رواية ابني ابنك
الفصل الثلاثون30الاخير
بقلم امينة محمد
الحب بذرة في القلبِ تنبتُ، تُسقى بأحلامٍ ومطر الأملِ،
تُلامس ضوء الشمس فتخضرُّ، وتزهرُ في ظلالِ العشقِ والقبلِ.
تبدأُ خجلى كنبتةٍ في أرضٍ قفر،
ثمّ تمتدُّ جذورها عميقًا في المقلِ،
فإذا الرياحُ هبّتْ؛ قاومتْ صامدة،
وإن جفتِ السماءُ؛ طالت نحوَ السبلِ.
هي البذرة التي تُزهر في كل حين، وتثمر أيامًا في جنانِ الوصلِ، تمنحُ الثمارَ حلوة كالرحيق، وتترك في الروحِ ظلًا لا يزولُ بالمقلِ.
لكن الحب يطلب عناية القلوب، فإن أهملته، عادَ كرمادِ الجهلِ، إنه حياةٌ في يد الحريص، وجرح في كفِّ المهملِ.
يا من تزرعُ الحب، زِدهُ صبرًا،
واغرسهُ في حقولِ صدقٍ وأملِ،
واجعلهُ غابةً تُظل الأحبابَ،
وتحيا بها الأزمان بلا كللِ.
ما إن استدارت، حتى وقع بصرها على الورود الحمراء التي كان يحملها في يده.
الكلمة ذاتها،
الورود،
تبدو عادية، لكنها بدت كمرآةٍ لكل شيء يخصه؛ وقفته، هيبته، لكنه لم يكن "كما كان".
ملامحه تغيرت؛ أصبحت أقل هدوءًا، تشوبها خشونة كأنما تعبر عن معارك خاضها مع الوقت، ابتسامة صغيرة زينت ثغره المكلل بلحية نمت أكثف مما تذكرها، وجسده بدا هزيلًا، كأنه شجرة ضربتها الرياح لكنها أبت أن تسقط.
حين قابل عينيها اللامعتين، ارتسمت تلك الابتسامة العتيقة التي عرفتها جيدًا، لكن قبلها سبقتها تنهيدة عميقة، خرجت كأنها تحمل وجع السنين كلها.
همس أخيرًا:
_وحشتيني أوي يا قطة
_«يامـن»!
همست اسمه، لكن النطق جاء مترددًا كمن يخشى أن يكون هذا المشهد مجرد وهمٍ سيزول، أومأ لها برأسه ببطءٍ، ونبرته اللعوبة التي اعتادتها غلفها الحنين:
_قولتلك قبل كدا إن محدش بينطق اسمي بالحلاوة دي زيك!
أومأت برأسها بدت كأنها في دوامة من الصدمة، غير قادرة على إدراك ما يجري حولها، مدّ لها الورود فأخذتها بيدين مرتجفتين، وضمتها إلى صدرها كأنها تستعيد بها ذكرياتٍ مضت، أشار بعينيه إلى طاولة قريبة قبل أن يقول بهدوءٍ:
_تعالي نقعد يا «وتين»، وأهدي كدا من صدمتك عشان محتاج نتكلم..
خطواتها تتابعت خلفه كأنها مسحورة، جلست أمامه وهي بالكاد تحاول جمع شتات نفسها، ثم سألته بخفوتٍ فنبرتها تكاد لا تُسمع:
_تشرب إيه؟
_حطيلي حاجة على ذوقك.
أجابها ببساطة مبتسمًا فأومأت له وأشارت للنادل وأخبرته بأن يضع مشروبًا وقطعة حلوى ثم أعادت بصرها نحو «يامن» وتملكتها الشجاعة تسأله:
_أنت كنت فين؟
رفع عينيه نحوها، نظراته أثقل من أي إجابة:
_كنت بحارب عشان أرجع أكون شخص يليق بيكِ ويكون معاكِ..
نظراته مثبتة عليها، يشبع من ملامحها الرقيقة التي حُفرت بداخله ولا ينساها بتاتًا، صمته لم يمنحها الفرصة للتفكير؛ بدت ملامحه وكأنها تلتهم تفاصيلها بعطشٍ لم يُروَ منذ زمن.
كل شيء فيها محفور في ذاكرته، كلوحةٍ رسمها مرارًا وتكرارًا كي لا ينساها، بل كان يرسمها كل يوم على مدار الشهور التي مضت..
حاولت البحث عن رد، لكن لسانها انعقد.
تكفّل هو بالكلام مجددًا، مستندًا للخلف براحةٍ:
_عاوز فرصة..
تردد صدى كلماته داخلها كجرسٍ يوقظ ذكريات دفينة، فاندفعت تقول:
_فرصة بعد إيه؟ بابا في السجن بسبب اللي حصل، وأنا مش قادرة استحمل أشوفه كل مرة بالشكل ده، ومن غير ما تقول إنه حقك أنا عارفة إنه حقك، بس أنا مش قادرة أنسى ولا أطلع من دماغي كل ده، ولا قادرة أشوفك غير شخص أذيت بابا، أنت كنت واخدني بيتك عاوزني اقتلك..
كانت كلماتها كطعناتٍ حادة، لكنها لم تبدُ كافية لإخراجه عن هدوئه الذي حارب ليجده ويتغلف به.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية، كمن يستهزئ بالألم:
_«مُـهاب» شخصيته طغت عليكِ يا قطة!
وكأنه لم يستمع لأي حرف مما قالت سابقًا، فكانت سخريته مثل نصلٍ إضافي يزيد من جراحها، فأشاحت بوجهها بعيدًا عنه، ثم عادت تنظر إليه بحدة:
_«يامن» أنا وأنت مينفعش لبعض، أشرب العصير وكل الحلويات وشوف طريقك عشان بجد أنا وأنت هنحرق بنزين عالفاضي!
_مش بقولك شخصية «مُهاب» طغت عليكِ أوي.. لو مننفعش لبعض فـ مافيش حد هينفعك العمر كله!
رددها مجددًا ونبس في نهاية حديثه بنبرة تهددها وتهدد الوضع المحاط بهما.
_هتطفشلي العرسان يعني ولا إيه؟
سألته بصدمة ليومئ ببساطة وهو يتذوق الحلويات باستمتاع:
_شطورة، لماحة كمان ماشاء الله..
شعرت أن أعصابه باردة كالجليد، ما جعلها تنفجر في وجهه بنظرات غيظ، لكنه لم يُظهر أي تأثر، بل همس بخبث:
_طعمها حلو أوي، حلو زيك كدا..
_اتلم!
نبهته ليومئ برأسه وهمس بينه وبين نفسه بصوتٍ خفيضٍ حانقًا:
_اللسان مبقاش لسان قطط، بس لسان تعالب..
تحركت من مكانها لكن يدها وقعت في قبضة يده، نظر إليها بجدية ونبرة صوته هذه المرة حملت كل ثقل الحقيقة:
_أنا بجد محتاج فرصة تانية، فرصة واحدة لو ضيعتها حقك تعملي اللي عيزاه، وأنا مش هسيبك والله ولا هخلي غيري يقربلك، يا أنا يا لا، وأعتبريها زي ما تعتبريها أنتِ وأخواتك..
اقترب خطوة واحدة، لكنها تراجعت سريعًا.
ارتسمت على وجهه ابتسامة مكرٍ خفيف وهو يقول:
_متقلقيش ياقطة، أنا عمري ما هائذيكِ.. أنا «يامن» اللي هيفضل طول عمره بيعمل عشانك..
ثم بلمسة بالكاد شعرت بها، أعاد خصلة شاردة من شعرها إلى الخلف، تاركًا وراءه عطره الذي لطالما عرّف حضوره، وبعد أن اختفى كما أتى، وقفت في مكانها والورود بين يديها، بينما العطر يحيطها كأنما يعيد قصتها إلى نقطة البداية.
**********
بعد العذاب فرجٌ، والليل ينجلي، وموجة الحزن عن شط الرجاءِ تَهزلُ، كل انكسار يُقيم العزم في كَبدٍ، والهمُّ يزرعُ في أرواحِنا أمل.
ثم جاءت الراحةُ مثل غيمةٍ جادت بعد طول ظمأ، فأثقلت بقطراتها أرضًا ظنّها الساكنون جرداء.
شمسٌ أشرقت على قلبٍ ظنَّ أن الغروب سكنه أبدًا.
وحين تلاقتْ العيون،
بدا كأنّ اللقاءَ يعيد تشكيلَ الزمن،
كأنَّ الريحَ نفسها باتتْ ترقصُ بدل أن تعصف، وكأنَّ الورود التي ماتتْ في الذاكرة استعادتِ الحياة حين عطّرها الأمل.
بينما كانا عائدين في السيارة، كان الليل يحتضن الطريق كوشاحٍ مخمليٍّ، تتخلله أنوار المصابيح المتوهجة كنجومٍ هبطت من السماء لتضيء عتمة الأرض.
جلس «زين» خلف المقود، عيناه على الطريق ولكن قلبه، كعادته، كان يتحدث مع «ماسة» ينسج خيوطًا مليئة بكلمات الحب وكأنها تصلها، فهو يحب أن يتركها بعد جلساتها مع طبيبها النفسي في هكذا لحظاتٍ حتى تهدأ تمامًا.
نظرت «ماسة» من النافذة، يديها مسترخيتان في حجرها، ولكن وجهها كان أقرب إلى لوحة تعاقبت عليها مواسمٌ كثيرة، عيناها تحملان بقايا غيومٍ قديمة، لكن الآن ثمة شمسٌ تشرق خلفها، خجولة لكنها حقيقية.
قال بصوتٍ هادئٍ ممتزج بنبرةٍ دافئة، كأنما يحاول تضميد ما تبقى من جروحٍ خفية:
_لو بتفكري في حاجة شاركيني، ولو عايزة تكوني لوحدك شوية وأنا هتولى السواقة بس معنديش مشكلة..
رفعت رأسها نحوه نظراتها مشبعة بالامتنان والتردد، وقالت بصوتٍ ناعمٍ يشوبه التوجس:
_أكيد عاوزاك تشاركني، بس بفكر إنه خلاص كل ده خلص صح؟
ابتسم «زين»، ابتسامة لم تكن مجرد انحناءة شفاه، بل كانت امتدادًا لطمأنينة تسكن روحه:
_خلاص يا «ماسة» إحنا كسبنا المعركة، وإنتِ كنتِ أقوى من كل حاجة.
عندما سمع صوتها يتردد بالسؤال، كأنما كانت تختبر واقعية هذا الانتصار، وجهها تغير وصار أكثر رقة، عيناها سكنتهما حنية صافية.
مدَّ يده، وربّت بخفة على يدها المسترخية، كانت حركته أشبه بدعوةٍ للثقة، للراحة التي طال انتظارها، شعرت أن وجوده بجانبها يجعل حتى الرياح التي عبرت نوافذ السيارة دافئةً، كأنها تعيد تشكيل العالم بأسره من أجلهما.
سألته بصوتٍ يحمل بقايا الحزن لكنه مفعم بالرغبة في التصديق:
_طب وإنت؟ هتفضل جنبي؟ مش هتسيبني؟
يعلم بأنها تحتاج ليطمئنها كل حينٍ، وكأنه يواسيها هكذا برد فعله المؤكد بأنه لن يتخلى عنها بتاتًا، فأجابها مبتسمًا:
_تؤ، على جثتي دي بقى..
رده مثل قَسَمٍ همس به للقلب قبل اللسان، فردت سريعًا بابتسامة مصحوبة بتنهيدة:
_بعد الشر عنك..
ثم أكمل «زين»، وعيناه تتنقلان بينها وبين الطريق، كأنما لا يستطيع أن يُفلتها حتى وهو يقود:
_فاكرة لما كنتِ بتقولي إنكِ خلاص مش عارفة تكملي؟ أهو، إحنا كملنا، وعدينا، وعدّينا كل الحواجز اللي وقفت قدامنا.
نظرت إليه ودمعة صغيرة خائنة تأرجحت في زاوية عينها، لكن هذه المرة لم تكن دمعة ألم، بل شيء يشبه العزاء.
ردّت بنبرةٍ مرتجفة، وكأنها تلملم بقايا الشجاعة:
_إنت كنت الأمان اللي ضاع مني في أكتر لحظات كنت محتاجة أحس فيها إني بأمان، كنت سند وأنا حتى كنت ضعيفة أقف لوحدي، بس أنت فضلت جنبي وأثبتلي إني أقدر أقف لوحدي بس مسبتنيش وكنت جنبي وبتشاركني كل لحظة، أنا بحبك أوي..
قبل أن تصل السيارة إلى وجهتها، أوقفها للحظة بجانب الطريق ونظر إليها بعمقٍ، بصمتٍ حمل في طياته أشياء لم تُقل بعد، ثم همس:
_أوعي تنسي، «ماسة» تستحق كل حاجة حلوة شبهها، وإن حياتها تستحق إنها تبدأ من جديد، وأني هنا عشان أعيشها معاكِ بكل تفاصيلها، فرحها وحزنها.
أومأت «ماسة»، وابتسامة صغيرة تفتحت على شفتيها كزهرةٍ خرجت لتوها من تحت الأنقاض، متمسكة بالنور الذي وجدت أخيرًا.
_ربنا يديمك ليا، بحبك أوي.
ثم اقتربت واستندت برأسها على كتفه ليكمل القيادة نحو ذلك المطعم الذي سيعلنان فيه عن فرحة انتصارها على كل شيء في حياتها..
بعد أن مرت خلال الستة أشهر بتجارب كثيرة قاسية، من العلاج من الإدمان والعلاج من اضطراباتها النفسية التي ثقلت على كاهليها، ومن أمها التي ترددت عدة مرات لتكسب ابنتها مجددًا ونجحت بالفعل..
وكانت تلك خطوة أخرى في علاج «ماسة»، بل كانت الفيصل الذي جعلها تُكمل علاجها وجلساتها النفسية..
**********
الحب يطلب فارسًا في ساحهِ، لا ينكسر إن ضاق ليل عراكهِ، رجلًا كصخر الأرض لا تهتزه، ريح الخلاف وعاصف الأفلاك.
يرمي القيود بقوةٍ لا تنحني،
ويذيب برد القهر فوق شراكه،
رجل كجذر النخل لا يلين،
إن جفت الأرض أو ضاقت مسالكُه.
يصارع الأهل والناس والرياح، وينحني فقط ليطبع عزةً في عتبات بابكِ؛ فلا تقبلي بمَن يُعطي الوعود هباءً، ويُدير ظهره إذا سقطتِ تحت ضغوطه.
الحب يحتاج رجلًا يصون عهده،
كالشمسِ لا يغيب مهما غربت في الأفق،
فإن أتَاكِ ضعيف عزمٍ،
قولي له:"لا أريد نصف رجلٍ في معاركِ حُلمي."
الحب درع؛ فلا تخضعي لمن يترككِ عاريةً أمام سهام الحياة.
_ياحمايا صل عالنبي كدا، أنا مش ههرب بيها العمارة اللي هنقعد فيها قريبة من الحارة هنا، بس إحنا قررنا هنقعد كلنا في عمارة واحدة، يعني عشان نكون سوا وكفاية بُعد وعذاب لعيلة تعبت لحد ما اتجمعت..
نطق «مُـهاب» بثباتٍ أمام «متولي» الذي بدا عليه الحزن لأجل ابنته التي ستبتعد عنه في القريب العاجل، زفر بضيقٍ وقال:
_إحنا بس متفقناش على كدا، بس ماشي يابني.. ربنا يكتبلكم اللي فيه الخير..
_بابا إحنا هنكون قراب منك، وتعالالي وقت ماتحب وكل ما تحب
قالتها «غِنى» بمواساة لوالدها الحزين جوارها فابتسم يربت على كفها قائلًا:
_كل ما توحشيني هشوفك غصب عن البيه ده.
ابتسم الآخر وهو يريح ظهره براحة بعدما نجح في جعل الآخر يهدأ قليلًا من الانفعالات التي أصابته حينما علِم بأن ابنته ستنتقل من الحارة بأكملها:
_والله لو عاوز البيه يسيبلك الشقة أنت وبنتك أنا معنديش مانع، المهم رضاك علينا.
ربت «متولي» مجددًا على كتف «مُهاب» بابتسامة راضية:
_ربنا يرضى عنكم يابني ويسعدكم، وبما إنك مش حابب تعمل فرح كبير عشان أبوك الله يرحمه، فخلاص خير البر عاجله، نعمل فرح بسيط كدا على قدنا نعزم القرايب والحبايب ونغديهم وتاخد مراتك وعلى شقتكم تبدأوا حياتكم وأنتو ربنا راضي عنكم كدا ان شاء الله.
أومأ له «مُهاب» وثقلت ملامحه قائلًا:
_بصراحة أنا مش قادر حتى لو عدى سنين أكتر، الدنيا تقيلة شوية يا حاج مع إن ربنا كارمني بفلوس أقدر أعمل فرح كبير، بس أنا هحجز نروح نعمل عمرة أنا وهي بفلوس الفرح، وأعمل عمرة لأبويا وأنا هناك ربنا يسامحه ويغفرله.
_عين العقل يابني، ربنا يفرحكم يارب..
ردد «متولي» بابتسامة بينما الآخر نقل بصره عليها يبادلها تلك الابتسامة الواسعة التي زينت ثغرها بحبٍ كبير، وعينيها اللامعة كانت تعبر عن مدى رضاها وفرحتها بما هو قادم معه..
جلسا سويًا بعد قليلٍ في الصالون حيث يشرب القهوة التي أعدتها كما يحب، وتحدثت بتنهيدة:
_أنا متوترة من أجواء العيلة مع إنهم بقوا صحابي أوي يعني، فينا هبل وأمراض نفسية من بعض.
كاد أن يحتسي رشفة ولكنه توقف يضحك بقوة، ومن بين ضحكاته المتقطعة أردف:
_العمارة دي على آخر السنة هتو لع بينا، ربك يستر ونعيش اللي باقي من حياتنا على خير.
_عارف؟ أنا بيجي عليا أوقات بفضل افتكر إزاي كانت سلبية في الأول وبعدت عنك فترة عشان أرضي بابا وأنا كنت شايفة إنك بتحارب عشاني وعمرك ما كنت هتسيبني، بس برجع بقول إن الفترة دي كانت سبب إنك تتمسك بيا أكتر ونكتب كتابنا، يعني أنا عمري ما كنت هلاقي حد في حنيتك ولا حد زيك يحتويني وقت ما أنا بتعب ولا يجي معايا للدكتور عشان أكون كويسة..
اعترفت تلك الاعترافات بتنهيدة قوية وهي تتابعه، بينما هو انتقل من مكانه ليجاورها ويضمها له بابتسامة عريضة بها العشق الذي لطالما كان بقلبه لها:
_وأنا عمري ما كنت هسيبك عشان أنا حبيتك من قلبي، ولا عمري كنت هزعلك مني ولا هيحصل في حياتنا قدام، ولو حصل اعرفي إنها مشاكل عادية بتحصل بين أي اتنين بس إني أكون قاصد استحالة، أنا معاكِ عرفت يعني إيه حب وحياة، وربنا عوضني خير بيكِ، والغنى في حياتي بقى كبير أوي بوجودك.. إحنا مش في غِنى عنك يا «غِنى».
ضحكت بخفة واراحت رأسها على صدره تنبس بمشاكسة:
_بحب أوي لما بتقول كلمات توصف اسمي وتوصف حالتنا، بحبك لما بتقولي حياتي كلها غِـنى بيكِ يا «غِـنى»، ولما بتقولي ربنا يرزقنا الغِنى بوجودك يا «غِنى».
همهم بخبثٍ يتلاعب بها:
_مبتحبنيش غير في الأوقات دي بس.. ياخسارة!
هزت رأسها بنفي سريعًا وورفعت رأسها له وهي تجيبه:
_لا طبعًا بحبك علطول والله.
_وأنا بموت فيكِ علطول برضو
قالها بحبٍ كبير لتتورد وجنتيها خجلًا ثم اراحت رأسها مجددًا على صدره وهو يربت على شعرها بظهرها بحنانٍ بالغ، تتذكر الأيام السابقة حينما كان يواسيها ويقف جوارها، حينما تعبت وضعفت، وكان هو قوتها وسندها في ظل القسوة التي عانتها...
*********
وبعد ليالٍ من آخر لقاء بينهما، اليوم هو يوم افتتاح الفرع الثاني لمحل الحلويات خاصتها هي و«ماسة»..
تجمع هنا كلًا من «مُهاب» و«زين» رفقته، وأيضًا معهما «غنى» و«ماسة»، بينما الأخرى ترحب بضيوفها وحينما لمحته أمامها توسعت حدقتاها بصدمة، ثم وجهت بصرها سريعًا نحو إخوتها ثم له بهمسٍ:
_بتعمل إيه هنا؟
_جاي أخد الأمانة بتاعتي من أخواتك.. وأباركلك على الفرع الجديد.. ياشطورة
أجابها بابتسامة واسعة وكأنه ليس في النار الآن، وبالفعل لأنهما كانا ينقلان بصرهما عليها كل حينٍ لمحوه، وتوجها ناحيته يقفان أمامها سريعًا ليتراجع خطوة مبتسمًا في وجوههما:
_ده مثلث الخطر منور المكان كله، أخاف يولع بينا..
_هو فعلًا هيولع، جاي ليه؟
ردّ «مُـهاب» بصرامة وعينين حادتين، بينما الآخر أخرج من جيبه علبة السجائر وأخرج منه يعزم عليهما ببرودٍ تام:
_جاي أخد الأمانة بتاعتي اللي سيبتها معاكم الشهور دي!
_أمانة إيه؟ أنت بتستعبط يا «يامـن»!
هنا تدّخل «زين» بحدة وهو يقوس حاجبه، ليجيبه الآخر باستفزازٍ:
_اوبس، هو عمو «سليمان» مقالكمش إني طالب أيد «وتين» من زمان، شكله كدا مداكمش خبر، عامةً جاي أخد الأمانة بتاعتي، مراتي مستقبلًا.. القطة.
جذبه «مُـهاب» من ملابسه للخارج حتى لا يحدث هنا أي ضجيج أو شجار، ولكن الأخرى لحقتهم هم الثلاثة وتنفست الصعداء تقول:
_«مُهاب» أهدى بالله عليك مش عاوزة مشاكل يوم الإفتتاح، الكلام اللي هو قاله صح.. وماما وبابا عارفين يعني الكلام ده، ممكن نأجل المشاكل دي لبعدين عشان خاطري..
جذبها نحوه لأن الآخر أقترب جوارها، فلم يكن يريدها أن تجاوره وتحدث بحدة:
_عشانك بس، وأنتَ يا «يامن» خد بعضك وأمشي، ملكش عندنا أمانات..
_بس أنا مش هسيبها للأسف، شهر شهرين، سنة سنتين.. مش هسيبها غير وهي مراتي عشان أنا مليش ذنب فكل حاجة حصلت، بالعكس أنتو اشكروني عشان لولا وجودي مكنتوش عرفتوا بعض ولا عرفتوا إنكم أخوات، أنا مليش ذنب فاللي حصل وبيحصل زيي زيكم..
تبدلت ملامحه لأخرى بها حدة، ودافع عن نفسه أمامهما وهو يمرر بصره بينهم جميعًا، وحينها قال «زين» بحزمٍ:
_حتى لو ملكش ذنب، مش وقته الكلام دلوقتي في أي حاجة ولا هو مكانه، وأختي أمانة في رقبتنا لحد ما بابا يطلع بالسلامة من السجن وهو وقتها يقرر يشوف عاوز يجوزك بنته ومسامحك ولا لا..
_لا متقلقوش من الناحية دي فتمام، أصل أنا زورته وقالي بنتي هتبقى مراتك يا «يامن» يابني
تحدث بتأثيرٍ لتنكمش ملامح «مُهاب» أكثر ولكن حينها أقترب «يامن» أمامه وتحدث هو بهدوءٍ:
_هدي أعصابك، قولتلك مليش ذنب فاللي حصل وليا حق أعيش واتجوز ما أنا مش هبقى اتاخد مني كل حاجة كدا، أب.. أم.. وحتى اللي حبيتها.. فـ هدي الدنيا وأسلك عشان تسلك معانا كلنا..
_أنت بتهددني؟
هدر «مُـهاب» بحنقٍ ليهز الآخر رأسه بنفي قائلًا:
_أنا؟ ده إحنا حتى هنبقى كلنا صحاب أوي...
_على جثتي!
قالها «مُـهاب» وهو يدفع الآخر من كتفه ومعه «وتين» مُمسكًا بيدها نحو الداخل وكذلك خلفهما «زين».. وحينها قال «يامن» بعلو صوته
_هاخدها يعني هاخدها
الخاتمة
الختام ليس سوى طيفٍ عابر، يشير إلينا أن كل الحكايات تنتهي، لكن النقطة في آخر السطر تحمل وعدًا دائمًا؛ أن هناك دومًا حكاية أخرى تنتظر أن تُروى، وصفحة بيضاء تنتظر أن تُكتب.
هو البطل الخاسر والرابح في آنٍ واحد..
هو ذلك الرجل الذي خاض معاركه كلها، بأسلحةٍ صدئة وقلبٍ مشبعٍ بالإيمان، وقف في ساحة الحياة يُصارع أمواج البحر المتلاطمة، فسقط، ثم نهض، ثم سقط مجددًا، لكنه في كل مرة كان يُعيد ترتيب نفسه كأن فوضاه هي سر قوته.
هو الخاسر الرابح..
خسر العالم لكنه ربح نفسه، كالشجرة التي تعصف بها الرياح فتقتلع أغصانها، لكنها تبقى واقفة بجذورٍ تمتد عميقًا إلى قلب الأرض.
خسر الأحبة، لكنه ربح صدق مشاعره التي لم تُخن يومًا، خسر الحلم لكنه ربح درب الحقيقة الذي لم يكن يراه.
هو المحب والمكروه في آنٍ واحد..
يشبه المطر؛ يُحيي الأرواح لكنه يغرق الطرقات، هو ذلك الضوء الذي يريح العين لكنه أحيانًا يفضح الظلال، أحبه البعض لأنه كان النبض في عالمٍ خالٍ من الحياة، وكرهه آخرون لأنه عكس وجوههم في مرآة الحقيقة.
هو التناقض المُدهش...
يبتسم كالشمس حين تبزغ، لكنه يُخفي في قلبه أعاصير الليل، يتحدث بهدوء البحر في يومٍ صافٍ، لكنه يحمل في عينيه صخب العواصف التي تُغرق السفن.
قد يكون خاسرًا في حسابات الناس، لكنه في معادلة الحياة كسب شيئًا أعظم..
كسب ذاته التي لم تنكسر رغم كل شيء.
هو ليس بطل الروايات المنتصر،
لكنه البطل الذي لا يموت حتى حين يخسر.
يقف هنا أمامهم جميعًا وحده..
منذ سنة انقسمت لجزئين؛ الأول منها يعالج ذاته وكيانه، والثاني منها يحاول مع إخوتها ومعها حتى يكسبها..
يعلم أن تلك الظروف لا تسمح له بتاتًا بأخذها، ولكنه لن يتركها ولن يتخلى عنها، وحينما قال أنها إما له أو لن تكون لغيره كان حينها صادقًا..
_أنت مزهقتش؟ أنجز عاوز إيه!
سأله «مُـهاب» بينما السيجارة بيده ويقف أمام «يامن» بوجهٍ عابس ليجيبه الآخر بعدما أخرج الدخان من فمه عابثًا:
_عاوز أختك..
_ما تتلم يابغل أنت، حسن ملافظك!
زجره «مُـهاب» بحدة بينما «يامن» زفر بضيقٍ قائلًا:
_ما أنت اللي سألت أنت دماغك ناشفة ليه ياجدع، هو أنا جاي اخطفها منكم.. أنا قعدت معاك أنت و«زين» وقولتلكم إني كنت في إيطاليا بتعالج نفسيًا مع إني مبقولهاش لحد دي، بس بما إنكم يعني هتبقوا أخوات مراتي..
أنهى جملته في محاولةٍ لاستفزاز الآخر وبالفعل نجح، فتصاعدت الدماء لوجه «مُـهاب» الذي كان يشعر بالغيرة على أخته، بكل أسفٍ هي ستتزوج وهو لم يشعر بأنه استكفى من وجودها وحنانها..
كيف سيُسلمها لذلك المعتوه بعدما أعتاد أن يركض لها في نهاية يومه ويجلس رفقتها يتحدثان سويًا ويشاركهما «زين» أيضًا..
كيف سيتركها بعدما أعتاد على تواجدها المليء بالحنية المفرطة التي تضمه هو و«زين»..
_قولتلك اتلم وأنت بتتكلم عنها قدامي، متجيبش سيرتها أصلًا أحسن لك
قالها «مُـهاب» وهو عابس به بحدة وحاجبه الأيمن مرفوعٍ بجمودٍ، بينما «يامن» صاحب لقب بارد الأعصاب نبس بنزقٍ:
_بقولك إيه، هو أنت ممكن متقعدش معاها كتير، لسانها بقى لسان تعالب أقسم بالله..
هنا شعر «مُـهاب» بالفخر الشديد وتحدث ورأسه عاليًا:
_تربيتي، تستاهل أنتو أشكالكوا مش عاوزة غير اللي ياكلكم بكلامه..
زفر «يامــن» بضيقٍ وهمس بصوتٍ خفيض:
_أنا هرجعها قطة لما اتجوزها
_بتقول حاجة؟
سأله «مُهاب» وهو يقترب منه خطوة واحدة وكأنه يهدده بذلك مما جعل الآخر يهز رأسه بنفي لأنه لا يود الشجار وهو يحاول حل كل شيء..
ستة أشهر مرت يحاول معهم، ليحصل عليها..
سينالها ولو بعد حينٍ، ويقف أمامها يخبرهم أنه لها وهي له..
وبعد تنهيدة تحدث «مُهاب» بجدية درامية وهو يربت على كتف «يامـن»:
_«زين» زمانه جاي عشان هنروح لبابا لأنه طالع بكرا، لما يطلع ويريح وياخد نفسه فيها شهر، وإن شاء الله ناوي يروح يعمل عمرة ففيها زي تلت شهور، ويرجع يريح من الحج فيها كمان شهر.. بص تعالالنا بعد سنتين كدا نكون فكرنا.
أبعد «يامن» يده بتشدقٍ وكاد أن يصرخ ولكن غمزه «مُـهاب» بعبثٍ قائلًا:
_لا بقولك إيه.. اتلم كدا ومتنطقش بكلمة عشان وضعك مش سامح بصراحة.. ده إحنا هنتسلى.
_أكتر من كدا والله لأخدها وأهرب بيها وما حد يعرفلنا طريق..
قالها بتحدٍ بينما «مُهاب» أكمل بنفس التحدي الذي تحدث به الآخر ليصبحا أمام بعضهما جمرة مشتعلة:
_لو جدع أعملها ووريني، هجيبك من زمارة رقبتك.
ثم أولاه ظهره وغادر المكان بينما الآخر ظل مكانه يشتعل ويسبه في سره، ذلك الحقير هو السبب الآن بأنه لم يتزوج «وتين»، المعترض الوحيد!
*******
في البناية الفخمة بأربعة طوابق شاهقة، تعانق عتمة الليل أضواء النوافذ الدافئة، حيث تسكن عائلات تجمعت من أقدار مختلفة لتصنع مجدًا جديدًا.
الطابق الأول يشهد نبضات قلب «هاجر»، التي تنبض بحياة جديدة بعد سنوات من الألم، الطابق الثاني ينبض بأصوات «سامية» و«وتين»، أغانٍ من أملٍ بعد عتمةِ الفراق وسيجتمع معهما الآن «سُليمان» أما الطابق الثالث، فهو شهادة حبٍّ لا يُهزم بين «مهاب» و«غنى»، وفي الرابع ينتظر الأفق «ماسة» و«زين»، ليكتبا قصتهما.
على السلالم المضيئة بشعاعٍ خافت، وقفت «سامية» محتضنةً «سليمان»، الذي عاد من السجن وكأن الحياة أعادته قطعةً جديدة من الزمن، كان بين ذراعيها كمن وجد نفسه بعد أن ضاع لسنوات.
عيناه مليئتان بالدموع المكبوتة، وملامحه تحمل أثقالًا طافت به البحار ثم رست على شاطئ الأمان، هزّ رأسه بخفة وهو يهمس لها:
_وحشتيني... كان نفسي أشوف الضحكة دي وأنا جوا.. كل يوم كنت بحلم بيها
جذبته أكثر وكأنها تخشى أن يهرب منها مجددًا:
_إحنا مع بعض... اللي راح خلاص انتهى، المهم اللي جاي.
أقتربت منه حبيبته واندفعت لتعانقه بحرارةٍ غامرة:
_بابا... وحشتني أوي أوي
احتضنها بقوة ويده تربت على ظهرها بحنانٍ أبوي كأن قلبه يعتذر عن كل لحظة غاب فيها:
_أنا معاكِ يا بنتي... مش هبعد عنكم تاني، وهتكونوا علطول في حضني
كان «زين» يقف بجانبهم، ملامحه مغمورة بابتسامةٍ دافئة، اقترب ليشاركهم اللحظة لينبس «سليمان» بصوتٍ مليء بالشوق:
_وحشتوني كلكم... والله، وحشتوني أوي
فتح ذراعيه ليحتضن «زين»، ثم «وتين»، وابتسامته تزداد دفئًا مع كل عناق:
_إحنا رجعنا لبعض... إحنا عيلة واحدة.. وهنفضل كدا
لكن عيناه التفتتا بعيدًا نحو «مهاب»، الذي كان يقف على مسافةٍ، يراقب المشهد بصمت، كان وجهه هادئًا، لكن عيناه تحملان ذكريات ثقيلة، وكأنه يخشى أن يفسد هذه اللحظة.
لم يتردد «سليمان» بل اقترب منه بخطواتٍ ثابتة، ثم فتح ذراعيه ليعانقه بشدة.
قال بصوتٍ عميقٍ ومليء بالصدق:
_أنا مش هسيبك تاني يابني، هعوضك عن كل اللي فات.. هنبقى علطول سوا.
شعر «مهاب» بحرارة الكلمات تتسلل إلى قلبه، واحتضنه بقوة وكأنه يتشبث بآخر ذرة أمان في الحياة.
أخذ نفسًا عميقًا، وكأن روحه وجدت أخيرًا ملاذًا:
_وأنا معاك..... يابابا دايمًا.. يارب كل اللي جاي يكون خير في عمرك
تغلغلت كلماته في الأجواء كأنها دعاء، وتبادلت العيون نظرات مليئة بالحب والامتنان.
الدموع لم تكن دموع ضعف، بل كانت أمطارًا تطهّر القلوب من جروح الماضي، في تلك اللحظة لم تكن البناية مجرد مكان للسكن، بل كانت وطنًا يحمل ذكرياتهم، وأملًا يجمعهم تحت سقفٍ واحد، وكأنها شهادة حيّة أن الحبّ حين يكون حقيقيًا؛ فإنه دائمًا ينتصر.
**********
في ذلك المطبخ المغمور برائحة التوابل والدفء، وقفت «غنى» أمام الطاولة الخشبية، تقطع الخضار بحركاتٍ ماهرة.
كان شعاع الشمس ينساب من نافذة صغيرة، يرسم هالة ذهبية حول وجهها، بدت وكأنها لوحة فنية حية، بخديها المحمرين من حرارة الموقد وابتسامتها التي تفيض بحيوية الحياة.
بينما «مهاب» كان قريبًا منها، يرتدي مئزرًا أبيض يبدو غريبًا على جسده الممشوق، لكنه أصر على ارتدائه ليُظهر جديته في المساعدة.
اقترب بخطواتٍ خفيفة، وكأنه يتسلل إلى عالمها الصغير، ثم مد يده ليأخذ سكينًا آخر، قائلًا بنبرةٍ ساخرة:
_أهو أنا كمان هقطع، عشان نبقى شراكة عادلة في الطبخ ومتقوليش لأمي مبيعملش حاجة وقاعد وخلاص..
رفعت «غنى» حاجبيها بدهشةٍ مصطنعة وهي ترد بابتسامةٍ مشاغبة:
_بجد؟ طيب ورينا بقى، ولا دي هتبقى زي المرة اللي فاتت لما قطعت صباعك بدل البصل؟
ضحك «مهاب» ضحكةً عميقة من قلبه، وكأن صوتها يزيل همومه:
_ده كان حادث عرضي! وبعدين، أنا مش أي حد... ده أنا «مهاب» ممكن أخترع طريقة جديدة للتقطيع!
يعلم أن حديثه لم يكن إلا عبث ولكنه أراد المزاح معها وهي تُعد وجبة الغذاء لهما..
بدأ بتقطيع البصل بطريقة عشوائية أثارت ضحكات «غنى»، التي حاولت أن تبدو جادة وهي تقول:
_لا لا، أنا كده مش هضمن الغدا النهارده، أطلع برا ياعم وهات السكينة دي
لكن «مهاب» أبى أن يستسلم، وأخفى السكين خلف ظهره، يقترب منها بحركة ماكرة مازحًا:
_لا مش هتاخديها، مش أنا اللي يتغلب بسهولة!
ابتسمت «غنى» بخبث وهي تضع يدها على خصرها، تحدّق فيه وكأنها تفكر بخطةٍ للإيقاع به، اقتربت خطوة صغيرة لتضيق المسافة بينهما، ثم مدت يدها بسرعة لتنتزع السكين، لكنها فوجئت به يمسك يدها بحركة سريعة.
ضحك بخفة وهو يقول بصوتٍ منخفض يشوبه دفء:
_أهو كده بقت حرب!
ردت وهي تحاول كتم ضحكتها:
_لا حرب ولا حاجة، بس لازم أنقذ الغدا منك!
قرب وجهه منها قليلًا، وكأن الحديث الجاد بينهما أصبح سرًا يخصهما وحدهما:
_بس الغدا هيبقى أحلى وأنا معاكِ... يا حبيب قلبي..
توقفت لحظة تنظر إلى عينيه التي كانت تمتلئ بحبٍ صادق كأنه بحرٌ عميق، ثم شعرت بالخجل ينساب إلى وجنتيها، فدفعت كتفه بخفة وقالت بضحكة خفيفة:
_بطل بقى، مش هتاكل بعقلي حلاوة بالكلام ده.. عاوزين نخلص الغدا
قبّل وجنتها بحبٍ قبل أن يبتعد لكنه لم يتوقف بل ترك السكين جانبًا، وبدأ يساعدها بطريقة خرقاء، مما أوقع بعض القطع على الأرض.
وقفت «غنى» تنظر إليه بعجز مصطنع وهي تمسك رأسها:
_«مهاب» إنت كده بتبوظ الدنيا أكتر من ما بتساعد.
رفع يديه بتسليم وكأنه طفل اكتشف أنه ضُبط متلبسًا:
_طيب طيب، خلاص، أنا هسيبك تكملي... بس بشرط..
نظرت إليه بحذر، واضعة يدها على خصرها مرة أخرى:
_شرط إيه؟
اقترب منها، يضع يديه خلف ظهره ويميل برأسه وهو يدير خده لتعرف ما الذي ستفعله، فأقتربت ببطءٍ تقبل خده بحبٍ لتتوسع ابتسامته ثم أدار وجهه لها وكأنه يفكر مليًا:
_تمام خدت البوسة، الحاجة التانية إنك تطبخيلي النهارده حاجة بحبها، مش حاجة مليانة خضار زي كل مرة..
قهقهت بصوتٍ عذبٍ ارتجت له أركان المطبخ، ثم تحدثت من بين ضحكاتها:
_ياغشاش، بس ما أنت اللي طلبت شوربة خضار الصبح.. خلاص هعملك مكرونة بالسجق مبسوط كده؟
رفع يده بحركة انتصار وهمية وقال بصوت عالٍ:
_كدا تبقي حبيبة قلبي.. مستنيكِ
ثم خرج من المطبخ وتركها تنهي إعداد الطعام وحين انتهت، جلس كلاهما وبدآ في تناول الطعام وقد بدا بسيطًا لكنه يحمل في طياته دفء الحب الذي صنعه..
أدار «مهاب» وجهه نحوها وقال بابتسامةٍ هادئة:
_عارفة... مهما كان اللي على السفرة، الأكل معاكِ أحلى حاجة حصلتلي في حياتي..
شعرت «غنى» بوجنتيها تحترقان من فرط الخجل، لكنها ابتسمت ابتسامة صغيرة وهي ترد بهمس:
_وأنا مش عارفة حياتي كانت هتبقى إزاي من غيرك.
وكأن الحياة بأكملها وقفت عند تلك اللحظة التي جمعت قلبيهما في بيتٍ صغير، لكنّه يعج بحبٍ لا ينتهي.
بعد الحرب، بعد العتمة والضباب،
انتصرنا وجاء الفجرُ بعد الغياب،
في عينيكِ وجدت السلام، بعد كل القتال،
أنتِ الجائزة، بعد كل الألم وكلِّ المُحال.
على درب طويلٍ مليءٍ بالجراح، عبرتُ وحملتكِ بين ذراعي، أمانًا، وحبًا لا ينتهي، أنتِ النصر الذي طالما حلمت به، بعد كل معركةٍ، وكل يومٍ مضى في العذاب.
يا زهرة العمرِ، يا وردة الجراح، أنتِ الحلمُ الذي تحقق في وسطِ الظلام، بكِ انتصرت على الأيامِ، على الخوف
وحصلت على قلبي، وكل ما كان بعيدًا أصبح قريبًا.
فلتبقي هنا، في قلبي، في أعمق الوجدان،
حبكِ لي سكن، ونور، وآمان،
لأنكِ في كلِّ لحظةٍ لستِ مجرد حياة،
أنتِ الحب، والأمل، والقل الذي مازال ينبض بالوفاء.
******
في زاوية الغرفة الهادئة، جلس «زين» بالقرب من «ماسة»، وكأن الوقت قد توقف من حولهما، كان الضوء الخافت ينساب من الشرفة، يرسم خطوطًا رقيقة على وجهها المضيء، وكانت عيونها تتلألأ بين الحلم والحقيقة.
أما «زين»، فقد بدا وكأنه لا يستطيع أن يبعد نظره عنها، يراقب كل تفاصيل وجهها، ويشعر بأن العالم كله قد ضاق، ليصبح هو وهي فقط في تلك اللحظة.
_أنتِ مش هتجاوبي على سؤالي؟
قالها بلهجةٍ مليئة بالمزاح، وصوته كان يحمل لحنًا رقيقًا، كأن الكلمات تنساب منه كأمواج البحر الهادئة.
أجابت بنبرة ضاحكة واسندت وجهها على يدها تطالعه:
_إنت كل شوية بتسألني نفس السؤال، هو فيه حاجة مش واضحة ولا إيه؟
ضحك «زين» بخفة، ورفع يده ليمررها عبر شعره بتململ، ثم قال:
_واضحة، بس مش كفاية، في كل مرة بسمع منكِ الإجابة، بحس إني لسه مش مطمئن، عايز الجواب اللي يبقى أكيد... الجواب اللي يعرفني إمتى هنكون مع بعض، وأنتِ تبقي مراتي.
نظرت «ماسة» إليه بنظرةٍ مليئة بالحب، ولكن عينيها كانتا تعكسان شيئًا من الحيرة، وكأن كلماتها لا تكفي لتعبير عن كل المشاعر التي كانت تغمرها.
ابتسمت بصوتٍ هادئ وقالت:
_كنت خايفة أوي من الخطوة دي وحساها تقيلة عليا بس أنا عارفة إني وأنا معاك هكون كويسة ولوحدي مش هقدر أكمل، بقيت بحس إننا واحد مش اتنين.. بس الوقت يعني اللي عدى
_الوقت ده... ممل، ولازم ننجز بقى يا عسل أنت
رد «زين» بسرعة وهو يقترب منها أكثر، يربت على يدها بلطف..
سكتت «ماسة» للحظة، ثم تنهدت بابتسامة خفيفة على كلماته وكان صوتها خافت:
_إحنا خلاص بنبني حاجات كثيرة مع بعض، وده أهم من أي وقت، وعاوزة كل حاجة بتتبني بينا تكون ذكرى نسيبها لبعض عشان نفتكرها طول عمرنا
_وأنا بوعدك إن كل لحظة هتعدي هتكون ذكرى جميلة وكلها حب عشان متستاهليش غير الحب ده، فـ ها أقولهم الفرح آخر الشهر!
قالها ومال نحوها أكثر لتضحك بخفة وهي تتراجع للخلف قائلة:
_آخر الشهر ده يعني بعد أسبوع صح؟
أومأ برأسه ببراءة درامية بينما هي همهمت وكأنها تثير حنقه ثم تراجعت سريعًا وقالت بضحكة:
_موافقة!
_دي شكلها هتلعب بقى، على خير يا مراتي ياعسل.
قالها وتحرك سريعًا ليخبرهم بذلك الخبر الذي تغلل لقلبه بسعادة غامرة.
بينما في الطابق الثاني حيث تجلس هي أمام الشرفة وتتحدث بالهاتف معه بتنهيدة:
_شوف بابا وربنا يسهل الحال..
_أنتو عيلة مستفزة والله، أنا هتجوزك ونروح نعيش في جزيرة أنا وأنتِ بس..
رد عليها لتنهره بحنقٍ:
_«يامـن» عيب كدا..
_بلا عيب بلا زفت، ده أنا لولا إني مش عاوز ابوظ هدوئي كنت جيت خطفتك ومشيت..
قالها متشدقًا ثم أكمل بمكرٍ:
_برسمك دلوقتي.. عيونك في الرسمة بتطلع حب.. الحب ده ليا.
همهمت بتلاعبٍ كما تعلمت منه ومن إخوتها وهي تقول:
_ما يمكن مش ليك، بتقولها بقلب جامد كدا..
فأتاها صوته بثقة:
_لو حد تاني مكنش زمانه عايش دلوقتي يا قطة، كان زمانه عند ربنا يعني.
_«زين» بينادي علينا.. فأقفل يلا باي..
استمعت لصوت تذمره على إخوتها قبل أن تغلق الهاتف وتوجهت للخارج سريعًا تستمع «لزين» يقول بفرحة:
_إن شاء الله فرحي الأسبوع الجاي، كلكم معزومين
_ياحبيبي شكله عبيط دلوقتي.
أتاه صوت «مُهاب» من الخلف الذي ولج للشقة للتو، ليقهقه «سليمان» قائلًا:
_ده إحنا هنعزمك أنت يا «زين»، بس وماله يابني ربنا يكتبلك الخير يارب.
_هتجوزوه وهو مجنون، مش لما يعقل.
تعمد «مُـهاب» أن يثير حنق الآخر باستفزازٍ مثلما أعتاد، ولكنه لا يحب أن يستفزه غيره، فحينما حاول «يامـن» وقف له «مُهاب» بوجهه بضيقٍ يمنعه من ذلك..
_ما إحنا جوزناك ومحدش نطق.
رمى «زين» جملته وتحرك سريعًا لتضحك «سامية» بخفة:
_اهدوا شوية أنتو عاملين زي العيال كدا، أنزل شوف مامتك «هاجر» قالت هتصلي وتطلعلنا وقولها الخبر ده هتفرح أوي يلا..
أومأ لها وتحرك وخلفه تحرك «مُهاب» الذي مازال يشعر بالغيرة على أمه ويتابع كل ما بينها وبين «زين»، وبالفعل وصلا للشقة ودخلا واقترب «زين» لها بابتسامة:
_تقبل الله يا ست الكل.. جاي أقولك إن فرحي الأسبوع الجاي.
_ياحبيبي مليون مبارك، ربنا يسعدك يارب ويفرحك.
ضمته لاحضانها بحنانٍ بينما هو بادلها مبتسمًا بتوسع، ولكن هناك صوت خرج معترضًا:
_كفاية أحضان، مش حوار هو كل شوية..
ضحكا بخفة عليه ومدت له يدها ليقترب هو الآخر وضمتهما معًا:
_ربنا يديمكم ليا يارب ياحبايب عيني..
بادلاها العناق بحبٍ كبير زُرع بداخلهما منها ومن أمهما الثانية، كانا محظوظين لحصولهما على اثنين، وعلى أخت حنونة هي الأخرى..
*****
تسللت أشعة الشمس الدافئة إلى أركان المنزل، جلس «مالك» على الأريكة وقد رفع الصغيرة «فيروز» على كتفيه، بينما كانت تضحك بصوتٍ عالٍ كأنها تغني فرحها، ووجنتاها الورديتان تعكسان براءة الطفولة.
على الجهة الأخرى، كانت «مروة» تقف قرب المطبخ، ترتب المائدة الصغيرة، وهي ترتدي فستانًا بسيطًا بلونٍ رمادي يعكس أناقتها الطبيعية، كانت تراقبهما بنظراتٍ ناعمة تحمل مزيجًا من الحب والامتنان، وشفتيها تعلوهما ابتسامة لا تخلو من خجل الأمومة.
اقتربت منهما بخطوات خفيفة، وهي تحمل كوبًا من العصير، ثم قالت بلهجةودودة:
_مش هناكل بقى ولا إيه، أنتو الضحك نساكم نفسكم خلاص..
ضحكت «فيروز» قائلة:
_هناكل هناكل أنا جوعت أصلًا، وعشان النهاردة هروح لتيتة
هللت بيدها فرحًا لأنها ستذهب لتبيت بمنزل جدتها أم «مالك»، والتي أعتادت على ذلك منذ أن ولجت لحياتهما حتى تكبر وهي معتادة على ذلك، دون أن تشعر بأي ألم حينما تنتقل لتعيش معها..
ضحكت «مروة» وهي تجلس بجوارهما، ثم مدت يدها لتلتقط «فيروز» من بين يديه وتحتضنها:
_ماشي ياستي، يلا عشان ناكل وتروحي لتيتة.
وضعت رأسها على صدر «مروة» وكأنها تجد في هذا الحضن أمان الكون كله.
بينما «مالك» كان يطالع هذا المشهد وهمس بحبٍ:
_مش عارف أشكر ربنا إزاي... إزاي رزقني باتنين زيكم؟
ردت «مروة» وهي تميل رأسها قليلاً وتنظر إليه بعينين مليئتين بالحب:
_الحمد لله دايمًا... وبعدين إنت اللي جمّلت حياتنا.
انحنى «مالك» ليقبل يدها برفق، وقال بصوتٍ دافئ:
_وإنتِ اللي علمتيني معنى السعادة.
كانت تلك اللحظات البسيطة كأنها لوحة فنية رسمتها ألوان الحب، بين ضحكات «فيروز» ودفء نظرات «مروة»، واحتواء «مالك» الذي لم يكن يرى في العالم شيئًا أعظم من أسرته الصغيرة.
*****
كانت القاعة تتلألأ بأنوارها الناعمة، تنثر دفئها على الحضور كأنها سماء تحتفل بنجومها، وقف الجميع متأهبين، العيون تتجه نحو الباب الكبير الذي بدأ يُفتح ببطءٍ، ليظهر «زين» ممسكًا بيد «ماسة».
كان «زين» يرتدي بدلة سوداء أنيقة تتناسب مع هيبته، يزينها منديل أبيض في جيب سترته، أما «ماسة»، فكانت تتألق كالأميرة في فستانها الأبيض البسيط، حيث كان مزينًا بدانتيل ناعم يمتد كأغصان شجرة تتعانق في رقّة، بينما أكمام الفستان الطويلة تنتهي بورود صغيرة تُبرز جمال يديها، وتنسدل تنورته بخفة كأنها موجة بحرية تداعب الأرض، بينما شعرها الذي أصبح طويلًا عن قبل كان بتسريحة جذابة، ينسدل بنعومة على كتفيها، مُزيّنًا بتاجٍ صغير يعكس الضوء بنعومة.
كانت خطواتهما هادئة، لكن كل خطوة منهما كانت كأنها نبضات قلبٍ تعلن عن بداية جديدة.
عينا «زين» تتألقان بالفخر، ويداهما المتشابكتان كأنهما وعدٌ أبديّ لا ينفصم، أما «ماسة»، فقد كانت تبتسم بخجلٍ تُضيء به القاعة كلها.
وكأنها تقول لكل الحضور:
"أنا هنا، بين يديه، حيث أنتمي"
على إحدى الطاولات كان «مهاب» جالسًا بجوار زوجته «غنى»، التي ارتدت فستانًا سماويًا أنيقًا بنقوشٍ فضية تتماشى مع ربطة عنق «مهاب» التي اختارتها له بعناية، ليكملا معًا لوحة منسجمة من الألوان والأناقة.
وعلى نفس الطاولة جلست «سامية» و«هاجر» و«سليمان» و«سلوى»، يتبادلون النظرات الحانية وهم يطالعون أبناءهم في هذه اللحظة الاستثنائية، «سامية» وضعت يدها على يد «سليمان» بخفة تمد له الحب الكبير، أما «وتين» فقد كانت جالسة بجوارهم، تشاركهم هذا الحب الصادق بنظراتها اللامعة لفرحتها بصديقتها المقربة وأخوها.
ارتفعت أصوات التصفيق عندما وصلا «زين» و«ماسة» إلى منتصف القاعة، وتجمّع الأصدقاء والعائلة حولهما ليقدموا المباركات.
اقترب «مهاب» أولًا وضع يده على كتف «زين» وقال بابتسامةٍ واسعة:
_أخيرًا ياعريس.. مبروك يا أخويا
ضحك «زين» وضغط على يد «مهاب» قائلاً:
_عقبال ما أشيل حبيب عمو كدا قريب
_يارب ياعم.
أما «غنى»، فقد اقتربت من «ماسة» وعانقتها بحنان:
_ألف مبروك ياحبيبتي... ربنا يكتبلك الخير كله يارب.
ردت «ماسة» بخجلٍ:
_الله يبارك فيكِ يا «غنى»
نظرت «سلوى» إلى ابنتها، والدموع تلمع في عينيها، وقالت بصوتٍ مخنوق بالعاطفة:
_ربنا يحفظكم لبعض يا «ماسة»... كنتِ أحلى هدية ربنا رزقنا بيها.
ردت «ماسة» بعاطفة وهي تنظر لوالدتها:
_ربنا يخليكِ ياماما، شكرًا..
بينما كانت الموسيقى الهادئة تُكمل تلك الأجواء، والتصوير يلتقط اللحظات كأنها لوحات فنية، اجتمع الجميع حول «زين» و«ماسة»، يهنئونهم بحبٍ نقي، ويمتلئ المكان بروحٍ لا يمكن وصفها، حيث كان الفرح أكبر من الكلمات، والحب أعمق من كل المشاعر.
وحينما بدأت رقصتهما وكانا ينظران لبعضهما بحبٍ وانتصار، يعلنان لبعضهما لحظات الحب تلك التي لن تزول من بينهما..
حبهما قد مر بالشتاء معًا،
حتى تنفس صبح النصر في يديهما،
رغم الجراح، بقيّا، لم يفرقهما ضيق الحياة ولا الأحزان هدّتهما.
هما الآن يكتبان قصة سطورها:
الآن نمضي وليل الخوف قد رحل،
وكل حلم غدٍ بالخير يعدنا،
فأنت لي وطنٌ، والحب رايتنا،
وسوف نكتب عمرًا لا يُبعِدنا.
*******
جذبها خفيةً عن الجميع للخارج وبيده الورد الأحمر الذي أعتاد أن يجلبه لها مبتسمًا بحبٍ وهو يطالع فستانها الناعم الذي ارتدته، كان باللون الوردي يزين جسدها بوسعه الذي أنساب على جسدها، وشعرها منسدل على ظهرها بحرية..
بينما هو ارتدى قميصًا من اللون الأسود وبنطال قماشي أسود، أعطاه هيبةً فوق هيبته، والابتسامة الواسعة التي زينت ثغره وهو يقول:
_مشوفتش حلاوة كدا قبل كدا.. ياقطة..
أخذت منه الورد وهي تبتسم بخجلٍ هامسة:
_وأنت كمان.. شكلك حلو..
_دورنا أمتى بقى؟
سألها وهو يمسك يدها بين يده لتجيبه وهي تميل برأسها بدلالٍ:
_دورنا قرب..
توسعت ابتسامته أكثر، تلك أشارة بأن دورهما بالفعل أقترب ولن يتخلى عنها أبدًا..
_«يامـن الجمَّال» تحت أوامرك يا قطة، وواقع في حبك والله..
ختم كلماته لتغمرها السعادة من كل إتجاه، وتحول وجهها للأحمر خجلًا من حديثه..
هو الآن فقط معها..
لا يعرف غيرها، ولا يفكر بسواها..
هو الآن معها، والعالم قد اختفى،
كأن الكون بين يديها قد اكتفى،
هي وحدها، نجمٌ يسكن عينيه،
وضوءٌ لا يغيب عن لياليه.
هي البداية، وهي النهاية،
تفكيره بها، أنفاسه تناديها،
وروحه تسكن الأماكن تحاكيها.
قد صار قلبه ملكًا لنبضها،
وأصبح وجوده مرآة لحبها،
لا وقت إلا لها، لا حلم إلا بها،
هي كل حياته، هي مجد أمنياته..
*****
حينما نصل إلى نهاية الحكاية،
تلوح أمامنا ظلال النهاية،
كطيفٍ ينساب بهدوء بين السطور.
لكل حكاية ختام،
ولكل ختام أثرٌ يبقى كعطرٍ يتناثر في زوايا القلب.
نطوي الصفحات بشوقٍ مشوب بالرهبة،
ونودع الشخصيات التي ألفناها كأصدقاء،
تاركين وراءنا همساتهم وضحكاتهم،أحزانهم وأحلامهم.
وما بين نقطةٍ ونقطة،
تكمن تلك النهاية العظيمة،
التي ليست سوى بدايةٍ لأثرٍ لا يُمحى.
تمـت بحمد الله
