رواية تشابك ارواح الفصل الحادي والاربعون41الاخيربقلم امينة محمد


رواية تشابك ارواح

 الفصل الحادي والاربعون41الاخير

بقلم امينة محمد

حلقة خاصة

 ذكريات لم تدفن، حاوطتنا جميعًا لأيامٍ عدة وغمرت قلوبنا بدفءٍ.

مرحبًا بأشخاصٍ عشنا معهم لفترات طويلة،
تركوا بداخلنا حنين لن يغادرنا،
وفي كل مرة نحاول النسيان،
نعود بتلهفٍ لنعيد تذكر تلك التي يعز على قلبي أن أقول عنها ذكريات مضت.
ومن داخل قلبي صديقي العزيز أعلم أن تلك الذكريات التي وهبتك إياها جميلة تتلألأ في الأفق، بها ألفة لن تنال منها تقلبات الزمن ولا قسوة الأيام، وأعلم جيدًا أنني ما أحدثته فيك سيبقى عالقًا في ذاكرتك ومحفورًا في قلبك، وكيف تواصلت معك بروحي فتفاعلت معي بروحك، لأن الكلمات لم تكن سوى مشاعر انتقلت لك بكل حب، وهذا ما أود أن يظل بيننا بعد رحيلي، هذا أعظم ما يمكنني تقديمه وسيبقى أثره دائم.
بعد مرور «سبع سنوات»
رائحة المسك تملئ أرجاء المنزل بينما هو جالس في ركنه المميز في هذا الصباح الدافئ يصلي صلاة الضحى، وما إن انتهى حتى شعر بقهقات طفولية خلفه ينتظرونه حتى ينتهي لينقضوا على ظهره كما عادتهما.
أمسك بظهره اثنين وتقدمت التي تحبو أرضًا لأمامه وهو يرفعها بين أحضانه بضحكة هادئة:
"حبيبة عيوني"
_"وأنا يا بابي؟"
نطقت بها كبيرتهم «ياسمين» ليبتسم بحبٍ مُجيبًا:
"وأنتِ حبيبة قلبي يا ياسمين"
وهنا تدخل صوت الثاني بقوله بامتعاضٍ:
"لين حبيبة عيونك، وياسمين حبيبة قلبك، وأنا بقا إيه؟"
ضحك بخفة فهم توارثوا الغيرة المفرطة من والدتهم، ومنه أيضًا إن أتينا للحق:
"أنت صاحبي وابني يا كنان متزعلش"
أكرمه الله بثلاثة أطفال لو ظل يشكر الله مدى حياته لن يوفي، زرعوا في قلبه الحب والرحمة أكثر من قبلٍ، وجعلوه مُتيمًا بهم وبزوجته الحبيبة، أولهم وفرحته الأولى «ياسمين» صاحبة الستة أعوام والتي أخذت الكثير من «سيلين» حتى العينين الزرقاوتين، وبعدها أتى الحبيب «كنان» صاحب الأربع سنوات الذي كان نسخة من أبيه بعينيه البنية، ثم أتته الفرحة الاخيرة «لين» صاحبة السنة والتي كانت ملامحها منه ومن «سيلين» ولكنها ورثت العين الزرقاء من أمها أيضًا.
_"مامي بتقولك اعملنا فطار"
قالتها «ياسمين» بضحكة خبيثة ليجذبها أمامه بحاجبٍ مرفوع:
"وهي مامي فين ياختي؟"
أجابته بكل براءة وهي تحرك كتفيها:
"بتحط للقطط أكل"
تنهد بخفة فهو بعد موت كلًا من «مشمش» و«مشمشة» حزن كثيرًا هو و«سيلين» ولكن الآن لديهم ابنائهم وأحفادهم.
_"طب اوعوا خلونا نشوف هنفطر إيه، ومتنسوش عندنا النهاردة تسميع للحفظ، اللي مش هيكون حافظ هيزعل مني"
كانت اجابتهما هي تحريك رأسهما بايجاب وهو تحرك للمطبخ وهما خلفه بينما الصغيرة على ذراعه يقبلها بحبٍ بالغ وينعم من رقتها المفرطة تلك.
كان يعد وجبة الافطار بعدما جعل «لين» تجلس بين أحضان كبيرته الحنونة في إنتظار قدوم «سيلين» من الشقة التي بالطابق الأول موضوعًا بها القطط لأنه فصلهم عن أطفاله لكثرتهم.
بينما «كنان» و«ياسمين» يسألونه الكثير من الأسئلة الوجودية وغير الوجودية وقطع هو اسئلتهم بمواضيعه التي يزرعها في عقولهم من صغرتهم هكذا بقوله:
"بصوا عندي فكرة أحسن، بدل الأسئلة الكتير دي أنا ممكن أقولكم تفسير سورة الماعون اللي هتسمعوها النهاردة، إيه رأيكم؟"
بالطبع كانت اجابتهم هي الموافقة ولكن اقتحام سيدته وزوجته وهي واقفة أمامهم واضعة يدها بخصرها وتقول بحنقٍ:
"حلقة دينية من غيري، زعلت أوي"
طالعها بضحكة خفيفة واقترب يلثم وجنتها بحنانٍ وهو يقول ببراءة:
"هو إحنا نقدر، بس كنا بندردش لحد ما تيجي"
ابتسمت بدلالٍ عليه ثم استندت تستمع له وهو يعد الإفطار كما أطفاله تمامًا، بالنسبة له لم يراها يومًا سوى مثلهم، بل كانت أول من ترك به أثر وبُنيت حياتهما على المودة والرحمة والتي بلغا الحب بالنسبة لهما.
بدأ هو يتلو السورة بصوته العذب الذي لم تمل منه يومًا بل جعلته يوميًا منذ معرفتها به أن يقرأ لها حتى يهدأ قلبها بالقرآن الكريم وبصوته الذي يولج لقلبها ويجعله يستكين.
_"أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ (3) فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ (4) ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ (5) ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ (6) وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ (7)"
أنهى القراءة بشكلٍ صحيح لتترسخ بعقول أطفاله ولم يخلو حديثه من أصوات الصغيرة الطفولية المستمتعة بتلك الأجواء العائلية:
"ارءيت الذي يكذب بالدين، ودي معناها الأشخاص اللي مش مصدقين ومؤمنين إن فيه يوم قيامة، فيه يوم حساب، يعني زي ما قولنا قبل كدا إحنا ربنا خلقنا في الدنيا دي للعبادة أولًا ثم للعمل الصالح، فذلك الذي يدع اليتيم.."
_"يعني إيه يتيم يا بابي؟"
قاطعته «ياسمين» بسؤالها ليبتسم بخفة قائلًا بعدما تنفس بقوة:
"يعني اللي ملوش أب وأم، أبوه وأمه ماتوا، زيي مثلًا جدو وتيتة ماتوا من زمان، وزي مامتكم، جدتكم وجدكم ماتوا برضو"
شهق «كنان» بفزعٍ وهو يقول بخوفٍ نتيجة ذلك:
"بس أنا مش عاوز يحصل كدا، مش عاوز أكون من غير بابا وماما"
ابتسمت «سيلين» بحنانٍ لفطرته الحنونة كما والده تمامًا، واقتربت تتناوله بين أحضانها بقولها:
"ياحبيبي أنت، ان شاء الله ربنا يطول في عمرنا عشانكم بس متنساش إن كلنا في يوم من الأيام هنموت يعني"
أومأ الصغير متعلقًا برقبة والدته ليتنهد «مروان» مُكملًا:
"معنى الآية أننا منزعلش اليتيم ولا نعامله بطريقة وحشة، وأننا نصاحبه ولو في أيدنا أننا نساعده نعمل كدا برضو"
ثم أكمل بتحركه في أرجاء المطبخ الذي جدده هو وكامل شقته بعدما كرمه الله بعمله في محل الملابس الذي قام بتوسيعه بشكلٍ كبير:
"ولا يحض على طعام المسكين؛ يعني لو مش عاوز أطعم حد مسكين أو فقير وأقدمله الأكل فأنا ممنعش الناس الأغنياء أو اللي قادرين يطعموهم وده حرام جدًا جدًا، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون؛ يعني الناس المتهاونة في الصلاة، اللي بتأخرها او الناس اللي مبتصليش، ربنا بيقول ويل لهم، يعني هيحاسبهم ويعذبهم عشان هما مبيصلوش فرض ربنا، فأنا عشان خايف من عذاب ربنا لازم لازم أحافظ على الصلاة في أوقاتها"
وضع الطعام في الأطباق وأكمل نهاية السورة بابتسامة بسيطة:
"الذين هم يراءون ويمنعون الماعون؛ يعني الناس اللي بتطلع صدقة وبتعملها لوجه الله مبتعملهاش عشان الناس تشوفها، وده حرام اننا لو هنعمل حاجة عشان الناس تشوفنا، وأننا نقدم المساعدة لحد محتاج مساعدة ولا نمنع الناس تساعدهم"
ساعدته «سيلين» بنقل الصحون للطاولة التي يأكلون عليها، وجلست مبتسمة وهي تقول بحبٍ:
"جزاك الله خير ياحبيبي، يلا يلا عشان ناكل"
ابتسم بحبٍ وساعد أطفاله في الجلوس على الكراسي بمساعدتها وجلسوا جميعهم حول المائدة يأكلون بينما هو رفع بصره يلقي عليها نظرة متذكرًا ذلك اليوم الذي لا يخرج من باله، متذكرًا ذكرى لن تزول.
«الذكــرى»
تلك الأيام التي تلت وفاة والدها اشتد عليها الحزن وبلغ أشده لديها، بينما هو حاول كثيرًا بأن يجعلها تخرج من تلك الحالة ومن ذلك الحزن الشديد، حاول وحاول ولم ينجح إلا بجعلها تهدأ ولو قليلًا.
حينها رزقه الله بمبلغٍ كبير من حيث لا يعلم، وفي أيامها كان يحلم باستمرار بأنهما سويًا في مكة المكرمة، وحينما أتته تلك النقود علم أنها آتية لذلك السبب، فسريعًا ما تحدث رفقةً شخص يعرفه ليحجز له التذاكر ويساعده في استخراج جواز سفر له.
عاد يومها للمنزل مهرولًا لها وجلس جوارها مبتسمًا بحب:
"عندي ليكِ مفاجأة حلوة"
استندت بين أحضانه مبتسمة بتعبٍ واضح؛ فالحزن أتعب جسدها بشكلٍ كبير مؤخرًا:
"مفاجأة إيه طيب؟"
_"هنطلع عمرة سوا"
قالها بابتسامة واسعة فرفعت عينيها بسرعة له تتابع ملامحه بعينين دامعتين، حاوط وجهها بكفيه وقبلها على جبهتها بابتسامة واسعة:
"كل حاجة بتجهز وهنروح هناك نرمي كل همومنا، هنروح لبيت الله وندعي كتير إن ربنا يبارك في حياتنا الجاية واحنا سوا، مبقتش عاوز أشوفك كدا عشان أنا بتضايق لما بشوفك كدا والله"
هبطت دموعها فجذبها يحتضنها بقوة وهو يربت على ظهرها بحنانٍ قائلًا:
"خلاص متعيطيش، قومي اتوضي عشان نصلي ركعتين شكر لله إنه اختارنا نروح سوا نعمل العمرة، وأهدي عشان خاطري كفاية عياط"
تمسكت به بكل قوة وقالت من بين صوتها المختنق:
"أنا مبسوطة أوي أننا هنروح والله، ومبسوطة إنك بتحاول عشاني، وعشان تشوفني مبسوطة، أنا بحبك أوي يا مروان"
_"وأنا بحبك يا ست سيلين"
قالها بابتسامة كبيرة وتحركا سويًا يصليان ركعتان شكر لله، وقد أنهى إجراءات السفر في أيامٍ وتحركا سويًا من مصر نحو السعودية، تحديدًا نحو مكة المكرمة لأداء فريضة العمرة.
وقفا سويًا هنا أمام الكعبة كل منهما يدعو بقلبه وبما يتمنى ودعى ربه بقلبٍ متمني وعينان تفيضان بالحب الشكر لله:
"يارب أجعلها زوجة صالحة ليا في الدنيا، واسكنها معي في جنة الآخرة، اللهم إني أسألك أن تهدي بالها، وتصلح قلبها، وأن تثبتها على الطريق المستقيم، اللهم أجعلها من عبادك الصالحين الذين تقول لما يدعوك به كن فيكون يا أكرم الأكرمين، اللهم أغفر لها ذنوبها وخطاياها وضاعف لها حسناتها، اللهم احفظها بعينيك التي لا تنام، فإن ما يُسيئها يُسيئني، ولا تحرمني منها وارزقنا الذرية الصالحة التي ستعوض علينا أيامًا عديدة صعبة"
كانت تستمع لكل ما دعى بقلبٍ مرتجف ومررت بصرها من عليه للكعبة أمامها واغمضت عينيها تبكي، ولكنه لم يكن بكاءًا حزينًا، بل كان بكاءًا لشدة سعادتها بأن الله وضعها في هذا الطريق الصحيح بعد أيامٍ كثيرة بها أخطاء كثيرة، شاكرة الله على زوجٍ مثله في حياتها.
_”بسم الله على قلبك حتى يهدأ وتستقر أوجاعه، بسم الله على قلبك حتى يطمئن"
قالها بابتسامة واسعة لتطالعه وهي تردد خلفه:
"آمين يارب ياحبيبي"
«نهاية الذكرى»
أثناء جلستها هنا رفقة أطفالها الثلاثة وهو في عمله كانت شاردة في عدة أشياء لم تنساها يومًا بل ظلت تتردد على عقلها بكثرة، ولكن هناك ما هو عالق في قلبها.
«الذكرى»
_"مروان"
نادته وهي تجلس جواره تتابعه بعينيها التي تستقر عليه منذ فترة بينما هو يحتضن ابنه الرضيع الذي أتى قبل عدة أيامٍ في منتصف الليل:
"نعم يا ست سيلين؟"
أدار رأسه نحوها وهو يجيبها بابتسامة وعلى وجهه علامات النعاس وهي الأخرى، فصغيرهما ايقظهما في منتصف الليل كما عادة الصغار في سنه:
"متعبتش؟"
_"من إيه بالظبط؟"
سألها باستغراب لتجيبه بتنهيدة:
"من القعدة دي، هاته شوية عنك!"
قوس حاجبه وهو يطالعها لبعض الوقت بينما أجاب بعدما مرر بصره من عليها «لكنان»:
"مبتعبش منكم أبدًا يا سيلين، متقوليش كدا تاني، وبعدين دي حاجة قليلة أقدر أعملها واساعدك فيهم"
ابتسمت بحنانٍ وقالت بمراوغة:
"بس أنا لسه عاوزة أجيب كمان بيبي!"
ضحك بخفة يشاكسها بكلماته هو الآخر:
"والله ماحد بيفرفر غيرك أنا معنديش مشكلة خالص"
لكمته في كتفه ليضحك بخفة قائلًا:
"نجيب كمان واحد، أو بنوتة، ونكمل قافية النون دي بس يكبر كنان شوية ان شاء الله"
تثائبت بتعبٍ وأومأت له، بينما هو استلقى على ظهره وبين أحضانه الصغير واقتربت هي الأخرى تستند على كتفه بابتسامة واسعة:
"ربنا يديمك ليا"
_"ويديمك لقلبي أنتِ وياسمين وكنان"
قالها بينما عينيه تغلق بتعبٍ وغفيا سويًا بسبب كثرة إيقاظ «كنان» لهما.
«نهاية الذكرى»
وهكذا أقول وداعًا، وأن الخاتمة أصبحت هنا، في منزل شاب فَقد وعُوض، تَعب وشُفي، والآن أصبح لديه عائلة يعود إليها يوميًا لينعم بدفء لم يحظي به يومًا، مع زوجته وأطفاله.
كان فتى وأصبح رجلًا،
نال منه الحب وتمكن من قلبه،
وأصبح يبحث عن سعادتها في كل الإرجاء،
فعندما تعبر له عن سر انطفائها،
يحاول بشتى الطرق أن يجد لها شمس لتشرق قلبها،
وكان قادرًا على تحويل جفاف قلبها إلى رطبٍ دافئ.
_"يا ابن الـ..."
كاد أن يسب ابنه الذي ضايقه ليأتيه صوتها من الداخل بتنبيهٍ:
"حمــزة"
زفر بضيقٍ وهو يتوعد لابنه صاحب الأربعة أعوام الذي كان يشبهه بشكلٍ كبير ولكنه كان يملك عينين خضراوتين كأمه، يتمتم بضيقٍ:
"أبو التربية الإيجابية عالمسا، يا حبيبي قولتلك مليون مرة يا «براء» يا حبيبي، الباء غير التاء، الباء النقطة تحت، والتاء النقطتين فوق"
_"ماشي أهو، أنا كاتب كدا، باء بهيمة تاء تفاحة"
وضع «حمزة» يده على فم ابنه سريعًا وهو يسأله بصوتٍ منخفض:
”مين قالك بهيمة دي ياض؟"
_"عمو عبدالله، قولتله يعني إيه قالي حاجة حلوة زي أبوك كدا"
قالها الصغير «براء» ببراءة بينما عض «حمزة» شفته السفلية بضيقٍ يتوعد لصديقه الذي ينقل لابنه ألفاظًا سيئة إن سمعتها «رزان» لأكلتهم جميعًا دون ملح.
_"طب ياحبيبي متقولهاش تاني بقى، باء بطة تاء تفاحة ماشي!"
قالها له يفهمه بصوتٍ منخفض ورفع بصره ليجدها تقف أمامهما حاملة بين ذراعيها صغيرته الجميلة وتتابعهما بتوجسٍ:
"أنتو بتقولوا إيه؟"
كان شعرها الآن يصل لمنتصف ظهرها، زرعت الحياة بداخلها وبدى عليها إشراقة بالغة كان سببها الحبيب، تقف أمامهم الآن تطالعهما بنظراتٍ ثاقبة ليصدر صوتًا من حلقه متنحنحًا:
"مافيش، الواد وأبوه بيقولوا كلمتين، قوم يا براء أنزل لتيتة يا حبيبي أقعد معاها شوية عشان أنا رايح الشغل، ولما أرجع نكمل مذاكرة"
ثم رفع يده لتعطيه الصغيرة صاحبة السبعة أشهر بعينيها البنية مثله والتي يختلف شكلها يومًا بعد يوم ولكنها تمتلك مزيجًا من ملامحه وملامح زوجته، كان يبتسم بحبٍ:
"صباح الحلويات والجمال على عيون «مسك» الغالية"
ابتسم الصغير وركض لخارج الشقة نحو شقة جدته بالاسفل، بينما هي جلست جوار «حمزة» تتابعه يدلل صغيرته بحبٍ كبير، تنهدت بقوة بعدما أنعم الله عليها بالذرية الصالحة بعد سنتين من عدم الإنجاب لمشاكل واجهتها كان سببها «نادر».
أتى على بالها ذكرى لن تنساها يومًا بل هي بالأساس لم تنسى يومًا كل ما فعله «حمزة».
«الذكرى»
في ذلك اليوم الذي علمت أنها لن تنجب بسهولة كان الحزن طاغيًا على قلبها، فهي كان ما دعت به ربها ستعاني للحصول عليه وبسبب تجربتها السابقة التي جعلت حياتها بأكملها تنهار، وها هي وقفت الآن على قدميها لتعيد بناء البيت الذي سيكون به الحب والرحمة والمودة.
وصل من عمله مساءً وولج للشقة وهو يمرر بصره في الأرجاء باحثًا عنها بعينيه، لم تستقبله اليوم كعادتها لذلك خفق قلبه بخوفٍ عليها ونادى بصوتٍ هادئ:
"رزان، أنتِ فين؟"
خرجت من الغرفة بعينيها المنتفخة من البكاء ووقفت أمامه قائلة بصوتها المختنق:
"موجودة أهو، حمدلله عالسلامة ياحمزة"
عبس بخوفٍ وتقدم يرمي أغراضه وهو يمسك يدها بين يديها:
"بتعيطي ليه، في حاجة ولا إيه؟"
بكت مجددًا عندما سألها هكذا سؤال اوجع قلبها، وعانقته بقوة ليبادلها ذلك العناق وهو يمسد على شعرها بحنانٍ وبصوتٍ قلق ورعبٍ حاوطه:
"مالك يا رزان، في إيه ياحبيبي مين مزعلك ولا حصل حاجة؟"
لم تجيبه بسبب كثرة البكاء وتلك الحالة التي ولجت لها مجددًا ولم يرها بها منذ زمنٍ بعيد، مما جعل قلبه ينقبض وزاد خوفه عليها ولكنه ظل يربت عليها ويكرر سؤاله:
"طب استهدي بالله وأهدي كدا، وبعدين احكيلي في إيه، أهدي عشان خاطري!"
_"كل حاجة كل حاجة لسه بتفكرني بكل وجع شوفته زمان، عمالة أحاول اتخطى مش عارفة، كل حاجة بترجعني تاني لنقطة الصفر"
أغمض عينيه بقوة يحاول التحكم بنفسه لغيرته المفرطة عندما تذكر أمامه سيرة زوجها السابق، ووضعها لا يسمح لها بالحديث بشكلٍ سخيف أو ماشابه، لذلك يكتم كل ذلك بداخله دون أن يعبر عنه، غيرته عليها كانت كبيرة وبدرجة أكبر من العادي، ولكنها كانت تستقبلها بكل حبٍ وتتفهم كل فعل يقوم به.
_"ليه بتقولي كدا، حصل إيه؟"
سألها بتنهيدة، لتجيبه من بين شهقاتها:
"روحت كشفت وعندي مشاكل لازم تتعالج الأول عشان أقدر أحمل وأخلف، والعلاج ده ممكن يطول كتير أوي وممكن ميطولش، مش عارفة بس الدكتورة قالتلي إنه هيطول في حالتي"
ابتلع غصته، فهو حبه للأطفال كان كبيرًا، وتعلقه به أكبر وأشد، وهذا الخبر صدمه مما جعله لا ينطق بكلمة واحدة وظل صامتًا لفترة حتى قررت هي الإبتعاد قليلًا وهي تقول بخيبة أمل:
"عندك حرية الإختيار مش هغصب عليك، لو مش عاوز نكمل و.."
وضع إصبعه على فمها وعاد يضمها له بقوة وهو يقول بتنهيدة:
"مرينا بحاجات كتير صعبة، وأكيد ده كمان هيمر، وكل حاجة هتكون كويسة حتى أنتِ وهنستنى لحد ما تبقي كويسة وتقدري تجيبي عيال، هستناكِ العمر"
ابتعد بعد وقتٍ قليل وجذبها معه ليجلس جوارها على الأريكة ويديها بين كفيه في حنانٍ بالغ:
"ممكن تهدي عشان مش عاوز أشوفك زعلانة كدا، إحنا ما صدقنا كل حاجة بقت كويسة الحمدلله وحياتنا مستقرة، وعادي الخلفة وقت ما ربنا يحين أنا مش مستعجل، أهدي ماشي"
_"يعني مش زعلان مني؟"
سألته وهي تنظر لعينيه
هز رأسه بنفي بابتسامة متغزلًا بها:
"وهو حد يزعل من جوز العيون الخضر دول، عيب"
ضحكت بخفة على تعليقه ليجذبها لأحضانه اكثر بقوله بمشاكسة:
"العــب، وبعدين بقولك إيه أنا لو رجعت تاني من الشغل وملقتكيش بتستنيني زي العادي عالباب تديني بوسة عالخد ده والخد ده هنزعل سوا، الاهتمام مبيطلبش بس أنا هطلبه عادي"
شددت على عناقه بابتسامة عريضة:
"حاضر، هستناك كل يوم والله"
«نهاية الذكرى»
تحرك «حمزة» من شقته نحو عمله ليقابل أصدقائه الأربعة في طريقة فأنقض يمسك «عبدالله» من تلابيبه وهو يقول بحدة ساخطة:
"أنت بتقول لبراء باء بهيمة زي أبوك، أنت هتتربى امتى يالا!"
ضحك عليهما «مروان» فهما هكذا بالعادة ليبعده «عبدالله» بسخرية قائلًا:
"معلش خليها عليك، حبة من اللي كنت بتعمله فعيالنا"
نظر «حمزة» ببراءة لكلًا من «مروان» و«آسر» يقول:
"هو أنا عملت حاجة؟"
_"لا ياقلبي برئ، برئ موت ياحبيبي"
«في تلك الذكرى»
_"يلا ياقلبي أما ننزل الدورين هيكون بكرا جه!"
كانت مُمسكة بيدها الدمية خاصتها وتنزل الدرج ببطءٍ شديد، زفر بقلة صبرٍ ثم أمسكها من ملابسها من الخلف مراعيًا عدم خنقها، ونزل بها الدرج كله وهو يقول لنفسه:
"يارب أبوكِ ما يكون واقف تحت وأنا شايلك كدا عشان هيعمل مني بوفتيك"
وما كاد ينهي جملته حتى بالفعل وجده يقف عند أول السلالم متوجهًا لأعلى، توسعت حدقتاه بصدمة وهو يرى ابنته الصغيرة بين يد هذا المتوحش!
_"إيه اللي أنت عامله في البت ده ياحمزة، حد بيشيل طفلة عندها سنتين بالشكل ده!"
أسرع خطواته نحو ابنته يحملها بين أحضانه وهو يربت على ظهرها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، اسم الله عليكِ ياحبيبي!"
طالعه «حمزة» حانقًا بعدما ردد بنبرة بها العطف على ابنته، وأجابه حانقًا:
"شوية مراتك وشوية بنتك، أنت مبقتش بتحبني يا مروان"
_"هو أنا خلفتك ونسيتك ولا إيه، أجري عند مراتك وابنك، وحسك عينك أشوفك شايل ياسمين كدا تاني يا حمزة، قولتلكم عاملوها كأنها لوح بسكوت هيتكسر باللمس، أقولك محدش يقرب من بنتي يالا أنت وهو"
كان الآخر يطالعه ساخطًا وهو يقول بإصرار:
"أنا أصلًا قولتلك إني جاي أخدها، هاتها وأتكل أنت على الله"
وما كاد ينهي جملته حتى استمعا لصوت الآخر من الأعلى يركض على الدرج خلف زوجته، زوج مجانين لم يعقلهما الزواج.
_"العمارة دي هسميها عمارة المطرقعين في دماغهم، كلكوا مجانين والله عشان كدا ياسمينة العسولة مينفعش تقعد هنا مع أشكالكم"
قالها «حمزة» ورأسه مرفوعًا لأعلى يلمح طيف «عبدالله» خلف زوجته، ثم أقترب يحمل «ياسمين» بابتسامة واسعة ولوح بيده «لمروان»:
"سلام يابابي"
قلد نبرة الطفلة وكأن الحديث من «ياسمين»، وخرج «مروان» خلفه يتابعه في سيره حتى يطمئن قلبه بالرغم من ثقته العمياء بصديقه، ولمح كلًا من «آسر» الذي كان آتيًا من منزله و«عبدالله» الذي خرج من البناية.
_"هو مش ده حمزة وياسمين؟ هو حمزة لامم العيال عنده ليه لسه واخد من شوية ليان!"
قالها «آسر» باستغراب ليقول «عبدالله» شاكرًا:
"الحمدلله إن ابني لسه في بطن أمه، كان زمانه جاله صرع من اللي حمزة بيعمله في العيال، أنا عارف إنه بيحب العيال الصغيرة بس مش لدرجة إنه لاممهم في شقته بالشكل ده كل ما يلاقي نفسه فاضي"
_"بطن أمه؟ وأنت بتجري وراها عالسلم عامل حساب إنه في بطن أمه!"
نطق بها «مروان» ساخرًا ليجيبه الآخر بثقة:
_"بهزر معاها، إيه مهزرش مع مراتي ياجدع وبعدين رياضة عشانها هي والواد لما يجي يبقى رياضي زي أبوه"
قالها بحنقٍ ليردف «آسر» بسخرية:
_"رياضي إيه ياعبدالله أنت ضارب كبدة في نص الليل امبارح معايا"
دفعهما «عبدالله» قائلًا بسخطٍ:
"أنا غلطان إني واقف مع أشكالكم، عندي ورشة سلام"
ودعهما وغادر وكلًا منهما ذهب لعمله بينما الآخر كان جالسًا أمام كلًا من «ليان» و«ياسمين» يلاعبهما وما إن لمح الصغيرة «ليان» تحاول أن تأخذ لعبة من «ياسمين» أشار لهما بيده على رقبته يهددهما بالدبح:
"بت أنتِ وهي، اللي هتتخانق فيكم هدبحها"
_"حمزة؟ أنت بتقول للبنات إيه؟"
قالتها «رزان» التي كانت تجلس جوارهم تشاهدهم بكل حب، ليطالعها بسخطٍ:
"الأشكال دي انا عارفها كويس، سبيني أنا هربيهم"
ضحكت بخفة وتقدمت نحوهما واقتربت تقبلهما بحنانٍ:
"متخافوش ياحبايبي، العبوا سوا يلا ومتزعلوش!"
_"وأنا وأنا عاوز بوسة زيهم"
عبر بغيرة وهو يطالعها هي والصغيرتان لتقهقه بخفة وتقترب له تقبله على خده ليقول بمشاكسة:
"أقوم أروحهم واجيلك يا جميل أنت"
ابتسمت بخجل وهمست له:
"بسرعة بقا"
_"العب، حالًا"
ثم أمسك الصغيرتين وتحرك بهما قائلًا:
"يلا ياختي الفرح خلص أنتِ وهي"
«عودة من الذكرى»
_"وفيها إيه، هو أنا يعني كنت بكرهبهم، ده أنا كنت بجمد قلوبهم عشان ميكنوش بنات خفاف كدا"
قالها ساخطًا وهو يمرر بصره عليهم، فهو حينما أنجب «عبدالله» كان مشاكسًا مع ابنه أيضًا وحتى أبنائه هو كان معهم هكذا.
تنهد «مروان» بسخرية وهمس:
"ده إحنا ربنا نجدنا لما خلفت واتشغلت بعيالك"
تقدم نحوه «حمزة» يهمس بتهديدٍ:
"سامعك بتقول حاجة، بتقول حاجة ولا إيه يا شيخنا ياللي بتسيب قعدتنا وتجري عشان الست ياسمين والست لين والولا كنان"
هنا تدخل «آسر» وهو يبعده بسخرية:
"اومال هيقعد مع أشكالك أنت، لو كان واعدك وخالف معاك مش هتقفله وتعامله كدا"
_"متقلقوش ناوي أعوض وهجوز البت لين حبيبة قلبي للواد براء"
قالها بكل ثقة وهو ينظر بطرف عينه «لمروان» الذي تشدق بقوله:
"وأنت مين قالك إني هجوز ياسمين ولين أصلًا، أنت بتحلم"
نفض «حمزة» عن كنزة «مروان» بقوله:
"إحنا بنعرفك مبناخدش رأيك، البت دي مرات ابني، وبكرا هوريك، يلا عندي شغل تشاو"
ثم تركهم وغادر ليحرك «عبدالله» رأسه بقلة حيلة:
"ربنا يشفيه يارب لو تعبان في دماغه، أنا رايح أجيب الدوا عشان العيال مولعة وتسنيم هتاكلنا إحنا الكل كمان شوية"
تنهد «آسر» مستفسرًا بقلقٍ:
"الدكتور قال عندهم إيه طيب؟"
_"بيقول عدوى بس هما عشان سوا لقطوها لبعض، وبيقول التوأم علطول تعبهم بيكون سوا، أنا والله تعبت ياريت أبوها كان رفضني للمرة التامنة وكنت ريحت دماغ أمي!"
قالها حانقًا وهو يزفر بضيق ليقول «مروان» بسخرية:
"والله كان زمانك اتجننت وجالك حالات نفسية ملهاش علاج، روح يابني ربنا يشفيهم ويعافيهم"
**********
أعتاد على الرفض دومًا ولكنها حينما تسللت لحياته فحولت ما يعتاد عليه للأمان، حيث لم يمر يومًا سوى وهو يشعر بأنه وسط احلامه ينعم بكل ما كان يدعو، وسط كل ما يحب ومن يحب، وشعور جميل يحاوطه لا يمكن وصفه حتى.
أشترى الأدوية لطفليه التوأم الذي كانا بالنسبة له مفاجأة حينما حملت بهم «تسنيم» في مرتها الثانية، ولج للمنزل ليستقبله ابنه الكبير «حازم» بابتسامة واسعة:
"بابا وصلت، يلا بسرعة عشان «عهد» و«وعد» تعبانين أوي"
نعم كان اسم أحدى طفلتيه على اسم أخته الحبيبة، والتي كان تفكيره وأكدت عليه «تسنيم» في ذلك القرار ليكون إحياء لذكرى أخته دومًا بينهم.
_"يلا يا حبيبي، جبت الدوا أهو"
قالها بابتسامة واسعة وتوجه ناحية الغرفة مُمسكًا بيد صغيره الذي يبلغ من العمر خمسة سنواتٍ ويملك ملامحًا تجمع بينه وبين «تسنيم»، وجدها تجلس وابنتيه بين أحضانها تضع لهما الكمادات الباردة لتنخفض حرارتهما:
"إيه الدنيا، مافيش تحسن؟"
جلس جوار الصغيرتين النائمتين، كانتا بعمر الثالثة ومتشابهتين بدرجة كبيرة، وكلاهما مزيجًا بين «تسنيم» و«عبدالله»:
"الحمدلله أحسن شوية، هما لسه نايمين لما يصحوا هديهم الدوا، خليك جنبهم لحد ما أقوم أخلص الغدا"
تنهد وأومئ برأسه بإيجاب وجلس هو جوارهما بدلًا منها وجلس جواره «حازم» يتابعهما معه، كان الصغير يحبهما بشدة ويخاف عليهما من الهواء المار أو من أن يتحدث معهما شخصٌ ما بسوءٍ!
_"بابا هما هيكونوا كويسين صح؟"
سأل بتنهيدة وقلقٍ ليبتسم «عبدالله» وقبّل رأسه بابتسامة حنونة:
"آه ياحبيبي ان شاء الله، هما عندهم دور برد بس وهيبقوا كويسين"
أكمل الصغير بحديثه معبرًا عن حبه لهما بحديثٍ مبعثر غير مرتب لصغر سنه:
"أنا بحبهم أوي وبخاف عليهم يحصلهم أي حاجة، مش عاوز يحصلهم حاجة حتى مش راضي العب من غيرهم ومستنيهم يصحوا عشان العب معاهم"
ضمه «عبدالله» لاحضانه بابتسامة واسعة وهو يقول بحبٍ:
"هيقوموا ياحبيبي وترجعوا تلعبوا تاني، متقلقش ان شاء الله"
ثم استند به بين أحضانه وهو جوارهما، حتى غفى «حازم» بين أحضانه وتوجه هو ناحية المطبخ يتابع الطعام مع «تسنيم»:
"متمدش إيدك في حاجة عشان أنت وجودك في المطبخ بيولعه"
_"أنا غلطان إني داخل أساعدك"
زفر بحنقٍ وطالعها وهو يبتسم بخفة مشاكسًا إياها:
"لا بس كبرتي يا تسنيم ومبقتيش حمل الهزار"
_"أنت مسمي هزارك ده هزار يا عبدالله، أنت فاكر آخر مرة لما هزرت معايا روحت للدكتور"
قالتها بسخرية متشدقة في حديثها، ليزفر بضيقٍ فهي دومًا تذكره بأنه في إحدى الأيام كاد يصيبها بارتجاج بالمخ من مزحه.
«الذكرى»
_"يابت اسمعي والله لعبة حلوة، إحنا هنمسك زجاجة المياه دي، فيها نصها مياه اهو تمام؟ هنسأل بعض أسئلة ولازم تجاوبي خلال خمس ثواني بأي إجابة تيجي في دماغك واللي ميجاوبش بسرعة أو يجاوب غلط هيتضرب بيها على نافوخه"
كان يخبرها بقوانين اللعبة وهو يقيدها بين يديه بينما هي تحاول الفرار منه بقولها:
"لا أنا مش هلعب معاك تاني، أنت بتغش وغشيم، أبعد عني"
_"وربنا لنلعب، اتهدي"
ثبتها لتزفر بقلة حيلة وهي تتابعه بينما هو ابتسم بخبث متذكرًا سؤالًا وطرحه عليها ببساطة:
"لما قولتلك بحبك كان المكان فين عشان أنا عارف إنك مش هتفتكري التاريخ"
شردت لتتذكر فهو يعلم أنها تنسى بسهولة ومرت الخمس ثوانٍ ولم تجب لتجد الضربة على رأسها بقوة لتصرخ بألمٍ:
"أنتَ بتهبب إيــه؟"
_"بس يابت يانساية ياللي مش مهتمة، جاوبي لحد ما تجاوبي صح هيبقى دورك، إيه أكتر أكلة بحبها؟"
حاولت أن تجيب بسرعة ولكنها فشلت في الإجابة بقولها نوعية أخرى يحبها ولكنه كان يحب غيرها أكثر:
"غلط مش المكرونة بالبشاميل، بحب السمك أكتر"
ثم تلقت ضربة أخرى وتلاها سؤالٍ ثالث أجابته بشكلٍ خاطئ فتلقت الضربة الثالثة، ولكن عندها بدأت الرؤية تشوش بالنسبة لها ومالت عليه بدوارٍ شديد:
"نهار فل مالك يابت، أنتِ هتموتي ولا إيه؟"
بالفعل هي تعبت يومها ونقلها للمستشفى بسبب مزاحه السخيف ومنذ ذلك اليوم لم تدعه يمزح معها أبدًا بل كانت تصرخ بوجهه وتلقي عليه جميع الوسادات!
«نهاية الذكرى»
جلسا سويًا رفقة الأولاد بينما الصغيرة «وعد» تتوسط أحضانه وأمامه يجلس «حازم» ومعه «عهد».
نبست «وعد» من بين أحضانه بابتسامة:
"جدو وتيتة هيطلعوا امتى؟"
سألت ليبتسم بخفة مجيبًا:
"شوية وممكن يطلعوا أو نبقى ننزلهم إحنا!"
بينما «تسنيم» تحركت من مكانها نحو المطبخ تعد لهم العصير المفضل ليغذيهم، وجلست توزعه عليهم بابتسامة واسعة وهي ترى بماذا يلعبون لتساعدهم وتشاركهم في فعلتهم.
وهذا بيتهم الذي ملئه الدفئ بوجود الصغار به، وحلت البركة والرزق الوفير لأجلهم.

«ذكريات لن تزول»
كانت حياته مليئة بالصعاب، وكلما ظن أن الطريق قد استقام، واجهته الرياح بما لا يشتهي.
عاش سنوات طويلة يبحث عن ذلك الشعور بالسكينة في ظل السحر الذي سيطر على حياته وقلبها رأسًا على عقب، يبحث عن شيء يملأ الفراغ الذي يثقل روحه، كان دائمًا يعتقد أن كل ما يريده بعيد المنال، لكن في أعمق لحظاته ضعفًا، حينما لم يكن يملك إلا الدعاء، جاءه العوض من الله، فجأة، وبطريقة لم يكن يتوقعها.
عندما يفكر في الماضي، يرى الآن أن كل خطوة كانت تقوده نحو هذا العوض؛ كل ألم، كل خيبة، كانت تمهيدًا لما هو أفضل، لم يكن العوض فقط في الأشياء المادية أو الأشخاص الذين دخلوا حياته، بل كان في السلام الذي شعر به في قلبه، في الطمأنينة التي ملأت روحه بعد أن كانت مشتتة.
الآن، يشعر أن الله لم يخذله أبدًا، بل كان يهيئ له الأفضل حينما لم يكن هو نفسه مستعدًا. أدرك أن العوض لم يكن مجرد تعويض عن الخسارات، بل هو هدية، نعمة تغمره، تجعل كل شيء مضى يبدو كأنه جزء من رحلة نحو هذه اللحظة.
ابتسامته الآن أكثر صدقًا، وقلبه أكثر طمأنينة، يعرف أن الله لا ينسى أحدًا، وأن العوض يأتي بأجمل الأشكال عندما نتعلم الصبر والتسليم، لقد عوضه الله بطرق لم يكن يتخيلها، وأصبح ممتنًا لكل ما مر به، لأن كل شيء كان جزءًا من خطته العظيمة.
_"ليــان!"
نادى بصوتٍ مرتفع بعد دخوله من باب المنزل لتسمعه ابنته التي أتت من الداخل راكضة له وعلى فمها تعتلي ابتسامة واسعة:
"حمدلله عالسلامة يابابا"
هكذا كان الترحيب اليومي من ابنته الكبرى وأول فرحته، فقد رزقه الله بثلاثة بنات وأطلق عليه مروان لقب "أبو البنات" وظل الاسم يتردد على مسامع الجميع حتى أصبح القريبين منه ينادوه به:
"الله يسلمك ياحبيبي أنت، فين أخواتك وماما؟"
_"ماما جوا بتذاكر لـ لينا، ومريم نايمة"
في الحقيقة تلك الأسامي التي لاقت بشكلٍ كبير مع اسم «ليان» وأيضًا «مرام»، كانت من إختيار «آسر» الذي أراد أن يكون بمنزله نسختين من كل شيء، التوافق بين «ليان» و«لينا»، وأيضًا بين «مرام» و«مريم»، هكذا اختارهم بعناية، جميعهن بعيونٍ خضراء مثله هو وأمهم، والصغيرة كانت تمتلك خصلات ذهبية، بينما الكبار «ليان» و«لينا» بخصلاتٍ بنية أقرب للذهبي، العين التي تقع عليهم تطمع بهذا الجمال الأخاذ الذي يملكونه.
خرجت «لينا» من تلك الغرفة المخصصة لهن وهي تركض نحوه تحتضنه، كانت أصغر من «ليان» بسنتين، حيث الكبير بعمر الثامنة، وهي بعمر السادسة.
_"خلصتِ مذاكرة؟"
بادلها متسائلًا وهو مازال على حاله بملابس العمل لتومئ له الصغيرة بقولها وهي تقبله على خده:
"خلصت الحمدلله، تعبت تعبت"
_"لسه شوية، إحنا لسه بنقول يا هادي!"
قالها بنبرة تشجيعية ليسمعا الصوت الرقيق الذي لطالما ظل هكذا يتجه نحوهم:
"وعشان تبقي مهندسة زي بابا، لازم نذاكر ومنقولش تعبت تعبت"
ضحك بخفة عليهن بينما هي اقتربت تقبله على خده برقة مُرحبة به في منزله:
"حمدلله عالسلامة ياحبيبي، قوم غيّر يلا عشان ننزل نتغدى"
على عهدهم سابقًا في كل يومٍ يتناولوا الطعام مع أمه، وفي بعض الأيام تصعد هي لشقتهم لتقضية يوم كامل مع أحفادها وفلذات كبدها.
_"حاضر"
قالها مبتسمًا وتحرك نحو الغرفة لينعم بحمامٍ دافئ ثم خرج يُخرج من الخزانة ملابسه ولكن هناك صورة ما وقعت أرضًا، مال ومسكها ليجدها صورة له ولها في ذكرى زواجهما حينما صنع لها مفاجأة كبيرة وقام بتنظيم عرس بسيط يجمعه هو وأصدقائه وزوجاتهم لتعويضها.
«الذكرى»
_"أنت مش مظبوط ليه، عمّال تدخل من الأوضة دي للأوضة دي وتقفل على نفسك بشكل غريب!"
وقفت أمامه واضعة يديها في خصرها وهي تتحدث بصوتٍ حانق ليزفر بضيقٍ:
"بخونك، ابعدي بقى عشان الماتش شغال"
توسعت حدقتاها بصدمة ولم تتحرك إنشًا واحدًا وهي تقول بدراما مثلّتها في ثوانٍ:
"على فكرة كنت حاسة، إحنا الستات بنحس لما بتحاولوا تعملوا حاجة من ورانا وأنا كنت حاسة يا آسر إنك بتخوني"
أومأ لها برأسه فقط ولم يعرها اهتمام بل بدّل موضعه لمكانٍ آخر حتى يستطع مشاهدة المباراة، بينما هي جرت خذلانها به وتوجهت نحو غرفتها جوار ابنتها الصغيرة صاحبة السبعة أشهر.
تعلم إنه لا يخونها ولم يفكر بذلك ولكن تلك الهرمونات التي تمتلكها المرأة تسيطر عليها وعلى تفكيرها لتنغص عليها حياتها بأكملها.
في صباح جديد استيقظت من النوم لتجد رسالة على طرف الفراش ومعها بعض الورود ذات اللون الأبيض، مسحت وجهها جيدًا بيدها ومدت يدها تسحب الرسالة لتجد مدوّن بها
«صباح الجمال والدلال على عيون المدللة مراتي النكدية البومة، عمومًا أنا مبخونكيش ولا حاجة بس كنت بحضر لمفاجأة جميلة كدا شبهك، أمي هطلعلك دلوقتي حاجات اجهزي والبسيها، وأنا ساعتين وهكون عندك عشان نحيي ذكرى جوازنا الأولى.. بحبك»
ابتسمت بتوسعٍ وملأت الدموع عينيها من السعادة التي شعرت بها وحاوطتها وفرط المشاعر التي داهمت قلبها وكيانها، أمسكت الورد وتشممت رائحته الجميلة بابتسامة واسعة، ثم تحركت تغسل وجهها وخرجت لابنتها تطعمها حتى صعدت أمه وأعطتها ما تركه لديها «آسر» وأخذت منها الصغيرة «ليان» لتهتم بها.
أتى في الوقت الذي أخبرها عنه مرتديًا بدلته السوداء وكان أنيقًا متألقًا كما عادته، وصل نحو غرفتهما ووقع بصره عليها بفستانها الأبيض البسيط الذي كان ينساب حولها كأنه جزء من النور الذي يحيط بها، الفستان ليس فخمًا، لكنه يحمل في طياته براءة البدايات، ونقاء اللحظة التي تمنت يومًا أن تعيشها.
كانت تنظر إلى «آسر» بعينين تلمعان وكأنهما عاكستين بريقًا بلونهما الأخضر الذي تتسلل من بين أغصان الشجر.
تقدم نحوها وما بداخله ليس إلا فرحًا لمحاولة تعويض ما فاتهما، كان ينظر إليها نظرة حملت سنوات من الشوق والصبر، وكأنها الوردة الوحيدة في بستانه.
رفع كفه يمسك بيدها، كان بإمكانها أن تشعر بحرارة يده تتسلل عبر أصابعها، وتهدأ من نبض قلبها المتسارع وهمس بنبرة عاشق:
"ياولا ياولا، كنت متخيل الفستان يكون حلو عليكِ، بس مكنتش متخيل يكون بالحلاوة دي، هو أنا قولتلك قبل كدا إن عيونك دي ساحرة؟"
ضحكت برقة خجلة واقتربت تعانقه بكل ما أوتيت من قوة وهي تجيبه بأنفاسٍ حاولت أن تجعلها هادئة:
"بحبك أوي أوي، شكرًا لكل لحظة بتحسسني فيها إن كل حاجة كويسة وأنت جنبي وبتعوضني، أنا متكلمتش على حوار إني كان نفسي يبقى ليا فرح، بس أنت عملت كل اللي كنت بحلم بيه، ربنا يخليك ليا"
بادلها العناق وهو يربت على ظهرها بحبٍ كبير:
"اجيبلك النجوم لو تحبي يامرام، وأعملك كل اللي نفسك فيه حتى لو مقولتيهوش يا ست الحُسن!"
كان التعبير عن الحب هذه المرة كبير بينهما مليء بالمشاعر الفياضة.
أخذها نحو الحديقة التي أعد بها كل شيء، بسيطة بها بعض الزهور، يوجد بها عدد طاولات محدود وعلى كل واحدة يجلس اصدقائه بزوجاتهم.
تقدمت ويدها بين يديه في تشابك قوي، وهمست بصوت هادئ مليء بالدهشة:
"مش قادرة أصدق اللي عاملُه يا آسر، ده كأنه حلم!"
صوتها كان مليئًا بالعذوبة، وكأنه لحن يعزف في خلفية هذا المشهد الرومانسي.
ابتسم ابتسامة كانت عميقة، مثل شخص عاش طويلًا لينتظر هذه اللحظة تحديدًا، نظر إليها وكأنه يتفحص كل تفاصيل وجهها ليحفظها في ذاكرته ويحفظ فرحتها تلك في هذا اليوم الذي سيكون تعويض لها لكل ما عاشاه سويًا.
همس بصوت دافئ، مليء بالحب:
"كان لازم أعوضك، حتى لو بعد سنة، المهم إن اللحظة دي دلوقتي ملكنا إحنا."
كان يحمل ثقل الوعد بين طيات حديثه، يعبر عن حرصه على منحها ما تستحق، حتى لو تأخر الوقت.
خلفهم كانت ضحكات الأصدقاء تعلو وصوت صفير خرج من فم «حمزة» الذي شاكسهما بقوله:
" الواد آسر، إنت بجد طلعت رومانسي أكتر مما كنا فاكرين، مين كان يتوقع ده يكون بالخبث ده، صحيح ياما تحت السواهي دواهي!"
ضحك الجميع على حديثه، بينما «مرام» ابتسمت بخجلٍ وهي مازالت تحت تأثير اللحظة هذه، تشعر وكأن قلبها يرقص بين ضلوعها.
كان الجو مليئًا بالبهجة، خليط بين الدفء والحنان. أصوات الأصدقاء حولهم تمنحك شعورًا عميقًا بالراحة والانتماء.
«عودة من الذكرى»
أغلقت الأضواء على بناتها وتركت لهم ذلك الضوء الخافت حتى لا يخافا، ثم تحركت نحو غرفتهما لتجده جالسًا وبين أحضانه الصغيرة مدللته، جلست جوارهما بابتسامة واسعة وهي تردف:
"محدش بيعرف يكلمك وأنت شايل الست مريم، يابختها"
ضحك بخفة وهو يغمزها بطرف عينه قائلًا:
"أنت الأصل ياكبير، وبعدين ما هي اللي حلوة زيادة ولعبها بيشدني"
_"هي اللي ظالمة فعلًا وأنت برئ يا آسر"
استندت بظهرها على الفراش وهي تتابعهما بابتسامة واسعة وداخلها يشعر بالراحة والاطمئنان بعد سنين شاقة مروا بها.
متذكرة تلك الليالي التي كانت تظل مستيقظة بها لا تستطع النوم خوفًا من الفراق، خوفًا من أن يصيبهما شيء ما ينهي كل اللحظات السعيدة.
«الذكرى»
كانت تجلس على طرف السرير، ونظراتها تحمل قلقًا عميقًا كأنها عاصفة داخل قلبها. يلتف شعرها الأسود حول وجهها، وعينيها اللامعة الخضراء منطفئة بشكلٍ مقلق، وجبينها مُشبع بتجاعيد القلق.
بينما هو يقف أمامها، ملامحه تحمل مزيجًا من الحيرة والرغبة في الاطمئنان
همست بصوتٍ متقطع، كأن كلماتها تتعثر في حلقها:
"آسر، أنا خايفة... خايفة من اللي جاي، مش عارفة إذا كنا هنتخطى كل ده ولا لا، كل حاجة ممكن تنتهي في لحظة."
كان يشعر بها ويعلم أن المخاوف تتسرب إلى عظامها، كأنها خيوط من الشك ولكنها تنسج حزنًا داخل قلبه، اقترب منها، ورفع ذراعه برفق ليضعه على كتفها، وكأن لمسته يمكن أن تزيح عن كاهلها ثقل الأعباء.
أردف بصوتٍ هادئ، محمل بالحب:
"مرام، مفيش حاجة هتخليني أسيبك، إنتِ حياتي، أنا هنا عشانك، وعشاننا، مهما حصل، هنواجه كل حاجة سوا."
كلماته كانت كدفقات من الأمل، تُطفئ نيران الخوف المشتعلة في صدرها.
نظرت إليه بعينيها اللتين تتلألأ فيهما دموع متحجرة، ونبست بتوجس:
"لكن الحياة مش سهلة، ممكن أي حاجة تفرقنا، وأحيانًا الشكوك بتكون أقوى من كل حاجة"
سحب كرسيًا وجلس بجانبها، يمد يده ليمسك بيدها برفق، وكأنها زهرة تحتاج للعناية، قلبه ينبض بالثقة، ويريد أن يُعطيها كل ما يحتاجه عقلها المشتت، يضع كفه فوق كفها:
"أنا عارف إن الحياة صعبة، ومتنسيش إن إحنا مرينا بتجربة أصعب من كل ده، مرام إنتِ مش لوحدك، إحنا عدينا بحاجات كتير ودلوقتي نقدر نتخطى أي حاجة ممكن تحصل، مش هسيبك ومش هاسمح لحد أو لشيء يهدد علاقتنا"
مرام تأملت عينيه، التي تحمل في عمقها وعودًا خالدة، وكأنها ترى فيه طيف الأمل، كان حديثه كأغنية تُعزف في أذنها، تُعيد إليها الثقة التي فقدتها، فهي لطالما كانت الإختيار الثاني ولكنه أكد لها أنها الإختيار الأول وفي المقدمة.
تحدثت بتنهيدة، كأنها تحاول استجماع قوتها:
"أنت دايمًا كنت جنبي، بس الخوف بيكسرني أحيانًا"
انحنى نحوها قليلًا، ليكون أقرب إليها، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يتحدث، عازمًا على إزالة الشكوك التي تؤرقها، وهمس بوضوح وثبات:
"مرام، لو أنا عشت العمر كله، مش هقدر أوفيك حقك وصبرك معايا، بس كل اللي أقدر عليه إني أكون معاكِ، وأحميكِ من أي حاجة، مش هخلي أي حاجة توقفنا"
الهدوء الذي يسود الغرفة بدأ يخفف من توترها، وكأن كلماته تُغلفها بدفءٍ وراحة.
شعرت «مرام» وكأن الجدران المحيطة بها بدأت تتلاشى، وبدلًا من ذلك، تجد نفسها محاطة بحب «آسر» الذي يأخذها بعيدًا عن مخاوفها.
أردفت بابتسامة صغيرة، تغلب على مخاوفها:
"آسر، أنا بحبك أوي، وكل دعوة دعيتها تكون معايا ربنا استجاب ليها مع إني كنت شيفاها مستحيلة"
أبتسم بحب ومال أكثر يطبع قبلة رقيقة على خدها ونبس:
"دايمًا هكون هنا، مع بعض هنواجه كل حاجة، وهنقدر على كل العقبات، أنتِ كنتِ قريبة ليا وعرفاني، تقدري تقولي إنك دلوقتي مراتي وصحبتي وكل حاجة ليا، وأنا مش هسيبك، تمام؟"
عانقته بقوة ليبادلها، وكأنهما يختزلان كل مخاوف العالم في لحظة واحدة، في ذلك الحيز الصغير، تتلاشى المخاوف، ويبدأ الأمل في التشكل، كفجرٍ جديد ينذر بقدوم أيامٍ أجمل.
«نهاية الذكرى»
خذل وعاش مرار الفقدان طويلًا،
وغمرته مشاعر الأسى والحزن،
شعر بأن الكون بأسره يتوقف،
وكأن العالم لم يعد كما كان،
لكن في وسط هذا الظلام،
يأتي العوض كفجرٍ جديد بعد ليلة حالكة.
غرفة المعيشة حيث تتعالى الأصوات بسبب شجار حاد بين أولاده «سيف» صاحب الست سنوات، وأخته «أمنية» صاحبة الأربع سنوات.
كان الفتى بأعصابه المتوترة، يجلس على الأريكة، بينما «أمنية» الصغيرة المتألقة، تقف أمامه بوجه غاضب، وتحاول أن تدافع عن نفسها لأتهامها بالسرقة هكذا.
تحدث بصوت عالٍ، مشيرًا إليها:
"أنتي دائمًا بتسرقي ألعابي! مافيش حاجة عندك حلوة!"
تحدثت بغضب بينما عينيها تتلألأت بالدموع:
"مسرقتهاش، أنا بس كنت بلعب بيها! انت دايمًا بتتخانق معايا!"
ولج «أنس» للغرفة، وملامح وجهه تعكس قلقه. يسمع ضجيج الشجار، ويعرف أن عليه التدخل قبل أن يتصاعد الوضع، وتحدث بسخريته المعهودة:
"يخيبيت'يخربيت' أبوكوا أنتو مبتبطلوش خناق"
ثم بدل السخرية لصوت هادئ لكنه حازم:
"إيه اللي بيحصل هنا؟ ليه بتتخانقوا كده؟"
كلاهما توقف عن الكلام، ونظرا إلى والدهما، بينما هو أقترب منهما، جالسًا على الأرض أمامهما، وكأنها مساحة مشتركة وأردف بحنانٍ:
"الخناق مش هو الحل، كل واحد فيكم عنده ألعابه، وفيه وقت للعب مع بعض، مش لازم 'نتصيف' نتصرف وكأننا في 'حيب' حرب."
كان ابنه يحمل نفس طباع الغضب السريع من «شذى» وبدأ الدفاع عن نفسه:
"بس هي دايمًا تاخد حاجتي! أنا بحتفظ بيها، وهي تاخدها، يعني دي لو عمتو ندى كانت خدت منك الألعاب كنت بتعمل فيها إيه"
نقل بصره بعيدًا وهمس بسخرية:
"كنت بطحنها بصياحة 'بصراحة'
ولكنه سرعان ما حاول فك النزاع بينهما، فأخذ نفسًا عميقًا، ونظرا لهما بتتابعٍ بقوله:
_"طيب شوفوا، عندي حل أفضل اللعبة اللي تتخانقوا عليها نشيلها خالص فوق الدولاب، وبكدا كل واحد فيكم مش هيقدي'هيقدر' ينطق مع التاني"
بينما الصغيران تبادلا النظرات، وكأنهم يحاولان استيعاب ما قاله من تهديدٍ صريح، وبدأت تعبيرات الغضب في الانزياح شيئًا فشيء
_"بس لو هي أخذت لعبتي…"
قاطعه «أنس»
"هتكون عندكم فيصة 'فرصة' تتعلموا تشايكوا 'تشاركوا'، المشايكة 'المشاركة' هي اللي بتخلي اللعب أحلى، وبعدين أخلصوا عشان عمتكوا ندى جاية هي وآنكل إياد وعيالهم"
ابتسمت صغيرته قليلاً:
"ماشي ماشي، معدتش هتخانق معاه"
أتت «شذى» من المطبخ لهم وهي تنظر لهم بترقبٍ وفهمت من على ملامحهم أن الجو كان مشحونًا بالغضب:
"إتخانقتوا تاني صح، عالألعاب؟"
أبعدا بصرهما بعيدًا يهربان منها بينما ضحك «أنس» ساخرًا بهمسٍ:
"متجوش غير بالعين الحميا "الحمرا" صحيح، خلاص يا شذى هما دلوقتي مبقوش هيتخانقوا، والباب بيخبط أهو شكل دي ندى"
تحرك من بينهم وتوجه للباب يفتحه ليجد صغير أخته «كريم» يقابله بعناقٍ حار:
"خالــو"
بادله بابتسامة واسعة مُرحبًا به وبهم هنا وسط منزله، حيث اليوم سيتناولا جميعًا وجبة الغداء:
"نويتنا 'نورتنا' ياسيادة اليائد 'الرائد'"
_"بنورك"
قالها «إياد» مبتسمًا وهو يتابع تفاعل «سيف» و«أمنية» أيضًا مع «ندى» ثم اقترابهما منه ليصافحهما بحبٍ.
تشكّل الأمان حول هذا المنزل، وحولهم جميعًا في جو عائلي سعيد.
ولج معها للمطبخ وهي تضع الطعام في الصحون وأقترب جوارها يميل نحو خدها يطبع قبلة رقيقة:
"أومال إيه الحلاوة دي، اطيدهم'اطردهم' واطيد 'واطرد' معاهم العيال ونقعد سوا كدا أحكيلك قد إيه بحبك والشوق في قلبي كبيي 'كبير'؟"
ضحكت بخفة وهمست له تحذره:
"بس يا أنس عيب، واوعى كدا عشان بجهز الأكل.."
_"يابخت الأكل"
قبلها مجددًا على خدها بغيظٍ لتضحك بخفة وهي تبتسم بوجهه بقولها:
"اتلم بقى لحد يدخل علينا"
_"ما اللي يدخل يدخل، واحد ومياته 'مراته'"
قالها بسخطٍ بينما مدّ يده يتناول قطعة من الخيار ويأكلها وهو يتذكر تلك الليلة التي بدأت أول لحظاتها هنا في المطبخ..
«الذكرى»
كانا يقفان في المطبخ، حيث تملأ روائح الطعام اللذيذ المكان، وهي منهمكة في إعداد عشاء رومانسي، ترتدي فستانًا بسيطًا لكنه أنيق، ويظهر على وجهها تعبير من السعادة.
كانت تضع لمسة أخيرة على الطبق:
"يا أنــس"
نادته ليدخل إلى المطبخ، وبدى عليه علامات الفضول وسرعان ما بدت عينيه تتألقان كمن اكتشف شيئًا مثيرًا، وأقترب منها، يضع يده على كتفها يتابع ما تفعل بيديها التي تتحركان بسهولة بين الأطباق وغمزها:
"إيه كل ده؟ الريحة تحفة، بتحضريلنا عشا رومانسي ولا إيه؟"
أدارت «شذى» وجهها إليه، وظهر على شفتيها ابتسامة واسعة وتحدثت بصوتٍ هادئ:
"آه، مفاجأة ليك أنت بس، وهعمل كل حاجة ليك أنت بس"
أمسكت يده وتحركت معه ناحية طاولة الطعام، حيث أعدت لها ترتيبات خاصة؛ الشموع تضيء المكان، وزهور ملونة تنشر عبيرها، جلس على الكرسي وعينيه تتسعان في دهشة ممزوجة بالسعادة لكل التجهيزات التي أعدتها أثناء مشاهدته لمباراة كرة القدم.
تحدث بحنانٍ مُعبرًا عن فرحته:
"شذى، إنتي عايفة 'عارفة' إن كل حاجة بتعمليهالي بتخليني أحس إني محظوظ؟"
تحدثت بمشاعر صادقة وعينين تتلألأ بحبٍ كبير:
"أنا اللي محظوظة، أنا بحبك أكتر من أي حاجة في الدنيا، وكل لحظة معاك هي تعويض عن كل حاجة فاتت. أنت اختيار قلبي الأول والأخير."
الكلمات تخرج من أعماقها كلمات الحب التي لطالما أرادت أن تغرقه بها، لتكون تلك الليلة كلها مشاعر حب كبير اغرقته بها وعوضته عما فاتهما في سنينٍ طويلة لحماقتها في قرار الإبتعاد عنه.
«نهاية الذكرى»
تمت بحمد الله
تعليقات



<>