الفصل الخامس والعشرون25
بقلم امل نصر
دافنة وجهها في جبلبابه بين يديها تتنشق رائحته وكأنها الحياة، وهي تبكي بحرقة ألم الفراق ، متى جاء وكيف تغلغل عشقه بداخل قلبها لاتعلم ؟ كيف ستقضي الباقي من عمرها وقلبها معلق بعشقٍ مستحيل لاتعلم ؟ كيف لها أن تتزوج من رجل اَخر وهناك من امتلك وجدانها بل والنفس الذي تتنفسه لاتعلم ، نزعت الجلباب عن وجهها بصعوبه بعد أن اغرقته بدموعها ، لتطويها داخل الحقيبة الجلدية الصغيرة ومعها بعض الاشياء الخاصة به كالمحفظة وبطاقة الهوية التي اظهرت صورته بها كم كان جميلًا ووسيمًا قبل سجنه وظلمه ، وضعت معه ادويته وبعض الأشياء الضرورية التي قد تلزمه في منفاه طريدًا في الجبل.
- بت يا يمنى خلصتي ترتيب الشنطة :
قالت نجية بعد أن دلفت فجأة لداخل الغرفة دون استئذان ، مسحت يمنى بكفها على وجهها لتمحو اَثار الدموع العالقة ، ولكن قد فات الاوان .
- كنتِ بتقولي حاجة ياما ؟
قالت يمنى وهي تلتفت لوالدتها التي تسمرت محلها بعد رؤية ابنتها ، ردت نجية وهي تناولها حقيبة بلاستيكية كبيرة :
- كنت جاية اسألك خلصتي ترتيب الشنطة ولا لسة عشان اديكي الكيس دا تحطيه جمب حاجة صالح .
قالت يمنى تداري ارتباكها :
- في ايه اللي حطاه الكيس ده ياما ؟
- الكيس ده في وكٌل ونواشف يقضي بيها ايامه على ما ربنا ياخد بيده ويشفى عنه هناك .
قالت نجية ، فردت يمنى بابتسامة شاحبة :
- كويس ياما ، كويس قوي ، دا هايدعيلك اكيد .
قالت نجية بمغزى :
- انا مش عايزاه هو يدعيلي، انا كفاية عليا انتِ بس تفوقي لنفسك ، وتطلعي من الأوهام اللي انتِ عايشة فيها .
حدقت في والدتها بصدمة فتابعت نجية:
- كان قلبي حاسس من الأول بس كنت بكدب نفسي ، اصحي يايمنى وقومي اغسلي وشك وتعالي برة اقعدي معانا زيك زي بقية اخواتك ، صالح حبناه ولا كرهناه برضك في الاَخير ماينفعكيش وانت عارفة من غير ماقولك ، صح ولا لاه يابت بطني ؟
اومأت برأسها لها يمنى بأعين دامعة تظهر حجم الالم بصاحبها:
- صح ، صح قوي ياما .
بوسط الردهة الفسيحة للمنزل كان جالسًا بينهم على كنبة خشبيه بجوار سالم ومحمد ، والبنات سمر وندى في الجهة الأخرى ومعهم والدتهم التي انضمت اليهم اخيرًا ، بعد ان فرغت من مجموعة الاطعمة التي احضرتها لصالح ، يتعرف ويتسامر معهم بعد ان قضى معظم اليوم بينهم وتناول وجبتي الغذاء والعشاء معهم، وكأنه احد أفراد الأسرة .
- يعني انتِ على كدة في ثانوي عام بقى ياسمر ، طب حلمك تطلعي ايه ؟
ردت سمر بتفاخر على سؤاله :
- ناوية بآذن الله ادخل هندسة ، عشان انا شاطرة في الرياضيات وبجيب فيها النهائيات .
- ايوة ياختي شاطرة بس هلكاني في الدروس .
قال سالم بتدخل في الحديث معهم ، زامت سمر بتأفف :
- ماهي الدروس لازم يابوي ، ولا انت فاكرني يعني هاجيب النهائي كدة لوحدي من غير مساعدة ، ماينفعش طبعًا .
ابتسم صالح وهو يرى رد فعل سالم الذي التوى ثغره بامتعاض قبل ان يردف :
- والنبي انتوا ولا حاجة نافعة معاكم ، لا اللي داخلة ثانوي رحماني ولا اللي داخلة فني برضك رحماني كلكلم ناحلين وبري وبس
قلبت ندى عيناها دون رد على كلمات ابيها ، ولكنها تفاجأت بنظرة غريبة من صالح نحوها ، قبل ان يتجه نحو محمد يسأله متصنع الجدية :
- وانت ياأستاذ محمد ، مش ناوي تقولنا بقى انت نفسك تطلع ايه ؟ عشان ناخد فكرة يعني ؟
- هادخل الزراعة عشان ابقى مزارع .
اجاب محمد بمنتهى البساطة جعل الجميع ينطلقوا ضاحكًين على عفويته، حتى قبله صالح بمشاكسة اثارت تأفف محمد بصوت عالي وجعل ضحكاتهم تزداد صخبًا ، بعد ان هدأوا قليلًا التفت صالح نحو سالم يسأله :
- هي الساعة كام دلوقت ؟
اجابه سالم وهو ينظر بساعة يده :
- الساعة داخلة على تسعة ونص ، يعني اصبر شوية على ما الحركة تهدى في الشارع ، عشان ماحدش يشوفك وانت طالع .
- خلاص طب انا عايز ادخل استنى في الجنينة ، ينفع ؟
قال صالح وهو ينظر بيأس لباب غرفتها التي اندست فيها ولم تخرج منها منذ ساعات .
رد سالم وهو ينهض معه :
- ادخل ياولدي البيت بيتك ، بس بقى انا هاطلع برا البيت عشان اراقب حركة الناس في الشارع وبالمرة استنى يونس اللي اتأخر قوي النهاردة مش عارف ليه ، لا وكمان مابيرودش على تلفونه .
ردد من خلفه صالح :
- خير ان شاء الله ياعم سالم ماتقلقش .
بعد قليل
كان واقفًا بالحديقة الخلفية للمنزل اسفل شجرة الجميز ، ينظر للخضرة في الظلمة القاتمة ، ويستمع لصوت الليل بها ، بعد أن فقد الأمل بتوديعها وقد اقتربت ساعة رحيله ، وهو مازال ينتظر ظهروها قبل ان يدلف اباها ويخرج معه ، فجأة شعر بوجودها خلفه، تقافزت دقات قلبه داخل صدره مع شعوره بكل خطوة تخطوها وهي تقترب منه ، أغمض عيناه يستمع لنبرة صوتها الحنونة وهي تردف بخجل من خلفه :
- اا مساء الخير .
التف اليها قائلًا على الفور :
- مساء الفل اتأخرتي ليه ؟ انا كنت خايف لامشي من غير ما اشوفك.
اجفلها بسؤاله فقالت وهي تناوله ورقة بيداها :
- اصل كنت ببحث على النت على الأدوية المناسبة لحالتك ، وسألت دكتور كمان ، قالي على شوية نصايح ، دونتها هنا في الورقة .
نظر للورقة جيدًا ثم اردف وهو يرفع عيناها اليها :
- بس انا جرحي خف من ساعة ما شوفتك يايمنى ، وكل اللي باقي دلوقت جروح سطحية مسيرها تخف مع الزمن لوحدها .
قالت بتوتر :
- النصايح دي ضروري تلتزم بيها عشان بس ما يحصلش تطورات ، متنساش انك مدخلتش مستشفى ولا عملت تحاليل وأشعة .
- لو تعبت يا يمنى هانزل من الجبل اطل عليكي واكحل عيني برؤياكي ، وانا متأكد ان ساعتها هاخف على طول .
- ياشيخ والنبي ، بلاش كلامك ده ، انا اساسًا ......
شهقت ولم تستطيع اكمال جملتها فتحركت لترتد وتعود ولكنه أوقفها :
- يمنى استني طيب ، ممكن منك طلب ؟
تسمرت محلها قليلًا تناجي التماسك قبل ان تستدير اليه بثبات زائف :
- طبعًا اكيد ، قول اللي انت عايزه .
- ممكن تبقي تراعي وردة وتصاحبيها في المواعيد اللي بتحضرها في عيادة الدكتور ، اصل انا اخري المحها من بعيد لبعيد على ما ربنا يحلها .
ردت يمني :
- اكيد هايحلها ان شاء الله ويجمعكم ببعض ، انا واثقة عشان قلبي حاسس .
- طب مش حاسة بحاجة تاني يايمنى ؟
قال وهو ينظر لها برجاء منتظر الإجابة منها ، فتابع :
- اصل انتِ صافية قوي وعندك من الطيبة اللي تفتح الف باب مقفول .
تبسمت بشحوب وردت وهي تومئ برأسها :
- مش في كل الاوقات الطيبة بتنفع صاحبها ، بس لو سألتني عنك هاقولك بقلب مليان ؛ ان انت ربنا هاينصفك ويجيب حقك ، دا اللي انا حاسة بيه دلوقت .
نظر اليها جيدًا يتحقق من كلماتها التي كانت تردفها بكل تصميم ، حتى اجفل الاثنان على صوت محمد وهو يهتف عليه :
- ياصالح ، تعالي كلم ابويا جوا عشان في ضيوف عايزينك .
ردد بدهشة وعدم تصديق
- في ضيوفى عايزني انا ! طب ازاي ؟
خطا الى داخل البيت حتى اذا وصل الى الصالة تسمر واقفًا محله وكان صاعقة قوية ضربت رأسه وهو ينظر الى اَخر شخص يتوقع حضوره ، جالسًا بين سالم و يونس ، وكانه واحد منهم .
- دا ايه اللي جابه ده ، هو في ايه بالظبط ؟
اردف بها صالح وهو يوجه نظرات الإتهام نحوهم ، فرد يونس على الفور :
- قبل ما تتهمنا ومخك يروح شمال ، اسمع من الراجل واعرف هو عايز منك ايه ؟
- صح ياوالدي انا لو مطمنتش لكلامه ماكنتش سمحتلوا أبدًا انه يدخل بيتي .
قال سالم فرد صالح بعتب :
- اطمنتلوا ! انت برضوا ياعم سالم اللي بتقول كدة ؟ دا ولده ، ابن النج........
- متكملش ياصالح .
قالها عثمان بمقاطعة وهو ينهض بملابسه الباهظة ، وهي لا تلائم ابدًا المكان ، فقال متابعًا وهو يخطوا نحو صالح رافعًا كفيه في الهواء :
إيديا الاتنين اهم رافعهم قصادك فاضين مافيهمش سلاح ، هدومي اللي لابسها تعالي فتشها بنفسك ، زي ماعمل معايا يونس وعم سالم ، جايلك لوحدي ، مش معايا رجالة ابويا اللي طاردوك ولا حتى حراسي ، انا مش جايلك وانا ناوي على شر .
- امال جايلي ناوي على ايه ؟
سأله صالح بعدم تصديق ، فرد عثمان متجاهلًا تهكمه :
- جايلك في خير يا صالح ،
اعتلت شفته ابتسامة ساخرة وهو ينظر اليه قائلًا :
- جاي في خير للي قتل ابوك ! هو انتِ فاكرني عبيط يابني ، ولا فاكر صالح بتاع زمان اللي غدر بيه ابوك وضيعه وضيع اعز ماله ، هو نفسه ماتغيرش ، طب ازاي ؟
تنهد عثمان قليلًا ثم اردف :
- انا لو ما كنتش عارف صالح بتاع زمان كويس ، مكنتش جيت دلوقتِ اكلمك بقلب مليان وانا راجل اعزل .
مط شفتيه صالح وهو ينظر اليه بتمعن صامتًا ، قبل ان يلتفت على صوت سالم وهو يخاطبهم :
- خلوا كلامكم وانتوا قاعدين عشان تاخدوا وتدوا مع بعض زين ، تعالي يا استاذ عثمان ، تعالي ياصالح ياولدي اقعد هنا واسمع منه ، زي ما سمعنا انا واخويا منه ، وميز بعقلك ان كان بيتكلم صدق ولا بيبلفنا كلنا .
اذعن عثمان وارتد ليجلس على احد المقاعد ، يثني بنطاله ، زفر صالح قبل ان يخطو ليجلس أمامه ويستمع اليه مضطر بناءًا بعد الحاح سالم عليه ، جلس مشبكًا كفيه يتنفس بغضب قبل ان يومئ بكف يده اليه قائلًا :
- اتفضل يا استاذ عثمان ، اتكلم واتحفني بالخير اللي انت جاي فيه ، لواحد قتل ابوك !
- وانت مين قالك ان انت اللي قتلت ابويا ؟
مال صالح اليه برأسه فقال بنبرة غريبة وخطرة :
- اسمع اما اقولك ، من البداية كدة انا مش عاوز لوع معايا في الكلام ، دا لو عايزني اسمعلك ، انت عارف ومتأكد كويس اني قتلت ابوك بأمارة التلت طلقات اللي رشقتهم في صدره ، وشوفته وهو بيتقلب في الارض قدامي .
اغمض عثمان عيناه قليلًا قبل ان يردف بنفاذ صبر :
- الله يخليك بلاش الوصف ، عشان دا مهما كان يبقى ابويا .
- ولما هو ابوك ، ماجيتش ليه وخدت طارك مني ، لا وكمان جاي تكلمني بكل برود وتقولي انا عايزك في خير ؟
سأله صالح بتشكك ، رد عثمان :
- عشان مش عايز اكرر ظلمك من تاني ، انت رشقت في قلب ابويا وصدره تلت طلقات ، بس في المقابل هو عمل ايه عشان يوصلك لقتله ؟
ضيق صالح عيناه يستمع بتركيز ، فتابع عثمان :
- انا عارف كل الحكاية ياصالح من طق طق لسلام عليكم ، وما تستغربش لما اقولك ان عارف الحكاية من أصحابها الاساسين ، اللي حضروا وشاركوا في ظلمك بسكوتهم .
- تقصد والدتك ؟
اردف بها صالح بأعين مشتعلة من الغضب ، اجابه عثمان :
- ايوة ياصالح امي ، هي اللي قدرت تلم موضوع قتلك لابويا ، لما نبهت على الخدم اللي شافوك ، محدش فيهم يجيب سيرتك ، هي اللي وصت اخوها الدكتور اللي اتولى حالة ابويا وهو بيموت ، انه يكتم الخبر ومايبلغش عن قتله ، زي ما خلته بعد كدة يزور شهادة الوفاة وتبقى وفاة عادية مش قتل وسين وجيم ، امي ياصالح دخلت لابويا وهو بيطلع في الروح وقالتلوا بالفم المليان ، عالي هاتعملوا من بعده عشان يخفف عن ذنبه في حقك ، يمكن يشفع ليه عند ربنا ويخفف العقاب !
قطب صالح يسأله بعدم فهم :
- اللي ايه هو بالظبط ؟ عشان انا مش فاهم حاجة منك .
تنهد عثمان قبل ان يقترب منه قائلًا بجدية :
- امي هاتجيبلك حقك ياصالح .
انشق ثغره بابتسامة ساخرة تحولت لضحكة غير مفهومة ، قبل ان يتوقف اخيرًا يقول :
- اهي دي تبقى صحيح نكتة الموسم ، انت جاي تهزر ياعثمان ولا دي لعبة جديدة بتلعبها امك عليا ، بعد ما خرست زي الشيطان الأخرس ، وخلتني اشيل تهمة تمس عرضها قدام العيلة كلها .
رد عثمان :
- انا عارف ان انت ليك حق متصدقش بعد كل اللي حصلك ، بس اوزنها كدة بعقلك ، ابويا اللي اتدفن بسره ومحدش عرف انه مات مقتول ، انا اللي جايلك بنفسي بعد ما دورت وتعبت عنك ، لو كنت عايز اذيتك كنت خليت رجالتي مسكوك وانت لابس النقاب في العيادة وبتقابل اختك سرقة ، اصلك متعرفش ان اللي حصل كان بناء على اتفاقي مع سيدة ، خدامة اختك اللي والدتي شايلاها في عنيها من ساعة ماخرجت من المصحة.
برقت عيناه صالح وهو يستوعب كم المعلومات التي يدلي بها عثمان امامه ، والذي تابع :
- انا جاي برجلي بعد ماخليت رجالتي تراقب وتعرف مكانك ، جايلك وانا مادد ايدي لك عشان تشوف الحرية وتعيش عمرك اللي جاي وتعوض اللي راح منه .
دافنة وجهها في جبلبابه بين يديها تتنشق رائحته وكأنها الحياة، وهي تبكي بحرقة ألم الفراق ، متى جاء وكيف تغلغل عشقه بداخل قلبها لاتعلم ؟ كيف ستقضي الباقي من عمرها وقلبها معلق بعشقٍ مستحيل لاتعلم ؟ كيف لها أن تتزوج من رجل اَخر وهناك من امتلك وجدانها بل والنفس الذي تتنفسه لاتعلم ، نزعت الجلباب عن وجهها بصعوبه بعد أن اغرقته بدموعها ، لتطويها داخل الحقيبة الجلدية الصغيرة ومعها بعض الاشياء الخاصة به كالمحفظة وبطاقة الهوية التي اظهرت صورته بها كم كان جميلًا ووسيمًا قبل سجنه وظلمه ، وضعت معه ادويته وبعض الأشياء الضرورية التي قد تلزمه في منفاه طريدًا في الجبل.
- بت يا يمنى خلصتي ترتيب الشنطة :
قالت نجية بعد أن دلفت فجأة لداخل الغرفة دون استئذان ، مسحت يمنى بكفها على وجهها لتمحو اَثار الدموع العالقة ، ولكن قد فات الاوان .
- كنتِ بتقولي حاجة ياما ؟
قالت يمنى وهي تلتفت لوالدتها التي تسمرت محلها بعد رؤية ابنتها ، ردت نجية وهي تناولها حقيبة بلاستيكية كبيرة :
- كنت جاية اسألك خلصتي ترتيب الشنطة ولا لسة عشان اديكي الكيس دا تحطيه جمب حاجة صالح .
قالت يمنى تداري ارتباكها :
- في ايه اللي حطاه الكيس ده ياما ؟
- الكيس ده في وكٌل ونواشف يقضي بيها ايامه على ما ربنا ياخد بيده ويشفى عنه هناك .
قالت نجية ، فردت يمنى بابتسامة شاحبة :
- كويس ياما ، كويس قوي ، دا هايدعيلك اكيد .
قالت نجية بمغزى :
- انا مش عايزاه هو يدعيلي، انا كفاية عليا انتِ بس تفوقي لنفسك ، وتطلعي من الأوهام اللي انتِ عايشة فيها .
حدقت في والدتها بصدمة فتابعت نجية:
- كان قلبي حاسس من الأول بس كنت بكدب نفسي ، اصحي يايمنى وقومي اغسلي وشك وتعالي برة اقعدي معانا زيك زي بقية اخواتك ، صالح حبناه ولا كرهناه برضك في الاَخير ماينفعكيش وانت عارفة من غير ماقولك ، صح ولا لاه يابت بطني ؟
اومأت برأسها لها يمنى بأعين دامعة تظهر حجم الالم بصاحبها:
- صح ، صح قوي ياما .
بوسط الردهة الفسيحة للمنزل كان جالسًا بينهم على كنبة خشبيه بجوار سالم ومحمد ، والبنات سمر وندى في الجهة الأخرى ومعهم والدتهم التي انضمت اليهم اخيرًا ، بعد ان فرغت من مجموعة الاطعمة التي احضرتها لصالح ، يتعرف ويتسامر معهم بعد ان قضى معظم اليوم بينهم وتناول وجبتي الغذاء والعشاء معهم، وكأنه احد أفراد الأسرة .
- يعني انتِ على كدة في ثانوي عام بقى ياسمر ، طب حلمك تطلعي ايه ؟
ردت سمر بتفاخر على سؤاله :
- ناوية بآذن الله ادخل هندسة ، عشان انا شاطرة في الرياضيات وبجيب فيها النهائيات .
- ايوة ياختي شاطرة بس هلكاني في الدروس .
قال سالم بتدخل في الحديث معهم ، زامت سمر بتأفف :
- ماهي الدروس لازم يابوي ، ولا انت فاكرني يعني هاجيب النهائي كدة لوحدي من غير مساعدة ، ماينفعش طبعًا .
ابتسم صالح وهو يرى رد فعل سالم الذي التوى ثغره بامتعاض قبل ان يردف :
- والنبي انتوا ولا حاجة نافعة معاكم ، لا اللي داخلة ثانوي رحماني ولا اللي داخلة فني برضك رحماني كلكلم ناحلين وبري وبس
قلبت ندى عيناها دون رد على كلمات ابيها ، ولكنها تفاجأت بنظرة غريبة من صالح نحوها ، قبل ان يتجه نحو محمد يسأله متصنع الجدية :
- وانت ياأستاذ محمد ، مش ناوي تقولنا بقى انت نفسك تطلع ايه ؟ عشان ناخد فكرة يعني ؟
- هادخل الزراعة عشان ابقى مزارع .
اجاب محمد بمنتهى البساطة جعل الجميع ينطلقوا ضاحكًين على عفويته، حتى قبله صالح بمشاكسة اثارت تأفف محمد بصوت عالي وجعل ضحكاتهم تزداد صخبًا ، بعد ان هدأوا قليلًا التفت صالح نحو سالم يسأله :
- هي الساعة كام دلوقت ؟
اجابه سالم وهو ينظر بساعة يده :
- الساعة داخلة على تسعة ونص ، يعني اصبر شوية على ما الحركة تهدى في الشارع ، عشان ماحدش يشوفك وانت طالع .
- خلاص طب انا عايز ادخل استنى في الجنينة ، ينفع ؟
قال صالح وهو ينظر بيأس لباب غرفتها التي اندست فيها ولم تخرج منها منذ ساعات .
رد سالم وهو ينهض معه :
- ادخل ياولدي البيت بيتك ، بس بقى انا هاطلع برا البيت عشان اراقب حركة الناس في الشارع وبالمرة استنى يونس اللي اتأخر قوي النهاردة مش عارف ليه ، لا وكمان مابيرودش على تلفونه .
ردد من خلفه صالح :
- خير ان شاء الله ياعم سالم ماتقلقش .
بعد قليل
كان واقفًا بالحديقة الخلفية للمنزل اسفل شجرة الجميز ، ينظر للخضرة في الظلمة القاتمة ، ويستمع لصوت الليل بها ، بعد أن فقد الأمل بتوديعها وقد اقتربت ساعة رحيله ، وهو مازال ينتظر ظهروها قبل ان يدلف اباها ويخرج معه ، فجأة شعر بوجودها خلفه، تقافزت دقات قلبه داخل صدره مع شعوره بكل خطوة تخطوها وهي تقترب منه ، أغمض عيناه يستمع لنبرة صوتها الحنونة وهي تردف بخجل من خلفه :
- اا مساء الخير .
التف اليها قائلًا على الفور :
- مساء الفل اتأخرتي ليه ؟ انا كنت خايف لامشي من غير ما اشوفك.
اجفلها بسؤاله فقالت وهي تناوله ورقة بيداها :
- اصل كنت ببحث على النت على الأدوية المناسبة لحالتك ، وسألت دكتور كمان ، قالي على شوية نصايح ، دونتها هنا في الورقة .
نظر للورقة جيدًا ثم اردف وهو يرفع عيناها اليها :
- بس انا جرحي خف من ساعة ما شوفتك يايمنى ، وكل اللي باقي دلوقت جروح سطحية مسيرها تخف مع الزمن لوحدها .
قالت بتوتر :
- النصايح دي ضروري تلتزم بيها عشان بس ما يحصلش تطورات ، متنساش انك مدخلتش مستشفى ولا عملت تحاليل وأشعة .
- لو تعبت يا يمنى هانزل من الجبل اطل عليكي واكحل عيني برؤياكي ، وانا متأكد ان ساعتها هاخف على طول .
- ياشيخ والنبي ، بلاش كلامك ده ، انا اساسًا ......
شهقت ولم تستطيع اكمال جملتها فتحركت لترتد وتعود ولكنه أوقفها :
- يمنى استني طيب ، ممكن منك طلب ؟
تسمرت محلها قليلًا تناجي التماسك قبل ان تستدير اليه بثبات زائف :
- طبعًا اكيد ، قول اللي انت عايزه .
- ممكن تبقي تراعي وردة وتصاحبيها في المواعيد اللي بتحضرها في عيادة الدكتور ، اصل انا اخري المحها من بعيد لبعيد على ما ربنا يحلها .
ردت يمني :
- اكيد هايحلها ان شاء الله ويجمعكم ببعض ، انا واثقة عشان قلبي حاسس .
- طب مش حاسة بحاجة تاني يايمنى ؟
قال وهو ينظر لها برجاء منتظر الإجابة منها ، فتابع :
- اصل انتِ صافية قوي وعندك من الطيبة اللي تفتح الف باب مقفول .
تبسمت بشحوب وردت وهي تومئ برأسها :
- مش في كل الاوقات الطيبة بتنفع صاحبها ، بس لو سألتني عنك هاقولك بقلب مليان ؛ ان انت ربنا هاينصفك ويجيب حقك ، دا اللي انا حاسة بيه دلوقت .
نظر اليها جيدًا يتحقق من كلماتها التي كانت تردفها بكل تصميم ، حتى اجفل الاثنان على صوت محمد وهو يهتف عليه :
- ياصالح ، تعالي كلم ابويا جوا عشان في ضيوف عايزينك .
ردد بدهشة وعدم تصديق
- في ضيوفى عايزني انا ! طب ازاي ؟
خطا الى داخل البيت حتى اذا وصل الى الصالة تسمر واقفًا محله وكان صاعقة قوية ضربت رأسه وهو ينظر الى اَخر شخص يتوقع حضوره ، جالسًا بين سالم و يونس ، وكانه واحد منهم .
- دا ايه اللي جابه ده ، هو في ايه بالظبط ؟
اردف بها صالح وهو يوجه نظرات الإتهام نحوهم ، فرد يونس على الفور :
- قبل ما تتهمنا ومخك يروح شمال ، اسمع من الراجل واعرف هو عايز منك ايه ؟
- صح ياوالدي انا لو مطمنتش لكلامه ماكنتش سمحتلوا أبدًا انه يدخل بيتي .
قال سالم فرد صالح بعتب :
- اطمنتلوا ! انت برضوا ياعم سالم اللي بتقول كدة ؟ دا ولده ، ابن النج........
- متكملش ياصالح .
قالها عثمان بمقاطعة وهو ينهض بملابسه الباهظة ، وهي لا تلائم ابدًا المكان ، فقال متابعًا وهو يخطوا نحو صالح رافعًا كفيه في الهواء :
إيديا الاتنين اهم رافعهم قصادك فاضين مافيهمش سلاح ، هدومي اللي لابسها تعالي فتشها بنفسك ، زي ماعمل معايا يونس وعم سالم ، جايلك لوحدي ، مش معايا رجالة ابويا اللي طاردوك ولا حتى حراسي ، انا مش جايلك وانا ناوي على شر .
- امال جايلي ناوي على ايه ؟
سأله صالح بعدم تصديق ، فرد عثمان متجاهلًا تهكمه :
- جايلك في خير يا صالح ،
اعتلت شفته ابتسامة ساخرة وهو ينظر اليه قائلًا :
- جاي في خير للي قتل ابوك ! هو انتِ فاكرني عبيط يابني ، ولا فاكر صالح بتاع زمان اللي غدر بيه ابوك وضيعه وضيع اعز ماله ، هو نفسه ماتغيرش ، طب ازاي ؟
تنهد عثمان قليلًا ثم اردف :
- انا لو ما كنتش عارف صالح بتاع زمان كويس ، مكنتش جيت دلوقتِ اكلمك بقلب مليان وانا راجل اعزل .
مط شفتيه صالح وهو ينظر اليه بتمعن صامتًا ، قبل ان يلتفت على صوت سالم وهو يخاطبهم :
- خلوا كلامكم وانتوا قاعدين عشان تاخدوا وتدوا مع بعض زين ، تعالي يا استاذ عثمان ، تعالي ياصالح ياولدي اقعد هنا واسمع منه ، زي ما سمعنا انا واخويا منه ، وميز بعقلك ان كان بيتكلم صدق ولا بيبلفنا كلنا .
اذعن عثمان وارتد ليجلس على احد المقاعد ، يثني بنطاله ، زفر صالح قبل ان يخطو ليجلس أمامه ويستمع اليه مضطر بناءًا بعد الحاح سالم عليه ، جلس مشبكًا كفيه يتنفس بغضب قبل ان يومئ بكف يده اليه قائلًا :
- اتفضل يا استاذ عثمان ، اتكلم واتحفني بالخير اللي انت جاي فيه ، لواحد قتل ابوك !
- وانت مين قالك ان انت اللي قتلت ابويا ؟
مال صالح اليه برأسه فقال بنبرة غريبة وخطرة :
- اسمع اما اقولك ، من البداية كدة انا مش عاوز لوع معايا في الكلام ، دا لو عايزني اسمعلك ، انت عارف ومتأكد كويس اني قتلت ابوك بأمارة التلت طلقات اللي رشقتهم في صدره ، وشوفته وهو بيتقلب في الارض قدامي .
اغمض عثمان عيناه قليلًا قبل ان يردف بنفاذ صبر :
- الله يخليك بلاش الوصف ، عشان دا مهما كان يبقى ابويا .
- ولما هو ابوك ، ماجيتش ليه وخدت طارك مني ، لا وكمان جاي تكلمني بكل برود وتقولي انا عايزك في خير ؟
سأله صالح بتشكك ، رد عثمان :
- عشان مش عايز اكرر ظلمك من تاني ، انت رشقت في قلب ابويا وصدره تلت طلقات ، بس في المقابل هو عمل ايه عشان يوصلك لقتله ؟
ضيق صالح عيناه يستمع بتركيز ، فتابع عثمان :
- انا عارف كل الحكاية ياصالح من طق طق لسلام عليكم ، وما تستغربش لما اقولك ان عارف الحكاية من أصحابها الاساسين ، اللي حضروا وشاركوا في ظلمك بسكوتهم .
- تقصد والدتك ؟
اردف بها صالح بأعين مشتعلة من الغضب ، اجابه عثمان :
- ايوة ياصالح امي ، هي اللي قدرت تلم موضوع قتلك لابويا ، لما نبهت على الخدم اللي شافوك ، محدش فيهم يجيب سيرتك ، هي اللي وصت اخوها الدكتور اللي اتولى حالة ابويا وهو بيموت ، انه يكتم الخبر ومايبلغش عن قتله ، زي ما خلته بعد كدة يزور شهادة الوفاة وتبقى وفاة عادية مش قتل وسين وجيم ، امي ياصالح دخلت لابويا وهو بيطلع في الروح وقالتلوا بالفم المليان ، عالي هاتعملوا من بعده عشان يخفف عن ذنبه في حقك ، يمكن يشفع ليه عند ربنا ويخفف العقاب !
قطب صالح يسأله بعدم فهم :
- اللي ايه هو بالظبط ؟ عشان انا مش فاهم حاجة منك .
تنهد عثمان قبل ان يقترب منه قائلًا بجدية :
- امي هاتجيبلك حقك ياصالح .
انشق ثغره بابتسامة ساخرة تحولت لضحكة غير مفهومة ، قبل ان يتوقف اخيرًا يقول :
- اهي دي تبقى صحيح نكتة الموسم ، انت جاي تهزر ياعثمان ولا دي لعبة جديدة بتلعبها امك عليا ، بعد ما خرست زي الشيطان الأخرس ، وخلتني اشيل تهمة تمس عرضها قدام العيلة كلها .
رد عثمان :
- انا عارف ان انت ليك حق متصدقش بعد كل اللي حصلك ، بس اوزنها كدة بعقلك ، ابويا اللي اتدفن بسره ومحدش عرف انه مات مقتول ، انا اللي جايلك بنفسي بعد ما دورت وتعبت عنك ، لو كنت عايز اذيتك كنت خليت رجالتي مسكوك وانت لابس النقاب في العيادة وبتقابل اختك سرقة ، اصلك متعرفش ان اللي حصل كان بناء على اتفاقي مع سيدة ، خدامة اختك اللي والدتي شايلاها في عنيها من ساعة ماخرجت من المصحة.
برقت عيناه صالح وهو يستوعب كم المعلومات التي يدلي بها عثمان امامه ، والذي تابع :
- انا جاي برجلي بعد ماخليت رجالتي تراقب وتعرف مكانك ، جايلك وانا مادد ايدي لك عشان تشوف الحرية وتعيش عمرك اللي جاي وتعوض اللي راح منه .
