رواية عن تراض الفصل الخامس والعشرون25 بقلم ايه شاكر


 رواية عن تراض الفصل الخامس والعشرون25 بقلم ايه شاكر
-أصل... دا... الراجل ده قالي قبل كده... "متروحيش يا حمارة"... وأنا مفهمتش الإشارة...
-إشارة!! طيب طالما هي اشارة نلف ونرجع ولا إيه؟
قالها «عمرو» بصوت خافت تشوبه سخرية خفيفة:
ارتبكت «سراب» حين لاحظت قربه منها، فابتعدت قليلًا، قالت وهي ترفع حاجبها بتوجس:
-نرجع فين؟ إحنا نقول يا رب و... و... نواجه مصيرنا...

زفر عمرو ضاحكًا وهو يقول ساخرًا:
-آه، نواجه مصيرنا!! حبيبة قلبي، إنتِ مستوعبة إن فرحنا النهارده؟

-إيه حبيبة قلبي دي اتلم يا عمرو!
هدرت بها بعصبية، فابتسم «عمرو» تلك الابتسامة المشاكسة التي تحفظها جيدًا، واقترب منها مرة أخرى، فخلعت «سراب» حقيبة ظهرها، ووضعتها بينهما، بينما كان سائق التاكسي يراقبهما عبر المرآة بطرف خفي ويرهف السمع بفضولٍ جارف.

نظر «عمرو» للحقيبة بينهما وضحك بخفوت ثم سحبها ووضعها على كتفه، فشهقت «سراب» وابتعدت عنه لتلتصق بالنافذة، ثم لوحت بيدها أمامه كأنها تحذره:
-عمرو! والله هزعلك!
ضحك باستفزاز، لكنه تراجع عن مشاكستها الآن، تاركًا بينهما مساحة ضئيلة، قبل أن يسأل بجدية مغلفة بالعبث:
-إنتِ يا بت إنتِ مستوعبة اللي إحنا فيه؟ إحنا فرحنا الليلة وشوفي رايحين فين!

ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهها، وقالت:
-بصراحة أنا... أنا مبسوطة أوي يا عمرو.

تأملها للحظة، وكأن كلمتها لامست شيئًا عميقًا بداخله، متسائلًا هل فرحتها تلك لأنهما سيتزوجان؟ فهو أيضًا سعيد وظهرت سعادته في ابتسامته العذبة التي تحولت إلى أخرى مشاكسة وهو يتمتم:
-مبسوطه! إنتِ مجنونه! وهتجننيني معاكِ.
-معلش استحمل.
قالتها وضحكت بخفوت، فضحك هو الأخر، وران عليهما صمت لا يشوبه سوى صوت هدير محرك السيارة وصخب الشارع بالخارج.

وبعد فترة وجيزة 
توقف التاكسي، ألقت سراب نظرة أخيرة على السائق الذي رمقها في صمت...
بينما انزلق «عمرو» خارج التاكسي أولًا، وعدل الحقيبة على ظهره قبل أن يمد يده إليها دون تفكير، لكنها تجاهلته وقفزت سريعًا، فقبض يده وصك أسنانه بغيظ منها فابتسمت هي بمشاكسة ووقفت تلتفت حولها...

التفت «عمرو» حوله فوقع بصره على فندق ضخمٍ ويبدو فاخرًا، فسألها وهو يرفع إحدى حاجبيه:
-هو ده العنوان ولا ايه؟

عضت شفتها في توتر وقالت:
-شكله كده.

رمقها بنظرة غير مصدقة، ثم لكزها في كتفها بخفة، جعلتها تبتسم رغمًا عنها:
-إيه يا عمرو، متتمدش إيدك، قولت...
-هو دا الفندق اللي فيه العروسه اليتيمة اللي إنتِ هتساعديها؟
قالها ساخرًا، فأومأت وحاولت التبرير:
-أيوه، أصل...
لم يُمهلها لتكمل، دفعها بخفة للأمام وهو يقول بمرح:
-أصل ايه!! امشي قدامي، امشي.

تأففت وهي تمشي بخطوات متباطئة، ثم التفتت إليه وهدرت:
-الله! يا بني هزعلك...
-وريني هتزعليني ازاي؟
قالها عمرو بتحدٍ وبابتسامة مستفزة، لكنها لم تُعره اهتمامًا، وسارت حتى توقفت عند مدخل الفندق، ألقت نظرة سريعة حولها، تتأكد أنها في المكان الصحيح.
كانت الشمس تنعكس على الواجهة الزجاجية للمبنى الفخم، فأجبرت عينيها على التحديق قليلًا قبل أن تلمح الاسم المكتوب بأحرف ذهبية... لتتأكد أنها بالمكان الصحيح.
اتسعت عينا عمرو وهو يُحدق بواجهة الفندق الفخم، وسألها بلهجة ساخرة متعجبة:
-هو ده المكان اللي هنقابل فيه العروسة اليتيمة اللي هتساعديها يا سراب؟!
أومأت «سراب» بسرعة وهي تحاول كبح ابتسامة صغيرة تسرّبت إلى شفتيها، بينما ضيّق عمرو عينيه قليلًا قبل أن يتمتم بنبرة ساخطة:
-يا شيخة حسبي الله ونعم الوكيل، أنا اللي غلطان، ما هو مكنش ينفع أسمع كلامك.

ضحكت «سراب» بخفة، ثم قالت:
-يا عمرو يابني المظاهر خادعه... اصبر بس.
-مش فاهم يعني الفندق من بره فخم ومن جوه خرابه ولا ايه!
-مش عارفه أدينا هندخل ونشوف...
قالتها بضحك وتقدّمت أمامه بثقة، تبعها عمرو متذمّرًا، وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، ممزوجة ببعض التنهيدات الثقيلة...
زاد الجو الخانق من توتره، لكنه لم يتوقع أبدًا ما سيجده بالداخل...

لتتشكل الحكاية ببطء، بخفة، بتدبير الله ولُطفه، ودون أن يدرك بشر...

فبمجرد أن تخطى «عمرو» عتبة الفندق، وقع بصره على مجموعة مألوفة من الأشخاص، فتوقف للحظة، ثم التفت إلى «سراب» بجانبه وقال باستغراب:
-بت يا سراب! مش دي رحمة ومعاها صالح ومراته ولا أنا بيتهيألي؟

نظرت «سراب» حيث يشير، واتسعت عيناها بدهشة قبل أن تميل نحوه وتهمس بذهول:
-أيوه... بيعملوا إيه هنا دول؟!

مط «عمرو» فمه باستغراب وفي صمت أخذ يتابع ما يجري أمامه بنظرات ثاقبة...
كانت «رحمة» تجلس على المقعد، تترنح، ورأسها يميل للأمام بين الحين والآخر، وعيناها نصف مغلقتين وكأنها تحارب النوم، وعلى الطاولة أمامها، استقرت علبة ذهبية صغيرة تلمع تحت الإضاءة الفاخرة.
وقبالتها جلس «صالح» بملامحه الحادة، عينيه تتابعانها بنظرة متحفزة وبجانبه زوجته بابتسامتها المريبة، التي تشبه رضا تاجر على وشك إتمام صفقة رابحة.

أما الرجل الثالث «الحاج خليل» فكان مسنًا، يبدو خليجي من ملابسة، يجلس في هدوء تام، ملامحه غامضة، لكن نظراته كانت تفحص «رحمة» بتمعن، وكأنها سلعة معروضة أمامه.

عندما استوعب «عمرو» المشهد، شعر بدمه يغلي في عروقه، تحرك دون تفكير، وتبعته «سراب» بقلق...

خرج صوت «عمرو» يرتجف بالغضب وهو يندفع نحوها:
-ايه اللي بيحصل هنا يا صالح؟ مالها رحمه؟
هب «صالح» واقفًا والارتباك يتجلى على ملامحه بينما مالت «سراب» على «رحمه» وقالت:
-رحمة! إنتِ كويسة؟!

رفعت «رحمه» رأسها بصعوبة، كان جفناها ثقيلان، وشفتاها تتحركان دون صوت، ثم سالت دموعها أسندت رأسها على سراب التي ربتت على كتفها تطمئنها أنها هنا...

كان «عمرو» يتابعهما، شعر بقلبه يسقط بين ضلوعه، بينما جز «صالح» على أسنانه وقال بحدة:
-إيه اللي جابك هنا؟!

وقف «عمرو» في مواجهته، ووجهه مشتعل بالغضب، لكنه لم يرد عليه مباشرة.
كانت عينيه عالقة على «رحمة» و«سراب»...
اشتدت قبضته وهو يحاول السيطرة على ثورته، ثم كرر بصوت منخفض وهو يضغط على كل كلمة:
-بتعمل إيه هنا يا صالح؟ ومالها رحمة؟!

تجمد وجه «صالح» لثانية، ثم التفت باضطراب إلى الرجل السعودي الذي رفع حاجبه وسأل بصوت عميق:
-وش في؟ بتزوجني إياها ولا شو؟

كانت تلك اللحظة التي انفجرت فيها ضحكة ساخرة من عمرو، لكنها كانت أشبه بزفرة غليان، قبل أن يرمي نظرة سريعة نحو سراب التي تراقب بقلق، ثم عاد ببصره إلى الرجل قائلاً بتهكم:
-يجوّزك ياها؟! هتجوز بنتك يا صالح لراجل من سن أبوها؟! لا أبوها ايه يا راجل دا ضعف عمرك... 
قالها «عمرو» وهو يتفحص ملامح الرجل.
لم ينبس «صالح» ببنت شفة، لكن عيناه كانتا تمتلئان بالاضطراب.
أما الرجل السعودي، فاكتفى بابتسامة صغيرة غير مفهومة، قبل أن يلقي نظرة جانبية إلى «صالح» وكأنه ينتظر تفسيرًا.

كانت «زوجة صالح» هي أول من تدارك الموقف، نهضت واقفة، وخاطبت «عمرو» بصوت زائف اللطف، لكنه كان مفعمًا بالعدوانية:
-الراجل وحر في بنته!
رمقها «عمرو» بنظرة حادة ولم يرد عليها بل عاد بنظراته إلى «رحمة» و«سراب»، ثم استدار نحو «صالح»...
نظراته هذه المرة لم تكن غاضبة فقط، بل تحمل وعيدًا خالصًا وهو يقول بصوت أكثر انخفاضًا، لكنه مليء بالقــوة:
-تصدق بالله... إنت إنسان واطــي...
-احترم نفسك... متغلطش.
قالها صالح بغـضـب، وفي هذه اللحظة بدلت سراب نظراتها بين صالح وزوجته، ونطقت بهدوء محسوب:
-احنا مش عايزين نعمل مشـاكل، بس واضح إن رحمة تعبـانة...

أخرجت هاتفها بسرعة، وطلبت رقم العروس التي أتيا لمقابلتها، أخبرتها بما يحدث في عُجالة وطلبت المساعدة.
لم تمر سوى دقائق قليلة حتى ظهرت فتاة عشرينية مع سيدة أربعينية ورجل ذا وقار يبدو في الخمسين، كانت خطواتهم واثقة، ونظراتهم حازمة، كأنهم يدركون تمامًا أنهم قادمون لإنهاء شيء ما.

مسحت عيونهم المكان سريعًا، حتى استقرت على رحمة أولًا، ثم على صالح وزوجته، وأخيرًا على عمرو الذي وقف كالسدّ الحاجز أمام سراب ورحمه.

تبادلوا نظرات صامتة، لكن الصمت كان صاخبًا بما يكفي ليجعل «صالح» يبتلع ريقه بتوتر، قبل أن يلتفت إلى الرجل السعودي محاولًا تدارك الأمر:
-استنى يا حاج خليل... هنشوف حل!

لكن الحاج خليل أخذ العلبة الذهبية وأغلقها، ثم قال بلهجة باردة وهو يضعها في جيبه:
-أنا ما لي بهالشوشرة...
ثم أدار ظهره ورحل دون أن ينظر خلفه.
ضغط «صالح» على أسنانه بغضب، ثم التفت إلى عمرو وعيناه تشتعلان:
-منك لله!
لم يتراجع عمرو ولم يتحرك...
نظر إلى «رحمة»، ثم إلى صالح مجددًا وقال ببطء، كأنه يتعهد أمام الجميع:
-مش هسمحلك يا صالح... مش هسمحلك تعمل كده فيها أو في رغده...
واضاف بلهجة حادة ومرتفعة:
-إنت لا يمكن تكون إنسان طبيعي! فيه أب يعمل في بنته كده؟! إنت حقير...
-إنت بتقول ايــــــــه!
قالها «صالح» بنفس النبرة، وبملامح متشنجة ونظرات نارية، اندفع نحو عمرو، أمسكه من تلابيبه بقـ ـوة، شدّه كأنه يريد طرحه أرضًا، وصاح بغضب خانق:
-إنت طلعتلي منين داهيه؟!
لم يرد «عمرو» لكن عيناه كانتا تضيقان بثبات، وانغلقت قبضته ببطء، كان على وشك رد الهجوم، لكن قبل أن يفعل، اندفع رجلا الأمن، بحركة حاسمة وسريعة.

وبلمح البصر، سُحب صالح للخلف حين أمسك أحد رجلا الأمن ذراعه بإحكام، ووقف الثاني أمامه مباشرة، بينما قال الرجل الخمسيني بصوت منخفض لكنه يحمل قوة غير قابلة للمساومة:
-لو سمحت اتفضل امشي من غير مشاكل! 

تجمد صالح في مكانه للحظة يفكر، نظر حوله بحثًا عن مفرّ، لكنه كان محاصرًا، تلاحقت أنفاسه وتفصد جبينه عرقًا.

ومن ناحية أخرى أمسكت سراب يد رحمه بلطف ربتت عليها، وهمست بقلق:
-حبيبتي، تقدري تمشي؟ سامعاني؟

حاولت رحمة فتح عينيها، حركت رأسها ببطء، محاولة أن تجيب.
انحنت سراب أمامها ووضعت يدها على كتفها برفق، وهمست لها بطمأنينة وهي تساعدها على النهوض:
-متقلقيش، إحنا معاكي.
وبخطوات حذرة، وبمساعدة الفتاة الأخرى تم نقلها بعيدًا عن الطاولة.

أما في الخلف، فكان صالح متجمدًا مكانه يتابع وهو يبدل نظراته بين زوجته وابنته التي تبتعد.

قال له عمرو بحدة، وبنبرة تهديد صارخة:
-إن لمحتك في شارعنا بعد ما أرجع، هتشوف هعمل ايه يا صالح...

كانت زوجة صالح تتابع المشهد بصدمة، ولم تجرؤ على التدخل.

وأخيرًا، اضطر «صالح» للتراجع، كانت عيناه مشتعلة بالغضب، زفر بحدّة، ثم قال لعمرو بصوت منخفض يتقطّر تهديدًا:
-ماشي يا عمرو... هنشوف!

عدل عمرو ياقة قميصه بعد الشدّ والجذب، وهو يبتسم بسخرية، ثم انحنى نحوه قليلًا وهمس بهدوء مستفز:
-هنشوف يا صالح.

اندفع «صالح» نحو الباب، وموظف الأمن يُشير له بالمغادرة فورًا.

خرج «صالح» من الفندق، خرج وعيناه تضيقان بحقد أسود، وقبضته مشدودة كأنها على وشك التحطم.
وزوجته تحاول تهدئته، همست له بخبث:
-متقلقش أنا هتصرف... بس لازم نرجع نلم حاجتنا ونمشي عشان أعرف أفكر.

من ناحية أخرى وقف عمرو مكانه، وعيناه معلقتان بالمصعد الذي اختفت فيه سراب برفقة رحمه والفتاة والسيدة.

زفر ببطء، مرر يده في شعره، ثم همس لنفسه:
-ايه بقا!!!
التفت حوله فوقع بصره على الرجل الخمسيني الذي يتحدث مع رجال الأمن، فاقترب منه وسأله:
-هو حضرتك والد العروسة؟

أومأ بإيجاب، وقال بابتسامة خفيفة:
-أيوه... أنا في مقام والدها... أنا حماها... وصاحب الفندق.

مد عمرو يده يصافحه بابتسامة وقال:
-شكرًا لحضرتك.
-على إيه، نورتوا الفندق بتاعنا... 
قالها الرجل برسمية، فرد عمرو بابتسامة:
-منور بوجود حضرتك.
ثم ارتفع حاجبا عمرو باستغراب، وقال ببعض الارتباك:
-آآ... هو الفندق... بتاع حضرتك؟
-أيوه.
للحظة، ثبت عمرو مكانه، يستوعب الموقف، أن سراب تساعد العروس اليتيمة زوجة ابن مالك الفندق!!
انتبه من شروده على سؤال الرجل:
-إنت أخو الميكب ارتست ولا صاحبها؟

قال عمرو بابتسامة:
-لا أنا جوزها... فرحنا النهارده ان شاء الله.
-دا بجد؟
قالها الرجل بتعجب، فأومأ عمرو بابتسامة، بينما قال الرجل:
-والعروسه جايه تشتغل! أنا أول مره أشوف كده!
قالها الرجل بضحك، فضحك عمرو وعيناه تلتمعان بسخرية مرحة، ثم قال بعفوية:
-وأنا والله، بس يلا... كويس أننا جينا، عشان نلحق رحمة قبل ما المصيبة تحصل!
ربت الرجل على كتف عمرو وقال:
-واضح بقا إن ظروفكم صعبه عشان كده مراتك بتشتغل يوم فرحها...
-لا والله مش صعبه ولا حاجه بس مراتي اللي غاوية مرمطه.
ضحكا، ثم قال الرجل:
-طيب تعالى اتفضل نشرب حاجه ونتكلم...

وسار عمرو معه وهو يطلب رقم سراب التي ما أن أجابت خاطبها بصوت اقرب للهمس لكنه يحمل تهديد ووعيد:
-والله يا سراب ما حد هيربيكِ غيري...
استغفروا 🌸
*****
وعلى الجانب الآخر، كان هناك من يُراقب بصمت، تختبئ خلف قسماته ابتسامة ماكرة، ونظراته تُلاحق التفاصيل بدهاء، دون أن يلحظه أحد...
رجل أنيق يجلس على مقربة، يرتدي حُلة سوداء تزيده غموضًا وجاذبية.
نهض بحركة واثقة، ثم ارتدى نظارته الشمسية ببطء وكأنّه يستعد لمشهد محسوب...
تقدم بخطوات هادئة، لكنها تحمل عزيمة مقلقة، متجهًا نحو «صالح»، الذي كان واقفًا أمام الفندق ووجهه مشدود تتقاذفه التوترات، كأن الغضب يوشك أن يتفجّر من عينيه.

وقف الرجل أمامه مباشرة، وجاء صوته منخفضًا، لكنه محمّل بثقل لا يُستهان به:
-ممكن كلمتين؟

ألقى «صالح» نظرة سريعة على زوجته، كأنّه يبحث في عينيها عن تفسير، أو يستمدّ منها ثباتًا، ثم أعاد بصره للرجل، لكن الأخير لم ينتظر، وتابع بنبرة أكثر جدّية:
-مش هاخد من وقتك كتير.  
 
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم💐             
                  ★★★★★★
في دار لرعاية المسنين
حلّ المساء بهدوء مخملي، وانسحبت أشعة الشمس الذهبية بخجل، تاركة خلفها ظلالاً طويلة تتمدد كذكرياتٍ على الأرض الرطبة.
وفي شرفة واسعة كان «نادر»قد أنهى للتوّ سرد حكاية «كارم»، بأدق تفاصيلها، أمام «توفيق» و«راشد» الذي استدرج نادر للحديث... لكن الحقيقة أن «نادر» كان مستعدًا لأن يُستدرج، وكأنه ينتظر تلك اللحظة ليراقب ملامح «راشد» ورد فعله على الحديث.

كان حلق «راشد» يرتجف ويجف كلما تردّد اسم «حسين» فيزدرد ريقه بصعوبة، وتتبدل ملامحه في كل مرة تُذكر فيها «سراب» أو «تقى»، وكأن الذكرى تخنقه.

لاحظ «نادر» ذلك جيّدًا، فأنهى الحديث بجملة:
-والنهارده بقى... فرح البنتين اللي قولتلك عنهم... تقى وسراب.

اتسعت عينا «راشد» كطفل سمع خبرًا سعيدًا، وتهللت ملامحه، لم يفلح في إخفاء فرحته:
-هيتجوزوا؟! مـ... مين؟ مين اللي هيتجوزهم؟

ابتسم «نادر» ابتسامة خفيفة وقال:
-عمرو وعامر... اللي لسه حاكيلك عنهم.

تغير وجه «راشد» في لحظة، كمن تذكر شيئًا مؤلمًا:
-و... و... والراجل ده... عمل إيه؟ آه... اسمه كان حسين، مش كده؟ أبو سراب؟
قالها متلعثمًا، يحاول أن يبدو عابرًا، لكن نبرته فضحته.

رمقه «نادر» بنظرة فاحصة، وابتسامة خفيفة تتسلل إلى ملامحه:
-بالضبط... كان اسمه حسين... منه لله... نسيت أقولك... إنه مدّ إيده على سراب أكتر من مرة. وكان بيحاول يخلّي عامر يطلق تقى علشان هو يتجوزها!

قلب «راشد» كفيه فجأة، كمن لم يعد يتحمل، وهدر:
-ده اتجنن رسمي!

ثم ما لبث أن خفف نبرته، وتغير صوته إلى حزن عميق:
-حسبي الله ونعم الوكيل فيه... وفي أمثاله.

قطع الحديث صوت «فاروق»، العجوز المرح، وهو يخرج من المطبخ يحمل صينية عليها أكواب الشاي:
-الشاي وصل يا ناس يا عسل!

رفع «نادر» يده معتذرًا:
-لا يا عمي فاروق، مش هشرب تاني... أنا ناوي أقوم أنام شويه.

رد «فاروق» ضاحكًا وهو يضع الصينية:
-خلاص هشربه أنا وتوفيق!

ضحك «توفيق» بخفة، وقال وهو ينهض:
-لا يا عم، أنا كفاية عليا... دي تالت كوباية النهاردة.

انشغل «فاروق» بمحاولات إقناع «توفيق»، بينما تسمر «نادر» يحدق في وجه «راشد»، يراقب لمعة خافتة تتجمع في عينيه... دموعٌ تتوسل إلى الجفون ألا تسقط... لكنه تظاهر بالتثاؤب، كأنما يريد أن يمنحها مخرجًا طبيعيًا.
لم تنطلِ الحيلة على «نادر».
نهض فجأة، قال بصوت هادئ:
-أستأذنكم يا جماعة... هقوم أرتاح.
ثم انسحب إلى غرفته، بينما كان في داخله سؤال يصرخ...
هل كان ذلك مجرد تعاطف من «راشد»؟ أم أنه هو... «كارم» نفسه؟!
ويخفي سراً لم يُفصح عنه بعد؟!
حمل هاتفه وأخذ يُقلب في جهات الإتصال حتى اختار من يشاركه حيرته تلك.

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 🌸 
                 ★★★★★
وقفت «رغدة» عند ناصية الشارع، كان هاتفها بين يديها، وعيناها تتابعان الشاشة بقلق...
كانت تتصل على «رحمة» للمرة الخامسة، لكن بلا إجابة...

ضغطت شفتيها معًا، وقلبها بدأ يخفق بسرعة، وشعور غريب بعدم الارتياح يزحف داخلها...

زفرت بضيق، ثم رفعت بصرها إلى بيت دياب المزين بالمصابيح والزينة...
ومن حولها أصوات الضحك والتهاني تملأ المكان، والشارع يعج بالحركة، بينما الأطفال يركضون بين الحضور، والنساء تتبادل الابتسامات...
كان كل شيء يبدو طبيعيًا... إلا شعورها.
تقدمت بخطوات حذرة، مترددة في دخول المنزل...
وحين دلفت شد انتباهها باب غرفة «عامر» المفتوح و«بدر» يقف إلى جانبه، يساعده في تعديل ياقة بدلته.
قال «بدر» بمرح وهو يبتسم:
-يا عم أنت هتفضل مكلكع في كل حاجة حتى في لبسك؟

ضحك «عامر» وهو يشد أكمام بدلته قليلاً، ثم قال بنبرة ساخرة:
-معلش ما أنا مش زيك بقى، طالع من إعلان بدل رجالي.

ابتسم «بدر»، ثم مرر يده على ياقة عامر، يعدلها وهو يقول بمزاح:
-والله ياخويا مش أنا العريس الليلة... ولو لبست بيجامه محدش هياخد باله... لكن إنت اللي عليك العين.

كانت «رغدة» تراقب المشهد بصمت، لم تكن تعرف لماذا استوقفتها حركات «بدر»، أو لماذا بدا مختلفًا!
التصقت عيناها به دون وعي، تنظر إلى ملامحه التي ازدادت صلابة وكأنه يتظاهر بالفرحة ويخفي في قلبه الكثير...

انتبهت لنفسها وشعرت أنه على وشك أن يلتفت... فتراجعت بظهرها بسرعة، لتحاول الابتعاد قبل أن يراها ولكن قبل أن تدير وجهها التقت عيناه بعينيها، وبرغم أنها سحبت بصرها في اللحظة التالية، إلا أن صداها ظل معلقًا في صدرها...

أما «بدر» فحين التقط نظراتها شعر بوخزة مفاجئة في قلبه، كما لو أن نبضه قد تعثر لثانية...
وضع يده على قلبه بلا وعي، وحدق في الفراغ أمامه، ثم تمتم دعاءً خافتًا لها، دون أن يدري لماذا شعر أنها بحاجة لذلك.

اتكئ بذراعه على باب الغرفة بعدما دخل عامر المرحاض يبدل ملابسه، شرد يتذكر «نادر» الذي هاتفه قبل قليل أخبره عن ذلك المُسن «راشد» الذي يشبه «كارم» إلى حد كبير لكنه آثر الصمت حتى تمضي تلك الليلة أولًا وسيخبر «عمرو» و«عامر» عما أخبره «نادر» وعما قاله «باسل» عن ذلك الكتاب الذي يبحث عنه «حسين» عله يتوصل لحل ذلك اللغز...

انتبه  من شروده حين خرج «عامر» من المرحاض وقال:
-يلا يا كبير نروح نظبط البدله دي!

قال «بدر» ساخرًا:
-أنا مش فاهم، إزاي لسه واخد بالك إنك عريس ولازم تظبط بدلتك؟!

ضحك «عامر» وهو يرد بتنهيدة خفيفة:
-يا عم أنا تعبت، أظبط بدلتي ولا شقتي ولا دماغي؟! كله فوق دماغي... يلا عقبالك يا بدر يا غالي.
ضحكا وخرجا من البيت...
وبعد انصرافهما...
لمّا لاحظت رغدة خروجهما، قررت أن تبتعد عن صخب الضحك والأحاديث...
تسللت بهدوء إلى غرفة عمرو وعامر، لعل الوقت يمر سريعًا وتصل أختها رحمة...

كانت الغرفة هادئة، تغمرها رائحة خفيفة من العطور الرجالية والكتب القديمة.
جالت بعينيها في الأركان، ثم اقتربت من مكتب عامر...
راحت تفتح الأدراج واحدًا تلو الآخر، حتى توقفت عند درج مؤصد، لكن المفتاح كان موصولًا بالقفل، كأنه يُغريها بالفتح.
ودون تردد، أدرته ببطء...
فظهر أمامها اختراع عامر الغريب، مغطى بقطعة قماش داكنة، لكن لم يلفت انتباهها بقدر ذلك الكتاب الذي وُضع بعناية بجانبه.
تناولت الكتاب، وكان غلافه مصنوع من جلدٍ أسود قاتم يبدو قديمًا، بعنوان غريب( rdj htp)، بلا اسم مؤلف... فقط فراغٌ يوحي بالكثير.

مررت أصابعها فوق الغلاف ببطء، كأنها تنتظر أن ينطق بشيء.
ولشغفها بالقراءة، فتحته، وبدأت تقرأ...
السطور الأولى بدت مألوفة لكنها مشوّشة، وكأنها كُتبت بلغةٍ تنتمي لعالمٍ مختلف، ورسومات غريبة لأداة أغرب، لم تفهم شيئًا من الأوراق الأولى حتى وصلت منتصفه ورأت جملًا باللغة العربية وقبل أن تقرأ...
انفتح الباب فانتفضت...
دخلت شيرين على حين غرة، فوثبت رغدة واقفة باضطراب، وأغلقت الدرج في سرعة، سألتها شيرين باستغراب:
-بتعملي إيه يا رغدة؟
-مـ... مفيش، كنت بس قاعدة بعيد عن الدوشة اللي بره.

نادى أحدهم شيرين، فأخذت شيئًا من فوق الكومود وخرجت بسرعة.
تنهّدت «رغدة»، وأعادت فتح الدرج.
أمسكت بالكتاب بإحكام، ثم خرجت... ليس فقط من الغرفة، بل من البيت كله، وفي قلبها شعور غريب لم تفهمه بعد.
لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلســ ــطين.🥲
********
غشى الليل صفحة السماء...
ألقت الأضواء المعلقة ضوءًا لامعًا على الشارع، وتعالت أصوات الأهازيج...
أخذت «تُقى» تقطع الغرفة جيئة وذهابًا، تمسك هاتفها بيدها، تراقب شاشته بقلق، ثم تضغط مجددًا على اسم «سراب» في سجل المكالمات.
وضعت الهاتف على أذنها وانتظرت... رنين طويل، ولا إجابة.
توقفت فجأة وزفرت بضيق، ثم رفعت بصرها إلى نداء، التي كانت تجلس على حافة السرير، تتابعها بعينين حذرتين.

-شوفتي سراب وحركاتها! برده مش بترد!
قالتها تُقى بنبرة مضطربة فرفعت «نداء» حاجبيها، لكنها حاولت التهدئة:
-معلش عروسه بقا... تلاقيها في الكوافير ومشغوله، دلوقتي تيجي...

قبضت «تقى» على الهاتف بيدها وقالت بصوت متوتر:
-قلبي مش مرتاح! عمرو هو كمان مش بيرد!

نهضت «نداء» من مكانها واقتربت منها، وضعت يدها على كتفها بلطف:
-طب اهدي يا تُقى، دلوقتي يجوا...

لم يكن عقل «تقى» قادرًا على الاسترخاء.
استدارت بسرعة وخرجت إلى الشرفة، حدقت في الشارع للحظات ولا أثر لسراب أو عمرو.

ضغطت على الهاتف مجددًا واتصلت، لكن النتيجة كانت نفسها... الرنين يستمر، ثم ينقطع، بلا إجابة.

عادت إلى الداخل، وألقت الهاتف على الطاولة بغضب، تمتمت بصوت منخفض:
-حاسه إن فيه حاجه!
شاركتها نداء النظرة القلقة هذه المرة، لكنهما لم تملكا سوى الانتظار... والقلق الذي أخذ يتضاعف مع مرور الوقت.
                         ★★★★★
من ناحية أخرى، قرأت «رغدة» الكتاب؛ ذاك الذي أخذها من الواقع ردحًا من الزمن حتى انتهت ولم تفهم شيئًا...
أغلقته ونهضت واقفة، فتحت النافذة فلمحت والدها يغادر مع زوجته وصغاره...
ارتفع حاجباها في ذهول! فقد بدا صالح مرتبكًا وكأنه يركض قبل أن يراه أحد!
اختلج داخلها حين انتبهت لغياب رحمه تلك التي خرجت مع والدها ولم تعد بعدُ...
هبّت تركض خلف والدها، تناديه بصوت يحمل ذعرًا خالصًا:
-يا بابا! استنى... يا بابا، رحمة فين؟!

ورغم أنها ركضت خلف السيارة حتى منتصف الشارع، لم يلتفت لها والدها...

كانت أنفاسها تتسابق للخروج من صدرها.
شعرت بقلبها يصطدم بقفصها الصدري، وبأفكارها تتصارع في رأسها، تتساءل أين أختها؟

تسمرت مكانها للحظات والأفكار تلفح رأسها، حتى ظهرت سعيدة فجأة، وسألتها بلهفة:
-في إيه؟ أبوكي مشي ليه ومحضرش فرح ولاد عمه؟

نظرت إليها «رغدة» بعينين تائهتين. 
هزّت رأسها ببطء، وشفتيها عاجزتان عن تشكيل أي حرف، ثم استدارت فجأة وهرولت نحو بيت دياب.

راقبتها «سعيدة» تبتعد، ثم صكت كفيها غيظًا:
-آه يا متكبرة...!

أسرعت «رغدة» نحو بيت دياب لتخبر جدها وجدتها وتوقفت فجأة عندما أبصرت بدر واقفًا عند بوابة البيت، منحنيًا قليلاً، وتناهى لسمعها جملته:
-يا خبر أبيض معقول!! طيب، ورحمة عاملة إيه دلوقتي؟

هرولت إليه، وقلبها يركض قبلها:
-رحمة؟ أختي؟!

نظر إليها «بدر» بسرعة، لكنه لم يجب، تابع حديثه، بينما كانت تراقب شفتَيه، تحاول أن تسرق معلومة واحدة من بين الكلمات حتى أنهى المكالمة، فسألته مباشرة:
-هو في إيه؟!

تردّد، وعبثت يداه بالهاتف، ونظراته تتفادى عينيها، وهو يقول بتلعثم:
-مفيش... يعني... أصل... هي رحمة مع سراب وعمرو... وجايين في الطريق.

قالت بصوت أعلى، كأنها تحاول أن تُخرج منه الحقيقة بالقــوة:
-يعني... مالها رحمة؟!

أطرق برأسه للحظة، ثم قال باقتضاب:
-جايين في الطريق.

تركها وابتعد، بخطوات متسارعة والأفكار والذكريات تتصارع داخله...
الكتاب المجهول... رغدة... باسل... أخويه وضغوطات كثيرة تجثم فوق صدره.

وقبل أن يدخل، جاءه صوت «سعيدة»، بصوتها اللاذع كعادته:
-يا هندسة... يا متواضع!

توقف، وأغمض عينيه في ضيق قبل أن يلتفت لها، فقالت:
-لازم تدفعلي كفارة يمين، عشان فيه سر كبير لازم تعرفه عن طليقة جدك اللي بتدوروا عليها...

قال بلهفة، كأن شيئًا في قلبه يعرف أن كلامها مهم:
-قولي... وأنا والله هدفعها.

صمتت لحظة تفكر، ثم اقتربت خطوة وقالت:
-ماشي... بص يا هندسة، الصورة اللي وقعت من جدك، أنا لقيتها، واديتها لـ شيرين.... هي قالتلي إنها صورة أمها... يعني شيرين بنت جدك... واسمها شيرين عبد الوهاب، و...
لم يتركها «بدر» لتُكمل وانطلق راكضًا نحو بيت «شيرين»، وقدماه تسبقان وعيه.

صاحت «سعيدة» من خلفه:
-الله! طيب فلوس كفارة اليمين يا هندسة!
لم يلتفت «بدر»، كانت الأمور تتشابك في عقله بسرعة مرعبة.

زمّت سعيدة شفتيها، وقالت بغيظ:
-آه يا شوية متكبرين!

صلوا على خير الأنام 🌸
              ★★★★★
وفي الداخل 

-يا تيتة، بقولك بابا خرج فجأة، وكان معاه رحمه... ومارجعتش معاه تاني! أنا مش فاهمة حاجة! وهي أصلاً إمتى راحت مع سراب وعمرو؟ وازاي مقالتليش ومش بترد على موبايلها كمان؟!
قالت «رغدة» وكلماتها تتقافز بتوتر واضح، حاجباها مرفوعان وعيناها تلمعان بالقلق، وكأن عقلها يسابق لسانها.
فأجابت الجدة «فاطمة» بصوت متماسك حاولت أن تخفي فيه ارتجاف قلبها:
-دلوقتي تيجي يا رغدة ونفهم... طالما مع عمرو اطمني.

لكن عينيها كانت معلقة على «شيرين»... تحدّق فيها بنظرات ممتلئة بالغيرة والمرارة.
كم تمنت لو كانت حياتها مثلها؛ أسرة مجتمعة حنونة، أبناء يحبونها ويحتضنونها دائمًا. 
أما هي... فقد بقيت وحدها، كل أولادها هاجروا، تفرّقوا كأنهم ما انتموا يومًا إليها، فولديها الأثنان طباعهما قاسية جافة، حتى «ريم» ابنتها تزوجت من ابن شيرين «رامي» وسافرت معه.

نهضت «رغدة» ببطء، تسند كفها على طرف الأريكة، وجسدها يحمل ثقل الحيرة.
وما إن لامست الأرض بقدميها حتى لمحته...

كان «بدر» واقف عند الباب، ينادي على «عامر»...
حدقت فيه بطرف عينها، وراقبت كيف خرج له عامر سريعًا، فقال بدر:
-عايزك في حاجه ضروري...
-طيب تعالى.
قالها عامر وسحبه إلى الغرفة المجاورة، كادت تتبعهما لولا أن شقّ صوتٌ باب البيت:
-يا أهل الدار... ياللي عاملين فرح من غيرنا!
دخل تلاث أطفال، وبعدهم ظهر «رامي» وبجواره زوجته «ريم»... وما إن رأتها فاطمة تهللت أساريرها ونهضت مسرعة...

ركضت نحو ابنتها تحتضنها بقـ ـوة وكأنها تخشى أن تذوب من بين ذراعيها، وأغرقت وجوه أحفادها بالقبلات، تمتمت بشوق:
-مقولتوش ليه إنكم جايين يا ولاد؟

ردّت «ريم» بابتسامة دافئة وهي تمسك يد والدتها بحنان:
-عملناها لكم مفاجأة يا ماما.
ضج المكان بأصوات الترحاب والسلام، كأن دفء العائلة عاود إشعال البيت من جديد ومعه إشعال غيرة فاطمة رُغم فرحتها بابنتها وأحفادها...

أما «بدر»، فظل واقفًا عند غرفة عامر، يمرر كفّه في شعره بتلقائية، وابتسامة حالمة ترتسم على وجهه...
فإن صحّ قول سعيدة، فهؤلاء أهله... هذا هو الجذر الذي يبحث عنه، وسيصبح بينهم صلة دم لا تنفصم.

انسحب نظره تلقائيًا يبحث عنها... عن «رغدة».
كانت تراقبه من بعيد، تبتسم لابتسامته دون وعي، وعيناها تعكس ارتباكًا لا تعرف مصدره.

لكن ما إن اقتربت نظراته من عينيها، حتى أشاحت وجهها سريعًا...

خفض «بدر» بصره فجأة، وغرق في دعاء هامس، صادق:
-يا رب... اللهم لا تفتني... اللهم يسر لي الحلال...

وبعد فترة عاد الهدوء يخيّم على البيت بعد موجة الترحيب، لكن القلوب ما زالت تخفق، وبعض العيون تراقب بصمت.
                       ★★★★
جلست «رغدة» على طرف الأريكة، بعدما صعدت جدتها «فاطمة» مع «ريم».
كانت يداها معقودتين بإحكام في حجرها، تعتصران بعضهما، بينما تجوب عيناها الفراغ تنتظر ظهور رحمة أمامها.

وفجأة، شقت الزغاريد هدوء المكان، لتعلن دخول «عمرو» أولًا، يتبعه خطوات مترددة خافتة... كانت «رحمة».
كانت عيناها محمرتان، نظراتها زائغة، وكتفاها متهدلتان كأنها خرجت من معركة...

وثبت «رغدة» كأن الأرض دفعتها نحو أختها، وهرولت إليها بعينين تتطاير منهما ألف علامة استفهام:
-كنتي فين؟! ليه ما بترديش على موبايلك؟! ومالك... معيطه كده؟!
لم تجب «رحمة».
بل ارتمت في حضن أختها، وكأنها تلتمس الأمان، تبحث فيه عن قطعة نجاة من غرقٍ كاد يبتلعها.

همست بصوت مبحوح، مكسور، لا دموع فيه، فقط انكسار نقي لا تشوبه تفاصيل:
-أنا كنت هضيع يا رغدة... بابا كان هيضيعني...

ارتجفت «رغدة»، كأن كلمات أختها صفعتها، ثم أحاطت بها بقوة، تُثبتها كمن يحضن طفلًا على وشك السقوط، وهمست بخوف:
-إيه اللي حصل؟

كانت «رحمة» تنكمش في صدر أختها، كأن العالم كله أثقل على كتفيها الضعيفتين.
ومن بعيد، وقفت «شيرين» تراقب المشهد. 
عيناها لا ترمش، وشفتيها تضغطان على بعضهما في صمت يوشك أن يصرخ، ثم سحبت «عمرو» من ذراعه إلى غرفة مجاورة.

في تلك اللحظة، همست رغدة لرحمة وهي تمسح وجهها:
-إيه اللي حصل يا رحمة؟

لم تُجب، بل هوت جالسة على الأريكة، وانهمرت دمعة ثقيلة على خدها، تبعتها شهقات متكسرة حاولت كبحها دون جدوى.

ثم بدأت الحكاية، كلمة تجر أختها، من خلف وجعٍ لم يهدأ بعد...
أما في الغرفة المجاورة، فكان «عمرو» يسرد لوالدته وأختيه، هيام ووئام، تفاصيل ما حدث... وكل كلمة كانت كأنها حجر يُلقى في بركة صمتهم.

-صالح دا اتجنن رسمي... أنا هروح أشوف رحمه...
قالتها «شيرين» وأطلقت تنهيدة خافتة ثم خرجت وتبعتها «وئام» ثم «هيام» بعدما ربتت على كتف «عمرو» وقالت:
-اجهز يلا العشا أذنت... وخلي أخوك يجهز الناس مستنيه.
*********
وفي غرفة «عامر»، كان هناك حوار آخر لا يقل وقعًا، حين قال «بدر» ما قالته «سعيدة» والكلمات تتسارع بالخروج من جوفه غير مرتبة لكن فهمه «عامر» في النهاية...
صمت «عامر» قليلًا ثم قال باستغراب:
-جدتي كان اسمها صافي... يعني ممكن يكون دلع صفيه فعلًا.
أومأ «بدر»وهو يبتسم، ففكر «عامر» لبرهة ثم ضيق جفونه وقال بتركيز:
-يعني احنا كده قرايب! وإنت تبقى ابن ابن أبو أمي!! يعني ايه برده الكلام ده؟
-يعني طنط شيرين أخت أبويا من الأب وعمتي وأنا أبقى ابن خالك...
أومأ عامر متفهمًا وقال:
-وبناءًا عليه سراب وتقى قرايبنا برده...
حاول «عامر» أن يرتب درجة القرابة في عقله، وضيق «بدر» جفونه هو الأخر مفكرًا حتى تنهد «عامر» بعمق وقال سريعًا:
-طيب بقولك إيه يا بدر... خلينا نعدي الفرح الأول، وبعدين نشوف الحوار اللي مش مفهوم ده! ونفكر سوا يعني إيه أمي تطلع بنت جدك!
-تمام عادي... خلينا نفكر سوا الأول ونتأكد و... وبعدين نقول... 

قاطع حديثهما طرق الباب ثم دخول «عمرو» للغرفة...
ألقى السلام دون أن ينظر إليهما وبدل نظراته وجلس على طرف الفراش، تنهد بعمق وخاطب بدر:
-قولت لعامر اللي حصل؟
-هو ايه اللي حصل؟
قالها «عامر» باستغراب وهو يجلس جوار «عمرو»، الذي أخذ يخبرهما بما فعل صالح وتفاصيل ما حدث! ثم قال:
-وبعدين يا جماعه؟ أنا مخنوق من اللي بيحصل حوليا ده...

زفر «عامر» ضاحكًا وقال:
-ولما بدر يحكيلك بقا اللي اكتشفه... هتبقى مخنوق ومصدوم ومتوتر.
عقد «عمرو» جبهته ثم نظر لبدر وسأله بفضول:
-حصل إيه تاني؟!

-لا لا... مش وقته خالص... يلا اجهزوا وبعدين هنتكلم كتير.
قالها بدر بلجلجة وخرج من الغرفة ثم من البيت...
بينما نظر عمرو لعامر وقال:
-حصل ايه؟
-مش وقته... قوم إلبس...
قالها «عامر» وأخذ ملابسه ثم خرج من الغرفة، بينما أطلق «عمرو» تنهيدة طويلة ولم يتلهف لسماع أي شيء! 
أراد أن يفصل عن كل هذا ويركز جميع حواسه أن اليوم سيجتمع مع من أرهقت قلبه... «سراب».
استغفروا 🌸 
                         ★★★★
في غرفة سراب
جلست أمام المرآة تُنهي آخر لمساتها، تمرّر فرشاة المكياج بخفة على وجنتيها.
بدا الفستان الأبيض على جسدها كغلاف حكاية لم تُكتب نهايتها بعد...
تأملت الفستان الرقيق الذي ينساب بنعومة كنسمة صيف، تتخلله تطريزات خفيفة تزيّن الأكتاف والأطراف بخيطٍ من البساطة والأناقة...
فقد صممته «سراب» بذوقٍ راقٍ فيما تولّت «تقى» تفصيله ببراعة يدٍ خبيرة، وكأن كل غرزة فيه تحكي حكاية انسجام بين الفكر والمهارة.

عادت تُكمل زينتها ولكن توقفت يدها في الهواء... كأنّ ذكرى باغتتها من العدم...
رمشت ببطء، ثم حدّقت في انعكاس وجهها وكأنها تراه لأول مرة.
ستتزوج عمرو!
ستعيش معه... تحت سقف واحد، تذكرت كيف تصاعد الحوار بينهما قبل قليل حين أخبرها أنها مستفزة ومندفعة وردت بأنه أيضًا كذلك وانتهى الجدال دون أن يعتذر أحدهما من الأخر! 

ازدردت ريقها، وارتعش طرف الفرشاة في يدها.
أعادت ترتيب نفسها، لكن ذاكرتها خانتها مجددًا... والدها حسين، ثم كارم، الجد الذي كان كل شيء ثم تبخر فجأة.
فرّت دمعة وحيدة من عينها...
مسحتها بعجلة، كأنها تخشى أن تُفسد مكياجها.

علت الزغاريد من الخارج... فأدركت وصول عمرو وعامر.
طُرق الباب فانتفضت، وأخذت تلملم حجابها بتوتر وهي تردّ بصوت خافت:
-حاضر... لحظة واحدة.

دوى طرقٌ آخر، تعرفت على صوت «وئام» وهي تقول:
-افتحي يا عروسه.
أسرعت نحو الباب، فتحته نصف فتحة، وعادت تُكمل لفّ الحجاب...
كانت يداها ترتجفان، كأنها لا ترتدي قطعة قماش، بل درعًا في معركة.
دخل «عمرو» فجأة واتسعت عينيه بصدمة حين وقعت عليها، قال بحدة:
-إيه ده؟! هو إنتِ هتخرجي كده ولا إيه؟!

رمقته بطرف عينها، وخرج صوتها هادئ لكن حادّ:
-يعني إيه كده؟
-استأذنتي مين أصلاً قبل ما تحطي مكياج؟
-وأستأذن ليه! أنا حرّة، أعمل اللي يعجبني.
اصطكت أسنانه بغيظ، وهو يقول:
-سراب، أنا مش عايز أتخانق وإنتي عماله تجري شكل، فخلي الليلة تعدي وروحي اغسلي وشك عشان مش هتخرجي كده.
-ومين قال بقا إنك تقدر تمنعني؟
انطلقت نظرات التحدّي بينهما كشرارات، وكادت الغرفة تشتعل لولا دخول وئام بينهما، تحاول احتواء الموقف:
-عمرو، سراب... بالله عليكم، الناس برّه... مش وقته خالص.
ثم أمسكت بذراع «عمرو» بلطف وقالت:
-اطلع إنت برا، وأنا هتكلم معاها.

خرج عمرو يضـ.ـرب الأرض بخطاه، والغضب يكاد ينــفجر من بين أضلعه، يتساءل إلى متى سيظل يتحمل ذلك العناد! نعم يحبها لكنها عنيدة وجدًا...

استدارت «سراب» نحو «وئام»، وتمتمت بصوت مضغوط بالغيظ:
-مش من أولها كده! مش هخليه يفرض رأيه عليّا.
-متبقيش عنيدة... هنغطي وشك بقماشه بيضه... وبس.
قالتها «وئام» وهي تبحث حولها عن قماشة بيضاء لتفعل، بينما جلست «سراب» مكانها وعلامات الغضب تتمشى على وجهها.

*********
وبعد فترة وجيزة
خرجت «سراب» من غرفتها، ووجهها مغطّى، لكن النار كانت تتأجج داخلها وعينيها تومض كوميض برقٍ يُنذر بالعاصفة.
كانت تزم شفتيها، تضغط على أسنانها كمن يجهّز نفسه لصفعة.
تقدّم «عمرو» منها بخطى ثابتة، ابتسم كأنه نسي، وأراد أن يفتح صفحة جديدة، مدّ يده نحوها.
ترددت لحظة، ثم استسلمت، فقط كي لا تُثير مزيدًا من الأنظار.
رفع الغطاء عن وجهها ثم همس بابتسامة:
-إنتِ أحلى من غير مكياج...

لم ترد عليه بل انشغلت بالتصوير...
وسط الزغاريد والكاميرات، كانت «هيام» توثّق لحظة بدايتها...
وقفت تُقى في فستانها العاجيّ الواسع، ينسدل بأناقة محتشمة من كتفيها حتى أخمص قدميها، وتُزيّنه تطريزات فضية ناعمة عند الأكمام والحاشية، تُضفي عليه لمسة هادئة من الفخامة دون تكلّف...
كان مصممًا ببراعة ليحفظ خصوصيتها ويُبرز رقيّها في آن واحد.
كان «عامر» بجانب «تُقى» التي تتأبط ذراعه، كأنهما لوحة كلاسيكية حيّة ستُعلّق للأبد... كانت عيونهما تلمع بحكايات لم تبدأ بعد.

بدت كتمثال رخام، أنيق وصامت، شفتاها منطبقتان بشدة كأنها تحبس شيئًا هائجًا داخلها، وعيناها متشبثتان بخيوط الضوء، تحاولان إخفاء الغيم المتراكم خلفهما...
لكنها لم تستطع إخفاء ابتسامتها الشاحبة، التي فضحت ارتجاف قلبها وانكشافها التام...

فقبل دقائق، همست لها «سراب» بكل شيء... دون تمهيد أو تحفّظ...
روت تفاصيل ما حدث في الفندق، كيف أقنعت عمرو، وماذا فعلت هناك...
خرجت الكلمات كقنابل، زُرعت واحدة تلو الأخرى في صدر تُقى، وكل واحدة منها أحدثت شرخًا في جدار صبرها...
حاولت إسكاتها بحدة، لكنها كانت، كعادتها، عنيدة لا تعبأ بعواقب الأشياء.

كان قلب تُقى يختلج داخل صدرها، لا تدري أيرقص فرحًا بقربها من عامر، أم يرتجف خوفًا على سراب، أم يغلي غضبًا من تهورها الذي لا يهدأ.

لاحظ «عامر» ارتباكها، فمال نحوها، وهمس مبتسمًا: 
-افردي وشّك، اللي يشوفك يقول مجوزينك غصب عنك.
ضحكت ضحكة مصطنعة، بالكاد لامست شفتيها، وسرعان ما انطفأت.
ثم ارتسمت على وجهها دهشة مفاجئة... حين وقعت عيناها عليه، وهو يدخل من باب الشقة...


تعليقات