رواية اوجاع الروح الفصل الثالث والعشرون23بقلم فاطمه فارس
عند جوري وحمزة...
جوري، وهي قاعدة جنبه في العربية، قالت بصوت كله فضول:
– "مش هتقولي بقى رايحين فين؟ بقالي أسبوع كل شوية تسألني، وتقول مفاجأة، ومش راضي تقول إيه هي!"
حمزة بصّ لها بطرف عينه وهو سايق، وضحك:
– "دلوقتي تعرفي."
بعد شوية، وقف العربية قدام بيت جوري القديم.
نزل وفتح لها الباب.
نزلت وقالت بهمس:
– "إحنا جينا هنا ليه يا حمزة؟"
حمزة ابتسم وسحب إيدها، ودخلوا البيت من غير كلام.
أول ما دخلت، جوري اتفاجئت... وعينها دمعت من الفرحة.
قدامها كان المكان متوضب بعناية ودفا واضحين في كل ركن.
مراجيح صغيرة بتتحرك بهدوء في الجنينة، زي أحلام أطفال لسه ما جوش، لكن ليهم مكان مستنيهم.
زرع أخضر في كل حتة، ونضافة المكان كانت بتلمع تحت ضوء الشمس.
وعلى الحيطة اللي في الوش، كانت فيه يافطة كبيرة مكتوب عليها بخط جميل:
"دار التقوى للأيتام"
وتحتها:
"برعاية روح والديّ جويرية ... صدقة جارية لا تنقطع."
جوري سابت إيد حمزة، ومشيت خطوة لقدّام...
إيدها اتحركت من غير ما تحس، ولمست اليافطة بلُطف،
وبعدين بصّت له، بصّة كلها حب ودموع وامتنان.
– "عملت كل ده إمتى؟"
حمزة لف جسمه كله ليها، وبص في عنيها وهمس:
– "من يوم ما اتجوزنا يا جوري. أنا اتفقت مع حاتم ومهاب يظبطوا كل حاجة، علشان لما نرجع من شهر العسل تشوفيه. مش كنتي دايمًا بتقولي نفسك تعملي حاجة تفرّحي بيها بابا وماما؟"
كانت بصاله، وفي نفسها بتقول:
"إنت أكبر نعمة ربنا أنعم عليّ بيها، يا حمزة."
حمزة لف دراعه على كتفها وقال:
– "ده دار أيتام يا جوري. وإنتِ أكتر واحدة هتحسي بيهم. علشان كده كنت واثق إن المفاجأة هتعجبك."
جوري حضنته جامد، ومهتمّتش إن حد يشوفها...
ده جوزها، حبيبها، وبقى كل دنيتها.
همست بصوت ضعيف:
– "شكرًا يا حمزة... ربنا يحفظك ليا. أنا فعلًا كان نفسي أعمل حاجة تبقى صدقة جارية ليهم."
حمزة خرجها من حضنه وقال بعشق:
– "دي هدية بسيطة لأحلى وردة جوري، سكنت قلبي، ونوّرت حياتي، وخلّتني أسعد إنسان في الدنيا."
وكمل بحماس:
– "أول ما التصريح يطلع إن شاء الله، كله هيبقى تمام ونقدر نشتغل ونستقبل الأطفال."
جوري:
– "إن شاء الله."
*****
عدّت سنتين
سنتين من الحب، والنجاح، والونس اللي كبر جوا قلوبهم قبل ما يكبر حوالينهم.
جوري خلصت دراستها، وقدّمت مشروع تخرجها بتقدير "امتياز".
نجاحها ما كانش بس بمجهودها، كان كمان بدعم حمزة، حبه، خوفه عليها، وسهره معاها ليلة ورا ليلة... كأنه هو اللي هيمتحن.
العيلة كبرت…
حاتم ومرام جابوا بنوتة زي القمر، سموها رغد.
عيونها شبه زين، لكن ضحكتها من مرام.
مهاب ومنّه خلفوا توأم: تُلى وأدهم، بعد ما مروان كبر شوية وبقى أخ كبير فجأة.
ومازن؟
ربنا عوّضه عن سنين الوحدة، واتجوز ضحى.
فرحهم كان كبير، مليان ضحك ودموع حلوة، كأن الدنيا بتعتذر له عن الوجع اللي فات.
خلفوا ولد صغير، اسمه يزن، عنده سنتين، وصوته مالي البيت دوشة لذيذة.
واتخرج هو كمان بتقدير امتياز.
جوري وحمزة كانوا مأجلين الخلفة شوية... مستنيين حلم التخرج يكتمل.
---
البيت الكبير اللي اشتروه بعد الجواز، بقى مأوى ليهم كلهم...
فيلا ثلاث طوابق متصممة بحب:
الدور الأول: كريمة وأحمد… الحضن الأول والضهر الثابت.
الدور التاني: حاتم ومرام، وضحكة رغد بتتنطط في المكان.
الدور الأخير: حمزة وجوري… فوق الكل، كأنهم طايرين في سما حبهم.
---
في مطبخ الدور الأرضي، جوري كانت واقفة جنب منّه ومرام وكريمة.
الضحك مالي المكان، والريحة الحلوة طالعة من الحلة...
لكن جوري، رغم ابتسامتها، كانت بتحس بدوخة خفيفة...
حاولت تتجاهلها، مش عايزة تقلق حد.
كريمة نادت بضحك وهي بتحرك الملاعق:
– "يلا يا بنات، حضروا السفرة... زمان حبايب تيته جعانين!"
حمزة دخل في اللحظة دي، ماسك كباية، وصوته كله حنية:
– "إيه الروايح الحلوة دي؟ بتعذّبوني ولا إيه؟"
منّه رفعت حاجبها وقالت بضحك:
– "هو الرجالة كلهم كده؟ همهم على بطنهم بس؟!"
مرام شاركتهم الضحك:
– "فعلاً... صدق اللي قال: قلب الراجل في معدته."
حمزة ما ردش، بس عينه راحت فورًا على جوري...
كانت ساكتة شوية أكتر من العادي.
قرب منها، ووشه قريب من وشها وهمس:
– "مالك يا قلبي؟ شكلك تعبانة..."
جوري سرحت لحظة، وبعدين ردت بخجل:
– "أحم… مفيش يا حبيبي، كنت بس سرحانة شوية."
ابتسم وهمس:
– "مش هتبطلي كسوف مني بقى؟"
منّه دخلت بخفة دمها:
– "اطلع برا يا حمزة! سيب البت في حالها وبطّل محن!"
حمزة انفجر ضحك:
– "وانتي مالك يا أم العيال؟ سبينا نعيش يا شيخة!"
منّه بضحكة أعلى:
– "بتعيب عليّا عشان جبت توأم؟ طيب ربنا يكرمك إنت كمان يا ابن أخويا… ويفجّرلك توأم يخلو البيت سيرك!"
جوري وشها احمر وقالت بكسوف:
– "وأنا مالي يا لمبي؟ بتدعي عليّا ليه؟!"
مرام نطقت وهي بتحاول تمسك ضحكتها:
– "معلش يا جوري... هرمونات الحمل خلتها كده."
منّه زغزغتها وقالت:
– "وإنتي يا بت... ما يتبلّش في بُقك فولة أبدًا!"
حمزة كان بيضحك وهو بيصب ميه:
– "ربنا يعينك يا مهاب... الواد قاعد بره بيولول من مروان وتُلى وأدهم... ولسه ما شافش حاجة!"
منّه ردت بضحك:
– "الله! مش هو اللي كان بيقول حابب العزوة؟ يستحمل بقى!"
كريمة كانت قاعدة على الكرسي، بتتفرج على المشهد وعينيها بتضحك:
– "ربنا يهنيكم يا منّه… حمزة بيهزر بس."
– وبصّت لحمزة: "ربنا يرزقك قريب يا ابني… بالذرية الصالحة."
جوري ردّت بسرعة، وهي بتبعد:
– "طيب بعد إذنكم... هروح أحضر السفرة."
وهربت من الكلام...
بس ضحكتهم كانت وراها، مزينة الجو بدهشة حلوة.
***
رنّ موبايل جوري...
بصّت على الشاشة، وابتسمت وهي بترد بسرعة:
– "أهلاً يا أبو يزن! وحشتني يا راجل!"
صوت مازن جالها مليان ضحك:
– "وانتي أكتر يا عسل، والله… ضحي ويزن عمالين يزنوا عليا علشان يشوفوكي."
ضحكت من قلبها:
– "ده حبيب عمته! طب هاته وتعال فورًا، يزن وحشني جدًا."
في اللحظة دي، حمزة كان طالع من أوضته، وسمعها وهي بتتكلم، فابتسم واقترب منها وقال:
– "هاتي الواد ده أكلّمه."
خطف التليفون منها بسرعة، وحطّه على ودنه:
– "إيه ياض؟ نسيت بلدك خلاص؟ مش ناوي ترجع؟"
ضحك مازن على الطرف التاني:
– "أنا في مصر بقالي شهر، يا حمزة… وخلاص، ناوي أستقر هنا."
حمزة بان عليه الفرح، وقال بمرح:
– "طيب، بما إنك هنا… هات مراتك وتعال نتغدى سوا."
لكن صوت مازن جاله من ورا ضهره:
– "طب لف كده."
حمزة لف باستغراب…
واتصدم!
قدامه، واقف مازن بنفسه، شايل يزن، وضحي جنبه بتضحك!
عينه وسعت وقال بدهشة:
– "بسم الله الرحمن الرحيم… هما بيطلعوا منين دول؟!"
مازن قرب وهو بيضحك:
– "إيه رأيكم بقى في المفاجأة؟! قلبي ما طاوعنيش ماجلكوش على طول."
يزن نزل من على حضنه وجرى على جوري، فضل يشد في فستانها، وهي ضحكت وشالته:
– "طب وربنا، إنت عسل! ده حبيب عمته يا ناس… تعال هنا يا سُكر."
البيت اتملّى ضحك وونس…
الكل اتجمع، وأكلوا سوا، وقضّوا يوم من الأيام اللي بتتشال جوه القلب.
---
لكن في نهاية اليوم، جرس تليفون حمزة رن…
كان اتصال من المستشفى، طلبوه في حالة طارئة.
استأذن من الكل ومشي.
---
في الوقت ده، مازن وحاتم كانوا قاعدين بيتكلموا في تفاصيل الشغل…
لحد ما صوت مرام قطع الكلام، وهي بتنادي بصوت عالي، فيه رُعب:
– "حاتم!! تعال بسرعة!"
حاتم اتنفض، ومازن قام وراه:
– "في إيه يا مرام؟!"
مرام بصوت بيترعش:
– "جوري كانت واقفة معانا في المطبخ… وفجأة وقعت! ومش عارفين نفوقها!"
مازن اندفع للمطبخ، وشاف جوري نايمة على الأرض، وشها شاحب…
ما فكّرش لحظة، قال:
-مرام، حاولي تسنديها مع طنط كريمة لحد برة.
وبص لضحي وقال، بصوت كلة خوف وقلق :
– "ضحي! روحي هاتي شنطتي من العربية بسرعة!"
ضحي جريت، ورجعت في ثواني…
مازن فتح شنطته الطبية، وبدأ يكشف عليها بسرعة.
الكل حواليه، متوتر، ساكت، مستني كلمته.
لحظات، وابتسم وهو بيطمنهم:
– "اطمنوا… مفيش حاجة تقلق."
جوري بدأت تفتح عنيها، وهمست:
– "إيه اللي حصل؟ أنا… وقعت؟"
كريمة كانت جنبها، ماسكة إيدها، وخوفها واضح:
– "مالك يا بنتي؟ طمنّا يا مازن يابني ، جوري مالها؟!"
مازن بص لـ كريمة، وابتسامته فيها سر كبير، وقال بهدوء:
– "استعدوا يا طنط… لأن في ضيف جديد… هييجي قريب جداً."
---
العيون كلها راحت ناحية جوري، اللي كانت بتبص في وش مازن بذهول…
لكن في قلبها؟
كانت بتحس… من فترة.
وكانت بتتمنى… تبقى الحقيقة أجمل من أي حلم.
---
كريمة زغردت من قلبها، وزي ما تكون كانت مستنية اللحظة دي من سنين:
– "يااااما انت كريم يا رب! أخيرًا هفرح بيهم!"
جوري كانت قاعدة، وشها مش مستوعب، ولسانها بيهرتل:
– "ضيف مين يا مازن؟ هو انت عازم حد؟"
حاتم قال وهو بيضحك وبيغمز:
– "مبروك يا أم حزومبل!"
جوري رفعت حواجبها باستغراب:
– "حزومبل مين يا حاتم؟ انت سخن ولا إيه؟!"
كل اللي حواليها ضحكوا، ومنه قالت بصوت عالي وهي ماسكة بطنها من الضحك:
– "ياختي يا أم الذكاء… انتي حامل!"
جوري وقفت مكانها، واتسعت عنيها:
– "أنا… حامل؟!"
مازن ضحك وقال:
– "آه ياختي! ابقي روحي تابعي مع دكتورة نسا "
جوري بابتسامة مترددة:
– "انت متأكد يا مازن؟"
رد مازن بنظرة فيها هزار وغيظ:
– "انتي شايفاني حلواني؟ آه متأكد! إن ما كنتش دكتور نسا كنتي هتعملي إيه؟!"
كريمة قربت منها، وخدتها في حضنها، وقالت بحنان وهي بتطبطب على ضهرها:
– "ألف مبروك يا حبيبتي… ربنا يتمم فرحتكم على خير."
**
في اللحظة دي، دخل حمزة، وشاف اللمة، وحس إن في حاجة مش طبيعية.
بخضة سأل:
– "في إيه؟ الكل متجمع كده ليه؟!"
حاتم قرب منه، وحط إيده على كتفه:
– "جوري تعبت شوية…"
حمزة وشه اتغير، وخطواته سريعة وهو رايح عليها:
– "مالك يا جوري؟ حاسة بإيه؟!"
كريمة بصت لـ حاتم وقالت بضحك:
– "كده يا حاتم؟ وقعت قلب أخوك!"
رجعت تبص لـ حمزة وقالت:
– "أخوك بيهزر… خد مراتك، واطلع فوق… هي هتحكيلك."
**
مازن وضحي استأذنوا ومشيوا، وحاتم قعد يضحك لوحده على وش حمزة اللي كان متوتر جدًا.
حمزة شال جوري بين إيديه، وطلع بيها الدور التالت، ودخل أوضتهم.
حطها بحنية على السرير، وقعد جنبها، ومسح على شعرها:
– "يلا… مش هتعرفيني مالك؟"
جوري قربت منه، وكسوفها مرسوم على ملامحها:
– "غمّض عنيك."
غمّض.
مسكت إيده، وحطتها على بطنها… وهمست:
– "النونو بيسلم عليك… وبيقولك: وحشتني يا بابا، ومتتأخرش عليا تاني."
حمزة فتح عينه ببطء، وصوت دقاته بقى مسموع…
اتأملها شوية، ولسانه تعطل:
– "قصدك…؟"
سكت.
قرب منها أكتر، وحضنها حضن عمره كله ما هينساه، وقال:
– "يعني… أنا هبقى بابا؟!"
جوري بصت له بعينين فيها دموع وضحكة:
– "وهتبقى أحلى بابا يا حمزتي "
– "حاسّة ربنا بيكافئنا يا حمزة… مش بس على حبنا، على نيتنا، على الخير اللي عملناه، على الدار…"
