
رواية عن تراض الفصل الثلاثون30 بقلم ايه شاكر
اتسعت حدقتاه، وتعلّق صوته بدهشةٍ تخلط بين الرجاء والذهول، تمتم:
-كارم؟!
ثم رفع صوته أكثر ينادي:
-كـــــــــــــــــــــارم!!
كان «كارم» يهمّ بدخول بيته حين ارتطم اسمه، الخارج من فم «البدري»، بأذنه كصفعة مباغتة.
توقّف، وارتجف جسده كأن أحدهم باغته من الخلف...
ازدرد ريقه بصعوبة، والتفت ببطء.
تجمّدت عيناه على وجه البدري، وكأنه يحاول تذكر أين رأى تلك الملامح...
خطواته التالية كانت واهنة، مترددة، وعيناه تتفادى نظرات البدري الواقف كجدارٍ من نار.
اقترب وهو يتمتم بحروف لا صوت لها، قبل أن يسمع نبرة «البدري» المغموسة بالمرارة:
-حمد الله عالسلامة يا كارم... لسه فاكر؟!
رفع «كارم» نظره بارتباك، وقال:
-حاج عبد الوهاب؟!
أومأ «البدري»، بشفاه مطبقة، ثم زفر ضحكة ساخرة، وقال:
-صح يا جوز المرحومة أختي... ولا أقول يا نصاب؟
تقلص وجه «كارم»، وأخذ نفسًا مضطربًا، ثم قال:
-إنت مش فاهم يا حاج عبد الوهاب... أنا هفهمك...
-اتفضل... فهمني.
قالها «البدري» بحدة، فمدّ «كارم» يده بتردد:
-تعالى ندخل جوه... وهشرحلك كل حاجة.
انتفض «البدري»، تراجع خطوتين في غضب، وهدر:
-إوعى تلمسني! ابعد يدك عني... يا حرامي... يا نصّاب!
تشنّجت يد «كارم» للحظة، ثم هوت ببطء، كأنها فقدت كل طاقتها.
اتسعت عيناه، تشع بمزيج من الذهول والخذلان، وقال بصوت مبحوح:
-الله يسامحك يا حاج... أنا؟! حرامي؟! ده انت تعرفني كويس!
هزّ «البدري» رأسه، وعضّ على شفتيه المرتجفتين.
كان الألم يقطر من صوته أكثر من الغضب:
-لا والله ما أعرفك... أنا طلعت ماعرفكش... تفسر بإيه هروبك؟ تفسّر بإيه الذهب اللي خدته من حسين وهربت بيه؟! وتفسّر بإيه شهادة الوفاة اللي باسمك؟!
اقترب «كارم» خطوة، وصوته يرتعش كما لو أنه يستجدي عدالة ضائعة:
-أنا صحيح أخذت ذهب، بس مهربتش بيه... والله ما هربت بيه! وشهادة الوفاة دي حقيقية بس... بس خلينا ندخل... خليني أشرحلك، بالله عليك قبل ما حد يشوفنا... أنا محتاج مساعدتك.
ومدّ يده مرة أخرى، كأنه يستند بها على بقايا ثقة...
لكن «البدري» صرخ، كان جسده كقــنبلة على وشك الانفــجار:
-قلتلك... ابعد يدك عني!
تراجع «كارم» خطوة، وخفض رأسه، ثم قال بصوت منخفض:
-طيب... تعالى نقعد جوه، وأفهمك كل حاجة، وهتعذرني يا حاج...
تأمّله البدري للحظة، ثم قال بنبرة حازمة:
-طيب... بس متلمسنيش... أنا بعرف أمشي لوحدي.
أومأ «كارم» بصمت بيما دخل «البدري» للبيت بخطوات ثقيلة، يسبقه كارم كمن يدخل غرفة محاكمة.
ومن خلف شجرة قريبة، كان «رائد» يراقب المشهد دون أن يرمش.
انكمش جسده بين الأغصان، وهمس لنفسه:
-عمي كارم!! يا ترى وراك إيه يا عمي كارم؟
ظل يتأمل مدخل البيت، ثم أخرج هاتفه بهدوء واتصل بدياب...
وحين حكى لوالدة قال جملة مقتضبة:
-خليك مكانك أنا جاي...
ثم أنهى المكالمة.
وضع «رائد» الهاتف في جيبه ووقف متحفزًا، وعيناه لا تفترقان عن مدخل بيت كارم...
استغفروا 🌸
★★★★★
وما أن أغلقت «سراب» باب الشقة خلفها، حتى خرج «عمرو» من غرفته.
تلاقَت أعينهما في لحظة خاطفة، لكنها كانت كافية لتصيب صدره بثقل الخذلان الذي انسكب من عينيها.
رمقته بنظرة حادة، صامتة، لكنها كانت أبلغ من أي عتاب.
أما هو، فوقف في مكانه، وعيناه تلمعان بندمٍ خافت، كأنه يبحث عن كلمات ضاعت منه قبل أن ينطقها.
همّت «سراب» بالدخول إلى غرفتها، وهمّ هو بفتح فمه...
لكن صوت «شيرين» المذعور اخترق سكون اللحظة:
-يا بني... عامر! يا بنييي!
كان صوتها يعلو وهي تصعد الدرج مسرعة، ممزوجًا بالخوف والتوسل.
ارتبك «عمرو»، وجحظت عينا «سراب»، وركضا سويًا نحو الباب.
في اللحظة نفسها، فتح «رامي» باب شقته، وحدّق فيهما بدهشة، قبل أن يسأل بعينيه المرتبكتين:
-في ايه؟
هرع «عمرو» نحو والدته التي كانت تطرق باب «عامر» بجنون، وصوتها يعلو:
-افتح يا عامر! بالله عليك افتح! افتحي يا تقى...
-عامر مالُه يا ماما؟!
قالها «عمرو» بقلق عارم، وهو يزيحها بلطف ويدق الباب بيده المرتجفة.
فُتح الباب من الداخل، وكانت «تقى» تبكي وهي تفسح لهم الطريق...
اندفع الجميع إلى الداخل...
وهناك، على أرضية الغرفة، كان «عامر» ممددًا، وجهه شاحب كأن الحياة انسحبت منه، وعيناه مغمضتان كمن غاب في حلم ثقيل.
ارتمت «تقى» على الأرض بجانبه وهي تبكي وتردد:
-فوق يا عامر... بالله عليك فوق!
انحنى «عمرو» سريعًا، حمل أخاه بذراعين مرتجفتين، ووضعه على السرير، بينما يده الأخرى تتفقد نبضه وتنفسه بقلبٍ يكاد يتوقف.
دخل «رامي» بسرعة، وأحضر زجاجة عطر من الحمام، سكب منها على يده، وراح يمسح بها وجه «عامر»، ويكرر برجاء وارتجاف:
-عامر... فوق يا حبيبي... فوق!
مرت لحظات ثقيلة مُربكة...
ثم فجأة، تحرك جفن «عامر» ببطء، وفتح عينيه بكسل...
زفر الجميع دفعة واحدة وكأنهم كانوا يحبسون أنفاسهم.
انحنى «عمرو» بجوار السرير، وضم يد أخيه بقـــوة، ثم انفجر في بكاء مرير، كان صدره يهتز، ودموعه تنهمر بلا توقف، كأنها تغسل الخوف الذي غمره للتو.
مسح «عامر» الوجوه بنظرة شاحبة، ثم قبض على يد أخيه وهمس بصوت واهن:
-أنا كويس...
نهض «عمرو» واقفًا وانفجـــر به:
-كويس إيه بس؟ ضاغط نفسك ليه؟ يتحــرق الكتاب، يتحــرق الاختراع، إيه اللي إحنا فيه ده؟
ثم انحنى نحو أخيه وقال بحب:
-إنت أهم من كل حاجة يا عامر... إنت أهم حاجة في الدنيا.
ثم طوّق أخاه بذراعيه، ضمه بقــوة وكأنه يعتذر بجسده، وأضاف بندم:
-سامحني... بدل ما أشد على إيدك، كنت بشد عليك بكلامي... أنا غبي... عصبي... سامحني!
سكنت الغرفة، وسادها صمت ثقيل، بينما البقية يتبادلون النظرات، وكل منهم يخفي رجفة قلبه بطريقة ما.
اعتدل «عامر» في جلسته، محاولًا أن يبدو أقوى مما هو عليه، ونظر إليهم قائلًا بنبرة خجولة:
-جماعه أنا... تعبت بس عشان ماكلتش من امبارح.
نظرت «شيرين» نحوه بفزع، ثم نظرت لنداء وقالت برجاء:
-نداء يا بنتي، روحي اعملي كوبايتين مية بسكر بسرعة...
-حاضر.
اومأت «نداء» وخرجت من الغرفة تتبعها «ريم» وهي تقول:
-أنا هجهز أكل...
بينما اقتربت «سراب» من «تقى» الباكية وضمتها وهي تهمس:
-الحمد لله بقى كويس... اهدي...
تمتمت «تقى» باطمئنان طفيف:
-الحمد لله.
جلست «شيرين» بجوار «عامر»، وبدأت تمسح على شعره بأنامل مرتعشة، وتشد على يد «عمرو» بيدها الأخرى، كأنها تحاول مواساة كليهما في آنٍ واحد.
سألت بصوت مرتجف:
-هو في إيه؟ يا ولاد؟
لكن لم يجبها أحد.
ظلت الكلمات عالقة في الحناجر، والنظرات تحوم بينها وبين الأرض... بين «عامر» والاختراع... بين الندم والخوف.
وبعد أن اطمأن الجميع، وجلسوا يشربون العصير الذي أحضرته «نداء» مع «ريم»، وتناول «عامر» الطعام ليُرضيهم...
حاول «رامي» كسر ثقل اللحظة، فصفق بيديه وقال:
-طيب يا جماعة... يلا حضّروا نفسكم، وجهزوا أكل هننزل ناكل تحت عند ماما، ونتكلم براحتنا، بس بعدما أتكلم مع عمرو وعامر شوية.
بكلمات هادئة ومطمئنة، أقنعهم رامي بالانصراف.
ثم سحب مقعدًا وجلس في مواجهتهما، بينما كانا لا يزالان على طرف الفراش، متجاورين، كأن الألم قرّبهما أكثر من أي وقت مضى.
تبادل «عمرو» و«عامر» نظرة قصيرة، بينما حوّل «رامي» نظره نحو الاختراع، يطالعه بنظرة سريعة متفحّصة، ثم عاد بعينيه إليهما وقال بنبرة دافئة لكن حاسمة:
-يلا... اشرحولي إيه اللي بيحصل معاكم؟!
-الشرح كله عند عامر.
قالها «عمرو» وهو يُطالع «عامر» الذي أخذ نفسًا عميقًا، كأن الشرح سيُخرج ما علق في صدره من وجع.
ثم نهض ببطء، وبخطوات ثابتة لكنها تحمل ترددًا دفينًا، اتجه نحو الجهاز.
رفع الغطاء عنه بلطف، كمن يكشف عن قلبه...
ظهر جسم معدني صندوق مُضلّع، لمرآة لامعة تشبه الزجاج، تعكس الغرفة بنقاء مبالغ فيه، كأنها تلتقط ما لا تراه العين...
أدار «عامر» أحد أوجه المرآة الصندوقية نحوهما، وخرج صوته خافتًا كأنه يبوح بسر دفين:
-ده... اختراعي، اللي كان المفروض يغيّر حاجات كتير.
ران عليهم صمت مهيب، يشبه الاعتراف، كأن الكلمات التي نطقها للتو أزاحت غطاء شيء كان مدفونًا منذ زمن.
خرجت أنفاس «عمرو» ببطء، بينما كانت عينا «رامي» لا تفارق «عامر»، متوترًا ومترقبًا، كمن ينتظر انفــجارًا وشيكًا.
اقترب «عمرو» من المرآة، يحدّق فيها بتركيزٍ مشوش، لم تكن تعكس وجهه فحسب، بل أشياء أخرى... كائنات مجهرية تتحرك على جلده كأنها تسكنه... رفع يده نحو المرآة، فرأى الحركة ذاتها.
قال «عمرو» بدهشة، ونصف همسة:
-كأن الأوضة كلها تحت الميكروسكوب!
نهض «رامي» بخفة وراح يتأمل سطح المرآة هو الآخر، وعيناه متسعتان بدهشة، ثم التفت فجأة واحتضن «عامر» وهو يقول بفخر:
-إنت عبقري!
لكن «عامر» هز رأسه بتثاقل، وجاء صوته مُرًا:
-مش أوي كده... لسه فيه حاجات مكتملتش.
ثم جلس على طرف الفراش، منكّس الرأس، ونظرته حائرة كأنه تائه بين مرآتين؛ واحدة عادية، والأخرى تعكس خيبته.
ظل «عمرو» و«رامي» يُحدقان بالمرآة ويتبادلان الحديث بينما مسح «عامر» وجهه وصمت، لكنه سمع صدى نفس الهمسات تنادي باسمه، التفت حوله بفزع لكن... رغم ذلك لم يقل شيئًا زاعمًا أنها ليست إلا تهيؤات.
صلوا على خير الأنام 🌸
★★★★★
كادت الشمس تميل قليلًا عن منتصف السماء، تبعث دفئًا مشوبًا بخفة نسيم الظهيرة تنثر أشعتها الذهبية فوق أرصفة المنصورة المتربة، ونسيم خفيف يعبث بأوراق الأشجار على جانبي الطريق...
خرج «بدر» من مركز الدروس الخصوصية، والمارة يملؤون المكان بينما سيارات الأجرة تتوقف وتتحرك في فوضى منظمة، وأصوات الباعة تنادي بفتور بعد يوم طويل.
قرر «بدر» أن يؤجل دروسه لهذا اليوم، فلم يكن قادرًا على التركيز وسط دوامة الأفكار التي تلاحقه...
يشعر بشيء ما يدفعه للذهاب لرغدة... للاطمئنان عليها، ومحادثتها عن الكتاب.
كان يسير ببطء، كأن قدميه تتعاركان؛ خطوة للأمام تعقبها أخرى مترددة للخلف، كأن الطريق نفسه يشك في نواياه.
توقف فجأة على رصيف ضيق قرب محل أدوات مدرسية، التقط أنفاسه، ثم دوى رنين هاتفه، فقطع شروده.
نظر إلى الشاشة، فظهر اسم «صالح». زفر بضيق، وعيناه تضيقان بامتعاض...
لم يجب، بل أعاد الهاتف إلى جيبه واستدار ليكمل طريقه.
لكن صوتًا مألوفًا ناداه من الخلف:
-مستر بدر! يا أستاذ بدر!
التفت ببطء، فإذا بصالح يقترب منه بخطوات واثقة، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة واسعة مشوبة بالخبث.
أطلق ضحكة قصيرة وقال بنبرة فيها ما يكفي لإغضاب شخص هادئ:
-شوفتك لما شوفت رنتي ومردتش... متضايق مني أوي كده!
أشاح «بدر» بوجهه جانبًا، كأنه لا يريد أن يرى وجهه أصلًا، ثم قال بنبرة مشوبة بالضيق:
-هتضايق منك ليه؟ هو أنا كنت أعرفك؟ أنا متضايق من حاجات تانية... وبعدين، هكلم عمي ضياء وأرد عليك النهارده.
-لا لا خلاص، متكلمش حد... أنا كلمته واتصالحنا.
قالها «صالح» وهو يلوّح بيده كأن الموضوع انتهى، فرفع «بدر» حاجبيه بتساؤل حذر:
-طيب... خير عايز مني إيه؟
مرر «صالح» يده على صدره كمن يتهيأ لعرض مهم، ثم اقترب خطوة وقال بهمس:
-أنا عرفت إنك عايز تتجوز رغدة... وأنا موافق عليك... لو عايز تكتب كتابك عليها دلوقتي، أنا جاهز... بس بشرط.
ضاقت عينا «بدر» وهو يطالع ملامحه، يتوقع طلبًا ماديًا... لكنه فوجئ حين قال «صالح» بصوت منخفض وكأنه يخبره بسر خطير:
-تاخدها وترجع على القاهرة، إنت وجدك، وتبعد عن تقى وسراب نهائي... أنا مش برتاحلهم... وتبعد كمان عن عيلة دياب خالص...
انفجرت ضحكة قصيرة من صدر «بدر»، كانت أقرب إلى زفرة دهشة، ثم قال:
-نعم؟!
-أيوه وترجع لبيتك وأخواتك الأغنيا، والله هو ده شرطي، لو وافقت، أجوزلك البت دلوقتي حالًا.
مد «بدر» يديه إلى جيب بنطاله، وما لبث أن أخرجها ببطء وكأنه يحاول كبح غضبه، وقال:
-هو إنت عرفت إن رغدة اتعميت؟
أومأ «صالح» ببرود، كأن الأمر لا يعنيه:
-آه... عرفت... ربنا يشفيها... لو مش مش هينفع رغده خد رحمه عادي!
تجولت نظرات «بدر» في وجهه، كأنه يبحث عن ذرة حنان أو قلق، عن شيء يثبت أن هذا الرجل أب... لكنه لم يجد شيئًا...
زفر ببطء وهز رأسه، ثم قال بحزم:
-لأ... أنا مش قابل عرضك، ومش هرجع القاهرة، ومش هبعد عن عيلة عمي دياب... وعلى فكرة بلغ اللي بيراقبوني إن جدي لقى عياله خلاص... وابقى سلّملي على اللي باعتينك.
قال أخر جملة وهو يضغط على ذراع صالح، ويغمز بعينه، فارتبك «صالح»، رفع يديه معترضًا:
-آآ... أنا محدش باعتني!
ابتسم «بدر» بسخرية مريرة:
-سلام عليكم يا عمي صالح ومتنساش تسلّملي على راجي ونافع... أخواتي...
ثم انصرف، يخطو بخطى ثابتة، تاركًا «صالح» واقفًا مكانه يتمتم بكلمات غير مفهومة، قبل أن يخرج هاتفه ويدس الرقم المرتبط في ذاكرته، وما أن جاءه الرد، قال بنبرة مضطربة:
-أستاذ نافع... بدر كشفني! أعمل إيه؟! ... وأنا مالي يا عم إنت! يعني إيه الكلام ده؟! ... أنا عايز الفلوس اللي اتفقنا عليها!! إنت مش قولتلي أراقبه هو وأصحابه وأشوف هدخله منين وأنا نفذت بالحرف... يا أستاذ... أستاذ...
نفخ بضجر حين أغلق نافع الخط دون استئذان ووضعه في جيبه وغادر وهو يتمتم نازقًا...
على نحوٍ أخر
ما أن وصل بدر إلى الشارع حتى التقطت عيناه نظرة غريبة من سعيدة.
لم تبتسم، لم تلوّح له كعادتها، بل كانت تهمس بشيء لصاحب المحل وتُشير نحوه بخفّة، وكأنها تحذّره منه!
هزّ رأسه في ضيق، ثم تابع طريقه بخطى متسارعة... لن يؤجل أكثر، سيخبر جده بكل ما يخص شيرين، ويخبر شيرين، لابد من المواجهة السريعة مهما كانت العواقب.
لا حول ولا قوة الا بالله 🌸
★★★★
جلس «كارم» قبالة «البدري»، بينهما صمت ثقيل ونظرات مشتعلة...
كان «البدري» يرمقه بعينين ضيقتين، تشعان بالضيق والريبة... تململ في جلسته قليلًا، ثم قال بنبرة حادة:
-احكي... هتفضل باصصلي وساكت كده؟!
خفض «كارم» عينيه، مرر يده فوق جبينه كمن يحاول ترتيب فوضى أفكاره، ثم تمتم بصوت منخفض:
-مش عارف أبدأ منين...
تنفس «البدري» بعمق، كأنه يقاوم نفاد صبره، وردّ بجفاف:
-من أي حتة يا كارم.
رفع «كارم» رأسه ببطء، وعيناه تتوسلان الفهم قبل أن ينطق:
-قبل ما أتكلم... عايزك تتأكد إني المظلوم الوحيد في الحكاية دي كلها. أكتر واحد اتبهدل... واتشرد هو وعيلته.
سكت مرة أخرى، ارتجفت شفتاه فتح فمه وهمّ بالكلام، لكن رنين الجرس قطع اللحظة...
نهض «كارم» بتوتر وقال:
-خليك... أنا هفتح.
توجه نحو الباب بخطى مترددة، بينما تابع «البدري» خطواته بعيون متحفزة، كأنها تراقب لصًّا على وشك الفرار.
فتح «كارم» الباب، وما أن رأى «رائد» و«دياب» أشاح وجهه وأفسح لهما ليدخلا، وهو يقول:
-ادخلوا وأنا هفهمكم كل حاجه.
دخل «رائد» و«دياب»، وخيم على المكان توتر أشد.
جلس «كارم» على مقعده ورائد إلى جواره، بينما جلس «دياب» وحده على مقعد قريب، يُطالع كارم في صمت مهيب.
قال رائد:
-ممكن تتكلم يا عمي كارم؟! كنت فين؟ وإيه اللي بيحصل ده؟
تراجع «كارم» في مقعده وكأنه يختبئ من نظراتهم.... ثم نكس رأسه وقال وهو يفرك أصابعه بانفعال:
-محدش يسألني عن حاجة أنا هقول من غير ما حد يسأل... ومتبصوليش كأني مُتهم... أنا اتظلمت... واتظلمت كتير... كتير أوي...
لفّ الصمت أجسادهم كضباب كثيف، حتى زفر «كارم» زفرة طويلة، وارتسمت على وجهه ملامح الإنهاك والندم، ثم قال بصوت خفيض كأنه يخرج من قاع روحه:
-الحكاية كبيرة... كبيرة أوي مش عارف أبدأها منين...
قال «دياب» بنبرة مترددة لكنها حازمة:
-احكي يا كارم... مع إني جاي ألومك وشايل منك كتير، بس مش قادر أحكم عليك قبل ما أسمعك.
بلع «كارم» ريقه، ونظراته تتنقل بين الوجوه، ثم قال:
-نبدأ من لما كنت في أخر سنه في الكلية، أخويا الكبير دخل عليا بكتاب غريب... كتاب قديم، طلب مني أفك الرموز اللي فيه، لأن كان فيه شفرات بلغة قديمة أنا بعرف فيها... سهرت عليه ليلة كاملة أترجم وأفك شفراته، ولما صحيت الصبح... لقيتني مش شايف... اتعميت.
ظل «رائد» يراقب بصمت لكن بدهشة وهو يسترجع أمر ما بينما تابع «كارم» بصوت منخفض:
-أبويا لف بيا على دكاترة ومشايخ، وبعد فترة رجعلي نظري... قلنا قضاء وقدر... لكن بعدها أخويا... اتعمي هو كمان... واتكرر نفس السيناريو، وبعد أيام... أخونا التالت كمان... وبعدين أبويا وبعدين صاحبه ساعتها فهمنا وعرفنا إن الكتاب هو السبب.
قاطع «رائد» بنفاد صبر:
-كتاب إيه ده؟ وجايبينه منين أصلًا؟
رمقه «كارم» بنظرة حادة وقال بنبرة غاضبة:
-محدش يقاطعني!
سكت الجميع، فأكمل «كارم»:
-كلفوني أتخلص من الكتاب بأي طريقة... دفنته في حديقة البيت، ومرت السنين. اتجوزت وخلفت، ومحدش فتح سيرة الكتاب تاني. لحد ما في يوم بنتي عصفورتها ماتت وراحت تدفنها في الحديقة، ولقت الكتاب.
صمت لحظة ثم قال بصوت متهدج:
-كتبت فيه بخط إيديها، بس الحمد لله مكانتش قرأت منه حاجه...
قال «دياب» سريعًا:
-بنتك دي اللي هي أم سراب؟
أومأ «كارم»، ثم أكمل بصوت انكــسر في آخره:
-بعد ما أبويا مات، حصلت مشاكل بيني أنا وأخواتي... أخويا الكبير، قرر يحل المشاكل بجواز بنتي من حسين ابن أخونا التالت... طبعًا أنا رفضت... بس حسين ماسكتش... لأن بنتي كانت عجباه و...
اهتز صوته و امتلئت عيناه بالدموع، وهو ينطق بخفوت:
-اغـتصـ... اعتـ...ـدى عليها.
مسح «كارم» الدموع عن وجهه... وقبل أن يُكمل ارتفع جرس الباب مرة أخرى فنهض «رائد» يفتح وكلمات «كارم» تمور في رأسه بلا هوادة... خاصة أخر كلمة...
ظهر بدر وألقى السلام فرده رائد وعاد للداخل وهو يقول:
-ادخل يا بدر تعالى...
دخل «بدر»، وأغلق الباب خلفه.
لحظة قصيرة مرت ونظراته تتجول بينهم، قبل أن تتسع عيناه بدهشة حين وقعت على «كارم»...
أدرك أن هذا الرجل هو «كارم» نفسه! الذي رآه في صورة قديمة أصلع الرأس، أما الآن، فهو كما وصفه «نادر» تمامًا.
جلس «بدر» إلى جوار جده، وقلبه يضج بأسئلة لا تهدأ. لم ينتظر تمهيدًا، بل انطلق يسأل بانفعال ولهفة، كأن الكلمات تدفقت رغماً عنه:
-الكتاب! إيه سر الكتاب؟ ورغدة... اللي مش بتشوف، دي نعالجها إزاي؟
تنهد «كارم» ببطء، ومسح وجهه بكفه كمن يحمل على روحه أثقال أعوام.
بدت عليه علامات الإرهاق، لكن صوته خرج ثابتًا:
-الكتاب ده كل اللي بيقراه بتركيز... بيتعمى فترة... وبعدها بيرجع يشوف تاني... لما يسمع قرآن، أو حد يقرأ عليه...
ران عليهم صمت ثقيل يتبادلون نظرات تشع حيرة وقلقًا، حتى قال «البدري» بصوت عميق وهو يُحدق في «كارم» بحدة:
-كمل يا كارم...
تلعثم «كارم» قليلًا، وابتلع ريقه وهمّ أن يتابع، لكن جرس الباب دوّى فجأة فقطع الصمت مثل صفعة.
قفز «بدر» من مكانه بتوتر واضح، وسار بخطوات سريعة نحو الباب، بينما كل العيون تلاحقه...
فتح الباب، فظهر رجل بوجه حاد الزوايا لم يكن في ملامحه أثرٌ للود، بل يخيّل لمن يراه أنه خُلق من حجر، أو أن الرحمة قد نُزعت من قلبه.
دفع «بدر» ودخل دون استئذان وحين خطا إلى الداخل، بدا كأنه قادم من مسرح سلطة لا من شارع، كانت خطواته ثابتة، ونظراته تمشط الوجوه باحتقار مستتر، بينما يده تنفض كمّ سترته كما لو كان يزيح بها ذرة غبارٍ من عالمٍ أدنى.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه، وضاقت عينيه بخبث.
وقف بدر أمامه بثبات وقال بتهكم:
-عليكم السلام يا أستاذ نافع... نورت.
رمقه نافع من أعلى إلى أسفل بازدراء، ورد بلهجة حادة:
-أنا مليش كلام معاك.
وما إن وقعت عيناه على «كارم» حتى انفرجت شفتاه عن ضحكة جافة، وقال بصوت عالٍ أجش: -الله! دا كارم هنا؟! الحرامي النصاب رجع أخيرًا!
نهض «كارم» واقفًا في لحظة، ومدّ سبابته في وجهه، والنار تشتعل في عينيه:
-احترم نفسك يا نافع... وإلا...
قاطعه «نافع» بانفعال ساخر، واقترب خطوة:
-وإلا إيه؟! إنت تخرس!
بدل «نافع» نظراته بين الحضور وقال وهو يشير نحو «كارم»:
-الأستاذ كارم تاجر آثار معروف بين رجالة المافيا... هرب زمان لما طاردوه المافيا، استخبى تحت اسم "راشد"، وطلّع لنفسه شهادة وفاة كمان! الأستاذ معاه كتاب سحر كل ما يتقرأ من خمسه يتصابوا بعمى مؤقت، فتتفك شفرة عن مكان قطعة أثرية، وطبعًا كارم نجح في كده وطلع أول قطعه أثرية.
شهق «البدري»، بينما اشتعل وجه «كارم» غضبًا وأمسك «نافع» من تلابيبه وهدر:
-بطل كدب يا نافع!
دفعه «نافع» بعنــف حتى ارتطم جسده بالمقعد، ثم تابع بصوت مرتفع:
-كارم دا أحقر إنسان ممكن تقابلوه... الأحقر منه باسل أخويا ومراته نرمين... ودول هربوا بقطعة الأثار بعد ما كارم عقد اتفاق معاهم، نرمين بقا عمها حسين كلفها تدور على كارم وتعرفله مكان الكتاب فاتفقت مع كارم... عمركم شوفتوا أحقر من كده؟!
ارتجف «كارم»، تسارعت أنفاسه، وضع يده على صدره وهو يصرخ:
-اسكت! حرام عليك... اسكت.
تابع «نافع»، وكأن لسانه لا يعرف الشفقة:
-أسكت إيه؟! لازم الكل يعرف حقيقتك يا كارم... جبت العار لأهلك زمان، وجاي تكملها دلوقتي مع عيالهم! ربنا ياخدك... المافيا مقلوبين علينا بسببك...
رفع نافع سبابته في وجه كارم وتبادلا بعض العبارات باللغة الإنجليزية ورد «كارم» بنفس اللغة بغضب بالغ، وسط نظرات الجميع ومحاولاتهم الفهم.
ثم استدار نافع نحو البدري، وقال بمرارة مصطنعة:
-خليك ماشي ورا بدر يا جدي... دا استغلالي، وعايز ياخد كل حاجة... ياريت تفوق، وتشوف مين بيحبك بجد ومين بيضحك عليك!
وبدون أن ينتظر ردًا، ارتدى نظارته الشمسية، واستدار مغادرًا بخطى عصبية.
في الداخل...
ساد صمت ثقيل إلا من أنفاس «كارم» المتقطعة... كان يتشبث بصدره كمن يغالب وجعًا لا يُحتمل وأخذ يردد:
-دا كذاب متصدقهوش...
بينما الجميع يتبادلون النظرات الحائرة، المرتابة...
سأل دياب بترقب:
-كان بيقولك ايه بالإنجليزي؟
أطرق «كارم» وشحب وجهه، فهتف دياب وهو ينهض بقلق:
-كارم! مالك؟!
همس «رائد» لبدر وهو مذهول:
-مين ده يا بدر؟
ردّ «بدر» وهو ينظر نحو الباب:
-ده... نافع... أخويا...
-أخوك الكبير؟
هز بدر رأسه نافيًا وقال:
-التاني... هو والكبير شبه بعض نفس القسوة... وعلى فكره نافع بيكذب...
وقبل أن يشرح أكثر، تهاوى «كارم» فجأة على الأرض، وغاب عن الوعي تمامًا.
فزع «دياب»، وارتجف صوته:
-إلحقوا! اعملوا حاجة! الراجل بيموت!
لم تمر دقائق، حتى كان الجميع يخرجون من البيت في عجلة، يحملون جسد «كارم» نحو سيارة «دياب»، والوجوه يعلوها القلق، والقلوب يضــربها الرعب.
وكانت «سعيدة» تتابع بترقب من شرفتها وهي تتمتم:
-يا ترى المتكبرين دول رايحين فين؟
وحين التقط بصرها وجه «كارم» شهقت واتسعت حدقتاها بصدمة.
**********
وعلى نحوٍ آخر...
وقفت «سراب» في شرفة منزلها، عاقدةً ذراعيها فوق صدرها، تغرق في بحرٍ من القلق والأسئلة. بكاء «عمرو» أوجع قلبها؛ فقد باتت متأكدة أنه يرزح تحت ضغط لا يُحتمل.
أدركت أنها بحاجة لأن تنضج، حتى تمرّ هذه الفترة بأقل خسائر ممكنة، ستجلس وتتحدث معه بوضوح وتخبره أنها لا تستطيع العيش دونه، بل لا تحتمل رؤيته بهذا الانكسار...
نعم تحبه، وتريد أن تكمل حياتها برفقته... لكن... تحتاج لمزيد من الوقت لتتقبل ما يحدث حولها...
تنفست الصعداء، كان الهواء ساكنًا وكأن المدينة تحبس أنفاسها.
التقطت عيناها مشهدًا غير مألوف؛ وجوه متوترة، وأجساد تتحرك على عجل...
دق قلبها بقـــوة، وتعلّقت عيناها بوجه بدا مألوفًا... وجه كارم.
اتسعت حدقتاها، شهقت دون وعي، وتمتمت بصدمة:
-جدو؟!!
لم تنتظر لحظة، هرعت خارجة من باب الشقة، لم تدرِ كيف حملتها قدماها، ولا كيف نزلت الدرج بتلك السرعة، كل ما كانت تراه هو ظلّ السيارة التي ابتلعها الطريق، وكل من حولها يركضون خلفها... لكنها تأخرت.
وقفت في منتصف الشارع تلهث، تنظر في الاتجاه الذي مضوا فيه، جسدها يرتجف، وشفتيها تتحركان بلا صوت.
استدارت فجأة، وعادت تصعد السلالم بسرعةٍ مضاعفة، تقفز الدرجات قفزًا، حتى بلغت باب شقة «تقى» و«عامر»، طرقت الباب بعـــنف، وضغطت الجرس مرارًا، وهي تلهث وكأن قلبها يسبقها إلى الداخل.
فُتح الباب، وبرز وجه «تقى»، باهتًا، متعبًا، يعلوه الإرهاق...
لم تنطق «سراب»، فقط اندفعت إلى الداخل تنادي بلهفة:
-عمرو! عمرو!
ظهر «عمرو» من الغرفة، وقبل أن يسأل، قالت «سراب» بانهيار، وصوتها مبحوح من الركض والذعر:
-أنا شُفته... شُفتهم شايلينه... بدر وأبيه رائد كانوا معاه... وركبوا عربية عمو دياب!
اقترب «عمرو» بسرعة، أمسك بذراعها يحاول تهدئتها:
-اهدي يا سراب... شُفتي مين؟ مين اللي شايلينه؟
لكنها لم تستطع تمالك نفسها أكثر، انفـــجرت بالبكاء، وانفلتت منها الكلمات بانفعال حارق:
-جــــــدو كــــــارم!
شهقت «تقى»، وتراجعت خطوة للوراء، وشحب وجهها كأن الدم انسحب منه دفعة واحدة، ثم همست بذهول:
-بابا؟!
صلوا على خير الأنام 🌸
★★★★★
ألقى الليلُ عباءته الثقيلة على المدينة، كأنما يحاول أن يغمر ضجيج النهار بالسكون.
كان يومًا ثقيلًا، مشبعًا بالتوتر والمفاجآت والمواجهات.
كانت «مريم» تجوب غرفتها كأنها في قفص، تمشي جيئة وذهابًا بعصبية.
تطرق بأصابعها على راحتها، تنفخ ضيقًا، تتوقف للحظة ثم تعود للمشي.
زارهم «آدم» أكثر من مرة اليوم، وهي لم تستطع الخروج من غرفتها لمقابلته ولا سؤاله عن الكتاب... ذلك الكتاب الذي يسكن عقلها ويرهق قلبها.
انتفضت فجأة على وقع طرقات ناعمة على باب الغرفة.
-ادخل...
قالتها دون أن تلتفت.
فدخل «يحيى» برأسه أولًا، ثم خطى خطوة إلى الداخل، جاء صوته هادئ كعادته:
-فاضية نتكلم شوية؟
أومأت دون كلام.
جلس «يحيى» على طرف الفراش، أطلق زفيرًا طويلًا كأن صدره يحمل ثقلًا خفيًا، ثم قال بابتسامة مرهقة:
-ها يا مريوم... إحكي، مالك؟ إنتِ مش طبيعية النهارده.
اقتربت وجلست إلى جواره، كأنها كانت تنتظر تلك اللحظة منذ ساعات.
ترددت قليلاً، ارتعشت شفتاها، وكأن البوح صعب، لكنها لا تُخفى سرًا عن والدها أبدًا.
بللت شفتيها، وطأطأت رأسها قليلًا، ثم قالت بصوت خافت، محمّل بالتوتر:
-بص يا بابا... لما رحت أشوف رغدة، هي مكانتش هناك... لقيت كتاب على مكتبها، شكله غريب وشدني... فأخدته... بس قبل ما أفتحه، خفت يكون حاجة خاصة أو لها قيمة، فقلت أكلمها الأول... سبته على مكتبي، ولما رجعت ملقتوش.
ولما سألتها، قالتلي إن دا كتاب مهم وبتاع خالو عامر... بس دلوقتي هو مش معايا، وآدم كان هنا، فغالبًا هو اللي أخده...
كانت عينا «يحيى» تتسعان تدريجيًا مع كل جملة، فقد أخبره «رائد» قبل قليل بكل ما جرى... رؤية كارم، ونافع وسر الكتاب، وتلك التفاصيل الغريبة...
وقف فجأة، كأن صاعقًا كهربائيًا مسّه، ونظر نحو الباب وقال بانفعال مكتوم:
-يعني... الكتاب مع آدم؟! يارب يكون معاه...
تحرك مسرعًا نحو الباب.
نهضت «مريم» خلفه بقلق، لحقت به حتى عتبة الباب، لكنها لم تجرؤ على الخروج، إذ كانت بملابس البيت.
من داخل غرفة المذاكرة، سألت «وئام»، وهي تمسك بقلم وتتابع ما يكتب ابنها:
-في ايه يا مريم؟ بابا خرج بسرعة كده؟ راح فين؟
-طلع لـ آدم.
ردت «مريم»، وعيناها لا تزالان معلقتين بالباب، وقلبها يضج بأسئلة لا حصر لها.
ارتفع رنين هاتف «مريم» فاندفعت لغرفتها وحين وجدت رقم «رغدة»، تسارعت دقات قلبها وارتبكت لكنها أجابت، فأتاها صوت «رغدة» المنفعل:
-طمنيني الكتاب لسه معاكي يا مريم!
-آآ... أيوه.
-طيب متديهوش لعامر ومتقوليش لحد عنه خليه معاكي وأنا هكلمك تاني.
ثم أغلقت الخط دون أي توضيح، تواثبت دقات قلب «مريم»، وتمتمت:
-أعمل ايه دلوقتي؟!
ارتدت إسدالها على عجل، وتبعَت والدها إلى الطابق العلوي...
طرقت الباب بخفة، ثم بثبات أكثر، حتى فتحه يحيى. تطلع إليها وقال بفتور:
-جاية ليه يا مريم؟
-الكتاب معاه، صح؟
أومأ برأسه، فتنفست الصعداء، وقالت:
-أنا عايزاه ضروري يا بابا...
-انزلي ذاكري يا مريم أنا هرجعه لعامر.
قالها «يحيى» وقبل أن ترد «مريم» خرج صوت «آدم» من غرفته، وهو يُحضر الكتاب ويقول:
-من أول جملة فيه، عرفت إنه نفس الكتاب الأثري المسحور اللي أستاذي حكى لي عنه... كتاب عنوانه (ردي حتب) بالمصرية القديمة يعني عن تراض أو بالتفاوض... استغربت إنه على مكتب مريم... عشان كده خدتُه.
خرج «آدم» من الغرفة فاستدار «يحيى» ينظر للكتاب في يده، بينما دخلت «مريم» خلف والدها بخطوات مترددة... كانت تحدّق في الغلاف، وتعض على شفتها السفلى، والتوتر بادٍ على وجهها.
رفع «آدم» نظره نحوها وابتسم بخجل:
-أهلًا... إزيك يا مريم؟ اللهم بارك كبرتي، عامله ايه؟
-الحمد لله...
قالتها باقتضاب وبصوت خافت، وهي تومئ برأسها دون أن ترفع عينيها نحوه...
كان «يحيى» يتابع الكلام بأعين متسعة تشع غضبً بينما اقترب آدم من مريم يُحدثها:
-قلقّتيني جدًا! الكتاب ده جيبتيه منين؟
أجابت بشرود:
-بتاع خالو عامر...
ثم نظرت إلى والدها، والقلق يعلو ملامحها:
-بابا... هو الكتاب ده السبب إن رغدة اتعميت؟
قطب «يحيى» حاجبيه، ثم هزّ كتفيه كمن لا يملك إجابة... لكن «آدم» شهق فجأة وكأن شيئًا خطيرًا طرأ في ذهنه:
-مش معقول! ده بقاله سنين الموضوع ده! عشان كده عامر اتعمي وهو صغير؟! ورائد كمان؟!
قالها آدم وهو ينظر لمريم التي أطرقت حياء من نظراته...
شعر «يحيى» بشيء غريب، طالع «مريم» بنظرة حادة وقال بلهجة قاطعة:
-انزلي ذاكري.
-بس يا بابا أنا عايزه...
قاطعها «يحيى» بانفعال:
-قولت انزلي ذاكري! متشغليش بالك بالحاجات دي.
تدخل «آدم» متوترًا:
-ما بالراحة عليها يا شيخ يحيى...
رمقه «يحيى» بحدة وقال بصرامة:
-وإنت مالك بكلم بنتي!!
تبادل «آدم» و«مريم» نظرة سريعة مرتبكة، لم تغب عن عين «يحيى»...
اشتعل الغضب في ملامحه وهدر بصوت غليظ:
-اللي قولته يتنفذ يا مريم!
-حاضر يا بابا.
ثم هرولت إلى شقتها، بينما جلس «آدم» على المقعد دون أن يفتح فمه مع يحيى حتى يهدأ...
نظر «يحيى» لآدم وقال بغيظ:
-شايف إنك نسيت غض البصر!
حاول آدم التبرير بنبرة مرتبكة:
-والله العظيم أبدًا هي بس مريم كانت وحشاني!
-احترم نفسك شويه يا آدم، ايه وحشاني دي!!!
قالها يحيى والغضب يتطاير من عينه، فتصاعدت الدماء لوجه آدم وارتبك وهو يقول:
-أنا آسف يا شيخ يحيى، مقصدتش حاجه والله.
لوح «يحيى» يده بضجر وجلس وهو يحمل الكتاب بين يديه، يتأمله بعين متوجسة، ويتمتم بآيات من القرآن، وكأن ما يحمله ليس مجرد كتاب...
استغفروا 🌸
★★★★★
في بيت داليا «جدة رغدة»
كان الصمت يبتلع المكان إلا من صوت أنفاس متوترة.
جلس «صالح» قبالة «رغدة»، وابتسامة خبيثة ترتسم على وجهه، تحمل من التهكم أكثر مما تحمل من الحنان، وقال بصوت رخيم كالسُمّ:
-برافو يا حبيبة بابا...
نهض بهدوء بارد، وقبل أن يخرج من الغرفة، مدّ يده بمفتاح صغير ووضعه في كف «رغدة» المرتجفة، والتي لا ترى شيئًا، فقط تشعر بجدران المكان تقترب منها كأنها ستبتلعها.
سمعت صوت الباب يُغلق خلفه، ثقيلًا كأنه سجن ينغلق على روحها.
تحسست الجدار بيد مرتعشة، وبخوف وهي تهمس:
-تيته... يا تيته...
كانت خطواتها حذرة، تتعثر بين الأثاث، حتى سقطت فجأة على وجهها، وارتطم خدها بالأرض بقــوة.
تأوهت، ثم دفعت نفسها لتقف، والدموع تنساب من عينيها...
لم تكن ترى، لكن قلبها كان يرى ما يكفي ليشعر بالخطر.
-تـــــيـــــته! ردي عليا...!
ارتفع صوتها، انكسر، ثم تحول إلى صراخ هستيري، يتصاعد مع ارتجاف جسدها وهي تدعو على صالح:
-يا رب خلّصني منه... يا رب خدلي حقي منه... يا جدو ضـــــيــــاء، تعال الحقني...!
أخذت تتلمس الأرض والجدران، تدور حول نفسها كمن تائه في دوامة.
بحثت في جيبها عن هاتفها بلهفة مجنونة، علّها تتصل بأي أحد... أي أحد يخرجها من هذا الجحيم.
لكنها حين ضغطت زر التشغيل، لم يستجب... لم تسمع أي إشارة أو أي صوت، وكلما حاولت فشلت فقذفته أرضًا...
شهقت باكية، ثم صرخت بأعلى صوتها:
-يا تـــــيــــــته دالـــــيــــا!! هو عمل فيكي إيه؟! يا تيــــته!! يا تيــــــته!!!
ثم سقطت على الأرض تبكي، ويديها تضربان الأرض كأنها تعاقب العجز الذي يحاصرها...
★★★★★
في المستشفى
كان الصمت يطبق على المكان ككفٍ ثقيل، يتبادل الجميع النظرات والقلق، بينما يعلو صوت جهاز التنفس في الداخل كنبض خافت في صدر الزمن.
خرج الطبيب من الغرفة، فاندفع «دياب» نحوه بخطوتين متعجلتين، تبعه «عمرو» و«تقى» و«رائد» كأن كلٌ منهم ينتظر حكمًا لا مفر منه.
قال «دياب» بصوت حاول أن يبدو ثابتًا:
-طمّنا يا دكتور، كارم... آآ... قصدي راشد عامل إيه؟
فقد سجلوه في دفتر المرضى باسمه في البطاقة...
رفع الطبيب نظراته إليهم، ثم تنحنح وقال بهدوء مهني لا يخلو من الحذر:
-هو في غيبوبة.
شهقت «تقى»، وضمت كفيها إلى صدرها، بينما سأل «عمرو» فورًا:
-غيبوبة؟ ليه؟ يعني إيه السبب؟
هز الطبيب رأسه:
-مش واضح... مفيش جلطة، مفيش نزيف، القلب سليم، لكن وعيه مفصول تمامًا... الأشعة مابتقولش حاجة واضحة لكن... إحنا محتاجين نتابعه خلال الأربع وعشرين ساعة الجاية... وإن شاء الله خير.
قالت «تقى» بصوت متحشرج:
-يعني ممكن ميفوقش؟
أطرق الطبيب رأسه للحظة ثم قال:
-كل حاجة واردة... لكن لسه بدري نحكم... خلينا نأمل إنه يفتح عنيه قريب.
ثم استدار ومضى، تاركًا خلفه صدى صوته يتردد في العقول.
من ناحية أخرى نظرت «سراب» إلى الباب المغلق، وجهها خالٍ من أي تعبير، كأنها ترفض أن تستقبل الألم دفعة واحدة...
جلس «عمرو» إلى جوارها وربت على يدها، لكنها لم تتحرك... مجرد إيماءة صغيرة من رأسها كأنها تؤكد وجوده دون أن تراه.
في الطرف الآخر...
كان «عامر» يسند ظهره إلى الحائط، يضغط بأصابعه على صدغيه...
تداخلت الأصوات في رأسه؛ همسات، أزيز، شيء يشبه طنين النحل يعلو ويخفت، ثم نهيم ثقيل كأن فيلًا يتحرك في أعماقه.
همست «تقى» وهي تقترب منه:
-عامر... إنت كويس؟
فتح عينيه ونظر إليها دون أن يجيب، ثم قال بصوت منخفض:
-شوية صداع...
-يلا يا جماعه ملهاش لازمة وقفتنا هنرجع البيت ونيجي الصبح...
قالها «دياب».
لم يتحرك أحد من موضعه، فقال «بدر» موجهًا كلامه لدياب بهدوء:
-أيوه يلا يا جماعة... بعد إذنك يا عمي دياب، خد الجماعه وجدي معاهم... وأنا هبات هنا.
كان البدري يجلس مستندًا على عصاه في صمت، رمقه رائد وقال:
-لأ، أنا اللي هبات... روح معاهم إنت يا بدر عشان جدك.
-وأنا مش هسيب بابا...
قالتها «تقى» بعناد ودمعة تلمع في عينها، فتقدم منها «دياب» وضمها بحنان أبوي فانفـ ـجرت دموعها.
حاول «رائد» إقناع «بدر» بالإنصراف لكن البدري قال بإصرار:
-بظر مش هيتحرك من هنا يا أستاذ رائد... أنا هعرف أخد بالي من نفسي.
وبعد لحظة من الصمت، أذعن الجميع وبدأوا في المغادرة، بينما بقي «رائد» و«بدر» بجوار الغرفة.
*********
وأمام المشفى كان «عامر» واقفًا وحده، عينيه نصف مغلقتين، لازال يسمع أصواتًا وهمسات تارة تأتي من يمينه فيلتفت ثم يساره فيلتفت ولا يجد شيئا، ومن خلفه حتى أسفل قدمه...
تمتم لنفسه:
-إي اللي بيحصل ده!!
اقترب منه رامي وعمرو، يسألانه عما به، فأجاب أنه بخير لكنه لم يكن كذلك على الإطلاق...
★★★★
في بيت ضياء...
كانت «رحمة» تقف أمام جدتها وقلبها يضج بالقلق، كأن شيئًا ما يُنتزع من داخلها.
-هتروحي فين دلوقتي يا رحمة؟
سألتها «فاطمة» وهي تحاول أن تُبقي صوتها هادئًا، رغم أن ارتجاف يدي حفيدتها انتقل إليها كعدوى، فهي تعلم أنهما تشعران ببعضهما...
ضغطت «رحمة» على كفها بشدة، وصوتها خرج متقطعًا:
-صدقيني يا تيتة، رغدة فيها حاجة... أنا حاسة بيها... مش مرتاحة من جوايا... كأن روحي بتتسحب مني! دا غير إن موبايلها مغلق وتيته داليا مش بترد... وحتى جدو ضياء مش بيرد عليا.
حدقت فيها «فاطمة» لثوانٍ، شعرت بشيء في قلبها يتحرك، فتنهدت وقالت بحزم:
-يلا بينا... ما أنا قلبي مش هيطمن برضه...
خرجتا من البيت، واستقبلهما نسيم الليل الخريفي، يحمل شيئًا من برودة سبتمبر، لم يكن عنيفًا، بل خفيفًا يوشك أن يهمس، لكنه يحمل في طياته قلقًا خفيًا لا يُرى.
وقفت «فاطمة» تتلفت يمينًا ويسارًا بحثًا عن أي وسيلة تنقلهما، بينما كانت «رحمة» شاردة، عيناها تجوسان في خوف على توأمها.
في تلك اللحظة، انطلقت سيارة من الشارع الجانبي، كان «محمد» يقودها وبجواره «نادر» الذي كان في زيارة لنداء وعلم بما حدث...
كانا في طريقهما إلى المستشفى بعد أن أوصل محمد زوجته هيام وأبناءه إلى بيت دياب.
توقف بسيارته أمامهما، أنزل الزجاج وقال بقلق:
-رايحين فين يا رحمة؟
نظرت «رحمة» إليه، وقالت:
-هنروح عند تيته داليا يا عمو...
أومأ بسرعة:
-طيب اركبوا، أوصلكم.
ترددت فاطمة، تراجعت خطوة، ورفعت ذقنها بعناد وجمود.
لكنه بادرها بهدوء:
-اركبي يا طنط فاطمة... بعد إذنك... مستحيل أسيبكم لوحدكم في وقت زي ده...
كلماته حملت دفئًا لم تعهده من رجال عائلتها، أو على الأقل من أبنائها... شيء فيه جعل صلابتها تخف، وأفكارها تعيد ترتيب نفسها في سرعة.
ارتخت قسمات وجهها قليلًا، وقالت بصوت خافت وهي تفتح باب السيارة لتركب:
-ماشي.
ثم انطلقت السيارة، وبينما كانت الطرقات تمر من حولهم، كانت رحمة تضع يدها على صدرها، تغمض عينيها، وتهمس لنفسها:
-يارب احميكي يا رغده...