخلا سويًا إلى البيت وهما يتبادلان نظرات ودّ صافية.
وما إن وطأت أقدامهما العتبة حتى تدارك «بدر» وجود باسل ونرمين في الداخل ولقائهما الأول مع العائلة، كانا يقفان في صمت متوتر قرب أحد الأركان...
بينما عمرو وسراب وكارم يجلسون جوار البدري وسراب تتشبث بملابس كارم...
وفي ركن أخر كان «شاهين» يقف متلبكًا قبالة «شيرين»، التي تعقد ذراعيها وصوتها يحمل نبرة استغراب ممزوجة بحدسٍ أنثوي لا يخطئ:
-غريبة! بتعمل إيه هنا يا شاهين؟
رمش عدة مرات، كمن فاجأه الضوء فجأة، ثم ردّ متلعثمًا وهو ينظر بعيدًا:
-آآ... كنت في شغل قريب وقلت أعدّي.
رفعت حاجبها، ولم تُجِب، فقط أومأت برأسها ببطء، ونظراتها تراقب وجهه، تبحث فيه عن صدقٍ لم تجده.
قالت أخيرًا، بنبرة أقل لِينًا:
-هو فيه إيه يا شاهين؟
تراجع خطوة للوراء، وكأن السؤال أربكه أكثر من اللازم، وابتلع ريقه بصعوبة، قبل أن يردّ:
-مـ... مفيش... هيكون في إيه يعني؟ أنا بس مستغرب إن كل العيله جت يعني إنتي ودياب عمركم ما جيتوا هنا!
أطرقت شيرين قليلًا، ثم رفعت عينيها ونظرت إليه بثبات:
-يعني يا أبو يونس مش عاوز تقولي حاجة مخبيها عني؟
سكت شاهين... تحركت شفتاه كمن همّ بالكلام، ثم تراجع...
ومرّت لحظة صمت طويلة، ثم تنهد وقال بصوت خافت:
-هقولك يا شيرين… بس توعديني الكلام ده يفضل بيننا.
نظرت إليه طويلًا، ثم أومأت، ونظرة القلق لم تفارِق وجهها.
أشار برأسه نحو غرفة جانبية، فتح الباب، ودخل أولًا، ثم وقف ممسكًا بالمقبض ينتظرها، قبل أن يُغلق الباب عليهما، ويبدأ في البوح...
بوحٌ ظلّ مؤجلًا لسنين، والآن لم يعُد يحتمل الكتمان.
لا حول ولا قوة الا بالله 🌸
*********
كان البدري يتأمل البيت وقد امتلئت أركانه بالحياة، واختلطت الضحكات بالأصوات...
جلست «سراب» إلى جوار «كارم»، تبتسم وقد هدأت أنفاسها، ثم ناولته «تقى» «محمود»، فضحك كارم بسعادة وهو يلاعبه...
ولكن لازال الندم ينهش قلبه لأنه تركهما وفكر يومًا في الإنتقام.
استجمعت «سراب» شجاعتها، ونهضت ببطء متجهة نحو «نرمين»، بينما كان «باسل» يجلس بين الرجال يراقب ابنه الصغير، ذو الخمسة أعوام، يركض في أرجاء البيت...
وكان بقية الأبناء يجولون في الأركان، يلتقطون الصور معجبون بجمال المكان..
*******
في إحدى الشرفات، وقفت سراب بجوار نرمين، تطالعان الأفق في صمتٍ ثقيل لكنه مريح، قبل أن تقطعه «سراب» بنبرة صافية:
-مبارك الحجاب، شكله جميل أوي عليكي.
ابتسمت «نرمين» بخجلٍ ناعم وقالت:
-لبسته من سنتين، أنا وباسل سافرنا واتبهدلنا شويه بس الحمد لله... أنا اتغيرت كتير و... وهو صبر عليا... وربنا رزقنا بـ مروان... عارفه يا سراب أنا كنت بدعي طول الوقت أشوفك عشان أعتذرلك... إحنا لما عرفنا إن حسين مات، رجعنا... ودلوقتي عندنا بيت في القاهرة.
-يعني بقالكم فترة هناك؟
-أيوه، وباسل بيشتغل مع بدر في الشركه.
قالتها نرمين، فنظرت إليها سراب برهة، تلمع في عينيها مشاعر مختلطة، ثم ابتسمت وقالت:
-فرحتلك... بجد... ربنا يوفقك يا نرمين.
ابتسمت نرمين وقالت برقة:
-ويوفقك إنتي كمان يا سراب.
ثم مدت نرمين يدها لتصافحها، فصافحتها سراب وضمتها...
********
وعلى نحوٍ أخر
ارتفع رنين هاتف «رحمة»، فقطّبت جبينها قليلًا قبل أن تنظر إلى رغدة وتقول:
-دي ماما...
بادرتها «رغدة» بابتسامة مشجعة وهمسة دافئة:
-ردي عليها، طمنّيها...
هزّت «رحمة» رأسها بخفة، ثم نهضت وخرجت بهدوء، تبحث عن ركن هادئ بعيدًا عن صخب الأصوات والضحكات...
وقفت عند السلالم، وضغطت على زر الرد.
-إزيك يا ماما... إحنا كويسين... آه، سافرنا... لأ، كله تمام... هكلمك تاني، ما تقلقيش.
أغلقت الخط، ثم وقفت لحظة تستجمع أنفاسها، كأن المكالمة القصيرة أيقظت فيها شيئًا دفينًا، تذكرت والدها فأطرقت لبرهة ومسحت دمعت تسللت لخارج عينيها قبل أن تستدير وتدخل للبيت...
من بعيد، كان «نادر» يراقبها من الشرفة...
لم يكن قريبًا بما يكفي ليسمع، لكنه رأى طريقة وقوفها، ارتباكها الخفيف، ولحظة الصمت التي أعقبت المكالمة...
ابتسم لنفسه، ثم تنفّس بعمق كمن يستعد لعبور خط لا عودة منه، وهمس داخله:
-كفاية كده... خد قرارك بقا يا نادر...
ثم تحرك للداخل، وقد بدا على ملامحه أنه أخيرًا اتخذ قراره...
استغفروا 🌸
★★★★
وفي المساء، وقبل أن تودّع الشمس السماء بلحظاتها الذهبية الأخيرة، اجتمعت العائلة في شرفة فسيحة تُطل على أراضٍ زراعية خضراء تمتد حتى الأفق...
كان الجو ساكنًا، تتخلله نسمات باردة لكنها عذبة، تعبق برائحة التراب والنبات، بينما جلسوا جميعًا يتابعون تصوير البودكاست الديني، حيث ظهر يحيى ونادر برفقة ضيفهما الثالث، «رائد».
وبدأ «نادر» بألقاء السلام ورحب بهما برسمية مذيع ثم قال:
"حين تثقل خُطانا نحو مكانٍ لم نرغبه، نجدنا هناك نبتسم بسعادة، وكأنّ المفاجآتِ الجميلة لا تُحبُّ من يسبقها بالتوقّع...
وحين نُرتّب اللقاء في خيالنا، ونرسمُ المشهد والموقف والكلمات، نفاجأ بأن كل شيءٍ جاء باهتًا، كأن الترقبَ يسرقُ من اللحظة سحرها.
لعلّ السرَّ أن الأقدار تميلُ إلى العفوية، وأننا حين نُفرِطُ في انتظاراتنا وخيالاتنا نُفسد على أنفسنا جمال الوصول.
عجيبٌ أمرُ القلب... يسعدُ حيث لم نرد، ويتعثّرُ حيث تمنّينا الوصول."
ابتسم «رائد» بعدما انتهى «نادر» وقال مازحًا:
-عميق جدًا... شكلك هتنافسني بعد كده يا نادر.
ضحك الثلاثة للحظة، لكن سرعان ما عادوا إلى الجدية... قال «نادر» بنبرة هادئة:
-والنهارده حلقتنا مهمة جدًا... هنتكلم عن الخيال، وتأثيره على الواقع... وازاي الإفراط فيه ممكن يفسد علينا حياتنا، وإزاي ممكن يكون شخص مدمن خيال ومحتاج يتعالج منه... ونبدأ بالسؤال الأول...
أخذ «نادر» نفس عميقًا ثم نظر إلى «يحيى» وسأله:
-بحس أحيانًا إني لما أتحمس لحاجة وأفكر فيها كتير، أرتب لها وأحلم بيها، أول ما أوصل لها مش بحس بالسعادة اللي كنت متخيلها؟ يعني مثلًا، لو أنا متحمس لسفرية أو زيارة مكان جديد، ممكن أفضل طول الليل صاحي من الفرحة، لكن لما أوصل ألاقي الموضوع عادي، أو حتى أقل من العادي... ساعتها بحس إن في حاجة غلط، كأنّي كنت في السما ونزلت فجأة على الأرض... هل الخيال هو السبب؟ هو اللي خلاني أتعشم وأطير، وبعدين سابني أقع مثلًا؟
تبادل «يحيى» نظرة سريعة مع «رائد» وابتسم قائلًا بمرح:
-الإجابة عند الكاتب الكبير... الروائي المعروف، صاحب رواية "ردي حتب".
ابتسم «رائد»، لكنه صمت هنيهة...
مرّ شريط الذكريات في ذهنه؛ الكابوس الذي اجتاح أسرته قبل سنوات، والكتاب الذي اختفى فجأة، والرواية التي كتبها بعدها كنوعٍ من التحذير لمن قد يمرّ بنفس ما مرّوا به.
نظر «رائد» إلى «نادر» مطولًا، كأنّه يستعد ليختار كلماته بدقة ثم ابتسم وقال بصوت هادئ فيه لمحة من الألم المألوف:
-إنت مش لوحدك... كلنا مرينا بالإحساس ده، وده طبيعي أكتر مما تتخيل... اللي بيحصل يا نادر، إن العقل البشري لما يتخيل حاجة، بيديها ألوان زاهية، تفاصيل مثالية، إحساس مصقول بالأمل وبيمحي أي لمحة ألم... لما بتعيش في في الخيال بيبقا كأنك بترسم لوحة جميلة... بس للأسف الواقع مش لوحة... الواقع مهما كان حلو فيه لمحة تعب، عشان كده لوحة الخيال مهما كانت صح هتكون تفاصيلها ناقصة... فلما ندخل المشهد الحقيقي بنتصدم... أو زي ما إنت قولت كده تبقى طاير في خيالك ولما تفتح تلاقي نفسك على الأرض عادي...
قال نادر:
-يعني كده معنى الكلام ده أبطل خيال؟
-أنا مقولتش كده... الخيال مطلوب جدًا...
قالها «رائد» ثم نظر ليحيى وقال مبتسمًا:
-إيه رأيك يا مولانا؟ إدلي بدلوك.
تحدث يحيى بحكمة:
-فعلًا الخيال مطلوب، إحنا محتاجين ندرك إن أي حاجة في الدنيا لو زادت عن حدها، بتتقلب ضدها... الخيال شيء ضروري... بنتخيل وإحنا بندعي، وإحنا بنخطط، وإحنا بنتمنى... بنتخيل الجنة علشان نشتاق ليها ونعمل اللي يقربنا منها، وبنتخيل النار علشان نخاف منها ونبعد عن اللي يجرنا ليها وكمان بنتخيل المستقبل علشان نتحرك... لكن المشكلة بتبدأ لما الخيال يتحول من أداة لتحفيزنا، لهروب دائم من الواقع... أو لو بقى بديل عن التجربة الحقيقة.
سكت قليلاً، ثم تابع:
-الخيال نفسه مش مشكلة المشكلة بتكون في الناس اللي عايشه أصلًا في الخيال، طول الوقت بتحلم... والمشكله الأكبر لما الخيال يبني توقعات مش موجودة، ومستحيل تبقى موجودة فيحكم علينا بالإحباط قبل ما نبدأ نعيش أصلًا.
قال نادر:
-والسؤال نعمل إيه يا شيخ يحيى؟
تنهد يحيى ثم قال بهدوء:
-اولًا عليك أن تُدرك أن للخيال أوقات! يعني مش طول الوقت عايش في الخيال وفي عالم لوحدك من أحلام اليقظه وبتجيلنا الواقع في المناسبات...
ابتسم «يحيى»، حمحم ونظر لرائد ثم قال:
-كثيرًا ما كان رائد يسألني عن الخيال وعالم الروايات وكنت أقول له؛ إياك وإدمان الخيال احرص أن تتحكم في نفسك، وفي وقتك لأنك ستُسأل عليه حين تلقى الله، وأن تعرف لماذا تقرأ وما رسالتك حين تكتب؟ ثم افعل ما تشاء...
سأل نادر:
-يعني يا شيخ أتحكم في وقتي وأقرأ بقا أي حاجه.
رد يحيى في سرعة:
-أن تقرأ رواية أو كتاب يعني أن تسلّم قلبك وعقلك لكاتب، ليقوده حيث يشاء؛ يبكيك، يضحكك، يسعدك أو يحزنك... فاختر جيدًا لمن تمنحه هذا الامتياز... كم سمعنا عن شخص تغير قلبه وتزعزع دينه بعد قراءته كتاب أو رواية... القراءة زاد العقل فاختر زادك جيدًا...
تدخل نادر متظاهرًا بالإعتراض:
-بس معلش يا شيخ يحيى... أنا بقرأ كنوع من الترفيه والتسلية يعني لما أقرأ رواية بكون عارف إني داخل أتسلى شويه... يعني بغض النظر عن الدين والمجتمع والعادات والتقاليد وحدود المنطق يعني لو مثلًا كانت بتحكي عن أرنب بيطير فأنا هكون بقرأ كتسلية لكني متأكد إن الأرنب عمره ما هيطير...
ابتسم يحيى ورد:
-طيب إن الأرنب يطير ممكن نتقبلها عادي لكن.... ازاي هنتقبل نقرأ روايه بتحكي مثلًا عن بقرة والناس بتعبدها وإنت مستني طول الروايه ومتشوق جدًا عشان البقره دي تنقذ الناس والكاتب خلاص برمج عقلك إنك تستنى... وعلى فكرة دا مثال من دماغي فيه حاجات تانيه أطم من كده... يعني لو رواية بتحكي عن عادات محرمة وبتقول إنها عادية زي الرقص والغنى وشرب الخمر.... ها إي رأيك؟
صمتوا هنيهة، فأردف يحيى مخاطبًا نادر:
-اتفضل رد...
-ما هو مش واقع بقا... دا خيال... هو حتى الخيال هتحرموه علينا!
قالها نادر وهو يضحك، فتدخل رائد:
-طيب أرد أنا... يا نادر للخيال حدود كما أن لكل شيء حدودًا، فيجب أن نعي أن لكل شيء نهاية يجب الوقوف عندها... ومجال لا يجب تجاوزه... فالعين ترى، لكن لا تبصر كل شيء... والأذن تسمع، لكن لا يصلها كل الأصوات... حتى العقل، يقف مشدوهًا أمام أسئلة لا يملك لها جوابًا... وسأظل أردد، لعلّ صوتي يصل، الخيال بلا حدود الدين كبيتٍ بلا أسوار، لا يمنع ولا يحجب، ولا يُقيَّد، وما أجمل أسوار الدين حين نقف عندها لنتأمل...
ظلوا فترة يتحدثون في سكينة ووقار، تنبع من كلماتهم طمأنينة تشبه ذلك المساء البسيط المليء بالسكينة والانتماء.
حتى نظر نادر للكاميرا وقال:
-الخلاصه يا جماعه ناخد بالنا من اللي بنتخيله أو بنقراه لانه بيأثر علينا حتى لو احنا مش حاسين بده... وفي فترة من الفترات هيطفو على السطح...
وقال رائد بابتسامة:
-وزي ما حصل في رواية "ردي حتب" لما الكتاب كان بيأثر على اللي بيقرأه فيتعمى ومكنش بيرجع نور عينه إلا بالقرآن اعرفوا إن لو فيه رواية أو كتاب عمى بصيرتك سواء كنت ملاحظ أو مش ملاحظ، مش هيرجعلك النور إلا بالقرآن... فقوم اسمع قرآن واقرأ قرآن... وإياك ياخدك الترفيه من عبادتك اللي إنت مخلوق عشانها.
وقال يحيى:
-وتذكر أن المباح لغيرك قد يكون ممنوع لك، وإن زاد المباح عن حده قد يتحول إلى حرام، فاستفتي قلبك... استفتي قلبك... استفتي قلبك...
كررها يحيى أكثر من مرة ثم أضاف:
"و... دع الأوهام واستيقط، واترك طريق الشيطان، واعلم بأن الأيام تحلو برضا الرحمان ولا تتبع الهوى، واسلك طريق القرآن."
وما أن انتهى التصوير صفق الجميع...
كان كارم يجلس جوار البدري يحمل محمود، وكان البدري يبدل نظره بين تلك العائلة التي ملئت البيت حياة، والإبتسامة تزين محياه...
وتمتم:
-الحمد لله.
وتداخلت الأصوات والتساؤلات عن الخيال، وانقسموا أربعة فرق؛ مؤيد ومعارض، ولم يفهم، ولا يكترث...
استغفروا 🌸
**********
في الخلف، كانت رغدة تقف وحدها، تقرض أظافرها بتوتر.
قبل دقائق، انسحب جدها «ضياء» بصحبة «بدر» إلى زاوية بعيدة وانخرطا في حديث بدا جادًا من ملامحهما.
زحفت عينا «رغدة» نحوهما بتوجّس، وفور أن التقت نظراتها بنظرة جدها، أشار لها بإيماءة هادئة أن تقترب، تظاهرت بأنها لم تفهم لكنه رفع يده يشير لها وهو يناديها...
شعرت بلعابها يثقل في حلقها، فابتلعته بصعوبة، ثم سارت بخطوات مرتبكة نحوهما، وقلبها يكاد يثب من بين أضلعها.
وما إن وصلت، حتى بادرها جدها بنبرة مباشرة:
-البشمهندس بدر اتقدملك يا رغدة.
اتسعت عيناها في صدمة، ولم تلتفت حتى إلى بدر، بل اندفعت تقول بسرعة متعثّرة:
-هه! لأ... آآ... أنا مش موافقة.
بدا على بدر أنه لم يُفاجأ، بل ابتسم بهدوء وكأنّه توقّع ردها، وقال بلطف:
-ممكن أعرف السبب؟
ترددت، ارتبكت، ثم قالت وهي تتجنب النظر إليه:
-عشان... عشان أنا كبرت وفهمت... وبعدين... أنا مش عايزة أتكلم الموضوع انتهى... عن إذنك يا جدو...
واستدارت فجأة، تكاد الدموع تقفز من عينيها، فهرولت مبتعدة حتى لا تنهار أمامهما.
تنهّد بدر، ثم التفت إلى ضياء واستأذنه بإيماءة قصيرة، قبل أن يلحق بها مناديًا:
-رغدة! استني بس...
ظل ضياء واقفًا في مكانه، يتابع بنظره خطوات بدر السريعة، وصوتيهما البعيدين، وهما يتحادثان...
في عينيه تأمل عميق، كأنه يرى مشهدًا يعرف نهايته لكنه لم يتدخل...
********
كان «يحيى» و«رائد» يتحدثان مع «نادر» يشجعانه على أخذ خطوة أيضًا، ورغم أنه قد قرر سلفًا أنه سيأخذ خطوة لكنه تظاهرًا بلإعتراض ثم قال وكأنه اقتنع بكلامهما:
-ماشي يا جماعه اللي تشوفوه بقا... اتفقوا مع بابا وماما وجدها وجدتها وأنا موافق... أمري لله... عشان خاطركم.
ضحكوا وعبث يحيى بشعر نادر وهو يقول:
-يا سلام عشان خاطرنا!... على الله هي بس توافق عليك.
رفع نادر يديه لأعلى ودعى بلهفة:
-يارب يارب... يارب يا شيخ.
فضحك الثلاثة، وفجأة أضاء هاتف يحيى برسالة من آدم:
«عندي طلب وأتمنى مترفضش، أنا لسه شايف الحلقة بتاعت الخيال دي وقررت أعيش في الواقع بقا، أستحلفك بالله يا شيخي توافق أنا بقالي سنين مابنامش من الخيال وذنبي في رقبتك لو رفضت لأني عايز أتوب، من غير مقدمات كتير أنا معجب ببنتك، جوزني مريم يا شيخ يحيى وأنا مش هطلب منك حاجه تاني خالص طول ما أنا عايش.»
ابتسم يحيى، وابتعد قليلًا ثم سجل على الفور:
"انزل من السفر الأول ونتكلم في الموضوع ده... وكمان نشوف موضوع الخيالات اللي عندك دي."
ارسل آدم في سرعة نصًا:
"نازل الأسبوع الجاي... بس لو قولت انك موافق."
كتب يحيى:
"لو عليا موافق، بس هشوف مريم!"
أرسل آدم:
"طيب ماينفعش أشوفها أنا؟"
كتب يحيى على الفور:
"لأ مينفعش إلا لو أنا قاعد جنبها."
"طيب ينفع تقعد جنبها دلوقتي وأتصل عليك؟"
ابتسم يحيى، وصمت هنيهة وهو يبحث بعينيه عن مريم كانت تجلس على طرف المقعد الخشبي، وحدها، تقرأ في مصحفها الصغير بصوت خفيض، وكأن العالم قد انزوى عنها تمامًا...
فأرسل:
"دقيقتين واتصل ياخويا."
ثم تقدم نحوها بخطى وئيدة، جلـس إلى جوارها بهدوء فرفعت رأسها، وابتسمت على الفور...
ردّ الابتسامة بمثلها، ثم مال نحوها وقال بصوت خافت:
-متقدملك عريس، إيه رأيك؟
اتسعت عيناها قليلًا، ثم أطرقت، وقالت بعد لحظة تردد، بصوت خجول أقرب إلى الهمس:
-الرأي رأيك يا بابا.
-طيب مش تسألي مين العريس؟
هزت كتفيها بخفة دون أن ترفع نظرها عن الأرض:
-طالما قولتلي إن فيه عريس يبقا حد مناسب.
-مش عارف الصراحه مناسب ولا ايه؟
قبل أن ترد، قطع رنين الهاتف اللحظة... نظر يحيى إلى الشاشة، ثم قال ضاحكًا:
-أهو العريس بيرن أهوه...
احمر وجه مريم، وأطرقت حياء، تلمست طرف عباءتها بأصابع مضطربة...
رفع يحيى الهاتف وردّ، وهو لا يزال ينظر إلى وجهها:
-عليكم السلام إزيك يا دكتور آدم...
نطق الاسم ببطء، وهو يراقب تعبير وجه ابنته، التي لم تقوَ على كبح الابتسامة الصغيرة التي أفلتت منها رغم محاولتها الواضحة. رآها، وفهم، فابتسم بعمق وقال:
-اتفضل معاك مريم...
هزت رأسها سريعًا، تنفي رغبتها في الحديث، وشفتيها تتحركان بشيء خافت لم يسمعه، لكنه فهمه.
قال يحيى بمرح، وهو يرفع صوته قليلًا ليسمع آدم:
-معلش بقا يا آدم مريم شكلها مش موافقه.
فهمست مريم:
-هصلي استخاره الأول.
-طيب هنستخير الأول يا آدم...
واصل الحديث مع آدم، يسأله عن أحواله وأخباره، بينما كانت مريم لا تزال تطرق، تعبث بأطراف المصحف وقد غطى الحياء ملامحها...
وحين أغلق يحيى الهاتف، التفت إليها، وضمها في حضنه بحنان أبٍ يعرف ما يدور في قلب ابنته، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، وهمس:
-ربنا يكتبلك الخير يا مريوم...
كانت مريم في حضنه، تبتسم بصمت، وقلبها يخفق بصوت لا يسمعه سواها.
*********
وعلى نحوٍ آخر،
وقف «عامر» فجأة، صفق بيديه ليطلب الانتباه، ثم صاح:
-يا جماعة ركزوا معايا... أخيرًا، بعد تفكير طويل، قررت أسمي الاختراع بتاعي: "اختراع عن تراضٍ".
ساد لحظة صمت خفيفة، ثم تداخلت الأصوات:
-لأاا...
-الله!
-حلو الاسم.
-يعني إيه؟
-مش لايق.
بدأت الحوارات الجانبية تتصاعد، كلٌّ يفسّر الاسم من زاويته.
وقف عامر في المنتصف، يلتفت من صوتٍ إلى آخر، يبتسم أحيانًا، ويعبس أحيانًا أخرى، لكنه كان يستمع للجميع، كان يود مشاركة الجميع... لكن داخله كان هناك ما يؤرق فؤاده ولا يستطع مشاركته مع أحد.
على الطرف، كان كارم يجلس إلى جوار البدري، يتابعان الموقف من بعيد...
التقت نظراتهما، وابتسما في هدوء...
كانت تلك الابتسامة تحوي شيئًا أكبر ربما امتنانًا خفيًّا، وسلامًا ناعمًا يغمر الصدر، كأن كل شيء وصل أخيرًا إلى مكانه الصحيح.
أما بدر، فحانت منه التفاتة نحو رغدة التي أطرقت خجلًا وابتسمت...
كانت قد أخبرته بأنها ستفكر، لكن نظراتها الوادعة قالت ما لم تجرؤ الكلمات على الإفصاح به.
نعم، كانت موافقة... دون أن تنطق.
التفت بدر ناحية نادر، فرآه جالسًا إلى قبالة رحمة وضياء، يتحدث مع رحمه...
ابتسم بدر برضا، ثم همس لنفسه بخشوع:
-اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
ثم رفع عينيه نحو شاهين، الجالس بجوار شيرين،
وكان واضحًا، في ملامحها الهادئة، أنها تقبلت ما قاله بصدرٍ رحب...
وكيف لا؟
وهي التي اعتادت أن تفهم الجميع، أن تضمّهم تحت جناحها، وتمنحهم من حنانها ما يكفي لشفاء صدورهم الصامتة.
وقضت العائلة وقت ممتع بعزبة البدري بين ضحكات وأحاديث ودعابات بعيدًا عن صخب الحياة وأوجاعها، يتذكرون ما مروا به ويبتسمون وهم يحكون عنه
لقراءة الجزء الاول سدفة جميع الفصول من هنا