رواية عن تراض الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم ايه شاكر
مدّ الليل رداءه على الأرض برفق، كأنّه يحنو عليها بعد نهارٍ أنهكها.
في شقة «عامر» جلس قبالة «آدم» وما زالت الكدمات تظهر على وجهيهما بلون بنفسجي فاقع، والورم ينتفخ كأن الجلد يحتج بصمت على ما جرى...
كان القلق يرتسم واضحًا في نظراتهما المضطربة، وفي جلوس «عامر» المتشنج؛ كأن جسده لا يجد مكانًا يستقر فيه.
كانا يتحدثان همسًا، وكأن الهواء نفسه قد يشي بأسرارهما.
ران عليهما الصمت حتى أطلق «عامر» زفرة خرجت من عمق صدره، ثم قال بصوت مضطرب:
-أنا قرأت سورة البقرة تلات مرات لحد دلوقتي...
رد «آدم» على الفور، بصوت منخفض لكنه حاد:
-ومتوقفش... إنت ما شاء الله حافظ، ردّدها طول الوقت.
ثم رشقه بنظرة ثاقبة، وأضاف بسخرية مرّة:
-أنا أصلًا مش قادر أستوعب... إزاي واحد حافظ القرآن يعمل كده!
أشاح «عامر» بوجهه، هاربًا من نظراته، ونزلت عيناه إلى الأرض وقد امتلأت بخزي ثقيل.
أشفق «آدم» عليه، فمد يده وربّت على كتفه بلطف وقال:
-كلنا بنغلط... المهم إنك رجعت قبل ما الطريق ياخدك لآخره.
رفع«عامر» نظراته إليه، يطالعه بعينين زجاجيتين تشعان بالحسرة، وقال بصوت متهدّج:
-أنا حاسس إني في كابوس يا آدم...
أغمض «آدم» عينيه لثوانٍ، تنفّس ببطء، ثم قال:
-هو فعلًا كابوس... وبتمنى نصحى منه قبل ما قلبنا يوقف من الرعب.
تحرك «عامر» أخيرًا، نهض بتثاقل كأن جسده أثقل من أن يُحمل، وقال:
-رغم إني مش قادر بس لازم أروح لتقى... في المستشفى عند عمي كارم... سايبها من الصبح لوحدها...
وأشار برأسه نحو غرفة داخلية:
-لو حبيت ترتاح، الأوضة دي فاضية.
هب «آدم» واقفًا، كأن جسده رفض الراحة مثلما رفضها قلبه، وقال بعزم:
-أرتاح إزاي؟ ومريم لسه مرجعتش... يلا، هنزل معاك عشان أشوف هعمل إيه.
وغادرا الشقة، يجرّان خطاهما، وكل منهما يحمل في صدره قلبًا أثقل من أن يُحمَل.
استغفروا🌸
************
داخل بيت دياب، كان الحزن معلقًا في الهواء، كثيفًا، خانقًا...
خيّم الصمت على الأركان كعباءة ثقيلة، لا يقطعه سوى صوت القرآن ينبعث من الراديو، يمتزج على فترات بشهقات «رغدة» و«رحمة»؛ شهقات تخنقها أنفاس تتصارع مع الغياب.
جلست «فاطمة» بينهما، تضمّ كلتيهما إلى صدرها، وذراعاها المرتجفتان تحاولان بثّ الأمان.
اقتربت «ريناد» من ابنتيها ببطء، وعيناها تتفقدان الوجوه، لكن «فاطمة» أشاحت بوجهها عنها في ضجرٍ بارد.
مدّت «ريناد» يدها إلى «رغدة» وربتت على ظهرها، فلم تلقَ ردًا.
ثم مسحت على كتف «رحمة» بحنان، وما إن فعلت حتى انتفضت رحمة واقفة، وانفــــ ـجرت الكلمات من صدرها:
-إنتي هنا بتعملي إيه؟! متلمسينيش... متقربيش مني أصلًا! أنا معرفكيش.
-يا رحمة... أنا ماما، إزاي تكلميني كده؟
قالتها «ريناد» بأسى، فأشارت «رحمة» نحو «فاطمة» بعين دامعة وبصوت متهدّج قالت:
-دي ماما... وأمي التانية ماتت النهارده... أما إنتي! إنتي حد بيتصل بينا كل كام يوم يسأل عاملين إيه؟ نقول الحمد لله وتخلص المكالمة! تبقي إنتي أم؟!
-آآ... أنا غصب عني... إنتي لسه صغيرة ومش فاهمة...
قاطعته «رحمة» وهي تهز رأسها بعــ ــنف:
-لا، أنا مش صغيرة... وبصراحة أنا معنديش طاقة للجدال... روحي لبيتك وعيلتك... وسيبينا مع بيتنا وعيلتنا... وأوعدك، لما ترني علينا وتسألي عاملين إيه، هنرد ونقولك الحمد لله.
نظرت «ريناد» إلى «رغدة» تنتظر منها اعتراضًا على كلمات أختها لكن «رغدة» لم ترفع عينيها ولو للحظة، ولم تنبس ببنت شفة.
سحبت «ريناد» حقيبتها، وخرجت من البيت في صمت وهي تبكي، ثم أخذت تبحث في هاتفها عن رقم زوجها، لتطلب منه أن يغادرا.
ومن ناحية أخرى انهارت «رحمة» باكية، فنهضت فاطمة على الفور تضمها وتهمس لتطمئنها:
-أنا هنا يا بنتي... أنا جنبك...
كانت رحمة تهمهم وهي ترتجف:
-مشيت... مشيت يا تيته... محاولتش تعتذر... مطبطبتش عليا.
ارتفعت شهقات «رغدة» فجأة، كما لو أن الصمت كان يثقلها منذ البداية، وانفــ ـجر الألم أخيرًا، تأوّهت، ودفنت وجهها في حضن فاطمة، بينما الدموع تتسابق على وجنتي الأخيرة أيضًا.
ومن بعيد، اقتربت «شيرين»، التي كانت تتابع المشهد بعين دامعة، سحبت «رحمة» برفق، أخذتها لتغسل وجهها وتهدئها.
ثم ناداها صوت تألفه فتركتها وذهبت...
كان أخو شيرين واقفًا، يصحب ابنه «يونس»، وقد جاءا لتقديم العزاء.
ضمّاها بحنان، ثم قال يونس:
-بعد إذنك ناديلي ريمان يا عمتو.
كانت «ريمان» تجلس وحدها في زاوية الحجرة، صامتة، متجهمة، وملامحها جامدة، اقتربت منها شيرين، وربتت على كتفها:
-جوزك برا مستنيك يا ريمان.
نهضت «ريمان» بصمت، وما إن أبصرت زوجها حتى انفجرت باكية، وهي تردد:
-ماما يا يونس... ماما....
فهرع زوجها ووالده يهدئانها، يُمسكان بها كأنها قد تسقط من الألم.
استغفروا🌸
************
وفي الزاوية، كانت «وئام» تستند برأسها على كتف «هيام»، تبكي بصوت مبحوح، وتنادي اسم «مريم» كأنها ترجوه أن يُجيب، وقلبها بدا كبيت فارغ، لا تسكنه سوى الرياح...
أما البقية، فجلسن في صمتٍ مهيب، ملامحهن جامدة، وعيونهن مطفأة، والملابس يكسوها السواد كأنهن يلبسن الحزن.
**********
في المستشفى
جلست «تقى» على الكرسي المجاور للسرير، قلقة على «سراب» وقلقة على كارم...
نظرت إلى وجه أبيها الشاحب، ثم انحنت نحوه وهمست بصوت مبلل بالدموع:
-بابا... أنا حاسة إنك سامعني.
ترددت لحظة، ثم ضغطت على يده بلطف وأردفت برجاء:
-طيب لو سامعني... حرك إيدك...
مرت لحظات ثقيلة لم يبدُ فيها أي رد فعل.
زفرت «تقى» بألم، لكنها لم تُطلق يد والدها، بل شدّت قبضتها عليها أكثر، وهمست بحرارة:
-أنا بحبك أوي يا بابا... متسبنيش.
وفجأة، ارتعشت أصابع كارم، ورفّت أهدابه كأنها ترد على النداء... ثم ببطء شديد، بدأت جفونه تتحرك.
شهقت «تقى»، اتسعت عيناها بدهشة وفرح، ووثبت من جلستها واقفة تنادي بصوت مرتجف:
-دكتور! دكتور! بابا فاق! بابا سمعني!
وفي تلك اللحظة كل ما أرادته هو أن تبقى تلك اليد تتحرك... ألا تعود للسكون أبدًا.
ولفرط سعادتها أخرجها التمريض من الغرفة...
لكن ما إن خطت خطوتين خارج الباب، قابلت «رائد» و«بدر» بابتسامة عريضة والسعادة تلمع في عينيها كضوء الصباح.
وقبل أن تلفظ بكلمة وقع بصرها على «عامر» الذي وصل للتو، فذابت ابتسامتها وحل محلها قلق ولهفة حين التقط بصرها وجهه المُنهك الذي تغطيه الكدمات كأنها تحكي قصة لم تُروَ لها بعدُ.
اقتربت منه بخوف وقالت بلهفة:
-في إيه يا عامر؟!
بدل «عامر» نظراته بين «رائد» و«بدر»، ثم رد بتردد وعيناه تهربان منها:
-مفيش... بس... هو... وقعت.
لم تعبأ بإجابته، تقدّمت أكثر، وعيناها تتفحصان وجهه بقلق يزداد، وسألت مجددًا بنبرة أكثر جدية وبإلحاح:
-عامر، في إيه؟ قولّي الحقيقة.
تنهد «عامر» وتجنّب النظر في عينيها، ثم تمتم:
-مفيش حاجة مهمّة... هحكيلك بعدين، بس متقلقيش... كل حاجة تحت السيطرة.
زفرت ببطء، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم أمسكت يده بقــوة، كأنها تخشى أن ينزلق من بين أصابعها، ثم سألته بتوجس:
-سراب رجعت؟
رمقها في سرعة وهز رأسه نافيًا، فازدردت تقى لعابها وعضت شفتيها وهي تُحدق في نقطة وهمية أمامها...
**********
وفي الخلفية...
همس «رائد» لـ «بدر» بصوت منخفض:
-عمي كارم صحي... أعتقد كده كل الأسئلة هتتجاوب.
أطلق «بدر» تنهيدة طويلة، أشبه بخروج حمل ثقيل من صدره، وقال:
-أتمنى...
ثم عقد ذراعيه أمام صدره، وشرد للحظة، يستعيد مشهد «رغدة» وهي تبكي بحرقة على جدتها.
ارتسمت على ملامحه ابتسامة شاحبة حين تذكرها وهي تضع نظارتها، تنظر بثبات... فأدرك أن بصرها قد عاد.
همس بدعاء صادق:
-يارب... صبّر قلبها...
ثم تنهد وأضاف:
-وقلبي.
★★★★★★★★
امتدّت أفرع المصابيح البيضاء أمام بيت «دياب»، تنثر ضوءها الهادئ على الوجوه والطرقات، بينما كان صوت القرآن يتردّد عاليًا، يملأ المكان بخشوع مهيب.
تراصّت الكراسي جنبًا إلى جنب، وجلس الرجال في صمت ثقيل، لا يُقطعه إلا خطوات الداخلين للمواساة، والمصافحات الهادئة التي تعقبها همهمات قصيرة أو نظرات متألمة.
جلس «البدري» إلى جوار «دياب» و«ضياء»، يسبّح ويستغفر، كلماته تخرج همسًا متقطعًا، كأنما يستدرّ بها الرحمة من الله، بكل ما تبقّى من يقينٍ في قلبه.
**********
وقفت «سعيدة» في شرفتها بوجه متجهم، تراقب أضواء العزاء تتوهج أمام بيت «دياب». رغبتها في أداء واجب المواساة كانت تتصارع مع غصّة الكرامة الجريحة؛ فمنذ أن طردتها «شيرين»، لم تطأ قدماها عتبة ذلك البيت.
لكنها اليوم... اتخذت قرارها. نهضت، ارتدت الأسود في صمت حاسم، ثم غادرت المنزل بخطى ثابتة نحو بيت «دياب».
لم تكن ذاهبة للتعزية فقط؛ بل لتستعيد كرامتها، وتقتصّ لها قبل أن تخرج من هناك.
دخلت «سعيدة» إلى البيت بخطى واثقة، لكن وجهها كان مشدودًا...
جلست إلى جوار «فاطمة» في صمتٍ متكلف، تربّت على يدها من حين لآخر دون أن تنبس ببنت شفة، ولم تلتفت نحو «شيرين» ولو لمحة. كانت تحاول أن تقنع نفسها أن هذا التجاهل هو استردادٌ لكرامتها، انتقامٌ صامتٌ لا يحتاج إلى كلمات.
مرّ العزاء في ثقله المعتاد، وانصرف المعزون واحدًا تلو الآخر، حتى خلا البيت من الغرباء، ولم يبقَ سوى أهله... و«سعيدة» التي لم تغادر.
نهضت في النهاية، وما أن خرجت للشارع وقعت عيناها على «البدري» جالسًا بمفرده.
فغيرت وجهتها وتقدّمت نحوه ببطء..
اقتربت منه وجلست جواره ثم قالت بصوت خافت:
-البقاء لله يا حاج.
-ونعم بالله.
قالها «البدري» وهو يرفع عينيه نحوها، فتابعت بنبرة مشحونة:
-يرضيك اللي بنتك عملته فيا ده يا حاج؟ تطردني من بيتها!
رمقها باستغراب، وقال:
-مين؟ سراب ولا تقى؟
هزّت رأسها بسرعة، وقالت:
-لا يا حاج... بنتك أم رامي... شيرين.
ارتسمت الحيرة على ملامحه، وتجمدت نظراته للحظة.
اغتنمت اللحظة وأكملت، لتُخرج ما في صدرها دفعة واحدة:
-أنا اللي جمعتكم ببعض، أنا اللي فهمت من صورة المرحومة أمها، وقلت لبدر، وجيت أقولها... قامت طردتني من بيتها كأني غريبة! ده يرضيك يا حاج عبد الوهاب؟
صمت البدري هنيهة ثم هزّ رأسه ببطء، وقال بنبرة متعبة:
-أنا مش فاهم منك حاجة... وبصراحة مش وقته خالص يا حجة سعيدة...
كان شاردًا، مثقلًا لغياب «سراب»، فلم ينتظر ردها، فقط نهض ومضى وهو يتمتم بشيء لم يُسمع.
وقفت «سعيدة» تحدّق في ظهره المبتعد، وحدقتاها تتسعان بدهشة وانفعال، ثم تمتمت بغيظ:
-شوف الراجل المتكبر!
ثم نهضت واتجهت نحو بيتها وهي تصر على أسنانها بغيظ شديد.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
**********
ومع مرور الوقت، ازدادت وطأة الانتظار...
لم تَعُد «سراب» ولا «مريم»، وبدأ القلق يتحوّل إلى رعب صامت.
كان «عمرو» يذرع الردهة جيئة وذهابًا، بخطوات سريعة كأن الأرض تحته من نار، يمشط شعره بيده مرارًا في عصبية بالغة، وشفتيه ترتجفان دون صوت.
أما «يحيى» فجلس متجهمًا، عيونه تتابع «عمرو» في صمتٍ حاد، كأنّه يخشى أن ينطق فينهار.
بدل «رامي» و«محمد» النظرات بينهما بصمت، وهما يراقبان المشهد بنفس التوتر، وكأن الجميع عالقون في لحظة لا تنتهي... لحظة معلّقة بين الرجاء والخوف.
توقف «عمرو» وقال بصوت مرتجف:
-كل ده ومفيش خبر؟! إحنا شكّلنا غلطنا لما مبلغناش الشرطة من الأول!
ساد الصمت للحظة، قبل أن يقطعه البدري، بصوتٍ خافت لكن حازم:
-قلتلك متقلقش... أنا باعت رجالة وراهم وواثق إنهم هيرجعوها...
التفت إليه «عمرو» بعينين مشعتين بالغضب، وهدر بحدة:
-ياريتني ما سمعت كلامك ولا وثقت فيك ممكن يكون حسين لاحظ الرجاله اللي بعتتهم وعمل فيهم حاجه!
رد «البدري» باقتضاب، وهو يغلق جفنيه كأنما يهرب إلى عزلته:
-ميقدرش.
ثم سكت... وأسند جسده إلى عصاه، وهو يشيح وجهه بعيدًا عن الجميع.
تقدم «عمرو» نحوه، قال والغضب يطفح من صوته:
-إنت جايب الثقة دي منين؟ أنا أصلًا شاكك فيك... يمكن تكون متآمر معاهم من الأول!
لم يعقب البدري بل لم يرف له جفن، فابتعد عمرو وضــرب الجدار بقبضته، بغضب عارم بينما ظل «البدري» ساكنًا كأن شيئًا لم يحدث.
حاول «محمد» أن يُهدّئ «عمرو» بكلمات مقتضبة، فيما انهار «يحيى» وارتعشت ملامحه حين تخيل ألف مشهد ومشهد عن حالة ابنته فسالت دموعه، وهب واقفًا ليتجه إلى الشرفة، نظر للسماء وقال:
-ياالله إن كان ذنب اقترفته فاللهم لا تؤاخد ابنتي بذنب عبدك... يا الله من لي سواك يغيثني عند الأسى والإضطراب، من لي سواك يُعيذني عند الشكوك والإرتياب، من لي سواك ولي ذنوب كالجبال مع الهضاب، من لي سواك وأنت رب العالمين بلا ارتياب...
جلس على المقعد خلفه بصمت، كأن قدميه لم تعودا تقويان على حمله.
حدّق في الافق لفترة وعيناه تغرقان في بحر من القلق والانتظار والاحتمالات الأسوأ...
صلوا على خير الأنام 🌸
*************
دقت الساعة الثانية عشر منتصف الليل...
خفتت الأصوات، وسكن كل شيء، وكأنّ الكون يحبس أنفاسه للحظة انتظار.
وفي البعيد، تعالى صوت صرصار الليل، كإشارة خفيّة بأنّ السكون أصبح سيّد المكان.
كانت «نداء» جالسة على طرف الأريكة في شقتها، تغالب دموعها دون جدوى، ووجهها يعلوه الشحوب والقلق...
إلى جوارها جلست «ريم»، تمدّ يدها برفق إلى كتفها، تحاول التخفيف عنها بكلماتها، وإن كان حزنها على عمتها قد سرق من صوتها ثباته.
أما «نداء» فلم يظهر أخوها «نادر» حتى الآن هاتفه خارج نطاق الخدمة، ووالدها يجوب الشوارع بحثًا عنه، دون أي أثر أو خبر.
شهقت «نداء» بحرقة، ثم تمتمت بصوت مكسور: -أعمل إيه!!
ردت «ريم» بهدوء حذر، تخشى أن تنهار أكثر:
-مفيش في إيدك حاجة دلوقتي يا نداء... اهدي، إن شاء الله يظهر وتتطمنوا عليه.
هزّت «نداء» رأسها بعنــف، وكأن قلبها يرفض هذه الطمأنة:
-قلبي بيقولي إن فيه حاجة يا ريم...
قربت «ريم» وجهها منها، ومسحت دموعها بباطن كفها، وقالت بإصرار خافت:
-متقوليش كده... تفائلي بالخير، عشان تلاقيه.
رفعت «نداء» وجهها نحو السقف، والدموع تنهمر بصمت، ثم همست من أعماق قلبها:
-يارب... يارب لُطفك بعبادك... يارب احفظه.
لا تنسوا الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 ـطين
★★★★★★★
بعد أن ركبت «سراب» السيارة مع نفس الرجلين اللذين أخذا «مريم» من بيتها...
التفتت بخوف، تنظر عبر زجاج السيارة الخلفي، ونظراتها تتشبث بعمرو الذي ظل واقفًا في مكانه، يبتعد شيئًا فشيئًا حتى تلاشى جسده في الأفق، كأنه يختفي من حياتها كما اختفى عن بصرها.
-فين الكتاب؟
سألها الرجل الجالس بجانبها بلهجة آمرة، فناولته الحقيبة بصمت...
ثم سألت بصوت متردد:
-هنروح فين؟
رد دون أن يلتفت إليها، بحدة:
-ياريت متفتحيش بوقك لحد ما نوصل.
ابتلعت لسانها وساد الصمت داخل السيارة...
لم يكن في وسعها سوى الاستسلام...
مرت دقائق بدت كأنها ساعات، حتى توقفت السيارة أمام كوخ قديم متداعٍ، يتكون من عدة غرف...
أشار إليها الرجل بالدخول إلى إحداها، ولم تعارض، فلم تكن تمتلك طاقة للمواجهة، كانت متهالكة نفسيًا، يغلفها إحساس عميق بالإنهاك والخوف، وما إن دخلت حتى أُغلق الباب خلفها بإحكام.
وداخل الغرفة، قفزت مريم نحوها تعانقها بانهيار، ودموعها تنهمر بحرقة.
بادلتها سراب العناق، وربّتت على ظهرها بلطف وهي تهمس:
-خلاص يا مريوم، أنا معاكي.
ثم اقتربت من الباب وطرقته بقــوة، صائحة بنبرة متوترة:
-مش أخدتوا اللي عايزينه؟ سيبونا بقى!
جاءها الصوت من الخارج، أجش غليظ:
-بطّلي دوشة أحسن لك وللي معاكي.
عادت «سراب» إلى «مريم» التي كانت ترتجف، وقالت الأخيرة بصوت مبحوح:
-هيعملوا فينا إيه؟
-متخافيش يا حبيبتي، هنخرج من هنا... بإذن الله.
جالت بعينيها في الغرفة؛ كانت بسيطة، تحتوي على فراش مهترئ، وأريكة قديمة، ومكتب عليه طبقة من الغبار، وكرسيين خشبيين بينما السجادة التي تغطي الأرض بالكاد تبين لونها الأصلي من شدة الاتّساخ.
جلست «سراب» على طرف الأريكة، وجذبت «مريم» لتجلس إلى جوارها، ثم مسحت دموعها بأنامل تتظاهر بالثبات، وقالت محاوِلة تخفيف الجو المشحون:
-بقولك إيه يا مريوم... سمعينا قرآن بصوتك الحلو.
كانت «مريم» قد بدأت تتمتم بآيات منذ الصباح، لكنها الآن أغمضت عينيها وبدأت تتلو بصوت خافت، كأنما تحتمي بالكلمات...
تسللت التلاوة لقلبيهما، فخفّت حدة الخوف، وسكن القلق لبرهة.
راحت «سراب» تردد معها، لكن لم يطل الأمر حتى انكــسرت مريم مجددًا، وانهمرت دموعها مع أنفاس متقطعة.
انحنت سراب أمامها بقلق:
-ليه العياط؟ مش إنتِ واثقة في ربنا؟
أومأت «مريم» برأسها، فابتسمت «سراب» رغم الخوف القابع داخلها، وقالت بصوت حنون:
ـيبقى لازم تتطمني وتتوكلي على الله... ومن يتوكل على الله فهو... إي؟
-فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
قالتها «مريم» بأنفاس متحشرجة، فضمتها «سراب»، وجلستا متلاصقتين على الأريكة، رأس مريم تستند على كتفها، وذراعها تحوطها كملاذ آمن.
تبادلتا الأحاديث بصوت خافت، و«سراب» تحاول أن تشتت أفكارها والتخفف عنها.
رفعت «مريم» بصرها لسراب وقالت:
-على فكرة... أنا مش خايفة.
ثم أطرقت، وأضافت بصوت مكسور:
-كل الحكاية... إني قلقانة على بابا وماما... لو جرالي حاجة، مش هيستحملوا.
-بعد الشر عليكي... إن شاء الله تخرجي من هنا سليمة، ومفيش حاجة وحشة هتحصلك.
قالتها «سراب» وهي تميل لتطبع قبلة حانية على جبين «مريم»، وضمها إلى صدرها برفق، كأنها تحاول أن تحميها.
ساد الصمت بينهما للحظة، حتى قطعه صوت «مريم» الخافت:
-هو... أنا ينفع أقولك حاجة؟
-طبعًا، قولي يا حبيبتي.
ترددت «مريم» قليلًا، حدقت بالأرض كأنها تنتقي الكلمات بعناية، ثم رفعت رأسها وقالت بهدوء:
-أنا كنت عارفة إنك بتحبي خالو عمرو من زمان... وكنت بدعيلكم في كل سجدة إن ربنا يجمعكم.
رفعت«سراب» حاجبيها بدهشة مصطنعة، وأبعدت «مريم» عنها قليلًا وهي تقول بلهجة تمثّل الغضب:
-إيه ده؟! يعني إنتي السبب إننا اتجوزنا؟ دا أنا هنفخك!
ضحكت «مريم»، وتلاشى توترها للحظة، وهمست بخبث طفولي:
-كان باين عليكي إنك بتحبيه... وهو كمان، عيونه كانت بتفضح مشاعره، كنت دايمًا حاسة إنك مميزة جدًا عنده... كنت بخاف قلوبكم تتكسر لو مكنتوش لبعض.
ثم صمتت لبرهة، وعادت تقول بجدية تفوق سنها:
-الحب والانجذاب للجنس الآخر حاجة متعبة جدًا... خصوصًا للناس اللي بتيجي عند حدود الدين وبتقف، وبتخاف تغضب ربنا... عشان كده دايمًا أحاول أحصن قلبي، وأبعد عن...
توقفت فجأة، كأن الكلمات خذلتها، ومالت برأسها إلى الأسفل.
ابتسمت «سراب» برقة وقالت تمزح لتخفف عنها:
-يا بت إنتي عندك كام سنة علشان تقولي الكلام الكبير ده؟!
رفعت «مريم» وجهها، ابتسمت، وقالت:
-لا أنا كبرت خلاص... هكمل ١٥ أهوه.
سرعان ما تلاشت ابتسامتها، وتذكّرت حالهم، فقالت بصوت يختنق فيه الحنين:
-زمان خالو هيتجنن عليكي... وماما وبابا... ربنا يصبر قلوبهم لحد ما نرجع لهم.
انفــ ـجرت دموعها من جديد، فعادت «سراب» لاحتضانها، تضغطها إلى صدرها بحنان:
-هنخرج من هنا، متقلقيش... إحنا اتفقنا نتوكل على ربنا، مش كده؟
أومات «مريم» سكنت فترة وهي تحتضن سراب وتغلق جفونها، ثم قالت:
-عارفة لما بشم ريحتك... بحس كأني بشم ريحة خالو عمرو... بجد إنتوا لايقين على بعض أوي، وحلوين مع بعض... اللهم بارك.
سكتت لحظة، ثم أضافت بصوت مفعم بالدفء:
-عارفة إحساس إن لما أشوفك كأني شوفته، ولما أشوفه كأني شفتك؟ بحسه معاكم... ربنا يباركلكم في حياتكم يارب، ويرزقكم الذرية الصالحة.
ربتت سراب على ظهر كفها، وعيناها تلمعان من التأثر، وكأن مريوم كانت تضغط على قلبها بكلماتها، تلك الكلمات التي لمست قلبها بصدق...
الآن، أصبح حلالها... من حقها أن تحبه، بل أن تعلن حبها بفخر، بعد أن جمعهما رباط مقدس أمام الله والناس.
أغمضت عينيها للحظة، وعاد شريط الذكرى سريعًا، تذكّرت نظراته وهو يضم يدها للمرة الأخيرة قبل أن تفترقا...
غزت الدموع عينيها، لكنها حبستها بقــوة، وتمنت أن تعود إليه ويُشفى جدها وتستقر حياتهم بعدما تطوى صفحة هذا الكابوس للأبد.
صلوا على خير الأنام🌸
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تطايرت الساعات سريعًا، انبثق الفجر ببطء، وبدأ الضوء يتسلل على استحياء فوق وجه الأرض.
كان الصمت يهيمن على الأرجاء، لا يقطعه سوى زقزقة طيور بعيدة وهمسات الريح التي تمرّدَت بين سنابل الذرة الناضجة، فتمايلت كأنها تتهامس بما لا يُقال.
وقف «صالح» أمام «نافع»، وجهه شاحب، وعيناه تحملان تعب الطريق وخوفًا ثقيلًا يسكن الأعماق.
قال بصوت مبحوح وجاف:
-أعتقد كده أكون نفذت اللي طلبته... والكتاب بقى معاكم... وفّي بوعدك وسفرني من هنا، عمتي ماتت وأهلي فاكريني أنا اللي قتلتها...
ارتسمت على شفتي «نافع» ابتسامة باهتة:
-ماشي يا صالح... هنجهز أوراقك... بس مش هتسافر قبل ما تشاركنا وإحنا بنطلع حتة اللوز عشان تاخدلك حته.
ردّ «صالح» بابتسامة متلهفة:
-أكيد تحت أمرك طالما هتديني حته...
ثم نظر نحو باب الغرفة المغلق وقال:
-بس إيه مش ناوي ترجع البنتين لأهلهم؟
هزّ «نافع» رأسه ببطء:
-لسه لما حسين باشا يجي ونتأكد إن هو ده الكتاب.
ثم مدّ يده ووضعها على كتف «صالح» وربّت عليه وهو يقول بنبرة فيها ما يشبه التقدير:
-بس أنا فخور بيك... من أول لحظة شفتك، قلت هو ده الخلاصة.
لم يرد «صالح»، فقط مرت على شفتيه ابتسامة سريعة، اختفت كما ظهرت، كأنها لا تملك حق البقاء.
انسحب ذهنه بعيدًا، سقط في دوامة أفكار لم ولن ترحمه بعد الآن... تذكّر اللحظة التي أوصله فيها «نافع» إلى حقيقة أن من يقرأ الكتاب يُصاب بالعمى.
تذكّر «رغدة»... تذكّر ما حدث في بيت «داليا»، كيف اقتحمه، وكيف وقفت في وجهه، تحاول منعه من الدخول... وكيف جذبها من ذراعها بحدّة، دفعها إلى داخل إحدى الغرف وأغلق الباب عليها.
لم يقتلها... أو لم يقصد... فقط أغلق الباب، ولم يفعل معها شيء، بل اتجه يجلس مع «رغدة»، تحدثا، وأخبرته بما تعرف عن الكتاب...
انتشله من شروده صوت خطوات تقترب، تلاها طرق خافت على الباب.
انتفض «صالح»، لكن هدّأه «نافع» بإيماءة ثابتة بعدما نظر من النافذة وقال:
-متقلقش... دا حسين باشا.
دنى من الباب وفتحه، فدخل «حسين» بخطوات متحمّسة ووجه يلمع بشيء من الترقّب:
-اتأكدتوا إن ده هو الكتاب؟ ما يكونش مزوّر زي ما كارم عمل قبل كده مرتين...
مطّ «نافع» شفتيه وتنهد، كأنه يجرّ خلف صدره جبلًا من الشك:
-ونتأكد إزاي؟ استنيتك تتأكد بنفسك.
مدّ «حسين» يده، بنظرة فيها شيء من التوتر:
-هاته...
تناول الكتاب، قرّبه من أنفه، استنشق رائحته بتركيز غريب، فر صفحاته في سرعة، تأمل غلافة حتى الحبر الأزرق لم يكن بنفس خط اليد الذي يعرفه جيدًا...
قطّب حاجبيه، وصرخ:
-مزوّر! عملوا نفس اللي عمله كارم زمان بس على مين أنا مفتح أوي.
وقذفه أرضًا بغضبٍ عارم.
ساد الصمت لوهلة، والصدمة تتمشى على وجوههم، فتح «صالح» فمه بذهول ونطق:
-الحمد لله إننا مرجّعناش البنتين.
التفت «حسين» إليهم، بعينين جامدتين وصوت خالٍ من الانفعال:
-اسمعوا، البنت اللي اسمها «مريم» سيبوها تمشي... إنما سراب هناخدها معانا.
تردد «نافع»، وكأن كلمات «حسين» لا تستقيم في رأسه:
-بس كان المفروض تعمل العكس... أو تسيبهم الاتنين هنا.
هزّ «حسين» رأسه بعصبية:
-لأ... مش ضامنهم... ممكن يبلّغوا الشرطة... وسراب بنتي، ومحدّش بيخطف بنته... وكمان البدري مش هيسيبها، وهيجيب الكتاب الأصلي... أما مريم هيلبسونا بيها قضية خطف.
شحب وجه «صالح»، وابتلع ريقه ببطء، ثم سأل بصوت مرتجف:
-وأنا مع رأي حسين باشا.
أومأ «حسين» وأشار لرجاله يأمرهما:
-يلا بينا من المكان ده... عندي مكان أحسن... هاتوا سراب وسيبوا التانيه بره.
-افرض معرفتش توصل لبيتها.
قالها نافع فهدر حسين بغضب:
-توصل ولا عنها ما وصلت هو أنا هشيل همها.
استغفروا🌸
*********
فتح الرجلان الباب بعــنف، فانتفضت «سراب» و«مريم» واقفتين، كأنما لسعت جسديهما صاعقة.
مدّ أحدهما يده وسحب سراب بقــسوة، فصرخت «مريم» وتشبثت بذراعها بكل قوتها، بينما حاول الآخر أن ينتزعها بعيدًا، وهو يزجرها بخشونة:
-سيبيها... إحنا هناخدها، وإنتي هتمشي.
صرخت سراب برجاء وهي تتوسل:
-استنّى... هاجي معاكم، بس هقولها كلمتين بس.
تبادل الرجلان نظرة قصيرة، ثم أرخيا قبضتيهما.
اقتربت «سراب» من «مريم» سريعًا، وضمت وجهها بين كفيها المرتعشتين، تقاوم انهيارها:
-متخافيش... هيرجعوكي لعيلتك.
تنفست بصعوبة وكأنها تبتلع دموعها:
-ابقي قولي لعمرو... إني كويسة.
بدأ الرجل يجذبها من جديد، لكن سراب صاحت وهي تُسحب للخارج، تتشبث نظراتها بمريم:
-وقوليلهم... إني بحبهم أوي.
ترددت قليلًا، ثم تمتمت بصوت بالكاد يُسمع:
-وقولي لعمرو إني... إني بحبه أوي.
قالت الجملة الأخيرة بشفاه مرتعشة، وبصوت مبحوح لا يكاد يخرج، لكنها كانت كافية لتخترق قلب «مريم».
ثم انهارت «سراب» باكية، وهي تُسحب عــنوة، تجرّ خطواتها المُقاومة، وتلتفت خلفها كمن يُنتزع من روحه.
وبينما كانت تُجر إلى السيارة، أمسك رجل آخر بذراع «مريم» ودفعها خارج الكوخ.
وقف «حسين» أمامها، رفع سبابته في وجه مريم، صوته كالرعد:
-بلغيهم إن الكتاب مزوَّر... يا يسلموني الأصلي يا ينسوا سراب للأبد.
ثم تركها ترتجف والكلمات تمور برأسها وصعد جوار سراب في السيارة، جلست الأخيرة في المقعد الخلفي، تتلفت بجنون من النوافذ، وعيناها تبحثان عن مريم.
صرخت بحدة:
سيبتوها لوحدها ليــــه؟!
زجرها حسين، وجذبها إليه بعنــف، وضع يده على فمها، فاختنق صوتها، واختنق الهواء في صدرها.
في الخارج، كانت «مريم» تقف مكانها كمن اقتُلعت منه الحياة، تدب قدميها بالأرض في نوبة هلع، تصرخ باسم سراب، لكن لا أحد يجيب... لا أحد يسمع.
التفتت حولها بجنون، تلهث، تتنفس بصعوبة...
لم تجد أحدًا... لا صوت، لا حركة...
مجرد أراضٍ زراعية تمتد على مدّ البصر.
ابتلعت ريقها الجاف، ومضت تتعثر بين الحقول، دموعها تغسل وجهها الصغير.
وفجأة... ناداها صوت تألفه كأنما انشق من الهواء...
توقفت، والتفتت تتنفس بعــنف، ومسحت عينيها بدهشة:
-نادر...
وضع نادر يده على قلبه وهو يلهث، واقترب منها بخطوات ثابتة، خرج صوته مطمئنًا:
-متخافيش يا مريم... تعالي.
تقدمت نحوه بتردد، وقالت ببكاء:
-أخدوا سراب يا أبيه نادر.
-متقلقيش... تعالي بس نمشي من هنا.
ثم سارا معًا ما يقرب من خمس دقائق حتى لاح لهما قرية صغيرة، دقائق أخرى من السير ووجدت نفسها تقف أمام بيت نادر الذي ضم والده واعتذر منه ومن والدته التي اقتربت تضم «مريم» وتربت على كتفها بحنو...
قبل أن يركبا سيارة ويتجها لبيت دياب.
استغفروا 🌸
★★★★★★
كانت «نداء» تجوب الغرفة بخطى متوترة، وعيناها لا تكفان عن النظر إلى الهاتف، كأن فيه الخلاص، فمنذ اعتزال نادر التمثيل لم يختفِ هكذا فجأة.
رن الهاتف فقطع سكون الغرفة، وما إن أجابت حتى جاءها صوت والدتها المرتعش يحمل أنفاس ارتياح:
-نادر رجع من شويه وكان معاه مريم بنت يحيى أنا قولت أطمنك.
صمتت نداء لثوانٍ، كان عقلها يزدحم بألف سؤال، لكن لسانها لم ينبس بكلمة.
أغمضت عينيها، ثم تمتمت بحمدٍ خافت، وامتلأ صدرها بأنفاس ثقيلة أخيرًا وجدت طريقها للخروج، نادر بخير... ومريم أيضًا، وما بعد ذلك كله خير.
هبطت الدرج على عجل، تكاد لا تلمس الأرض، تتسابق الكلمات على لسانها لتزفّ البشرى، مريم بخير، وهي في الطريق مع والدها وأخيها.
شهقت وئام؛ التي لم ترفع رأسها منذ دقائق، بارتياح، لكن سرعان ما انهمرت على نداء الأسئلة... عن سراب.
توقفت «نداء» فجأة، كأنها صُدمت بتيار كهربائي وكأنها تذكرتها للتو... أين سراب؟!
التفتت نحو «عمرو»، فالتقت عيناها عينيه؛ كانت نظراته زائغة، تائهة، والفزع مرسوم فيها بوضوح.
انهار على الأريكة، وهو يهز رأسه يمنة ويسرة ويهمس بصوت متحشرج:
-لا... لا لا، يعني إيه؟ سراب خدوها فين؟
مرت لحظات ثقيلة قبل أن يُفتح الباب، وظهرت «مريم» يتبعها «نادر» ووالده.
اندفعت وئام نحوها، ضمّتها إلى صدرها بقــوة، تقبّل وجهها مرارًا، وتشم رائحتها كما لو كانت تطمئن أنها هنا بالفعل.
التفتت العيون كلها نحو نادر ووالده، وانهالت عليهما الأسئلة... أين سراب؟ كيف وجدا مريم؟
قال نادر بصوت حاول أن يبدو واثقًا لكنه بدا متصنّعًا:
-بـ... بالصدفة... كنت في أرضنا، شفتها هناك... وقضيت الليلة أراقب من بعيد.
لم يمرّ كلامه على «نداء» مرور الكرام. رشقته بنظرة فاحصة، وقد تجلى الشك على ملامحها، فارتبك نادر، وأخذ يحك عنقه دون أن يدري.
اقتربت «مريم» من «عمرو» بخطوات هادئة، ونظراتها تحمل شيئًا أثقل من الكلام... قالت:
-بيقولوا الكتاب مزوَّر... عايزين الأصلي... لو استلموا الأصلي هيسيبوها.
التفتت حولها تطالع الوجوه المشدوهة، ثم اقتربت أكثر من عمرو، وأشارت إليه بخفة ليقترب، ثم همست في أذنه بالكلمات التي قالتها سراب.
ارتج قلبه وغامت عيناه، ثم فجّر صرخة أفزعت الجميع:
-يعني إيه الكتاب مزور؟ إزاي يعني؟!
حين سمع «البدري» ما قالته «مريم»، اشتدت خفقات قلبه كأن الكلمات أصابته في مقتل.
ابتلع ريقه بصعوبة، ينظر إلى الفراغ... وفجأة، نظر إليه «عمرو» بعينين تشتعلان:
-ها؟ باعت وراها رجالة؟ هما فين الرجاله؟ سراب مرجعتش!
بدل «البدري» نظراته بين نادر وآدم الذي وصل للتو فأطرقا...
اهتز «البدري»، وداهمه دوار حاد، فأسرع «محمد» إليه، وأسنده برفق، وهو يقوده نحو الغرفة ليستلقي.
في الخارج، كان «عمرو» أشبه بعاصفة لا تهدأ، دوي صوته في أركان البيت:
-أعمــــــل إيــــــــه؟! وإزاي الكــــتاب مزور؟! حــــــد يفـــــهـــــــمــــنـــي.
★★★★★★
مر اليوم وهم يتسائلون كيف يحدث هذا؟ وكيف مزور!
كان «آدم» و«نادر» يتبادلان نظرات تشع قلقًا وخوفًا...
أشار «نادر» لـ «آدم» للخارج...
قال «نادر» وهو يمرر يده على ذقنه، بنبرة مُثقلة بالندم:
-ياريتني ما سمعت كلامك... إحنا عرضنا حياة سراب للخطر.
التفت «آدم» حوله وقال:
-مش هنتكلم هنا... تعالى البيت عندي عشان نفكر هنعمل ايه.
أطلق «نادر» زفرة طويلة، وكأنها تحمل كل ثقله، وتبعه في صمت...
وما أن دلفا للبيت هدر به «نادر»:
-تقدر تقولي هنعمل ايه دلوقتي... أهو اكتشفوا إن مش هو الكتاب الأصلي... عمرو لو عرف اللي عملناه هيقاطعنا طول العمر.
فقد قام «آدم» بمحاولة يائسة لخداع حسين...
تذكر «نادر» ما حدث معه منذ كان بالمشفى بعد معرفته بوفاة داليا، وأرسلت له سارا رسالة تخبره أن يقابلها، لأن معها فيديو هام يجب أن يراه وأرسلت صورة لرحمه تخبره أن الفيديو خاص بها...
فتوجه «نادر» إليها غاضبًا، ربما يأست منه فقررت أن تلعب على وتر أخر، لا يدري ما خطب تلك الفتاة وماذا تريد منه، حقًا!!!
لكن في نفس اللحظة هاتفه «آدم» وأخبره أن «مريم» ابنة شيخهم «يحيى» خُطفت ويحتاج إليه، ليجلب من زميل له لـ كتاب هام لإنقاذ مريم.
لم يفهم «نادر» في البداية لكنه اتجه ليُلبي طلب «آدم» أولًا وأرسل رساله لسارا يطلب منها انتظاره للغد.
ثم تتبع «نادر» أثر «سراب»...
كان لابد من بقاء «آدم» فلم يكن في حالة تسمح له بخوض بتلك المغامرة... كما كان يخشى عواقب ما فعله لانتشال عامر من الأصوات داخل رأسه، وكان يراقب «عامر» خشية أن يحدث له أي شيء أخر، أو يطرأ عليه هو أي طارئ...
هدر «آدم»:
-إنت موبايلك كان فين؟ أنا قلقت جدًا، ومتقوليش فصل شحن؟
زم «نادر» شفتيه لبرهة ثم قال:
-الموبايل وقع مني ومعرفتش أكلم حد... وكنت لازم أفضل أراقب المكان، خوفت أرجع وأسيبهم... الصراحه اتلغبطت ومكنتش عارف أعمل ايه فقررت أراقب وخلاص، لحد ما الصبح مشيوا وسابوا مريم لوحدها... المهم هنعمل ايه يا فالح دلوقتي؟ منعرفش حاجه عن سراب... أنا أصلًا مش قادر أصدق إن كتاب يعمل كل اللي حكيتهولي ده.
-متقلقش... إن شاء الله هشوف حل...
تلعثم آدم في نهاية الجملة، وفضح صوته المرتجف اضطرابه الداخلي، رمق الكتاب القابع على سطح الطاولة بنظرة متوجسة واستطرد كأنه يُقنع نفسه قبل نادر:
-يا نادر، إنت مش متخيل الكتاب ده خطر إزاي! مش مجرد دليل على الكنوز... ده بيتكلم عن قــوة خفية في باطن الأرض، قوة بتحكمها قوانين مش مفهومة، وبتحاول تتحرر من قرون! ولو وقع في إيد الشخص الغلط... النهاية مش هتكون سعيدة للعالم كله.
توقف عن الحديث لبرهة، ثم استكمل بصوت منخفض:
-عشان كده أنا بدور على طريقة لإعدام الكتاب ده حتى الشرطة ما ينفعش نسلمه لها... ولما افتكرت صاحبي اللي معاه نسخه شبه دي بالظبط مكنش قدامي حل إلا إني أخاطر... وبعدين كمان حياة عامر لسه مش في أمان، متفكرش إن عشان مبقاش يسمع الأصوات خلاص كده! بالعكس ممكن ترجع تاني... وأصعب من الأول لو الكتاب ده الطقوس اللي فيه اتنفذت.
-طيب بغض النظر إني لسه برده مش فاهم مجاوبتنيش يا آدم... هنعمل ايه؟
قال «نادر» أخر كلمتين وهو يضغط على كل كلمة، فهوى آدم جالسًا وسلط نظره على الكتاب وهو يهز رأسه نافيًا ويقول:
-مش عارف يا نادر... أعتقد إحنا محتاجين نقول للشيخ يحيى يمكن يساعدنا.
★★★★★★
انتقل «كارم» لغرفة عادية، وجلس على الفراش وأمامه تقى وعامر ورائد وبدر، يحيطون به في دائرة من القلق والترقّب.
بدا عليه الإنهاك، لكنّه تحامل على نفسه، ورفع رأسه ليكسر الصمت:
-أنا آسف يا تقى... شكلي حسبتها غلط لما سيبتكم وروحت عشان أبرد ناري وأنتقم لنفسي ولأختك اللي ماتت وهي بتولد سراب.
تقدمت تقى بسرعة، وجلست أمامه مباشرة، وقالت بحنانٍ متوتر:
-متتكلمش دلوقتي يا بابا.
هزّ «كارم» رأسه بإصرار، وخرج صوته محمّلًا بثقل الذكريات:
-لا أنا عايز أتكلم... لازم تعرفي الحقيقه، خلاص مبقاش في داعي أخبي، كله اتكشف... وبقيت أنا المتهم في نظر الكل.
كانت أنفاسه تتسارع مما أثار قلق تقى، فانحنت تمسك يده بحنو، وهي تقول:
-أنا مش شيفاك متهم يا بابا ولو الدنيا كلها جابتلي إثباتات تدينك برده مش هصدق.
سعل «كارم» عدة مرات، ثم ربت على يدها وأخذ نفسًا عميقًا، ثم طاف بنظراته على وجوه الواقفين في صمت وترقب، وقال:
-نافع أخو بدر جالي البيت بأمر من أخويا الكبير حسين أو اللي كان شهرته أبو الدهب...
زفر ضاحكًا وسخر:
-كانوا مسمينه كده عشان عقله من دهب، خبيث وواطي، الله ينتقم منه مش قادر اترحم عليه حتى بعد ما مات...
أغلق جفونه لبرهة في ألم ينبع من قلبه، ثم نظر لبدر وقال:
-نافع وراجي إخواتك شغالين معاهم من وهما لسه عيال... وأبوك برده كان شغال معاهم.
تقدم «بدر» خطوة وغضن حاجبيه، قائلًا:
-بابا! كان شغال معاهم ايه؟
تجاهل «كارم» سؤاله وأسقط بصره ثم قال:
-المهم إداني فلوس من دهب عشان ياخد الكتاب، بس أنا سلمته كتاب مزور كنت مجهزهولهم لأني متأكد إنهم هيوصلولي في يوم من الأيام... والذهب اللي خدته ده من حقي أنا... لأنهم ظلموني وحرموني من فلوسي وميراثي... هحكيلكم...
سأل بدر مجددًا:
-بابا كان شغال معاهم إيه؟
تنهد كارم وقال:
-متقاطعنيش يا بدر سيبني أكمل وفي الأخر هجاوب على أسئلتكم.
تراجع بدر للخلف، بينما أغلق كارم جفونه وتنفس بعمق وهو يفتح حقيبة ذكرياته المؤلمة، والجميع مترقبين لحكايته...
*********
(فلاش باك)
دخلت «سجى» ابنة كارم إلى البيت بثياب ممزقة، وعينين زائغتين كأنهما هربتا من جحيم.
كانت خطواتها متعثرة، جسدها يرتجف، وعلى وجهها آثار ما يشبه العاصفة.
صرخت والدتها «صفاء» صرخة مخنوقة، وتجمدت في مكانها كأنما صُعقت، بينما اتسعت عينا «كارم» رعبًا واقترب منها بلهفةٍ تنزف قلقًا، أمسك بكفها المرتجفة، صوته مخنوق:
-في إيه؟! مين اللي عمل فيكي كده يا سجى؟!
كانت ترتعش كغصن في مهب الريح، اقترب منها أكثر وضمها إلى صدره، يكرر سؤاله بعينين تبرقان بالدموع...
همست من بين شهقاتها:
-حـ... حسين...
قالتها كأنها نزفت من حنجرتها، لا اسمًا بل طعنة، شهق كارم كأنما صُفع، وقال:
-ابن عمك؟!
أومأت برأسها باكية، ثم انهارت بين ذراعيه...
أما «صفاء»، فرفعت يديها إلى وجهها، ولطمت وجنتيها وهي تصرخ بانهيار.
اختلطت الصرخات بالنحيب، وتهاطلت الدموع كالمطر...
جثا «كارم» على الأرض، يحتضن ابنته، وعيناه تتقلبان بين الوجع والغليان...
وفجأة انتفض واقفًا، كأن النار اشتعلت في عروقه، زمجر من بين أسنانه وعيناه تقدحان شررًا:
-أنا مش هسكت... مش هعدّيها!
خرج من البيت كمن فقد السيطرة على عقله، يركض بخطوات متوترة كأن الأرض لا تحتمله...
وصل بيت أخيه وهو يطرق الأبواب بعنف ويصـــرخ:
-مش هسيبك يا أبو الدهب! هخلص عليك وعلى حسين الكـ***!
كان «أبو الدهب»، و«والد حسين»، جالسَين مع «راشد» المحامي وشريكهم، حين اندفع «كارم» إلى الداخل، يتحدث كمن يقذف نارًا، والحراس يحاولون إيقافه...
لم يتحرك أحدهم، لم يرفّ لهم جفن، بل أشار «أبو الدهب» للحراس أن يبتعدوا، فانسحبوا بهدوء، بينما نهض «راشد» ببطء، اتجه إلى كارم بعينين باردتين، وقال:
-اهدى... البنت هتتجوزه، والموضوع خلص.
ارتجف «كارم»، أشار إليهم بسبابته، وجهه يغلي:
-هبلغ عنكم! هقول كل حاجة... هقول إزاي استغليتوني تطلعوا الآثار يا عصابة!
ضحك راشد، ضحكة جليدية مغموسة في السخرية وقال:
-إنت عبيط يا كارم؟ هتبلغ عننا إزاي؟ ما إنت شريك يا غالي، إنت واحد مننا.
ثم أشار إلى المقعد وقال:
-اقعد... نتفاهم يا كارم... يا تقعد... يا أعلى ما في خيلك اركبه.
انفجر كارم كبركان، وهجم على راشد، أسقطه أرضًا، جثم فوق صدره، يضــربه، يخنقه، وهو يصرخ:
-هقتلك... إنت السبب... إنت اللي خربت حياتنا!
ارتفعت صرخات، وهرج، ومحاولات يائسة لإبعاده... ثم... سكون...
ارتخى جسد راشد، فارتد والد حسين للخلف وردد بذهول وصدمة:
-مات...
اقترب كارم منه، يهزه بيدين مرتجفتين، وهو ينادي:
-راشد!
ابتعد عنه وأطبق يده على فمه، ثم تمتم:
-مكنش قصدي... والله مكنش قصدي...
قال «أبو الدهب» بصوت خافت، مريب:
-مفيش حاجة حصلت يا كارم... أنا هتصرف.
كان «كارم» جاثيًا على الأرض، يضربها بكفيه، وينوح:
-مكنش قصدي... إنتوا السبب... ضيعتوني...
اقترب منه «أبو الدهب» وهمس في أذنه بصوت زلق كالأفعى:
-متقلقش... هنطلعك منها... بس الكتاب... تجيبهولي.
وبالنسبة لبنتك؟ الواد هيكتب عليها الليلة... ولا تزعل.
لم يجب كارم... فقط كان يومئ برأسه، وجهه شاحب، كأن لسانه قد مات، وعقله تاه... كان يراها، «سجى»... يراها تبكي، يرى صفاء منهارة، ويرى نفسه غريقًا بلا ضفة.
ومن مكان مرتفع من نافذة في الطابق العلوي، كان حسين – والد سراب – يراقب المشهد بوجه جامد، بلا تعبير، كتمثال نُحت على صخرة باردة...
عودة
*******
ارتشف كارم دموعه بعدما عاد من ذكريات ذلك اليوم الذي أقحمه بكابوس لم ينتهي حتى الآن، فضمته تقى وهي تبكي وتقول:
-كفايه يا بابا... كفايه.
اقترب منهم عامر وربت على ظهر تقى بحنو، بينما تبادل رائد وبدر النظرات والصدمة تتجلى على وجههما..
أكمل كارم بصوت يرتجف:
-صفاء مراتي وسجى بنتي مكانوش موافقين على الجواز لكن أنا اللي أصريت يمكن كنت أناني وخوفت على نفسي من حبل المشنقه... ساعتها سجى كانت يدوب مكمله ١٨ سنه لكن شكلها كان يوهمك إنها ١٢ أو بالكتير ١٦... وانتهى الموضوع بجواز حسين من بنتي أم سراب... وأنا، طلعتلي شهادة وفاة باسمي، وبقت معايا بطاقه باسم راشد يعني عيشت باسمه ومحدش يسألني إزاي... وقتها كانوا يقدروا يعملوا أي حاجة... ودا كان سهل لأني مكنتش بظهر كتير ومش كل الناس عارفين إني كارم، حتى راشد مكنش ليه أهل يدوروا عليه... وهما عرفوا يستغلوا موضوع قتله صح عشان يقيدوني ويجبروني أكون معاهم.
سأل رائد بفضول:
-والكتاب؟
مسح كارم وجهه أثر الدموع، وقال:
-سلمتهم الكتاب وساعدتهم يطلعوا أثار مره واتنين ولما اتطمنولي الكتاب رجعلي، لكن كرهت نفسي وكرهت اللي بعمله... كانوا بيتعاملوا بالسحر الأسود ورجلي اتسحبت معاهم...
ارتفعت شهقاته واهتز جسده من البكاء وهو يضيف:
-وبعد فترة حملت بنتي من حسين اللي لما عرف إن اللي في بطنها بنت كان بيضــربها وحاول ينزل اللي في بطنها... ساعتها أخدت بنتي منه ووقفتله... وعرضت عليه يساعدني أهرب مقابل إنه ياخد كل ثروتي بالكامل، وهيطلق بنتي بعد ما تولد...
سأله عمرو:
-إنت ليه مسافرتش بره مصر؟!
-معرفتش أسافر بره مصر... حسين وقتها أخد كل فلوسي وساعدني أهرب بشرط إنه ميشوفش وشي تاني لا أنا ولا بنتي ولا بنته... مكانش هامه لا كتاب ولا غيره، مكنش يعرف أهميته... لكنه عرف بعد كده... ولما جيت قابلته بعدما بنتي ولدت عشان أسجل سراب باسمه طلب الكتاب... ووافقت...
تنهد بعمق وارتفعت أنفاسه وهو يكمل:
-كنت مأجر شقة في أسيوط الفتره دي عشان... عشان ميعرفش مكاني وبعدين رجعت تاني المنصورة، ومرت السنين وحسين بيحاول يتواصل معايا لكن معرفش مكاني إلا بعد ما عرفته نرمين بنت أخوه اللي هو قـ ـتله... وأنا حكيت لنرمين كل حاجه بس هي سابت كل حاجه ورا ظهرها ومشيت من البلد وعملت الصح.
سأل رائد:
-مش فاهم برده والكتاب راح فين؟ رجعلك تاني ازاي؟
ابتلع كارم لعابه باضطراب وكانه يود الإحتفاظ ببعض الأسرار، وقال:
-فضل الكتاب معايا... ما هو... ما هو أنا سلمت حسين كتاب تاني.
-والكتاب ده إنت كنت قاصد توصلهولي؟
قالها «رائد» وحدق بكارم ثواني ثم أضاف بكياسة:
-إنت لسه مخبي حاجه يا عمي كارم؟ حاسس إنك مقولتش كل حاجه... جاوبني لو سمحت.
أشاح كارم وجهه، وقال بجمود:
-انا قولت كل حاجه... الكتاب اسمه rdj htp يعني (ردي حتب) بالمصرية القديمة يعني عن تراض... كل اللي بيتعمي لما بيقراه ملهوش غير علاج واحد القرآن...يسمع قرآن ويتقرأ عليها ويصلي ويذكر الله لحدما يفتح... الكتاب ضاع مني مش أكتر...
قال أخر جملة بتلعثم، فتجاهل رائد كلامه وعاد يسأل بإلحاح:
-إنت كنت قاصد توصلني الكتاب ده يا عمي كارم؟
كرر رائد السؤال أكثر من مرة، وكارم صامتًا، وفجأة تعالت أنفاس كارم وتغيرت حالته، احمر وجهه وأخذ يسعل، فصرخت تقى تنادي الطبيب يفحصه وأخرجوهم جميعًا من الغرفة.
وأمام الغرفة وقف رائد بمفرده يتذكر كيف وصله الكتاب حين وصلت له طلبية كُتب وتعجب وقتها من وجود هذا الكتاب رغم أنه لم يطلبه وحين تواصل مع المكتبة أخبروه أنه مجاني..
ولأنه كان يحب القراءة أخذه بسعة صدر بل ورحب به بين كتبه وقرأه أولًا.
غادر رائد المستشفى دون إذن وتبعه بدر في حين وقف عامر جوار تقى يُهدئها وهو ينظر لأثرهم دون أن ينادي على أي منهما.
★★★★★
كانت «شيرين» تجلس في الصالة مع أخيها، وابنة داليا «ريمان» التي أسندت رأسها برفق على كتف زوجها «يونس».
بدا الجو هادئًا، لكن التوتر كان يتسلل بين اللحظات...
قضوا ليلتهم في بيت شيرين، وقد حاولت جهدها أن تبدو طبيعية، وأن تخفي ما يدور في أرجاء المنزل، لكن صوت «عمرو» المرتفع، الذي كان يخترق الجدران من حين لآخر، فضح كل محاولاتها...
فقد كان صوته يرج أركان البيت، ولا أحد بقدر على كبحه.
بدأت العيون تتبادل النظرات، وشيرين تبتسم بتكلف، تجيب بردود مقتضبة، وتحاول تغيير الموضوع كلما اقترب الحديث من الجو المشحون.
التفت إليها أخوها بعد لحظة صمت وقال بنبرة حاسمة:
-طيب يا شيرين... ريمان محتاجة تبعد شوية عن جو الحزن والعزا ده... إحنا هنمشي.
لم تحاول أن تثنيهم عن قرارهم، فقط أومأت بسرعة وقالت:
-آه... أيوه، أحسن برده... يـ... يعني عشان ترتاحوا في بيتكم.
كانت ابتسامتها باهتة، ويدها ترتجف قليلًا وهي تودّعهم.
التقطوا ارتباكها، لكن لم يسألوا، اكتفوا بالعناق، وخرجوا.
في الطريق إلى السيارة، مال «يونس» على والده وهمس:
-عمتو مالها؟
مط الأب فمه بتردد، وحدّق لحظة في وجه ريمان الشاحب، ثم تنهد وقال:
-يلا نروح... عشان مراتك، وأنا هرجع لها تاني.
قبل أن يديروا المحرك، أوقفتهم «سعيدة»، كأنها كانت تنتظرهم على أحر من الجمر. اقتربت منهم بعزم، وعينيها تقولان: لقد آن الأوان أن ينتهي أمرًا يؤرقها.
يتبع