رواية عن تراض الفصل الخامس والثلاثون 35بقلم ايه شاكر
ماذا بعد أن تمنينا الكثير ولم يتحقق لنا ولو أمنية واحدة؟
ماذا بعد أن ادّعينا القوة، ونحن ننهار بصمت؟
ماذا بعد أن ضحكنا والوجع يأكلنا من الداخل؟
ماذا بعد أن قلنا «أننا بخير» ونحن في قاع الألم؟
ماذا بعد أن دعونا وتضرعنا، ثم ابتعدنا عن الطريق زاعمين أن الدعاء لن يُجاب...
ماذا بعد كل هذا؟
هل نواصل المسير؟
أم نلوذ بالصمت ونستسلم للسقوط...
ربما الجواب أننا نحتاج لمن يُذكرنا أن بعد الصبر جبرًا وبعد الدعاء فرجًا حتى لو مُنع عنا ما أردنا...
ربما نحن بحاجة لمن يأخذ بيدنا ويحثنا أن ننهض من جديد.... ولو بكلمة...
🌱🌱🌱🌱🌱🌱🌱🌱🌱🌱🌱
-لأ... أنا مش ضامن عمري... عايز أطلب منها تسامحني... عايز أقولها كلمة ما ينفعش أدفنها معايا... يلا يا شاهين... يلا دلوقتي.
أطرق «شاهين» برأسه لثوانٍ، كأنه يفتش في داخله عن إجابة، ثم تنهد بعمق ونهض واقفًا، طالع والده بعينين مترددتين، ثم قال بنبرة حذرة:
-آآ... أنا مكنتش عايز أقولك الموضوع ده دلوقتي ياأبويا، بس... شيرين... أصلها...
تعثرت الكلمات عن الخروج، بلع ريقه، ونبس:
-شيرين مش أختي من دمّك... شيرين أصغر مني بحوالي خمس سنين... يعني... بنت جوز أمي الله يرحمه، مش بنتك إنت وليها أخ كمان مسافر برّه.
اهتز جسد «البدري» فجأة، فاستند على سور الشرفة كما لو أن صاعقة باغتت قلبه، فسارع بدر إلى الإمساك بذراعه الأخر قبل أن يسقط...
خاطب بدر شاهين بصوت مضطرب يعلوه انفعال مكبوت:
-وليه يا عمي؟! ليه مقولتش الكلام ده من بدري؟!
حاول شاهين الرد، لكن علقت الكلمات في حلقه، تلعثم، ثم نطق بصوت خافت يكاد يُسمع:
-خوفت... كنت خايف على الحاج... كان باين عليه فرحان قولت أسيبه يفرح وأبقى أمهدله واحده واحده.
أشاح وجهه، وارتجف جفنه وهو يُخرج ما ظل حبيسًا بين ضلوعه سنوات... الحقيقة مُرة، لكنها لم تعد قابلة للكتمان:
-أمي الله يرحمها... لما بعد ما ولدتني بفترة اتطلقت وكنت أنا لسه متسجلتش... محدش سجلني هي قالت إني جدي وقتها كان تعبان وإنت كنت مسافر ومسألتش فينا... وهي...
توقف لحظة كأن الكلمات تخونه، ثم أطلقها دفعة واحدة:
-أمي أول ما وصلت هنا اتقدملها جوزها وهي كانت رافضه لكن...
تعثرت الكلمات على لسانه فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه وقال:
-بص يا أبويا أمي الله يرحمها غلطت غلطة وندمت عليها لما... لما سجلتني باسم جوزها... كانت عايزة تخرج من الأزمة بأي طريقة، لأن التسجيل محتاج حضور الأب أو بطاقته... وهي مكنتش عايزه ترجع عند جدي تاني... اتجوزت عشاني لكن بعدين حبت جوزها وحكيتله قصتها كاملة... وكملوا حياتهم عادي...
ابتلع باقي كلماته وهو يتأمل وجه البدري المدلهم، ثم اقترب خطوة، وعيناه تتوسلان الرحمة:
-أرجوك... أرجوك يا أبويا، خليك كاتم السر... إخواتي ميعرفوش إني أخوهم من الأم بس ومحدش يعرف باللي أمي عملته... ودي كانت وصيتها الأخيرة وأنا وعدتها... بلاش ننبش في الماضي خلينا ننسى... ننسى كل حاجه اللي إنت حكيته واللي أنا حكيته.
ساد صمت طفيف حتى خرج صوت «البدري» كأنه يجرُّ نفسه من بين الركام:
-أومال... فين بنتي؟
تنهد «شاهين» تنهيدة طويلة، أشبه بانهيار سدٍ قديم، وقال بنبرة ممزوجة بالحزن والقلق:
-ماتت...
أغلق عينيه لحظة وكأنّه يحاول الهرب من الصورة:
-كانت في تالته ابتدائي... وكان عندها مرض مزمن في الكلى...
شهق «البدري»، شهقة مكتومة، ارتفع كفه ببطء إلى قلبه، وشحب وجهه...
تمسّك بحافة الكرسي، وقد اهتز عالمه كله من تحته... لم يصرخ... لم يبكِ... فقط جلس، وكأن الحياة نزحت من جسده...
كان «بدر» يمسك بيد جده برفق، ليساعده على الجلوس، بينما واصل «شاهين» بصوت مكسور:
-أنا... أنا مكنتش عايز أقولك عـ... علشان متتعبش.
ظل «البدري» صامتًا، ثم همس:
-وأنا اللي كنت فرحان... فرحان إني لقيت بنت في حنية شيرين...
أغمض عينيه، وتخيل لحظات لم يعشها:
-كنت متصور شكلها لما أقولها الحقيقة... كنت متخيلها تقولي يعني إنت أبويا؟ وأنا... وأنا أبكي قدامها...
ثم تنهد بعمق، وتنهدت معه كل أوجاعه:
-إنا لله وإنا إليه راجعون.
في غمرة الألم، ومص في ذهن «البدري» شيء هام... قال فجأة وهو يحدق في الفراغ بتركيز:
-بس إنت لما إدتني بطاقتك... أنا قريت اسمك... كان نفس اسمي...
أخرج «شاهين» البطاقة بهدوء، وناولها له، فقال «البدري» وهو يرتدي نظارته ويركّز النظر في الأحرف:
-شاهين عبد الوهاب أحمد محمد إبراهيم... وأنا عبد الوهاب أحمد إبراهيم محمد...
ضحك ضحكة قصيرة حزينة، لا تحمل مرحًا بل مرارة، بينما قال «شاهين» بصوت مرتجف:
-أمي وافقت على جوزها من غير تفكير عشان كان شبه اسمك... ولما أنا اديتك البطاقة كنت مستني تاخد بالك من الإسم وتسألني... لكن إنت ماخدتش بالك، فقولت يمكن... يمكن دي إشارة إني أسكت.
هزّ «البدري» رأسه ببطء، ثم أطلق ضحكة قصيرة باهتة، سرعان ما تحوّلت إلى قهقهة ساخرة وهو يضع بطاقة الهوية أمامه على الطاولة بتنهيدة مجروحة:
-يلا... أهي ما فرقتش كتير... محمد إبراهيم من إبراهيم محمد...
استمرت ضحكته للحظة، لكنها سرعان ما اختنقت في صدره، وتحولت إلى سعال جافّ... ثم إلى نشيج مختنق....
أمسك صدره بكفه كمن تلقى طعنة داخلية، وهو يتمتم بانكسار:
-أنا السبب... أنا السبب... أنا اللي ضيّعت عيالي كلهم... كلهم...
ارتمى «شاهين» على ركبتيه أمامه، وطبع قبلة مرتجفة على رأس أبيه، صوته يتوسل وينكسر:
-يا أبويا... بالله عليك متقولش كده... أنا أهوه... أنا جنبك، وهفضل جنبك الباقي من عمري.
دفعه «البدري» بكفه دفعة خفيفة، كمن يدفع ألمًا لا وجهًا، وقال بصوت مبحوح:
-امشي... امشي يا ابني... إنت مينفعش تكون هنا... مش قادر أستوعب... إزاي؟! إزاي بعد ما عرفت كل حاجة عني لسه ماسك فيا؟!
امتدت يد «شاهين» تحاول الإمساك بكفه:
-عشان إنت... إنت أبويا... اللي... مينفعش...
صرخ «البدري» فجأة، بصوت تصدّع كالصخر:
-قـــــولـــــتــــــلــــــــك امــــــشـــــي! امــــشــــــي يــا شـــاهـــيــــن!
ارتعد قلب «شاهين» وتراجع خطوة...
لف الصمت المكان، لا يقطعه إلا السعال الذي تمزق من حنجرة البدري.
انحنى «بدر» يتفقد جده بلهفة ثم نظر لشاهين وخاطبه بنبرة هادئة لكنها قاطعة:
-لو سمحت امشي دلوقتي يا عمي...
فتح «شاهين» فمه ليعترض، لكن أطل من عيني بدر نظرة حاسمة وهو يكرر كلماته ويضغط على كل حرف:
-لو... ســمــحــت.
تراجع «شاهين» بظهره، وعيناه لا تزالان معلقتين بملامح «البدري» التي تتقلب بين الغضب والانكسار، ثم استدار ومضى، بخطوات ثقيلة كأنها تسير على ذاكرة عمر، ثم خرج من البيت بأكمله، وقف أمام بيت أخته للحظة لكنه قرر أن يعود لبيته الآن وغادر الشارع بأكمله...
أما بدر، فظل إلى جوار جده، يناوله كوب الماء، يربت على ظهره بصبرٍ صامت، حتى هدأت أنفاسه...
-حتى أبوك يا بدر... حتى إخواتك... أنا اللي ضيعتهم بإيدي... أنا مش هسامح نفسي أبدًا...
قالها البدري بصوت مبحوح ثم رفع عينيه المبللتين بالدموع، وتمسّك بكف «بدر» كمن يتعلق بخشبة نجاة وأضاف:
-إنت الوحيد اللي مش شبههم... إوعى تبعد عني إنت كمان! إوعى تسيبني بعد ما عرفت الحقيقة!
صمت «بدر» لبرهة وهو يتذكر اعتراف جده الكامل له ولشاهين، وسرعان ما هز رأسه نافيًا، وقال بصوت خفيض دافئ لكنه مليء بالشجن:
-مهما تحكي يا جدي أنا عمري ما هسيبك... اهدى يا جدي... إنت عملت اللي قدرت عليه... أبويا الله يرحمه، كان قدامه طريقين، واختار اللي اختاره... وإنت حذرته كذا مرة.
وبينما كان صدى كلماته لا يزال يتردد في الغرفة، سُمع صوت توقف سيارة بالخارج....
التفت «بدر» سريعًا ينظر من الشرفة، وتجمدت ملامحه حين رأى سيارة «محمد» توقفت أمام البيت، يرتجل منها «كارم» و«رامي»...
ازدرد «بدر» لعابه، وشعور ثقيل يهبط على صدره كغمامة داكنة...
تساءل...
هل هو إبان كشف المستور؟
ثم نظر لجده والقلق يُطل من عينيه وقال:
-الحاج كارم وصل.
التفت «البدري» في سرعة وقال وهو يمد يده ونظراته تشي بتعبه:
-خد ايدي يا بدر وديني عنده عايز اتكلم معاه.
********
وفي الخارج
وقف «كارم» لحظة يتلفت حوله، وعيناه تمسحان الشارع، وتسبحان في بحر من القلق، ثم اتجه نحو بيت «دياب»، أمامه رامي، وتبعهما محمد بعدما أغلق سيارته...
******
ومن شرفتها العالية
كانت سعيدة تحك ذقنها وهي تراقب بترقب شديد وتمتمت بفضول:
-يا ترى المتكبرين دول وراهم ايه؟!
استغفروا 🌸
★★★★★★
بداخل بيت دياب
جلست «رحمة» جوار «رغدة» في غرفة الجلوس، تتبادلان النظرات وقد خيم عليهما صمتٌ قلِق...
كانت ملامح «رحمة» شاحبة، ووجهها يقطر حيرة وخوفًا مكتومًا، أما «رغدة»، فقد كانت تطرق إحدى قدميها بالأرض في اضطراب، وعيناها تتنقلان بين الهاتف والباب.
لم يطل الانتظار كثيرًا إذ طرق الباب بقــوة خفيفة، واندفع بعدها الجد «دياب» إلى الداخل، يرافقه «عمرو» و«عامر».
جلس «دياب» بسرعة، بينما نظراته تتفحص ملامح الفتاتين بقلق، وصوته يخرج متلهفًا:
-خير؟ فيه إيه يا بنات؟
لم تنبس أي منهما بحرف، فقط التوى فم رحمه وسقطت منها دمعة سارعت لمسحها، بينما أطرقت رغدة محدقة بنقطة وهمية بالأرض...
بدل «عمرو» نظراته بينما ثم فتح هاتفه يبحث عن ذلك الخبر على مواقع التواصل، فلم يخبر والده سوى أن رغدة ورحمه ينتظرانه لأمر ما...
سرعان ما مد عمرو يده بالهاتف وقال:
-شوف كده الصورة دي يا بابا.
انحنت «رحمه» للأمام، وقلبها يطرق صدرها كطبل حرب، ثم تمتمت بصوت مبحوح:
-دا بابا يا جدو... إحنا مش عارفين نقول لجدو ضياء... ولا لتيته... بس دي هدومه... هو...
حدق دياب بشاشة الهاتف...
في تلك الأثناء، كان «عامر» يبحث عن صور أخرى على هاتفه، وفجأة جحظت عيناه حين رأى إعلان بأسمائهم، وارتفع صوته متوترًا:
-دول هما يا بابا... حسين ونافع وراجي وصالح... واضح إنهم كانوا بيعملوا الطقوس... بس إيه اللي وصل صالح ليهم؟!
تجاهل «دياب» السؤال وطفق يضــرب فخذه بيديه وهو يردد بانفعال وأسى:
-يادي المصيبة الجديدة... يادي المصيبة اللي وقعت على دماغنا تاني... ليه يا صالح؟ ليه كده يا صالح؟! ليه يابني!! يا وجع قلبك يا ضياء ياخويا...
قالها بصوت يرتجف وهو يكتم بكاءه ويحاول أن يتشبث بحبل القــوة...
بينما سقطت دموع رغدة وتبعها صوت نشيج رحمه...
في تلك اللحظة عند الباب ظهرت «نداء» تحمل صينية العصير، وسألت عما أصابهم ولكن لا إجابة!
دخل للغرفة «سراب» ثم «تقى»...
فارتبك «عمرو» للحظة حين جلست «سراب» قرب «رغدة» تربت على كتفها وتسألها عما بها...
فأخذت «رغدة» تحكي من بين بكائها...
بدل «عمرو» نظراته بينهما وبين صور هاتفه، فلا يدري ما سيكون رد فعل سراب على ذلك الخبر!طالعها بقلق حين قالت:
-ممكن أشوف الصور دي؟
ناولتها «رغدة» الهاتف، فعض عمرو على شفتيه وهو يُطالع سراب وهي تقلب في الصور، وأناملها ترتجف مع كل سحبة، وكل رمشة عين تكاد تفضح ارتباكها...
وفجأة شهقت، وتوسعت حدقتا عينيها برعب حقيقي، اهتز له جسدها كله، وتسارعت أنفاسها، ثم نهضت واقفة كأنما لُدغت، وقالت بنبرة ترتجف:
-دا هو... هو... يعني هو كده مات خلاص؟
نهض عمرو واقفًا وقال ليهدئها:
-اهدي واقعدي... احنا لسه مش متأكدين... اقعدي يا سراب.
تذبذبت نظراتها للحظة، كان داخلها يختلج، ولا تفهم لمشاعرها معنى، هل هي حزينة أم سعيدة! لا تدري! لكنها مرتبكه جدًا...
جلست «نداء» جوار تقى تُطالعان الصور والمنشورات، رمقتهما «سراب» بنظرة سريعة ثم خرجت من الغرفة مسرعة، يلاحقها «عمرو» دون أن ينبس بكلمة.
نظرت «تقى» لأثرها ثم شرعت تسأل وتستفسر بينما تبادل الباقون نظرات مشوشة، وبدأت الهمسات تدور، حتى ارتفع دوي جرس الباب...
صلوا على خير الأنام 🌸
********
فتح «رائد» الباب، فإذا بـ «يحيى» و«وئام» يقفان على العتبة، وظهر خلفهما «كارم» ومعه «محمد» و«رامي»...
وكأنهم كانوا على موعد مشترك، وبالأسفل ظهر صوت «بدر» و«البدري» يصعدان...
قال «محمد»:
-عمي كارم أصر إنه يجي يتكلم معاكم قبل ما يطلع يرتاح.
أفسح «رائد» الطريق وهو يقول:
-طيب ادخلوا... اتفضل يا عمي كارم... حمد الله على السلامة.
وارتفع صوت «دياب» من داخل غرفة الجلوس:
-اتفضل يا كارم... تعالوا هنا...
خرجت «تقى» من الغرفة وارتمت في حضن والدها باكية...
في تلك اللحظة، نهضت «رغدة» و«رحمة» سريعًا، وخرجتا من الغرفة وهما تحاولان كبح دموع لا تُكبح، واتجهتا إلى غرفة مجاورة فتبعتهما نداء تهدئهما...
وتزامنًا مع خروجهما، خرجت «شيرين» من المطبخ تتبعها «ريم»، وقد اجتمع على وجوههن جميعًا أثر ترقب وقلق من القادم...
اقترب «رائد» من «يحيى»، ومال برأسه هامسًا في أذنه:
-إنت جاي ليه؟
رفع «يحيى» حاجبيه باستغراب، وردّ بصوت منخفض:
-إيه السؤال ده؟ أمشي يعني؟
تدارك «رائد» كلماته سريعًا، وتنهد:
-مش قصدي، بس اتفاجئت إنكم جايين مع بعض.
أجابه «يحيى» بنبرة عفوية:
-والله من غير ترتيب.
ابتسم «رائد» ابتسامة باهتة، وربّت على كتف «يحيى» وقال بصوت خافت:
-كويس إنك جيت...
استغفروا 🌸
★★★★★
وعلى الطرف الآخر
في غرفة أخرى كان «عمرو» واقفًا قبالة «سراب»، يحاول أن يجر لسانها لقول أي شيء، ليذيب صمتها المتجمد.
لكنها لم تنطق... فقط كانت تومئ برأسها بملامح واجمة وغامضة، كأنها ترتدي قناعًا يخفي ما يدور بداخلها، وعينها لا تثبت على شيء، تنظر إليه ثم تزيح بصرها في لحظة قبل أن تلتقي أعينهما.
وحين تناهى لسمعها صوت «دياب» باسم جدّها «كارم» ارتجفت كأنها تنبّهت من حلم طويل، واندفعت تركض نحوه، تاركة «عمرو» خلفها مشدوهًا، يتمتم:
-يارب استرها يارب.
***********
ارتمت «سراب» في حضن جدها كما تفعل الطفلة حين تهرب من كابوس، وانهارت بين ذراعيه باكية، تردد كلمات متقطعة، تختلط شهقاتها بالحروف:
-أنا فرحانه أوي... بس مش عارفه بعيط ليه... المفروض أفرح... إنت موجود... وحسين مات يا جدو... خلاص مات.
كان «كارم» يضمها بقــوة، يربت على كتفها بحنانٍ، يوشك أن ينهار هو الآخر، سأل بصوت مرتعش:
-حسين... مات؟!
أبعدها عنه برفق ليسالها مجددًا لكنه لمح الكدمات المبعثرة على جانب وجهها، فشدّ فكه بقسوة، واحمرّت عيناه في لحظة، كأن نارًا اشتعلت بداخله... زمجر بصوت متحشرج:
-مين عمل فيكي كده؟!
رفعت رأسها إليه، وفي عينيها بقايا خوف ونقطة وجع لم تبرُد بعد، ارتشفت دموعها وقالت:
-حسين...
ظل «كارم» ساكنًا لبرهة، ثم فتح ذراعيه وضمها إليه من جديد، يربّت على ظهرها بحنوٍ، بينما عيناه معلّقتان على «البدري»، تحدقان فيه بصمت مليء بالأسئلة، كأنهما تصرخان؛ من أين أبدأ؟ أمن البداية حيث نشبت الأخطاء، أم من النهاية حيث لا فائدة من التبرير؟!
أزاح بصره عنه وانحنى رأسه قليلًا، وخيّم عليه سكون ثقيل، قبل أن يهمس بنبرة واهنة، مبللة بندمٍ عميق:
-أنا آسف... آسف يا بنتي... حسبتها غلط... آسف.
في تلك اللحظة
اقتربت «تقى» منه، تطالعه بعينين ممتلئتين بالشفقة والقلق، مدّت يدها تربّت على كتفه بخفة، وقالت بصوت حنون:
-تعالى معايا يا بابا... لازم ترتاح، أكيد إنت لسه تعبان.
هز «كارم» رأسه رافضًا، بعنادٍ رقيق، ثم أبعد «سراب» عن صدره برفقٍ، ووضع ذراعه حول كتفيها، كأنه يحيطها بدرعٍ أبوي لن يسمح بسقوطها بعد اليوم...
رفع عينيه إلى الجميع، وقال بصوت جادٍ ثابت:
-مش هرتاح... إلا لما تعرفوا كل الإجابات اللي بتدوروا عليها.
ثم التفت إلى «عمرو» قائلاً:
-واتصل بنادر... هو كمان لازم يعرف اللي كنت مخبيه عنه.
صلوا على خير الأنام🌸
★★★★★★★
-نـ... نادر!!
قالتها «سارا» بدهشة مرتعشة، وسرعان ما تحول ارتباكها العفوي إلى بهجة مصطنعة، وهي تشير إليه أن يدخل، وصوتها يرتجف بلطف مصقول بابتسامة متكلفة:
-اتفضل يا نادر... إيه المفاجأة الحلوة دي؟
لم يتحرك «نادر» خطوة، تجمّدت ملامحه عند عتبة الباب، وزمّ شفتيه كأنه يقمع انفعالاً داخليًا، ثم تكلّم بصوت خافت لكنه غاضب:
-إنتي عايزة مني إيه يا سارا؟! إيه الكلام اللي طلعتي قولتيه في التلفزيون ده؟!
تلبّدت ملامحها، لكنّها تماسكت، وردّت بصوت أقرب للهدوء البارد:
-الحقيقة يا نادر... قولت الحقيقة... معلش بقا ما هي ساعات الحقيقة بتوجع.
-حقيقة؟! حقيقة إيه؟ وإيه اللي دخل رحمة في الموضوع؟!
ارتفع صوته، وانعكس في عينيه دهشة مغلفة بغضب مكبوت... نظرت إليه بشيء من التحدي، ثم قالت ببطء مقصود:
-مش هي دي البنت اللي بتحبها؟ وفضلتها عليّا؟
رفع حاجبيه، وكأنها صفعت ذاكرته، ثم شهق ساخرًا وهو يقول:
-إنتي مريضة يا سارا... أنصحك تروحي تتعالجي، وفكك مني يا سارا، سيبيني في حالي... أنا حقيقي بكرهك.
تقدمت خطوة، وقالت بكبرياء وبنبرة تشتعل بغضب مكسور:
-هو إنت فاكرني بفكر فيك؟! أنا هتجوز خلاص... وهعزمك على فرحي أنا و... إسلام.
ضحك «نادر» ضحكة قصيرة جافة، ثم انطفأت ابتسامته فجأة، وتحول وجهه إلى كتلة من الصرامة، وأشار بإصبعه نحوها بتحذير حاد:
-سارا! تطلعي تعتذري عن الفيديو زي ما عملتيه بالظبط، وإلا والله العظيم هردّ رد مش هيعجبك... وهيزعلك جدًا يا نجمة النجوم.
قهقهت سخرية، ثم تقدمت نحوه خطوة، وقالت بتحدٍّ:
-إنت بتهددني ولا إيه؟ روح اعمل اللي تعمله... أنا مبخافش.
قالت أخر كلمتين بنبرة حادة، ثم صفعت الباب بعـــنف في وجهه، وأسندت ظهرها عليه، وقلبها يخبط بين أضلاعها...
وضعت كفها على صدرها، وانهمرت دموعها...
شهقت بصوت مخنوق، وردّدت عبر الدموع:
-بكرهك يا نادر... بكرهك.
***********
في الخارج
انتفض «نادر» حين صفُع الباب في وجهه، وتراجع خطوة إلى الوراء، يحاول استيعاب ما حدث...
تنفس الصعداء واتجه نحو المصعد فظهر «إسلام»، يخرج منه، حدجه بعينين تقدحان شررًا، وخاطبه بنبرة غليظة:
-إيه اللي جابك هنا يا له؟
رفع «نادر» نادر حاجبيه يتأمل الكلمة الأخيرة، ورددها باستنكار:
-يا له؟
ثم رفع رأسه، وتمتم بصوت هادئ كمن يتمسك بآخر خيط من ضبط النفس:
-كان نفسي أرد عليك، بس ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه: "وأعرض عن الجاهلين"... ربنا يهديك يا إسلام.
ثم مرّ بجانبه، يلامس كتفه بكتف إسلام عن عمد، أغلق الأسانسير عليه دون أن يلتفت لإسلام مرة أخرى.
كزّ «إسلام» على أسنانه، وراح يحدق في باب الأسانسير المغلق للحظة، ثم ضغط على جرس الباب...
فتحت سارا الباب، وعيونها لا تزال تبرق بالدموع...
وما إن رأته حتى اندفعت إلى حضنه، تحتضنه كمن يتشبث بآخر طوق نجاة، وقالت هي تبكي بحرقة:
-أنا بكرهه يا إسلام نادر ده أنا خلاص طلعته من حياتي... ميستاهلش إني أخاف عليه... تخيل؟ جاي يهددني!
ارتشفت دموعها وشددت على ضمه وهي تقول:
-أنا بحبك إنت... متسيبنيش.
ربت على ظهرها برفق، وهمس في أذنها بابتسامة هادئة:
-اهدي يا حبيبتي... هنتجوز يا سارا... وهنطلع ترند، زي ما إنتي عايزة... ونغيظه كمان...
ثم أضاف بنبرة أكثر دفئًا:
-أنا بحبك أوي.
ابتعدت عنه برفق، تمسح دموعها سريعًا، بينما ترتسم على شفتيها ابتسامة شاحبة.
اقترب منها، أزاح خصلة شعر عن وجهها، ثم رفع يدها ليقبلها بحنان...
وفي تلك اللحظة، ظهرت والدتها من خلف الباب، تراقب المشهد، ثم قالت بمرح وابتسامة عريضة:
-إحم إحم... نحن هنا! إيه اللي بيحصل في بيتي ده؟!
أسرعت سارا إليها، واحتضنتها بفرح طفولي:
-إحنا قررنا نتجوز يا ماما!
تلألأت عينا السيدة بفرح حقيقي، ثم نادت على الخادمة بصوت حماسي:
-تهاني! شغّلي زغاريد بسرعة... الموضوع ده مش هيعدي كده... لازم نصوّر المشهد ده... دا هيفضل ترند شهرين قدام!
ضحكت «سارا»، واحتضنت والدتها مجددًا:
-إنتي أحسن أم في الدنيا.
كان «إسلام» يراقب المشهد مبتسمًا... سعادته كانت واضحة، لكنها لم تكن كاملة، وكأن هناك شعور في قلبه يخبره أنه يرتكب خطأً...
**********
وعلى الجانب الآخر
كان «نادر» يجلس في المقعد الخلفي لسيارة أجرة، مستندًا إلى النافذة كأنها تسنده من الداخل، بينما عيناه تحدّقان بالطريق بلا تركيز والزحام خارج الزجاج يمرّ كصوت مكتوم، لا يراه ولا يسمعه...
كان ذهنه مشغولًا بالكامل، يعيد ترتيب وقائع الأيام الأخيرة، وكيف نسي سارا ورسالتها تلك بسبب خضم الأحداث...
أخذ يبحث في داخله عن طريقة ترد الضربة لسارا، ضــربة تفوقها قسوة ودهاء...
لم يكن الغضب فقط ما ينهشه، بل الإهانة... ورحمة التي تسبب لها في مشاكل للمرة الثانية...
توقف سيل الأفكار فجأة على دوي رنين هاتف والدته الذي يحمله حتى يشتري أخر...
نظر إلى الشاشة فظهر اسم «عمرو»...
تردّد لحظة قبل أن يرد، ثم ألقى السلام بصوت خافت، جاءه صوت «عمرو» حاسمًا ومختصرًا:
-إنت فين؟ تعالى بسرعه يا نادر، كارم هنا... وحصل حاجات كتير أوي... متتأخرش يا نادر.
-ربنا يجعله خير يارب... ماشي أنا مسافة السكه.
انتهت المكالمة بسرعة، وبقي نادر لحظة ينظر إلى الشاشة قبل أن يضع الهاتف في جيبه ببطء...
زفر زفرة طويلة وهمس لنفسه:
-يا ترى إيه اللي لسه مستخبي؟ ربنا يستر.
واصلت السيارة طريقها وسط زحام المدينة، وكلما اقترب من بيت دياب، ازداد قلبه ثِقَلًا...
وحين توقفت السيارة أخيرًا، ترجل منها بهدوء متوتر، وأخذ يحدّق في البيت لحظة؛ من أعلى إلى أسفل، وكأنه يحاول قراءة أسراره من واجهته، أو يتهيأ لما هو قادم.
ثم تقدّم بخطوات ثابتة نحو الباب، وعلى لسانه دعاء خافت لا يكاد يُسمع:
-يا رب يكون خير...
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★★★
في بيت دياب
جلس الرجال جميعًا في غرفة الجلوس، ومعهم «تقى» و«سراب»، بينما بقية النساء خلف باب الغرفة يسمعن بترقب...
وداخل الغرفة ظلت الكلمات التي نطقوها قبل لحظات تتردد في الهواء فقد سألوا كارم؛ أين اختفى؟ ولمَ؟ وما قصة دار المسنين تلك؟ وما حكاية ذلك الكتاب؟!
كانت عيونهم مسمّرة على «كارم» ينتظرون منه تفسير لكنه لم ينبس بكلمة، كان يهزّ رأسه ببطء، كأنه يوثّق تلك التساؤلات داخله، يرتبها للبوح دفعة واحدة.
التفت إلى «البدري» يُطالعه بنظرة مليئة بمعانٍ غير منطوقة... ردّ «البدري» النظرة بأخرى تحمل خليطًا من التوتر والاستعداد...
وأخيرًا خاطبه كارم بصوت هادئ:
-إبدأ إنت بأصل الحكاية يا حاج... وأنا هكمل بعدك إجابات كل الأسئلة اللي إنت نفسك متعرفهاش.
تحوّلت الأنظار كلها نحو البدري... مترقبة حائرة...
ساد صمتٌ كامل، لا يُقطعه سوى صوت تنفس متسارع وعيون تترقب...
أطلق «البدري» تنهيدة طويلة، كأنها تحمل أعوامًا من الأسرار المكبوتة، ثم مدّ يده المرتجفة نحو كوب الماء الموضوع على الطاولة أمامه، شربه جرعة طويلة، كمن يبلل روحه لا حلقه فقط.
في تلك اللحظة، دوّى جرس الباب فنهض «رامي» ليفتح، بينما ظل «البدري» يراقبه حتى اختفى خلف الحائط، ثم عاد يغمغم بصوت خافت، فيه شيء من الأسى:
-قبل ما أبدأ... لازم تعرفوا إني خبيت عنكم عشان خوفت... خوفت عليكم من الحقيقة.
صمت للحظة قبل أن يستأنف، هذه المرة بصوت أعمق، كأنه ينبش الماضي بأصابعه:
-خلينا نبدأ من الأول خالص... من أيام ما الناس كانت بتشوف جدي راجل بركة، بيقولوا إنه مكشوف عنه الحجاب، كل كلمة بيقولها بتحصل... ناس كانت بتجيله مسحورين وممسوسين، وكان بيعالجهم... وكان... كان بيتواصل مع الجن... مش بس كده، دا في قبيلة كاملة من الجن أسلمت على إيده.
تبادل الحضور النظرات المصدومة، ولم يتوقف البدري بل تابع بصوت انخفض قليلًا، كأن الماضي صار يمر أمام عينيه:
-زعيم القبيلة دي، إداله كتاب... قال له إنه هيخليه من أغنياء الإنس، بس بشرط... لازم يمشي على أصول معينة... بس جدي ما لحقش يعرف الأصول دي... الزعيم اختفى قبل ما يشرحها.
أخذ نفسًا عميقًا، وكأن كل جملة تُنتزع من أعماقه:
-بعدها القبيلة دي نفسها اختفت... جدي قال إن في قبيلة تانية... من الشياطين، هجموا عليهم، قـ..ـتلوا أغلبهم، والباقي قيّدوهم... وانقطع التواصل... والكتاب فضل عند جدي.
صمت لحظة، ثم قال بنبرة فيها وجع قديم:
-جدي ماكانش بيعرف يقرأ ولا يكتب، فإدّى الكتاب لأبويا... ابويا قرأه بتركيز عشان يحاول يفهم بس تاني يوم صحي أعمى، طبعًا جدي حاول يعالجه، فتواصل مع قبيلة تانية... وقالوله إن الكتاب ده فيه قوة... بتسيطر على اللي بيقراه، لكن قبل ما تسيطر عليه... بتصيبه بالعمى المؤقت، لو تعالج بالقرآن وكان إيمانه قوي هيفلت من سيطرة القوة دي...
بادر «دياب» بالسؤال، وهو يحدّق في البدري بشك:
-يعني جدك كان ساحر؟
هزّ «البدري» رأسه بعصبية وقال:
-لأ! جدي كان راجل صالح... ربنا خصه بقدرة التواصل مع الجن.
تدخّل «رائد» بنبرة حادة:
-مفيش تواصل مع الجن من غير سحر.
ردّ «البدري» بصوت يرتجف من الانفعال:
-وأنا بقولك إنه كان راجل صالح... مكشوف عنه الحجاب.
هزّ «رامي» رأسه وقال ببساطة:
-مفيش الكلام ده... اللي بيكلم الجن ساحر... معروفه...
تجهم البدري وكاد يرد بنبرة أكثر حده، لكن جاء صوت يحيى ناعمًا، كنسمة هواء باردة وسط عاصفة:
-اصبروا يا جماعه... اسمعوا للآخر... كمل يا حاج.
ساد الصمت مرة أخرى، وبدت عينا البدري كأنهما تترنحان بين الماضي والحاضر، قبل أن يقول بصوت خافت:
-مرت السنين... والكتاب فضِل في البيت... لحد ما جدي مات... وأبويا قرر يكمّل المشوار، بس سلك طريق غلط... اتعلم السحر بجد... وبدأ يتواصل مع العالم السفلي... ورِجلُه اتسحبت... واحده واحده.
بلع ريقه وقال بتنهيدة مجروحة:
-لما كبرت وفهمت اللي بيعمله، اتخانقت معاه، وسبت البيت... قاطعته... حتى مراتي اللي جوزني ليها، كرهتها... وعيالي اللي جبتهم منها كرهتهم... وطلقتها... وسافرت واتجوزت وخلفت ومرت السنين... لحد ما جالي خبر إن أبويا مات... فرجعت... وطبعًا في السنين اللي غبتها أبويا كان جوز أختي صباح... لكارم.
قالها البدري بصوتٍ خافت، ونظر إلى كارم بنظرةٍ لا تخلو من مرارة، ثم أضاف وهو يشير نحوه:
-عالم الآثار والدكتور الجامعي... كارم.
أطرق كارم رأسه، وكأن الاسم نفسه صار عبئًا لا يطيق سماعه، فأشاح البدري بوجهه عنه وتابع، بنبرة تغلفها مرارة الذكريات:
-وقتها كنت راجع بفلوس كتير؛ فلوس نظيفه، لكن الطمع بقا... الغلط الكبير اللي عملته وقتها إني ما تخلصتش من فلوس أبويا... كانت مليارات... ابني ومراتي شجعوني... بنيت بيت كبير، وبقت ليا عزبة كاملة باسمي... «البدري»... ومرت الأيام وابني سابني، وراح القاهرة، استقل عني، اتجوز وعاش حياته هناك... وهناك، اتعرف على كارم... وعيلته.
نظر إلى «كارم» نظرة متكسّرة، ثم أدار وجهه عنه وهو يضغط على عصاه كمن يُفرغ فيها غضبه:
-ورغم إني حذرته منهم... رجله انجرفت معاهم، مش هو بس... هو وعياله... وأنا كمان، أنا كمان كان عندي فضول... قريت في كتب سحر كتير، بس... عمري ما حاولت أطبق حاجة... كنت بقول لنفسي مجرد فضول... مجرد معرفة.
تذكر ابنه «والد بدر» ارتعشت يده قليلاً، ثم انعقد حاجباه، واغرورقت عيناه فجأة، حتى لم يعد قادرًا على حبس الدمع، فقال بصوت متحشرج:
-وابني... ابني مات موته بشعة لما كان بيعمل طقس من طقوس السحر... مات مخنوق ومحدش قدر ينقذه، وبرضه عياله... ما اتعلموش، سلكوا نفس طريق أبوهم... الطمع عماهم... ولو مرجعوش لعقلهم، أكيد هيموتوا بطريقة بشعه... الطريق ده مهما كانت بدايته نور فنهايته ظلمه... نهايته جهنم...
لم ينطق أحد بما حدث مع حسين وجماعته... لم يعرف بعد حقيقة أن راجي ونافع ماتوا بنفس القسوة...
أخذ «البدري» يلوم نفسه على ما سلف، انفــ ــجر باكيًا، اهتز جسده، ويده تقبض على عصاه بقــوة، وأخذ يدد بصوت منكسر:
-أنا السبب... أنا السبب... كنت سلبي... كنت شايف وساكت... ياريتني بلّغت الشرطة... ياريتني أنقذتهم من نفسهم قبل ما يضيعوا.
جلس «بدر» جوار جده يربت على يده ويحاول تهدئته...
ران الصمت عليهم كغمامة كثيفة من الحزن والذنب، التقت نظراتهم، كل عين تقول ما لا يُقال، وكل صدر يحمل ثقلًا لا يُفصح عنه.
كان «كارم» ما يزال مطأطئ الرأس، كأن الكلمات تثقله، ثم رفعه فجأة، وخرج صوته مبحوحًا، كمن يحاول إخراج الكلمات من عمق جرحٍ قديم:
-والجزء التاني من القصة أنا حكيت لكم عنه... دلوقتي فهمتوا... الكتاب أصله إيه وجالنا منين، وعرفتوا إن إخواتي أجبروني على شغلهم ده إزاي... بس... أنا مش بريء مية في المية، أنا كمان ضعفت في وقت من الأوقات... ضعفت...
نظر «كارم» إلى «رائد» مطولًا، بعينين تشيان بالندم، ثم قال بنبرة منخفضة لكنها حاسمة:
-أيوه... أنا اللي كنت قاصد أوصلك الكتاب يا رائد... كنت محتاج واحد تاني يقرأه... علشان أوصل لمكان حتة الأثار، أنا وقتها... كنت تايه... لا معايا فلوس ولا لاقي شغل... كنت بحاول أتمسك بأي خيط أمل... حتى لو كان مسموم... كنت عايز فلوس عشان انتقم لنفسي ولبنتي.
صمت لحظة، ثم تابع وهو يطرق بعينيه:
-قعدت فترة أراقب سكان الشارع... ماهو مش سهل تلاقي حد بيحب القراية... ويقرأ كتاب زي ده بتركيز... ولما شفتك... عرفت إنك الشخص المناسب... بس كانت آخر مرة والله... ومكملتش خفت من ربنا، وتبت توبة نصوحة، ومارجعتش منك الكتاب حتى... كنت خايف ألمسه تاني فأضعف... سامحوني...
قال أخر كلمة وهو ينظر لرائد، الذي صمت هنيهة ثم أطلق تنهيدة طويلة، يلفظ معها كل مشاعر الغضب، ثم نهض بصمت وغادر الغرفة دون أن ينظر إلى أحد...
وما أن خرج من الغرفة لحقت به نداء على الفور، ووجهها مشوَّش بالحيرة والخوف.
وداخل الغرفة عمّ السكون، قبل أن تقطعه سراب بصوت مبحوح، تائه:
-إيه كل الكلام ده... أنا حاسّة إني في كابوس ومش عارفة أفوق منه مـ... مش قادرة أستوعب لو سمحت يا جدو، قول إن كل ده كدب...
لم يجب كارم على الفور أطرق رأسه قليلًا، كأن كلمتها أعادته إلى لحظة قديمة مؤلمة، ثم تمتم بصوتٍ مشوب بالأسى:
-مش عارف إذا كانوا حكولك باقي الحكاية ولا لأ...
بس أنا اتظلمت... اتظلمت كتير أوي يا سراب.
لكنها تجاهلت كلماته كأنها لم تسمعها، هربتا عيناها من عينيه، وخرج صوتها مرتعشًا مشوبًا برجفة خوف دفين:
-هو حسين... حسين كان... اعـ...ـتدى على أمي قبل الجواز؟ وإنت جوزتها ليه؟
رفع «كارم» رأسه ببطء، رمقها بطرف عينه، وكأن الإجابة وحدها أثقل من أن تُقال...
ثم قالها، ببساطة مؤلمة:
-أيوه.
وبدأ يحكي لها ما سبق أن رواه للآخرين، وكل كلمة تخرج منه كانت كسهم مغروس، لا في صدره فقط... بل في قلبها أيضًا.
صرخت «سراب» من بين دموعها وانفعالها:
-كفاية! أنا مش عايزة أسمع حاجة تاني... كفايــــــــة...
ثم اندفعت خارج الغرفة، يسبقها صراخ روحها، وتبعها «عمرو» ثم «شيرين» في قلق.
ظلت «تقى» جالسة إلى جوار والدها، وضعت يدها برفق على يده، وقالت بصوت مكسور لكنه حنون:
-متزعلش يا بابا... أنا حاسه بيك وعارفه إنك شخص كويس...
نظر إليها كارم بعينين زائغتين، ربت على يدها في صمت، كأنه يشكرها على بقائها.
ثم التفت نحو «نادر»، وقال بصوت عاد إليه بعض الثبات:
-إنت كمان لازم تعرف الحقيقة... من أول لحظة شفتك فيها في دار المسنين عرفتك وخفت عليك... عشان كده كنت لازم أبعدك عن القاهرة... وأرجّعك هنا...
-لأ أنا مش فاهم!! يعني... إنت اللي خلتهم يفصلوني من الشغل؟
قالها «نادر» باستغراب، صمت كارم لحظة، عضّ على شفته السفلى، ثم نطق بصوت خافت لكنه واضح:
-الاتنين المسنين اللي كنت بتحب تقعد معاهم...
أكبر سَحَرة في القاهرة حاليًا... ناس فاجرة... كانوا بيستدرجوك... محدش فيهم كان يعرف عني حاجة... لكن أنا كنت أعرف عنهم كل حاجة وكنت عارف إزاي أتحصّن من سحرهم كويس... عشان كده... كان لازم أرجّعك للبلد هنا بأي تمن لأنهم... كانوا ناويين يقدموك قُربان زي ما عملوا مع اللي قبلك.
شهق «نادر»، وتراجع في مقعده كأنما صُعق بالكهرباء، لم يخرج منه سوى همسات مشوشة:
-لا... لا... مش معقول... إنت أكيد بتكذب، وبعدين الإثنين دول كان باين عليهم محترمين وطيبين جدًا... إنت بتقول كده عشان تبرر اللي عملته معايا!!
-والله دي الحقيقة تصدقها بقا ولا ماتصدقهاش إنت حر...
قالها كارم بنبرة قاطعة، بينما هب «نادر» واقفًا كان نصفه يصدق، ونصفه يصرخ بالرفض، هدر:
-إنت شكلك مريض نفسي ومحتاج تتعالج... مفيش الكلام ده... مــــفــــيـــش وإلا نبقا عايشين في غابة بيحكمها شوية سحره...
أطرق «كارم» ولم يرد، بينما نظر نادر لعامر وأثار الكدمات التي لازالت تغطي وجهه، فما حدث له أمام عينه يجعله في حيرة بين أن يُصدق ما رآه أو يصدق تفسير العقل!
نهض «عامر» وربت على كتف «نادر» برفق، وقال:
-تعال معايا شوية يا نادر... خلينا نتكلم على جنب.
ثم خرجا من الغرفة بينما أدار «كارم» وجهه نحو «البدري»، وصوته عاد إليه ثقل الاعتراف:
-أنا قلت كل حاجة يا حاج... ما عدا حاجة واحدة بس.
تنهد، وأغمض عينيه لحظة قبل أن يُكمل:
-لما قررت أبدأ رحلتي في الانتقام اللي كنت بخطط لها من سنين عشان أنتقم من أبو الدهب ومن حسين... أول حاجة عملتها إني دورت عليك وعرفت مكانك فعلًا... بس قبل ما أوصلك، تعبت ودخلت في غيبوبة، قعدت أسبوع في المستشفى... وحالتي اتدهورت، أصحى يوم وأغيب أيام عن الوعي ساعتها فهمت... صحتي مش هتسمحلي أكمّل الطريق لوحدي... فوظّفت رجالة يشتغلوا تحت إيدي... سنة كاملة مرت عليّا وأنا صحتي بتخوني...
صمت هنيهة ثم تنفس الصعداء، لينطق باعترافه الأخير:
-وآخر اعتراف لازم تسمعوه... طبعًا عرفتوا إن حسين عمه مات... أبو الدهب اللي يؤسفني أقول عنه أخويا... مامتش موته طبيعية أنا اللي قـ.ـتلته... خنـ.ـقته بإيدي... دخلت قابلته ومخرجتش إلا لما خلصت عليه وكنت مستعد أدخل السجن لكن حسين مبلغش أصلًا واتسجلت الوفاة طبيعية، وحاولت بعدها أوصل لحسين وأخلّص عليه... بس معرفتش علشان كده رجعت.
ساد الصمت، وتبادل الحضور نظرات متوترة، مزيج من الذهول والخوف وعدم التصديق.
نهض «كارم» بهدوء كمن أنهى حكاية عادية، وقال وهو يتحرك نحو الباب:
-عن إذنكم... أنا محتاج أرتاح.
تبعته «تقى» بصمت، وظلت العيون تتابعهما بحيرة وغصة...
حينها التفت البدري إلى «بدر» وقال:
-يلا يا بدر... أنا كمان تعبان محتاج أرتاح.
نهض بدر أخيرًا، بعدما ظل صامتًا طوال الجلسة... كان يعلم القصة مسبقًا... قصة جده لم تكن مفاجأة له...
-استنى... يا بدر...
ناداه دياب، فالتفت إليه بدر، يُطالعه بترقب مغلف بالقلق، فقال دياب دفعة واحدة، دون تمهيد:
-نافع وراجي... إخواتك... ماتوا، كانوا بيعملوا طقوس سحر، وماتوا، أخبارهم ماليه السوشيال ميديا... والشرطة أعلنت عن أسمائهم.
ثم تنهد، واستكمل بصوت أكثر رفقًا:
-قولت أقولك عشان لو الشرطة خبطت على بابك... متتفاجئش.
لم يلتفت البدري، كان قد بلغ الباب بالفعل، تجمد مكانه للحظة كأن الكلمات أصابت في قلبه موضعًا لا يُرمم، ثم مضى بخطى ثقيلة...
أما بدر، فتسمّر في مكانه، سحب وجهه، كأن الجمل الأخيرة ربطت لسانه، وعقدت قلبه، وتركته واقفًا في العراء بلا حيلة.
ثم، كمن يُنتزع من حلم ثقيل، تحرك ولحق بجده.
وحين فتح الباب، فوجئ برغدة جالسة على الدرج، رأسها بين كفيها، تبكي بصمتٍ موجع...
رفعت عينيها حين سمعتهما، ثم قامت على عجل وصعدت للأعلى، دون أن تنطق بكلمة أو تنظر خلفها.
لم ينبس بدر ببنت شفة، فقط وضع ذراعه حول جدّه، وأسنده بخطى مرتجفة، كأن الأرض نفسها باتت تهتز تحت قدميهما... وكأن ما تهاوى بالداخل ليس مجرد حديث، بل جدران كاملة من عمرٍ مضى.
عند وصولهما إلى الشقة، جلس «بدر» قبالة جدّه بصمت... ولم تمض لحظات حتى انفجر العجوز باكيًا، بصوتٍ متقطع كأن روحه تتمزق.
عندها فقط، أطلق «بدر» دموعه... بكى والده، وأخوته، وبكى قلبه المنهك، المُثقل بالصمت.
وامتزج صوت بكائهما معًا، كأن الشقة كلها تئن، وكل زاويةٍ فيها تُعيد صدى الوجع...
استغفروا🌸
***********
على الجانب الآخر، كان «عامر» واقفًا بجوار نادر في الشرفة، يسرد له بتوتر ما جرى احسين وأعوانه...
استمع «نادر» مذهولًا، وتعابير وجهه تنقّلت بين الدهشة، الغضب، الحيرة، وأخيرًا الاستيعاب...
فما رآه يحدث لعامر وآدم لم يترك مجالًا للشك، بل جعله مستعدًا لتصديق أي شيء... حتى ما حدث مع حسين وأعوانه صدقه دون أن يراه.
قال «نادر» وهو يتأهب للمغادرة:
-طيب، أنا هستأذن دلوقتي يا عامر... ربنا يعينك على اللي إنت فيه.
-ادعيلي...
ردّ «عامر» بصوت خافت، يحمل تعبًا دفينًا... ربت «نادر» على كتفه دعمًا، ثم اتجه نحو الباب...
لكن خطاه توقفت فجأة حين سمع شهقة بكاء مكتومة...
التفت سريعًا ليرى «رحمة» منحنية الرأس، تبكي في حضن شيرين....
عبست ملامحه للحظة، وما أن خرج من الباب انحنى نحو عامر وهمس:
-حصلت حاجة... مش متأكد إذا كان الوقت مناسب تعرفها، بس لازم أقولك.
-خير؟
رفع «نادر» حاجبيه قليلًا، وكأن ما سيقوله يثقل لسانه، ثم بدأ يحكي ما فعلته «سارا»...
استمع «عامر» بانفعال مكبوت، ثم قال بجمود:
-ما أنا كنت عارف... بس إحنا غرقانين في مصايب أكبر... مفيش وقت للكلام ده، أهم حاجة... إوعى ترد، ولا تديها أي قيمة.
أومأ نادر ببطء، وقال:
-عندك حق.
لكن نظرته كانت تحمل شيئًا آخر... شرارة صغيرة تومض في عينيه، تكشف أن قراره لم يُحسم بعد... كان ينوي أن يفعل شيئًا، ولو بسيطًا، ليُطفئ النار التي تحرقه من الداخل.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 🌸
لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 ـطين.
اللهم انصرهم نصرًا مبينًا.
★★★★★★★
مرّت الأيام...
تتأرجح بين تحقيقات ثقيلة مع العائلة، بسبب ما اقترفه حسين وأعوانه، وبين حزنٍ ثقيل انقشع شيئًا فشيئًا، كغمامة صيفية شتّتتها الرياح، حتى بردت القلوب وسكنت الأنفاس...
*************
لم يجدوا أثر للكتاب...
كأنه تبخّر في الهواء، لا أثر، ولا خيط يقود إليه. وحُفظت القضية، بعدما عجزت كل الأدلة عن إدانة العائلة، أو حتى الإشارة لهم بأصابع الاتهام...
************
عاد البدري إلى عزبته بعدما أغلق موضوع ابنه ولم يحكي لشيرين أي شيء...
لكنّه لم يعد وحيدًا إذ رافقه كارم، الذي أراد أن يبتعد ليترك سراب وتقى تتأقلمان مع زوجيهما... وأن يبتعد ويختلي بنفسه مع تبقى من عمرة يعبد الله ويستغفره راجيًا أن يغفر له ما مضى...
🍃🍃🍃🍃🍃🍃
وبهدوء، بدأت الحياة تُعيد تشكيل ملامحها...
استقرّت تقى مع زوجها عامر، الذي أصرّ على استكمال اختراعه لا من باب السحر أو الوهم، بل بالعلم الخالص، الذي يرفع الإنسان ولا يُفسده، ينفعه ولا يضلّه...
ومضت الأيام ثقيلة على قلب «تقى»، تحمل فيها عبء الانتظار وألم الرجاء، ولازالت تخفي عن عامر أمر مشكلته للإنجاب...
مرّ عام تلو آخر، وهي تتضرع إلى الله في كل سجدة، وفي كل دمعة تنهمر بصمتٍ على وسادتها، أن يرزقها الذرية الصالحة، وألا يؤرهق قلب زوجها...
لكن دعوتها ما زالت معلّقة بين الأرض والسماء، لم تُستجب بعد، رغم خضوعها مرتين لتجربة الحقن المجهري... ورغم كل الآمال التي تعلّقت بكل محاولة، لم تثمر سوى خيبة أخرى، صامتة، موجعة...
كانت كلما علمت بأن النتيجة سلبية تخفي خيبتها بابتسامة واهنة، وتكتم ألمها خلف أبواب مغلقة، لا يعلم بها إلا الله.
🍀🍀🍀🍀
وفي ركن آخر من الحياة، كانت «سراب» لا تزال تعاني... فرغم أنها حاولت بكل طاقتها أن تتأقلم مع عمرو لكنهما كانا كثيري الشجار، متقلّبي المزاج...
وما فعله حسين ترك جرحًا في روحها لم يندمل.
كانت تستيقظ في بعض الليالي مذعورة، تصرخ أحيانًا كمن تحاول الهروب من شيء يطاردها في الحلم واليقظة معًا، كانت دموعها قريبة، وغضبها يتوهج سريعًا، ثم تعود لتعتذر...
أما عمرو، فقد أصبح مدربًا معروفًا، يشار إليه ليس فقط لمهارته، بل لقدرته على تحويل الانكسار إلى قـــوة، والخذلان إلى دافع....
كانت سراب تثير حفيظته على الدوام فيتشاجر معها لكنه سرعان ما يندم، ويعود ليحاول معها من جديد... يحاول أن يمدّ لها يده لينتشلها من وحل الذكرى، لكنها كانت تغرق أعمق رغم أنهما رُزقًا بولدٍ سماه جده دياب «محمود»...
🍃🍃🍃🍃🍃
أما بدر، فقد تمّت مصادرة جميع ممتلكاته هو وإخوته بالقاهرة...
لم يبقَ له شيء... لا بيت، لا رصيد، لا جاه...
لكنّه كان راضيًا، مطمئنًا، كأن زوال المال كان غُسلًا للروح من دنسٍ علق بها طويلًا.
أعطاه البدري جزءًا كبيرًا من ماله الذي جمعه بعرق جبينه على مدار السنين، فاستطاع بدر أن ينهض من جديد، ويفتح شركة معمارية ضخمة بالقاهرة، أطلق عليها اسم «البدري»... تكريمًا واعترافًا بالجميل.
🍃🍃🍃🍃🍃🍃🍃
رحل نادر إلى القاهرة، ليبدأ عمله إلى جوار بدر، الذي أصبح قدوة في إعادة بناء النفس بعد السقوط، وجعل من شركته كيانًا له اسمه وقيمته...
لم يترك نادر السوشيال ميديا بل اشتهر عليها وأصبح مذيع يقدم بودكاست ديني مع يحيى أسبوعيًا ولاقي تفاعل كبير...
🍃🍃🍃🍃🍃🍃🍃
وفي ركن آخر، كانت رغدة ورحمة تمضيان عام بعد عام حتى وصلنا لعامهما الثالث بكلية الهندسة...
لكن شيئًا في قلبيهما لم يتغير ولا تزال هناك مشاعر دفينة، شوق خافت، وحنين مُخفى بعناية خلف انشغال الدراسة وادعاء النسيان.
كأن هناك صندوقًا صغيرًا داخلهما، أُغلق بإحكام، لكنّه لا يزال يصدر أنينًا خافتًا، يسمعنه في الليالي الصامتة.
★★★★★★★
وفي دارٍ هادئة لتحفيظ القرآن، كانت «مريم» تقف شامخة كالنور بين طلابها، تحفّ بها مجموعة من البنات بالكاد تجاوزت أعمارهن العاشرة، عيونهن متطلعة، وقلوبهن مشرعة لآيات الله.
كانت «مريم» قد ختمت القرآن الكريم كاملًا، بـ قراءاته العشر؛ الصغرى والكبرى، عن حفظ وتدبّر، لا مجرد ترديد...
كما دخلت كلية علوم القرآن حبًا وتعلقًا بآياته.
لم تترك عقلها ينساق خلف زخارف الدنيا، بل كانت روحها معلّقة بالله، تدعوه في كل سجدة أن يرزقها رضاه، وأن يجعل الجنة مثواها ومأواها.
وقفت اليوم تفتتح درسها المعتاد، بوجه يفيض سكينة، وصوت ينساب على القلوب كنسيم الفجر، وقالت بجملتها التي ينتظرها الأطفال كل مرة بشغف:
-من أراد كلام الله، فليطهّر قلبه أولًا؛ فإن القرآن لا يستقر إلا في قلبٍ نقي.
********
أما آدم، فقد عاد لإيطاليا مجددًا...
وأخيرًا ناقش رسالته وتحول مساعد باحث إلى باحث في علم الأثار...
★★★★★★
ومع توالي الأيام...
بدأت الندوب تلتئم في هدوء، والقلوب تُصبح أكثر ليونة، وبعض الأحلام التي طُمرت تحت ركام الألم بدأت تخرج إلى النور، تتنفس، وتنمو.
لمع اسم محلات «عن تراض» في السوق، ولن يكن هذا الإسم سوى تحقق لحلم «سجى»، ابنة كارم الراحلة، التي لطالما تمنت أن تصبح مصممة أزياء، وتحمل تصاميمها اسم «عن تراضٍ».
وبغض النظر عن اين الكتاب... وها هو كارم كان سببًا لتحقق ما تمنت، ورغم رحيلها، خُلد حلمها، ومُنح اسم المصنع ذلك المعنى الذي كانت تتمناه...
«عن تراض» لم تعد مجرد فكرة أو لافتة، بل صارت علامة على الجهد والإصرار والتكامل بين اليد والقلب...