الفصل الثالث3والرابع4
بقلم شاهنده
اتجه مروان الى سيارته بخطوات واسعة يحمل داخله إبتسامة انتصار لم تظهر على ملامحه..لقد قام بالخطوة الأولى فى طريقه للانتقام ممن كانوا السبب فى عذابه..هؤلاء الذين كانوا السبب فى ابتعاده عن أبيه الحبيب..والذى توفي دون أن يراه ..ودون ان يخبره كم أحبه..سنوات يتعذب فى ذلك المعتقل الإجباري والذى فرض عليه ..لا يعلم السبب فى سجنه واعتقاله..يتخبط بين جنباته فقط..ولولا وجود ياسين معه.. لا يعلم كيف كان سيكمل أيامه فى ذلك المعتقل..نفض أفكاره التى أعادت اليه ذكريات مريرة وهو يفتح السيارة ويركبها ليقودها بسرعة خارجا من ذلك المكان المقيت الذى يشبه منزل الشيطان.. يضم بين جنباته الشيطان نفسه وأعوانه الكثر..حقا كم يكرههم ويكره تلك الحية التى ساعدت ذلك الشيطان عدنان على سجنه..ولكن مهلا..سينتقم منهم فردا فردا ..سيجعلهم يتمنون الموت..فقط عليه الصبر قليلا..لتحقيق انتقامه.
أفاق من أفكاره على ظهور قطة أمامه فحاول تفاديها بقوة ليعقد حاجبيه وهو يسمع تأوه ضعيف ..ليدرك أن هناك من يشاركه السيارة..ليوقف السيارة على جانب الطريق وهو يمد يده الى درج السيارة ليخرج سلاحه بهدوء ثم ترجل من السيارة بسرعة فاتحا الباب الخلفى وموجها سلاحه الى ذلك الدخيل..لتتسع عينيه بصدمة فهناك تحت المقعد الخلفى تقبع امرأة تضم طفل إليها بقوة وتنظر اليه برعب..امرأة يعرفها جيدا..يعشقها ويكرهها فى آن واحد..انها المرأة التى لم يحتل قلبه سواها، والذى أراد يوما أن ينزع قلبه من مكانه لأنه يرفض نسيانها..إنها الجميلة..الرقيقة....والمخادعة..................زينة.
****************
كانت فتون تجلس على مقعدها فى الطائرة المتجهة الى القاهرة يجاورها نبيل الذى أغمض عينيه يحاول أن يأخذ قسطا من النوم..أمسكت فتون هاتفها لتفتح ملف شخصى يحمل صور أختها الصغرى ميسون..تلمست الصور بحنان ..لقد افتقدتها حقا وافتقدت مزاحها وضحكاتها التى كانت تغمر كيانها بالسعادة..أغمضت عينيها ألما وهى تتذكر آخر مكالمة هاتفية بينهما..كم كانت سعيدة وهى تنتظر حبيبها الذى سيعرض عليها الزواج..وكم كانت ساذجة لأنها آمنت له..فقتلها..وأضاع روحها البريئة للأبد..لتفتح فتون عينيها وقد ارتسم فيهم التصميم..لقد اقسمت فى بيروت أنها ستقتله وها هي تجدد قسمها.. ان لم تستطع سجنه مدى الحياة..أو ان تجلب له حكما بالإعدام..ستقتله ..نعم ستقتله ولكن بعد ان تجعله يخسر أمواله وكل غال بحياته..لتمرر يدها على صورة أختها الحبيبة قائلة فى همس حزين :
ساعتها مش هيفرق معايا أموت او أعيش ياميسون..انتى كنتى كل حياتى..واللى عايشة بس عشانها..ورغم اننا مكناش اخوات شقايق..بس كنا زى التوأم..من يوم ما اتولدتى واحنا مفارقناش بعض..ولما ماما ماتت.. كنت ليكى أم وكنتى لية زي بنتى.. رغم فرق السن الصغير اللى بينا..ياريتك ما نزلتى شرم ..ياريتك ما شفتيه ياحبيبتى.
انتفضت على ربتة خفيفة على يدها لتنظر الى نبيل الذى فتح عينيه ينظر اليها متعاطفا ..مدت يدها الحرة لتمسح دموعها الخائنة، ليقول نبيل فى حزن:
كل شئ فى الدنيا قدر يافتون.. وقدرها كان انها تنزل شرم وتحبه وهو ميحبهاش..قدرها كان تموت على ايديه وقدرنا نتعذب وقلوبنا تبكى من حزننا عليها..بس قدره كمان انه يتعذب على ايدينا احنا..مش هنسيبه لحد ما يخسر كل حاجة فى حياته.
أومأت فتون برأسها وقد ارتسم فى عينيها التصميم..فأخاها نبيل لا يعلم نواياها تجاه هذا الياسين..نعم ستجعله يخسر كل شئ فى حياته ولكن ما لا يعرفه هو أنها ستجعله يخسر حياته نفسها..فقط على ياسين أن ينتظر مصيره القاتم.. فهى قادمة اليه..... وبقوة.
*******************
أفاق مروان من صدمته بسرعة قائلا فى غضب:
ممكن أعرف بتعملى ايه فى عربيتى ؟
ثم أشار الى فارس قائلا:
ومين ده؟
ضمت زينة الطفل اليها أكثر وهى تقول متلعثمة:
أنا...أنا....
قال مروان فى حدة:
انتى ايه؟ما تنطقى؟
افاقت زينة من صدمتها وارتباكها لإدراكها أن صاحب السيارة وضيف عدنان هو مروان ..ذلك الذى تخلى عنها قديما وتركها تعانى ..لم يهتم بمصيرها أبدا لتبيعها زوجة أبيه الى ذلك الشيطان عدنان.. وتذوق هي العذاب سنوات طوال..وفوق كل هذا يقف الآن بكل قسوة وجبروت يصرخ بها ويتساءل عنها وعن طفلها فارس..لتنظر الى فارس برعب تدرك الموقف الشائك والذى وجدت نفسها فيه..عليها أن تبتعد الآن عن فارس حتى لا يسمع ما سوف يقال ..ستتحدث مع مروان بكل هدوء..ستجبر نفسها على البرود حتى تحتفظ بحياتها وحياة طفلها ثم تبتعد وبكل قوة عن مروان..مروان ..أول من دق القلب له ....أول وآخر حبيب ..هو من علمها الحب ومن جعلها تنفر منه.
تحولت ملامحها الى البرود قائلة :
بعد اذنك نتكلم بعيد عن ابنى.
أحس مروان بغصة فى قلبه..وظهر على ملامحه الألم..اذا هذا الطفل هو ابنها..كان لابد وأن يعلم ذلك.. فملامح الطفل تشبه كثيرا ملامحها الجميلة..يحمل نفس عيونها الرمادية الخلابة..تساءل فى مرارة ..هل تزوجت وأنجبت وعاشت حياة سعيدة بينما كان هو يتعذب بين جدران سجنه؟
لم ترى زينة ملامح الألم المرتسمة على وجه مروان وهى تلتفت الى صغيرها لتتبدل ملامحها من البرود الى الحنان قائلة:
حبيبى انا هتكلم مع عمو كلمتين..خليك قاعد مكانك ومتخرجش من العربية..اتفقنا؟
نقل فارس نظراته القلقة ما بين مروان الذى أخفى ملامح الالم سريعا، وبين والدته ليقول بلهجة بدت اكبر من سنوات عمره الخمس:
هتبقى كويسة؟
رغما عنه أحس مروان بالاعجاب بذلك الصبى ..والذى يخشى على والدته منه ..بالتأكيد شعر بالتوتر وذبذبات الكره التى ملأت المكان..ليرى مشهدا أشعره بالألم فى كل كيانه وزينة تميل تقبل الصغير بحنان قائلة:
طول ما انت معايا هبقى كويسة ياحبيبى.
أخفى مروان مشاعره تحت قناع من الجمود وهو يراها تخرج من السيارة وتغلقها لتمر بجواره تكاد تلامسه ليدق قلبه بقوة وخصلات شعرها الحريرية تلامس وجهه تذكره بأيام كان يقضى فيها الكثير من الوقت يمرر اصابعه بين تلك الخصلات..لينفض أفكاره بقوة وهو يتبعها حتى توقفت على بعد مسافة من السيارة والتفتت اليه قائلة فى برود:
كنت بتسألنى عن سبب وجودى فى عربيتك..مش كدة؟
نظر اليها فى جمود فاستطردت قائلة:
لو كنت اعرف انها عربيتك أكيد مكنتش هركب فيها..انا أهون علية أعيش جوة جحر الشيطان ومكونش قريبة منك ولازم تعرف ان أسوأ يوم عندى هو النهاردة لإنى شفتك فيه من تانى.
لم يظهر على ملامح مروان أى تأثر بكلماتها..فقط اختلاجة بسيطة فى فكه ..وقبضة يده التى ضمها فى قوة قبل أن يقول:
الشعور متبادل على فكرة..بعد ما افتكرت ان النهاردة من أسعد ايام حياتى..شفتك وانقلب اليوم غم..بس برده عايز أعرف حضرتك بتعملى إيه فى عربيتى؟
نظرت زينة اليه تشعر بمرارة شديدة فى قلبها ..لتقول بصوت ظهرت فيه تلك المرارة رغما عنها:
كنت هربانة ..ارتحت؟
عقد مروان حاجبيه قائلا بصرامة :
هربانة؟من مين؟وليه؟
ابتسمت فى سخرية مريرة وهى تقول :
ويهمك فى إيه تعرف؟..احنا كل حاجة انتهت بينا من زمان..انت دلوقتى ليك حياتك وانا كمان لية حياتى..فخلى كل واحد فينا فى حياته اللى اكيد هيعيشها بعيد عن التانى.
مال مروان عليها ينظر الى عمق عينيها ببرود قائلا:
لو فاكرة ان حياتك تهمنى أو يهمنى أعرف حاجة عنها فتبقى غلطانة..كل الموضوع انى لقيتك فى عربيتى وده بيحتم علية انى لازم أعرف السبب قبل ما ارميكى براها.
أغمضت زينة عينيها لثوان وهى تشعر بأنفاسه الساخنة تلفحها على وجهها تثير فى قلبها رجفة ..تشعر بالشوق إليه خاصة وهو يقترب منها هكذا لتفتح عينيها وهى تبتعد خطوة..تبا لقد آلمها كثيرا ..ومازالت تشتاق اليه ..مازال يؤلمها بكلماته القاسية ومازالت ترغبه..أى جنون هذا؟..يجب أن تؤلمه مثلما يؤلمها ..يجب ان يبتعد عنها للأبد لذا قالت بهدوء:
كنت هربانة من عدنان..
تراجع مروان بدوره وهو يعقد حاجبيه بشدة قائلا:
عدنان؟؟
قالت زينة ببرود يخفى ألم قلبها:
أيوة عدنان..اللى عشت فى بيته المدة اللى فاتت دى كلها..يبيع ويشترى فية زى كل اللى البنات اللى شغالين معاه.
أغمض مروان عينيه وهو يدرك ما كانت تفعله فى منزل عدنان..وما أصبحت عليه زينة..المرأة الوحيدة التى أحبها.
فتح عينيه على كلماتها التى أدمت قلبه وهى تستطرد قائلة:
كنت كل يوم مع واحد ..غصب عنى ومش بإرادتى ..حاولت كتير اهرب..بس كانوا كل مرة بيمسكونى ويعذبونى بطريقتهم..طريقة متسيبش علامات فى جسمى ..طبعا..ما انا جسمى عندهم يساوى فلوس ..لغاية ما عرفت النهاردة انك ضيف مهم ولقيتهم خايفين منك..قلت مش هيفتشوا عربيتك وانت خارج..ركبت فيها وفعلا ده اللى حصل..مافتشوش العربية .. واخيرا وبعد سنين قدرت أخرج من الجحيم اللى كنت عايشة فيه.
غامت عيون مروان بنظرة سوداوية..تحمل عذابا يفوق الاحتمال وهو يتخيل زينة ..تخضع لكل هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم ..يلمسونها ..ويقتربون منها بحميمية ليعطيها ظهره يخفى ألما انتشر بملامحه وأضعفها..يود لو قتل كل هؤلاء الرجال ثم قتلها لاستسلامها لهم..ليعود ويلتفت اليها يرمقها بغضب حارق وهو يمسك يدها بقوة قائلا فى حدة:
وايه اللى خلاكى تروحى لعدنان أصلا..مين اللى عرفك بيه..وايه اللى خلاكى تبقى بالشكل ده؟
ليتركها ناظرا اليها باشمئزاز وهو يشير إليها قائلا:
واحدة رخيصة بتبيع نفسها للى يدفع.
ابتسمت فى سخرية مريرة وترقرقت عينيها بالدموع وهى تقول:
النصيب يا مروان باشا..ما أنا بعت نفسى زمان وبالرخيص برده..مش هتفرق بقى.
عادت ملامح مروان يغمرها البرود وهو يتجاهل تأثير دموعها على قلبه.. ليقول بنبرات باردة تخفى المه:
وابنك ده يبقى ابن مين؟
أحست زينة بالخطر لتسرع قائلة بوقاحة:
وهعرف منين؟قلتلك كل يوم كنت مع واحد..إنت نسيت ولا إيه؟
قبض مروان على يديه بقوة كى لا يصفعها على وقاحتها..يتمنى من كل قلبه نعمة النسيان..تساءل فى صدمة..كيف أحب تلك المرأة وكيف لم يرى حقيقتها من قبل؟ تمالك نفسه..ليقول ببرود صقيعى:
من معرفتى بعدنان أقدر أقولك انه مش هيسيبك وانه اكيد وفى خلال يومين بالكتير هيلاقيكى..وهتاخدى جزاءك واللى تستاهله واحدة قذرة زيك..ومش بعيد يقتلوا ابنك معاكى وده اللى مستحيل ضميرى يسمح بيه..عشان كدة ..أنا هسيبك لقدرك، بس هاخد ابنك عشان يكون تحت حمايتى..اعتبرى حمايتى ليه مقابل الأيام اللى قضيتها معاكى زمان ..واعذرينى لو المقابل كان متأخر.. ما أنا مكنتش اعرف إنك هتاخديها مهنة تكسبى من وراها.
اصاب زينة الهلع ..لم تهتم بكلماته الجارحة ..فقط كل ما أدركته انه يريد إبعاد طفلها عنها..لقد تحملت كل ألوان العذاب من أجله فقط ليأتى بكل بساطة يريد إبعاده عنها..وهي تدرك أنه قادر على تنفيذ كلماته..فمن هي لكي تقف بوجهه؟سيسحقها بالتأكيد بماله ونفوذه..وسيبعدها فى النهاية عن طفلها..ابدا لن تسمح بذلك..حتى لو تذللت وداست على كرامتها وقلبها..لتقول له بتوسل:
أرجوك ..أتوسل اليك..بلاش تبعده عنى ..انا ممكن أعمل أى حاجة بس ابنى ما يبعدش عنى..خلينى جنبه ولو هشتغل خدامة عندك..أبوس ايدك خلينى جنبه.
وقرنت قولها بامساك احدى يديه وتقبيلها لينفض يده بعيدا عنها.. فهو لايطيق الآن تلك اللمسة ولا يستطيع تحملها..ولكن كلماتها الصادقة المتوسلة ودموعها استطاعوا أن يؤثروا فيه ..وجد نفسه متعاطفا مع أمومتها رغما عنه ليقول ببرود:
خلاص هاخدك معاه بس هتقعدى باحترامك وهتكونى خدامة ليه.. ولو غلطتى غلطة واحدة أو حاولتى تهربى بيه ..هتشوفى منى اللى عمرك ما شفتيه ..ولا حتى من عدنان ذات نفسه..مفهوم؟
أومأت برأسها وهى تمسح دموعها وأنفها بكمها كالأطفال..ليشعر مروان بقلبه يرق لها..يود لو اخذها الآن بين ضلوعه ليحتويها داخل طيات صدره..يمسح دموعها بشفتيه كما كان يفعل بالماضى..ولكن تخليها عنه منذ سنوات وكلماتها الآن والتى ترددت فى أذنيه..أخبرته أن عليه أن ينساها فلم يعد بامكانه الثقة بها ولم تعد تخصه وحده بل استباحها رجالا آخرون..عند تلك النقطة استشاط غضبا..الى جانب حيرة تملكته..لا يدرى كيف يريد أن ينساها وهو يحضرها بنفسه الى منزله؟ ليطمئن قلبه بأنه لن يراها كثيرا فهو غالبا ما يقضى وقته بمكتبه..إلى جانب افعالها التى غلفت قلبه الممزق بجدارا ثلجيا ليتقدمها الى السيارة تتبعه بخطوات منكسرة..تعلم أنها تخطوا الى المجهول ولكنه مهما كان سيكون أفضل مما كانت فيه وسيكون عليها فقط الانتظار حتى تحصل على الأمان ثم تبتعد نهائيا عن كل خطر يحيط بها..خاصة ذلك الخطر الذى يحيطها بقرب هذا الحبيب الخائن..مروان فياض.
الفصل الرابع4
دلف هارون الى حجرة المكتب الخاصة بعدنان ليقول عدنان على الفور:
عملت ايه؟
قال هارون:
كل شئ تمام..مروان مطلعش سهل ابدا..دماغ شياطين.
زفر عدنان قائلا:
طمنتنى ..أنا كنت لآخر لحظة مقلق منه وحاسس بالغدر..كدة بقى أقدر أدخل معاه الصفقة وأنا مطمن.
ثم مالبث ان انتابه القلق وهو يرى ملامح هارون التى تخبره بأن هناك خطبا ما ليقول بتوجس:
فيه ايه ياهارون ..اتكلم؟
قال هارون بتردد:
البت اللى اسمها زينة دى.
وصمت ليستحثه عدنان قائلا :
مالها؟؟ ..منشفة راسها ومش راضية تروح زي كل مرة..
ليشير بيده بلا مبالاة قائلا:
بسيطة..هددوها بابنها.
هز هارون رأسه نفيا وهو يقول فى تردد :
مش هينفع..لإنها..لإنها هربت من البيت.
وقف عدنان وضرب المكتب بقبضته قائلا فى غضب:
انت بتقول ايه؟ازاى هربت ؟والحراس الحمير دول كانوا فين؟
قال هارون:
الحراس كان كل تركيزهم مع مروان فياض.. واكيد هى استغلت الوضع النهاردة وهربت.
قال عدنان فى غضب:
أغبيا...الحراس يتغيروا والبت دى تلاقيهالى ياهارون..مش عدنان المسيرى اللى بت زى دى تغفله وتهرب من بيته..مفهوم؟
اومأ هارون برأسه..ليتجه بعدها للخارج فى صمت يتابعه عدنان بعينين امتلأتا شرا لتليق ملامحه حقا باسمه والذى عرف به ..ملامح الشيطان.
********************
تأملت زينة حجرتها والتى منحها اياها مروان هي وصغيرها ثم ذهب بسرعة البرق دون كلمة ..كانت الحجرة صغيرة ولكنها رقيقة التصميم ودافئة ..أفضل بكثير من حجرتها فى جحر الشيطان عدنان..والتى كانت رطبة وباردة ..ولطالما سببت لها ولطفلها نزلات البرد..ضمت جسدها بيديها وهى تتذكر تلك الليالى التى كانت تضم فيها طفلها إليها بشدة وتدلك جسده بقوة كى تمنحه دفئا..الآن هو ينعم بالدفئ داخل تلك الحجرة الجميلة ..نظرت الى ملامحه النائمة بحنان واقتربت منه تجلس بجواره على السرير تمرر يدها فى خصلات شعره السوداء الناعمة..تتساءل حقا..هل استطاعت الهروب به من هذا الجحيم ؟وهل ستنعم يوما بالأمان؟فرغم هروبها لن تستطيع ان تقول أنها بأمان الآن..لا ليس بعد..لن تحصل على الأمان كاملا سوى بابتعادها عن مروان..فهو خطر كبير عليها..ربما أخطر من عدنان وهارون..فهى معهم تخاطر بالكثير ولكن مع مروان تخاطر بأغلى وأهم ما لديها ..ابنها ....وقلبها
ذلك القلب الخائن والذى مازال متعلقا به رغم تخليه عنها بالماضى..نهضت تقترب من النافذة لتفتحها وتأخذ نفسا عميقا..تتذكر ذلك الماضى البعيد حين كانت تلك الجميلة البريئة ..فبعد وفاة والدتها وطردها من منزلها لتأخرها فى دفع الإيجار أشفق عليها عم سالم البواب وقد كان جارهم بالسكن..و أحضرها الى عائلة فياض لتعمل عندهم كخادمة ..من اول يوم لها تعلق قلبها الغض بابن العائلة الوحيد..ذلك الشاب الوسيم القوى..و الحنون..لاحظت منه أيضا اعجابا متبادلا يظهر فى نظراته اليها..وتعاطفه معها ضد تصرفات زوجة أبيه القاسية تجاهها..ورغم الفرق الشاسع بينهما إلا ان ذلك الحب ولد بينهما ونما فى قلبيهما ..تظهر شراراته المشتعلة كلما اقتربا من بعضهما البعض..حتى كان ذلك اليوم الذى تشاجر فيه مع أبيه بسبب تصرفات زوجة أبيه الشريرة..ليخرج من المنزل غاضبا ويتأخر فى العودة..انتظرته زينة كثيرا وقد انتابها القلق عليه..ليعود مترنحا..يبدوا على غير عادته ..لتوقن انه أسرف بالشرب..أسرعت اليه تسنده ليبتسم لها ابتسامة أشعلت قلبها عشقا..فبادلته ابتسامته..كاد ان يتحدث لتشير له بالصمت حتى لا يوقظ احدا .. وصلا الى حجرة مروان لتضعه برفق على سريره ثم خلعت عنه حذائه و دثرته بحنان لتجده يمسك بذراعها يجبرها على الاستلقاء بجواره يخبرها بمكنون قلبه وعشق قاومه وأخفاه كثيرا ..لم تصدق أذنيها وهى تستمع الى كلمات لطالما انتظرتها..لتفيق على قبلاته المتناثرة على عنقها يقول مابين القبلة والقبلة كلمات عشق سحرتها..حاولت المقاومة ولكنها فى النهاية استسلمت لقبلته التى أعجزتها عن الكلام تماما تلاها العديد من القبلات التى غيبت عقلها وسحرت قلبها لتستسلم لعشق اجتاحها..وعندما أفاقت من ثورة مشاعرهم القوية..بكيت بشدة ليضمها اليه بندم على مافعله وهو تحت تأثير الشراب.. يخبرها بأنه سيتزوجها ..وبالفعل فى اليوم التالى..تزوجها ولكن عرفيا مخبرا إياها أنها مسألة وقت يمهد فيه لأباه رغبته بالزواج بها..بعيدا عن تلك العقربة سوزى..زوجة ابيه التى ستعارض ذلك الزواج وبشدة..كانت كل ليلة بعد نوم الجميع تتسلل الى حجرته لتقضى معه ليلة من العشق يحملها فيها مروان الى السماء لتعود بعد ذلك الى أرض الواقع..تعمل كخادمة لديهم..تنتظر اليوم الذى يخبر فيه مروان أباه بقصتهما لتكلل قصتهما بتلك النهاية السعيدة ويخرج زواجهما من الظلمات الى النور..كم كانت واهمة..فبين ليلة وضحاها اختفى مروان..علمت انه تشاجر مع والده مجددا وسافر للخارج دون وداع..دون كلمة..تركها لمصير مجهول..فوجدت نفسها فجأة تباع الى ذلك العدنان..تذوق العذاب كل يوم فى بيته..تباع كل فترة لرجل لليلة واحدة..وكأنها فتاة من فتيات الشوارع..وكل ذنبها أنها قد وقعت بالحب ..وياليتها لم تقع بالحب..بل ياليتها ما جاءت الى منزل عائلة فياض وياليتها لم ترى مروان ولم تعرفه مطلقا.
مدت يدها تمسح دموعها الخائنة المتساقطة على وجهها..ليبدو التصميم على عينيها وهى تقسم ان تكون تلك آخر دموعها ..فستكون قوية..قادرة على تخطى كل شئ..ليس من أجلها..بل من اجل الشئ الوحيد الذى عاشت من أجله.. طفلها الحبيب....فارس.
******************
قاد مروان سيارته بسرعة بإتجاه ذلك المطعم الذى اتفق فيه مع ياسين على اللقاء..تفادى سيارة كاد أن يصدمها بصعوبة..ليتجه بسيارته إلى جانب الطريق ويوقفها ..يحل رباط عنقه وهو يتنفس بصعوبة..ليفتح الزر الأول لقميصه ويأخذ نفسا عميقا..يدرك أن سر ضيقه وألم صدره هو إلتقائه مجددا بمن كانت السبب الأول فى تحوله إلى ذلك المروان الذى بات لا يعرفه..كم كان بالماضى طيب القلب..يؤمن بالحب..محبا للحياة.. وكم كان مخدوعا بها..أحبها منذ أن رآها لأول مرة وهي تحضر إليه فنجال القهوة ..وقع فى سحر نظرة عيونها الجميلة وملامحها البريئة..أحبها بكل ذرة فى كيانه..أرادها فى حياته وبقوة..منحها قلبه وعقله وروحه..لتأخذهم جميعا وتضرب بهم عرض الحائط..تتخلى عنه فى أول مشكلة مرت به..وتلجأ لغيره فأصبح لها بديلا عنه..ليفقد هو الثقة بالحب ..بالمشاعر..وبالنساء..ليظل كيانا هائما ليس له هدف فى الحياة سوى الانتقام..الانتقام فحسب ..رفع يده يضعه على قلبه الموجوع قائلا بألم:
أصبر ياقلبى..استحمل معايا شوية لغاية ماننتقم منهم كلهم..متتخلاش انت كمان عنى زي ما اتخلت هي عنى زمان..وأوعدك هاخد حقك..هاخد حقك من كل اللى ظلمك وجه عليك..وقريب أوى هترتاح..ترتاح للأبد.
لترتسم القسوة على ملامحه وهو يعيد تشغيل سيارته متجها إلى ياسين..صديقه الوحيد.
*******************
قال ياسين فى حدة:
انت بتقول ايه يامروان؟ازاى تعمل كدة؟
هز مروان رأسه وهو يمرر يده فى رأسه بيأس:
مقدرتش أعمل غير كدة.
ثم نظر الى عين ياسين قائلا:
لما شفتها من تانى صحت جوايا أحاسيس كتير افتكرتها ماتت..كنت فاكر انى مفيش غير الكره ليها فى قلبى..بس طلعت غلطان..جوايا متلخبط أوى ياياسين..مش عارف انا لسة بحبها ولا خلاص كرهتها ولا اللى جوايا ذكرياتى معاها..انت متعرفش انا كنت بحبها اد ايه..دى كانت روحى ياياسين..البنت الوحيدة اللى قدرت تدخل قلبى وتملكه..
ليزفر وهو يمرر يده فى شعره قائلا:
بص..أنا فعلا متلخبط ومش عارف جوايا ايه..بس كل اللى اعرفه دلوقتى هو إن بالرغم من انى مش ممكن هثق فيها تانى ولا هي بقت تنفع تكون لية ..لكنى مش هقدر أتخلى عنها زي ما هي اتخلت عنى زمان ..ومش هقدر أسيبها لعدنان يشغلها عنده تانى وانت عارف هو بيشغل البنات إزاي وفى إيه..حتى لو هي مش لية بس مش هقدر أتخيل إنها مع حد تانى ..كفاية انى بموت من ساعة ما عرفت هي كانت عايشة فين وبتعمل ايه..ومش هقدر برده اشوفه بيموتها..أو بيموت إبنها..مش هقدر.
ليبتسم قائلا فى سخرية مريرة:
تعرف ..ابنها ده ياما حلمت إنه يكون منى أنا..طفلى انا ..حتة منى ومنها..بس خلاص مبقاش ينفع.
أخرج مروان سيجارة من علبة سجائر ياسين واشعلها بقداحته ليأخذ منها نفسا عميقا ثم ينفثه ليسعل بقوة فأخذها منه ياسين وهو يطفئها فى منفضة السجائر أمامه مناولا إياه كوبا من الماء.. قائلا بعتاب:
احنا مش قايلين بلاش سجاير عشان صحتك.
تناول مروان جرعة ماء ثم قال فى مرارة:
غصب عنى ياياسين..جوايا مرارة محدش عارف أد إيه قاتلانى..انت لو شفته هتعذرنى..لو شفت أد ايه جميل.. ورغم سنه الصغير لكن جواه قوة غريبة مست قلبى.
أغمض ياسين عينيه ثم فتحهما قائلا:
كلامك كله قالقنى يامروان..إنت بتلعب بالنار وأنا خايف عليك تحرقك.
تراجع مروان بظهره الى مقعده وهو قائلا:
عارف بس مش قادر أخلينى بعيد.
ليزفر قائلا:
وعموما احنا كلنا بنلعب بالنار ياياسين بس أهم حاجة ناخد بالنا.
أومأ ياسين برأسه قائلا:
معاك حق..أهم حاجة ناخد بالنا.
ثم نظر اليه قائلا باستفهام:
صحيح مقولتليش عملت ايه النهاردة عند عدنان؟
قال مروان وقد قست عيناه لتزداد قتامة:
بلع الطعم وصدق إنى رايحله بالخير ..ميعرفش انى دقيت النهاردة اول مسمار فى نعشه..وإن نهايته قربت..قربت أوى يا ياسين.
زفر ياسين بارتياح قائلا:
طمنتنى ..كدة الخطوة الأولى تمام..إيه هي بقى خطوتنا الجاية؟
مال مروان الى الأمام مقتربا من ياسين قائلا:
هقولك ياياسين..هقولك.
