رواية سمرة الصعيد الفصل الاول1بقلم صباح عبد الله فتحي
بسم الله الرحمن الرحيم
في إحدى قرى محافظة أسيوط، في ظلمات الليل، يتردد صوت رنين خلخال، ليظهر شيئًا فشيئًا قدم أنثى تبدو عليها جروح قديمة، لكنها عادت لتنزف من جديد. يحيط بمعصم قدمها خلخال فضي، كانت تركض على طريق من الأسفلت، محاط بأرض يابسة مغبرة ينعكس عليها ضوء القمر.
وفجأة، تعثرت قدماها وسقطت على الأسفلت، مُصدرة صوت تأوّهات متألمة. نظرت للحظة خاطفة إلى يدها اليسرى التي وقعت على قطعة صغيرة من الزجاج المتناثر على الطريق. لفت انتباهها أصوات عدة رجال يقتربون من الظلام، فالتفتت بذعر، واتسعت عينيها ذات اللون العسلي الصافي، المكحلتين بكحلٍ ثقيل، والمحاطتين برموش طويلة وكثيفة. تطايرت خصلات شعرها السوداء الطويلة على وجهها بحركة لا إرادية.
لكنهم لم يلبثوا طويلاً، إذ نهضت مسرعة لتكمل طريقها، غير مبالية بتلك القطعة من الزجاج المغروسة في كفها، ولا بجروح قدمها، فكل ما تريده هو الهروب من مصيرٍ مجهول يتربص بها أينما ذهبت.
ومن خلفها، يظهر ثلاثة رجال يرتدون الجلابيب الصعيدية، يخفون وجوههم بالكوفيات الصوفية، فلا يظهر منهم سوى أعينهم الحادة السوداء، التي تنطق بالشر والغضب يحملون بنادق على أكتافهم، ويركضون خلف الفتاة، بينما صاح أحدهم بغضب، يزمجر في وجه الاثنين الآخرين:
_ خف نفسك منك له شويه، لو البت هربت، الكبير هيخلّص عليّا وعليكم!"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ننتقل إلى مكانٍ آخر، حيث يظهر شاب مشدود الملامح، وفي عينيه نظرة حزن وغضب مكبوت. يجلس في غرفة بسيطة داخل بيتٍ ريفي، أمام والد حبيبته "مدحت"، الرجل الستيني ذو الملامح التي تجمع بين الطيبة والقسوة، ويكسوه بعض القلق الممزوج بالتردد والخوف.
هتف الشاب بصوتٍ مكسور، وهو يضغط على كلماته:
– أنا عاوز أفهم، إيه السبب إنك مُصرّ ترفض جوازي من حور؟ يا عمّي دي تالت مرة أجي أطلبها، وإنت تردّني!
أنه "ياسين" شاب في السابعة والعشرين من عمره، بملامح قوية وبشرة قمحية، عيناه بنيتان، لحية خفيفة، وشعره الأسود مصفف بعناية. يرتدي جلبابًا فلاحياً فاخرًا باللون الأسود، تدلّ خامته على الثراء، وعلى كتفه الأيمن كوفية بيضاء مطوية بعناية، يرفع بها هيبته كما يرفع رأسه بين رجال البلد. رغم أنه حفيد العمدة الأكبر، لم يحاول أبدًا استغلال مكانته أو الضغط على والد "حور"، بل كان يسعى إلى نيل رضا الرجل، وأخذ حبيبته بالحلال وبرضاه.
ظهر الارتباك على وجه "مدحت"، أخذ يفرك كفيه بتوتر وبحركة لا إرادية. لاحظه "ياسين"، لكنه لم يعلّق، بل انتظر الإجابة بفارغ الصبر. وبعد لحظة صمتٍ ثقيل، هتف "مدحت" بصوتٍ مهزوز:
– مش عاوزك تزعل مني يا ياسين بيه، بس جوازك من "حور" من سابع المستحيلات... لا إنت زينا، ولا إحنا زيّك، وشايف حالنا ماشي إزاي. أنا ما أحبّش الناس تفتح حنكها علينا بنص كلمة. أول ما يتقال، يتقال إننا طمعانين فيك... وحد الله بيني وبينك... لا هي قدّك، ولا إنت قدّها يا بيه، ومش تنسى كمان إنك...
توقّف فجأة وهو يرمق "ياسين" بنظرةٍ مترددة، فقطّب ياسين حاجبيه وسأله بنبرةٍ حازمة:
– وأنا إيه يا عمّي؟ كمّل... ساكت ليه؟
أشاح "مدحت" ببصره إلى الأسفل، ثم أجابه بصوت خافت:
– أنا وإنت والبلد كلها عارفين إنت مين وبتشتغل إيه... وأنا ما أقدرش أضيّع بنتي. أتمنى تفهم خوفي عليها... وبعدين، قرينا فتحة "حور" على "سامي"، ابن "سلامة"، أخويا.
صُدم "ياسين"، وارتفع صوته بانفعال:
– قريتوا فتحتها إزّاي؟! وإنت والبلد عارفين إني و"حور" بنحب بعض من وإحنا عيّال!
أجابه "مدحت" بحذر:
– أنا ما وعدتكش بحاجة، ولا اديتك كلمة... أنا كنت ماشي بما يرضي ربنا، وقلت وهقول تاني: كل حاجة قسمة ونصيب، يا ياسين بيه.
حاول "ياسين" أن يهدأ، تنهد بعمق، ثم قال:
– طب، هي موافقة على الكلام ده؟
– إنت مش غريب يا بيه، وعارف عاداتنا وتقاليدنا. اللي يقرّر ويوافق أو يرفض هو انا... و"حور" عقلها واعي، وعمرها ما تكسر كلمتي، ولا تقصر رقبتي قدام أهل البلد.
ساد الصمت، و"ياسين" ينظر إليه بغيظ، ثم قال بتحدٍ:
– أسمعها بوداني... لو هي قالت إنها موافقة على جوازها من ابن عمها، أوعدك ما هدخل بيتك ده تاني، لا في خير ولا في شر.
نظر "مدحت" لبرهة إلى باب الغرفة، وهناك ظهرت "حور"، فتاة في العشرين من عمرها، ببشرة ناصعة البياض ووجه شاحب، تحيط بعينيها هالات سوداء. بدت ملامحها مرهقة من كثرة البكاء، وملابسها مبتلة بالدموع. حزن والدها حين رآها في هذه الحالة، وتمنى لو استطاع أن يقدم لها السعادة التي تتمناها، لكنه يعلم أن هذه السعادة قد تكلّفها حياتها. وبعد لحظة من التردد، نادى "مدحت" بصوت منخفض:
– تعالي يا "حور"... قولي لياسين بيه إنك موافقة على "سامي" ابن عمّك.
نظرت "حور" لوالدها برجاء، علّه يحنّ عليها ويعفيها مما يطلبه، لكنه تهرّب من نظراتها. لم تجد أمامها سوى أن تسير بخطواتٍ مرتعشة، تنظر إلى الأرض بخجلٍ وحزنٍ شديد، تفرك كفيها بعنف خوفًا من مواجهة حبيبها التي أُجبرت على كسر قلبه. وقف "ياسين" أمامها يترقب كلمتها، يتمنى أن تنكر، أن تقول "لا"، لكنها حطّمت آخر أملٍ في قلبه عندما قالت بصوتٍ منخفض:
– أنا موافقة على جوازي من "سامي"، ابن عمي، يا ياسين بيه.
تجمّدت ملامحه للحظة، ثم سألها بهدوء:
– حد جبرك؟
أجابته بجمود، تخفي خلفه ألمًا عميقًا:
– كل حاجة ممكن تكون بالغصب، إلا الجواز يا ياسين بيه... لا أنا شبهك، ولا إنت شبهي. زي ما أبويا قال، أنا كنت وهفضل بنت الخدامة، يا بيه.
وقف "مدحت" قائلاً بهدوء:
– سمعتها بودانك يا بيه... ربنا يصلح حالك.
هزّ "ياسين" رأسه وقال بنبرةٍ هادئة:
– تمام يا "حور"... ربنا يوفقك ويسعدك... ألف مبروك.
أنهى حديثه وغادر في صمت، بينما انفجرت هي في البكاء، وارتمت على صدر والدها قائلة:
– خلاص يا بوي، مشي... من غير راجعة.
ربّت "مدحت" على كتفها وهو يواسيها بصوتٍ حزين:
– ده الصح، يا "حور"... إحنا مش قدّ الناس دول، يا بتي، عشان نقدر نقف قصادهم.
رفع "مدحت" رأسه فجأة، وقد تسمرت ملامحه بين الصدمة والخوف، واتسعت عيناه وهو ينظر نحو الباب.
وقف هناك رجل عريض البنية، بوجهٍ لا يخلو من القسوة، يرمقهم بابتسامةٍ جانبية خبيثة كأنها تنبئ بالخراب. وفي اللحظة التي صدح فيها صوته الغليظ، انقبض قلب "حور"، واندفعت من حضن والدها كأن صاعقًا ضربها، وكأن صوت الرجل انتزعها من حضن الأمان إلى هاويةٍ لا قرار لها. بينما الأخر قال بصوتٍ متلذذ، وهو يخطو ألي داخل الغرفة بثقة:
_ برافو عليكي يا "حور"... عجبْتيني قوي. عايزك بقى، زيّ الشاطرة كده، تجهّزي نفسك عشان تبقي أحلى عروسة في الدنيا كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الطريق، قاد ياسين سيارته في صمتٍ خانق، تتقاطع على ملامحه مشاعر الحزن والغضب، وعقله مشغولٌ بصورتها… تلك التي خانت عهده، وكأنها نزعت قلبه من بين ضلوعه دون رحمة. ظلّ يفكر فيها، في ضحكتها، في نظراتها، وفي كل شيءٍ يربطه بها.
ولم يلحظ نظرات الاستغاثة التي توجّهت نحوه من خلف شجرة توتٍ عملاقة على أرضٍ زراعية يابسة، مزروعة بالقمح الجاف. مرّ ياسين بسيارته، بينما شاحت الأخرى بنظرها بيأس نحو الرجال الذين يُمسكون بها بإحكام، وأحدهم يضع يده بعنف على فمها ليمنعها من إصدار أي صوت. أغمضت عينيها بحزن وخوف، مستسلمة لمصيرها.
مر ياسين بسيارته ولم ينتبه لما يحدث حوله وظلّ شاردًا، يفكر في حبيبته حتى وصل إلى وجهته. عبر البوابة الحديدية الفخمة لمنزلٍ يشبه القصر، حيث يقف الحُرّاس منتشرين يحرسون المكان. أوقف سيارته أمام المدخل، وخرج منها بخطوات مثقلة بالتعب، شارد الذهن وشعلة الغضب كالبركان في داخله. وما إن خطت قدماه عتبة الباب، حتى جاءه صوت خشن غاضبً أعاده إلى الواقع:
_ حمد الله على السلامة يا بيه... ما لسه بدري!
التفت ياسين نحو مصدر الصوت، فوجد جده جالسًا على الأريكة، مستندًا إلى عصاه الخشبية، وملامحه المتجعدة مشدودة بالغضب والخيبة. تنهد ياسين بعمق، وتقدّم نحوه قائلًا بهدوء:
_ أظن إني مش عيّل صغير يا جدي علشان آخد إذن.
جلس بإرهاق أمامه، بينما ظلّ الجد يرمقه بنظرة حانقة، وهو يقول بغيظٍ واضح:
_ بس اللي بتعمله ده ما يدلّش إنك راجل يا ياسين... روّحتلها تاني، مش كده؟
نظر ياسين إليه بصمت، ثم قال بصوتٍ منخفض يكسوه الحزن واليأس:
_ أيوه، روّحت... وهتكون آخر روحه، ما تقلقش.
صاح الجد بغضب:
_ كسرت كلمتي للمرة التانية! مع إني حذّرتك ما تدخلش البيت ده تاني... أنا مش فاهم البت دي عملتلك إيه علشان تنسى نفسك وتذلّ روحك بالشكل ده!
ظلّ ياسين صامتًا، وعيونه امتلأت بالوجع. أغمض جفنيه للحظة، واسترجع ذكرياتها... ضحكتها، نظرتها، دموعها المكبوتة. فتح عينيه على صوت جده يصرخ مجددًا:
_ أنا مش بنكلمك؟!
تنهد بعمق، ونهض من مكانه ببطء، وهتف بنبرةٍ هادئة تحمل قسوة خفية:
_ أقولك إيه بس يا جدي... خلاص، هي هتتجوز من ابن عمّها. ما تقلقش، ما عدتش هاروح، ولا هدخل بيتهم تاني. ريّح بالك علشان صحتك... عن إذنك، تعبان وعايز أنام. تصبح على خير.
أنهى حديثه وغادر دون أن ينتظر ردًّا، صعد الدرج بخطوات مثقلة نحو غرفته في الطابق العلوي. ظلّ الجد يرمقه بنظرات حنق وغليان حتى دخل غرفته وأغلق الباب خلفه. تنهد العجوز بحنقٍ، ثم تمتم بصوتٍ مكبوت بالغضب:
_ ماشي يا ياسين... خلينا نشوف آخرتها إيه وياك إنت وست حور.
صمت لبرهة، كأنه تذكّر شيئًا فجأة، فانعقد حاجباه باستغراب، وعاد يتمتم لنفسه بأستغراب:
_ بس إزاي هتتجوز "حور" من ابن عمّها... وابن عمّها مرمي في السجن له سبع سنين؟! ولا حد عارف هو حي ولا ميت؟!
صمت للحظة، وأشاح ببصره نحو الدرج حيث صعد ياسين، ثم عاد يتمتم من جديد بنبرة يكسوها الغموض والقلق:
_ بينها كده طبخة جديدة بتستوي على نار هادية قوي... خلينا نصبر عليها لما نشوف اخرتها اي؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت ليلة قاسية، بكل ما تحمله الكلمة من وجع وخيبة، على كلٍ من حور وياسين. لم يذق فيها النوم طعمه، ولم تهدأ قلوبهما من الألم. وما زال مصير تلك الفتاة مجهولًا!
ومع أول خيوط شمس الصباح، بزغ يوم جديد، لا يحمل لهما سوى المزيد من مفاجآت القدر… مفاجآت، لن تكون أبدًا في صالح أحدٍ منهما.
هبط ياسين درجات السلم بخطوات واثقة، في كامل أناقته وهيبته. ارتدى جلبابًا رماديًا أنيقًا، تتدلّى على كتفه كوفية سوداء تزيده مهابة. وبينما كان يُثبّت ساعته الذهبية في معصمه، وقعت عيناه على جده، الذي يجلس على مائدة الإفطار يتناول طعامه في صمت ثقيل.
اقترب ياسين وسحب الكرسي بهدوء، جلس وهو يقول بصوت هادئ خالٍ من التعبير:
_ صباح الخير يا جدي.
رفع الجد عينيه، وتأمل ملامحه الصافية التي لا تحمل أي تعبير، ورغم ذلك، ظهرت في عينيه نظرات الحزن والانكسار التي فشل في إخفائها. ثم أجاب بثقل قائلًا:
_ يسعد صباحك يا ولدي.
صمت للحظة، ثم صدح بصوت متردد، متلعثم، قائلًا:
_ بقولك يا ياسين...
أجاب وهو مشغول بتناول الطعام بهدوءٍ مميت:
_ خير يا جدي، قول.
استند الآخر بذقنه فوق ظهر كفّيه، نظراته كثعلب معلّقة على ياسين، وهو يقول بغموضٍ وحذر شديد، وعيناه كصقرٍ تراقبان ردّة فعل ياسين:
_ هو الواد ابن سامي ده طلع إمتى من الحبس؟ ولا رجع البلد إمتى؟ ومن غير علمي كمان؟
وهنا رفع ياسين نظره لأول مرة، وهو يعقد حاجبيه باستغراب، قائلًا:
_ ما فهمتش عليك يا جدي... عايز تقول إيه؟
أشاح الآخر بنظره إلى الطعام، متجاهلًا نظرة ياسين المليئة بالتساؤل، وتبسّم بخبث، كأنه نال مراده، وهو يقول بنبرةٍ متلاعبة، كأنه يوصله إلى طرف خيط ما يزال مجهولًا:
_ ما عوّزتش نقول حاجة يا ولدي... بس انت قولت امبارح إن الست حور هتتجوز من ولد عمّها، عشان كده بنسألك: هو طلع إمتى؟ وإزاي رجع البلد وما حدش سمع له حس ولا خبر؟
وهنا رفع ياسين عينيه بشرود في الفراغ أمامه، وتاه في دوّامة من الأفكار والتساؤلات حول مجهول لا يعرف مصيره.
نظر إليه جدّه بطرف عينه، وبالتأكيد، لم يفشل في إيصال حفيده إلى طرف خيط عميق.
وبعد لحظات من الصمت الثقيل، تنهد بهدوء قائلًا:
_ سيبك من الحكاية دي، وقولي... عملت إيه مع الباشا؟ البضاعة وصلت ولا إيه؟
ظلّ ياسين شاردًا، ولم ينتبه لما قاله جده، لكنه استفاق على ذلك الصوت الغليظ الذي أتى من خلفه:
_ السلام عليكم يا أهل الدار!
استدار كلاهما إلى مصدر الصوت، ليجدا شابًا في الثلاثين من عمره، ملامحه ذات هيبة ورجولة، لكنها لا تخلو من تعبير الخبث والشر. عريض الكتفين، يرتدي جلبابًا أسود فوق عباءة بلونٍ خمري.
نظر ياسين والجد إلى بعضهما البعض، وعلت ملامحهما علامات الانزعاج الممزوجة بالفضول، ويبدو أن ذلك الضيف غير مرحّبٍ به. بينما الآخر خطا بخطواتٍ ثقيلة وهو يبتسم ابتسامة لا تبشّر بالخير، قائلًا:
_ طيب ردّوا السلام... ده حتى صدقة!
نظر له الجد بطرف عينه، وقال بحنقٍ ممزوج بالغضب:
_ جاي تعمل إيه هنا يا ولد الغزية؟! مش قولتلك رجليك النجسة دي ما تخطيش البيت ده تاني؟!
تبسّم الآخر ببرود، ونظر بطرف عينه نحو ياسين، الذي شاح بنظره إلى الاتجاه الآخر وهو يتنهد بضيق. بينما الآخر سحب الكرسي المقابل له، وجلس بلا مبالاة، ورفع طرف كم جلبابه، ومدّ يده يتناول الطعام ببرود، وهو يقول بسخرية:
_ الله الله... على الفطير السُخن والعسل بالسمنة البلدي! طعمه حلو قوي، مش كده يا ياسين بيه؟
نظر له ياسين بطرف عينه وهتف قائلاً بنبرة حادّة:
_ هات من الآخر يا ولد أبوي، وقُل جاي عايز إيه من غير كلام ماسخ.
تبسّم الآخر بخبث، وأجاب بنبرة لا تخلو من السخرية:
_ طول عمرك تفهمها وهي طايرة، يا ياسين بيه. بس لما تقول "ولدك أبوك"، يعني ده بيتي زي ما هو بيتك، وليّا الحق أجي وقت ما أعوز.
على العموم، طالما سألت، هقولك أنا جاي ليه.
صمت للحظة، يراقب نظرات وملامح ياسين، وعلى شفتيه ابتسامة جانبيّة كأنه يتلذذ بالحزن والانكسار الظاهرَين في عينيه، ثم هتف بغموض ونبرة متلاعِبة:
_ كل الحكاية واللي فيها، إني جيت أعرّفك بجوازي... عقبالك يا خويا. أنا هتجوّز حور بنت مدحت، والنهارده كتب الكتاب عليها.
للحظة... خيّم الصمت. واتّسعت عينا ياسين في دهشة، وكأن قلبه تلقّى طعنة من الخلف. بينما نظر الجد إلى الآخر وهو يقول بحنق:
_أنتَ اتجننت ولا إيه؟! وبعدين، بنت مدحت هتتجوز من ولد عمّه!
انفجر الآخر ضاحكًا، وهتف بسخرية:
_والله إنك غلبان وعلى نياتك قوي يا عمدة...
نفض جلبابه ونهض بهدوء، ونظراته معلقة على ياسين، الذي لم يقل شيئًا، ثم هتف قائلاً بنبرة متلاعبة، كأنه يتعمّد أن يضع الملح على الجرح:
_على العموم... مستنيكم تشرفونا قدام البلد، وتحسسوني إن عندي أهل... ولو مرة في حياتكم.
أنهى حديثه، وانحنى على طاولة الطعام وهو يبتسم ابتسامة لا تخلو من التلاعب، متعمدًا إغاظة ياسين، ثم أخذ قطعة الفطير من أمامه، ووضعها في فمه بحركة ساخرة. مسح كفيه ببطء، ثم قال بصوت هادئ مسحوب بالخبث:
_الفطير ده طعمه حلو قوي... ابقوا هاتولي منه في الصبحية، هبقى عريس جديد بقى، ومحتاج أتغذّى... مش كده يا خويا؟
فجأة، هبّ ياسين واقفًا، وهو يلهث غضبًا. رمقه بنظرة جامحة، وتوجه بخطوات كالبركان نحو الباب، مغادرًا المنزل دون أن ينطق بكلمة واحدة. أما الآخر، فظلّ واقفًا، يبتسم بشر، وهو يتمتم لنفسه:
_والله العظيم لأحرّق قلبك على كل اللي بتعزّه... زي ما حرقتوا قلبي، وحرمتوني من حقي... ومن نفسي. لو كنت بكرهك يا ياسين... فإنت السبب. خدت كل حاجة كانت المفروض تبقى ليا. وجِه الوقت... آخذ منك روحك.
