
رواية علاقات سامه الفصل السابع والعشرون27 بقلم سلوى فاضل
تشعر بالخجل والإحراج؛ فالنظرات مسلطة عليها، تتقبل التهاني مرفقة بالابتسامات، لكنها ترى نظراتهم المتسائلة وهمساتهم لكيف تبدل حالها وزَوْجِها! رغم ضيقها التمست لهم العذر، فعقلها حتى الآن لا يعي انقلاب حالها من الانغماس بقلب الحضيض إلى التحليق في قمة السماء، رامي آخر شخص تتوقع أن تتقبله لا أن تتزوجه بين ليلة وضحاها، كلما تذكرت كيف تشبثت به عقب عقد قرانها يحمر وجهها خجلًا، وهو لم يتوقف عن مراسلاتها ليطمئن عليها، ولا بأس من بعض ملصقات التي تحمل القلوب والورود بجانب كلمات الغزل الراقية، ووصفه لتخيله لحالتها وهي تتلقى رسائله وتقرأها.
انسلَّ الوقت وارتفع صوت المآذن ترفع الآذان، فرافقت غادة للصلاة، وبالطبع مرتا في طريقهما بمكتب رامي، الذي ينتظر مرورها منذ الصباح، موقن إنها ستحاول بكل الطرق ألا تكون في مجال بصره، لكن إن كان بالسابق يشعر بها ولم تكن حقه، فكيف الآن؟! ما أن لمح طيفها أسرع إليها، مبتسما ببهجة:
- ينفع تعدي من غير لا سلام ولا كلام، حد يعدي من قدام جوزه كده؟!
احمر وجهها حرجًا وكان لغادة نصيب من الإحراج، فانسحبت بلباقة تترك لهم مساحة من الخصوصية:
- طيب هاسبقك يا شيماء على الجامع.
حاولت إثنائها بنظراتها عن تركها دون جدوى؛ فقد انسحبت سريعًا، ابتسم رامي شاكرًا لفعل صديقتها:
- ذوق صاحبتك وبتحبك قوي، كنت هتمشي من غير ما تسلمي، ينفع طيب!
حاولت إجلاء صوتها عدة مرات، وبكل مرة يتغلب خجلها ولا تعرف ما يجب قوله، فواصل عتابه:
- مستنيكي من بدري، تأخرتي.
نظرت له بتعجب، لم يكن بينهما أي موعد، فأجابها دون سؤال:
- أيوه ما فيش معاد، لكنك بتنزلي كتير، وبعدين ما ينفعش بعد كده تكشفي عند حد غيري.
- مش بكشف عند دكاترة رجالة وأنت عارف.
- لما الدكتور يبقي جوزك، لازم تكشفي عنده.
سبق رده ضحكة صاخبة أحرجتها واتسعت عينها بصدمة من تلميحه:
- أنت قليل الأدب.
همس جانب أذنها:
- لا دي بعد الفرح.
اشتد اتساع عينها وفرَّت من أمامه هاربة من كلماته الوقحة، ابتسم بانتشاء يعترف بصدمته مما قال، فمعها يرى جانب منه لم يكن يعلم بوجوده.
يحيا أسعد فترة بحياته، في طريقه لتحقيق حلم ظنه مستحيلًا، لا يعكر صفو لحظته سوى اشتياقه لوالده وقلقه عليه، فقد انقطعت أخباره منذ آخر مكالمة بينهما، فاتح والدته برغبته في الزواج من ابنة جارتها وطلب منها مرافقته، رحبت بغبطة وقد سعد قبلها، رغم المسافات فله بالقلب مكانة وقدرًا، لم تنسَ تأنيبه لابتعاده عنها، ثم سألته: كيف قابلها؟ ومتى؟ وهل يكن لها بالقلب حبًا؟ سألته عن جميع التفاصيل، ولم تغفل السؤال عن أحواله المادية وما أعده للتقدم للخطبة والزواج، لأول مرة يشعر بحنانها واهتمامها، لم تتواني في الاتصال بهم وترتيب جميع شكليات المقابلة، اشتروا باقة ورد فخمة وأفخر أنواع الشيكولاتة، تأنَّقت في ملبسها وأصرت ألَّا يرافقهم زوجها؛ فهو يتعمَّد ازعاج حسن وهي تريده يوم مميز له، تحاول تعويضه عن تقلباتها وتقصيرها معه، وهذه فرصتها بخطوة هامة بحياته.
بالموعد المحدد كانوا جالسوا بغرفة الصالون، أحس حسن ببرودة المكان رغم أنهمم بفصل الصيف، رغم مجاورة شقتهم لخاصة والدته إلا أنه بدلوفها شعر وكأنه بأحد الشقق الأرستقراطية، قطع أثاث باهظة انتيكات بكل زاوية، لكن ينقصه شيء هام؛ فالبيت بلا روح كما لو كان خاوي من ساكنيه، كل شيء يخبره باختلافها عن والديها، ومع بداية الحديث وجده والدها متمسك بشكليات واهية لا تقيم بيت ذو أساس، يتحدث عن أرقام وكأنه يجري صفقة تجارية، ووالدتها تؤيده فقط، أردف والدها معترضًا: يحيا أسعد فترة بحياته، في طريقه لتحقيق حلم ظنه مستحيلًا، لا يعكر صفو لحظته سوى اشتياقه لوالده وقلقه عليه، فقد انقطعت أخباره منذ آخر مكالمة بينهما، فاتح والدته برغبته في الزواج من ابنة جارتها؛ فرحبت بحفاوة، ولم تغفل عن تأنيبه لمطاوعة والده وبُعْده عنها لسنوات طوال، ثم سعدت بانتشاء وأنفة لأنها سترافقه للخطبة وحدها هي فقط مَن ستمثله وتتحدث بلسانه.
- يعني مبلغ الشبكة بسيط ومفيش فرح! مش موافق طبعًا، كونك فرشت الشقة بالكامل ده مش مبرر، الشقة تمليك ده شيء طبيعي، أنت مش عارف أنا ووالدتها مكانتنا ومستوانا إيه؟
- يا عمي كل دي شكليات، وعشرين ألف شبكة مش قليل، ولو في ايدي أكتر مش هتردد، والله!
- طلبك مرفوض، أخطب واحدة على قد إمكانياتك.
لم يتوقع رده كما صدمه منطقه، حاد بوجهه عنهما وعقله يبحث عن وسيلة لإقناعهما؛ فانتبه لنيرة تتوارى خلف الباب الفاصل منطقة الاستقبال والمجلس الداخلي للمنزل، ألمه الحزن البادي بمقلتيها وترقرق الدمع بهما، غص قلبه وحاول طمأنتها بإماءة من عينيه وبسمة هزيلة، وزع نظراته بين والديها ثم نظرت لوالدته راجيًا منها العون، قبل أن يحاول من جديد إقناعهما:
- يا عمي نيرة غالية وربنا يشهد، الفلوس الباقية مِن السفر يا إما اكمل عليها واجيب عربية بالتقسيط، يا أعمل فرح كبير، العربية أبدى، طيب أنا ممكن اكتب العربية باسم نيرة مع الشبكة، والفرح يكون بسيط على قد الأهل، وأسبوع في فندق.
تدخلت والدته تحاول إمالة والدها، فوالدت نيرة بدا عليها بعض التعاطف الصامت، لم تؤيد زوجها ولم تنضم لجانب حسن:
- خلاص بقى يا أبو نيِّرة، وافق وخلي الولاد تفرح، وأنا هدية مني للعروسة عشرة ألاف أزودهم على فلوس الشبكة، الولاد وسعادتهم أغلى من الفلوس وهما مرتاحين لبعض، وأنا اضمن لك إن حسن يحط بنتكم جوة عينيه وقلبه كمان.
مال حسن على يد والدته يُقبلها، أسعد قلبها كما فعلت؛ فزاد إصرارها أن تستخلص موافقتهما، خرجت والدة نيرة عن صمتها بعدما لمحت ابنتها ونظرها المسلط على حسن وتغير حالها بين الأمل بموافقتهم وخيبة الرجاء والتعاسة بإصرار والدها، من سنوات طويلة لم ترَ السعادة بمقلتي ابنتها، دائمًا تشعر بتأنيب الضمير لأنها لم تكن لها الأم المثالية، دخلت مع زوجها بمارثون لا ينتهي وانشغلت به حتى عن وحيدتها، وجدت أن حان الوقت للتخلي عن روح المنافسة، ولو لجولة واحدة؛ لإهداء ابنتها حياة سعيدة تستحقها بعد جفاف حياتها مِن أي مشاعر أو ربما من الحياة، فأردفت بما يرضي جميع الأطراف آملة بإهداء السعادة لابنتها:
- أنتَ فارش الشقة كلها يا حسن.
- أيوه.
- والشبكة بعد ما والدتك زودت عليها بقت معقولة.
رمقها زوجها بحدة غير راضٍ عن كلامها، فواصلت موضحة:
- مش لازم تكون زي بنات العيلة، المهم تكون الشبكة في حدود المعقول، غير إن كتب الكتاب والدخلة قريب، يعني زفاف على طول من غير حفلة خطوبة؛ فبدل حفلة الخطوبة نعمل الفرح، وبدل الجهاز نكمل رفايع الشقة، نيرة بنتنا الوحيدة يهمنا سعادتها وشكلها قدام الناس.
انهت جملتها ونظرت لزوجها برجاء، وأومأت له بمقلتيها تحثه على الموافقة؛ فزفر بحيرة ثم أبدى موافقته، وتلقائيًا طالعت الأم ابنتها التي اتسعت بسمتها بسعادة ورقص قلبها طربا بين ضلوعها، فتورد وجهها وتوهج من فرط بهجتها، فأردفت والدة حسن تضع خاتمة سعيدة للجلسة وبداية لحياة تتمنى أن تحوي لابنها السعادة التي افتقدها بحياته السابقة:
- على خيرة الله، نقرا الفاتحة ونملى المكان زغاريد.
اختفى تجهُّم وجهه واعتلته بسمة مُطمئِنة لابنته التي تترقب معالم وجهه بشغف تنتظر أن يفتح لها باب الجنة والسعادة، أطلقت والدت حسن الزغاريد حتى ملأت المكان، رنا حسن بمقلتيه لمحبوبته بسعادة، وملأت وجهيهما بسمة مشرقة مبتهجة، اقتربت الأم من ابنتها ضمتها بحنان وفرحة أم كبرت ابنتها بغفلة منها، وأصبحت عروس تسر القلب والعين، أخذت يدها إلى يد والدها ثم أجلساها بجانب حسن، تملكها الخجل لم تستطع التحدُّث أو حتى رفع وجهها.
في مقهى فاخر تجلس منتظرة قدومه، تنهَّدت بضيق عندما وصل متأخرًا، متأكدة أنَّه عمد التأخر، تكاد تجزم بعلمه سبب المقابلة، تحدثت هازئة ولم يبخل أن يجيب علها باستفزاز أغضبها:
- أخيرًا وصلت، المعروف إن الستات هي اللي تتأخر عن مواعيدا مش العكس.
- ما كنتش فاضي، وعشان أكون صريح رفضك تقولي سبب المقابلة ضايقني، وكنت فعلًا مش جاي.
- وجيت ليه؟
مال إليها وتحدث محذرًا بثبات بها بعض الخوف اخفته سريعًا:
- لما تقعدي معايا تنتبهي لصوتك وطريقتك.
أراح ظهره على المقعد خلفه، ثم تحدث بما جعلها تشعر ببعض الندم للجوء إليه:
- أنا مش طليقك ولا سيادة اللوا والدك عشان استحمل أسلوبك.
- أنت كمان انتبه لأسلوبك معايا، أنا مش واحدة من اللي تجوزتهم، وإحنا بينا مصلحة مشتركة، لما تتم كل واحد فينا يبعد عن التاني وننسى إننا تقابلنا.
ابتسم بمكر، لم يجادلها، متسائلًا:
- وأيه هي المصلحة المشتركة؟
- كده نتفاهم، مؤنس.
لم يتحرك له ساكن، وكأنها لم تقل شيئا، أخفت غَضَــبِها داخلها، وهو يسمع منها دون أي تعبير:
- ليا تار عنده، وأنت كمان، يبقى نتعاون وندمر حياته، ونخليه يندم على اللي عمله معانا إحنا الاتنين.
- ومين قال لك إن مؤنس يفرق معايا من الأساس!!
- ما تشككش في ذكائي يا كمال، وما تنساش إن بابي كان بيحكي لي دايمًا على اللي بيحصل بينكم وأنك حاطه في دماغك.
- مدام سارة بوضوح كده عايزة ايه؟
- قولت لك نتعاون، ونرجع حقنا.
- اممم، بس أنا مش مهتم.
لعبت بطريقته، نهضت مدعية المغادرة:
- أدام مش مهتم خلاص، باي.
- اقعدي.
طالعته بعدم اهتمام عكس ما تَفَـجَّر داخلها مِن براكين لفظاظة أسلوبه، استرسل بطريقته الفظَّة وثقة غير المتناهية التي لا يستحقها:
- وأنتِ معايا تحسبي تصرفاتك وتنتبهي لها! أنا مش مؤنس، تمام.
بركانٌ ثــار بجوفها، لكن عليها تحمله في سبيل تحقيق ما ترجو هو فقط مَن يمكنه مساعدتها، فجلست بصمت غَـاضب تستمع له:
- موافق بشرط.
- أيه هو؟
- نتجوز.
- لأ، مش عايزة أي قيود أو تحكمات، بحب أكون حرة.
- طبعًا، دلوعة بابي، ومؤنس كان مديكِ حريتك على الآخر.
سندت يديها على الطاولة وتحدثت بجدية وتحذير:
- بص مِن الآخر كده وعشان نكون واضحين، أسلوبك وطريقتك دي ما تمشيش معايا، ولو هتفضل كده، فمن البداية بقول لك شكرًا مش عايزة حاجة، هاشوف مصلحتي في مكان تاني.
ابتسم مستخفًا بكلامها ووضع ساق فوق الأخرى:
- ومين بقى اللي ممكن يساعدك؟ ما فيش حد يقدر غيري.
- أنا لوحدي كفاية، كلمتك عشان مصلحتنا مشتركة، مش عشان عاجزة، أعتقد الفرق كبير.
لاحت على وجهه ابتسامة تخفي داخلها مكره وتهكمه، وزينها بعلامات الاقتناع بما أردفت، حوَّل أسلوبه الفظ لأخر ناعم يدق على باب غرورها؛ لتتخلى عن التحدي والعناد، يشعرها بالنصر، لتلين بدون مجهود يذكر؛ فأعرب عن انبهاره بشخصيتها:
- شخصيتك جذابة، وقوية، مجنون مؤنس لإنه ضيعك من إيده، وده من حُسن حظي، أتمني تفكري بجدية في عرضي للجواز.
- أفكر، وعشان أكون واضحة، أنا مش مجبرة على الموافقة، يعني بمزاجي.
اسند مرفقيه على الطاولة، فتقاربت الأوجه، وتحدث بلين ونظرة رجاء:
- أكيد طبعًا، الملكة دايمًا في ايدها القرار، كنت بشوف اللي سمعته عنك حقيقة ولا مبالغة وحقيقي ابهرتِني، محدش قدر يوفي حقك، أنتِ أكبر مِن قدرتهم على الوصف.
اتكأت بظهرها على الكرسي خلفها وانتشت بغرور، ووضعت قدم فوق أخرى، تحدثت بكبر:
- عشان أنا أكبر من قدرة وتخيلات اللي حواليا، قدراتهم محدودة مش ذنبي.
أومأ يؤيدها، ثم سألها:
- بتفكري في إيه؟
- نقطة ضعفه الوحيدة، هي حبيبة القلب، ضعيفة ومنكسرة، ملطشة للكل مش بتعرف تقول جملتين على بعض.
- ودي نستغلها ازاي؟!
- جوزها طلقها ورماها ومؤنس رايح جاي وراها، وسكنها في شقته، وكل يوم والتاني عندها، وأخد راحته على الآخر، وأنت في بوليس الآداب.
- وعايزاني أعمل إيه بالظبط؟
- كمال، أنت فاهم كويس.
- وأنتِ عارفة أنه صعب ومشكوك فيا، عشان التنافس اللي بينا.
- لا مش صعب، بلاغ صغير، إن الشقة شغالة آداب، تقبض عليها، وترحب بها في القسم على ذوقك، وبلاش تلعب بالكلام اللي بينكم مش منافسة، أنا عشت مع مؤنس في بيت واحد سنين، عمره ما فكر فيك من الأساس، ولا شغلت باله ثانية واحدة، ومش لازم أنت اللي تقبض عليها، ممكن زميل لك، هتغلب يعني.
لا تعلم أن كلماتها قد زادت اشتعال نيرانه تجاهها، وصبته فوق لهــيب غَضَـبه، فهي واحدة ممن يضعهم على قائمة ثأره، وأصبحت عزلاء مِن أسلحتها بوفاة والدها ثم طلاقها، وقد خَطَت داخل عرينه بإرادتها، لا يتبقى سوى إحكام قيدها؛ ليبدأ قصاصه منها بهوادة وعلى هواه.
- تمام، أفكر.
- تفكر!!
- أيوه، وأنتِ كمان فكري، لما تبلغيني بردك على طلبي، أكون حددت أعمل إيه؟ وابلغك بقراري.
مقايضة، الزواج مقابل المساعدة، وصلها المعنى بوضوح وهو يوقن تمام اليقين بموافقتها وانحصار تفكيرها على رغبتها في الانتقام لكرامتها، ولن تدرك أنها في كل الأحوال فتحت بوجهها أبواب الجَـحيم، نهض فجأةً ملقيًا بعض النقود على الطاولة مردفًا بوقاحته الأولى:
- اطلبي لنفسك حاجة قبل ما تمشي.
نظرت له بصدمة؛ فتصرفاته غريبة وفظة، تابعته بنظرها حتى تداركت حالتها، نظرت للمال بغيظ وانصرفت توشك على الانفجار
بسمة مَـاكرة منتصرة افترشت قسمات وجهه عقب الالتفاف عنها، بهذه المقابلة ظفر بنقطتين هامين، أكدت ظنه بأن مؤنس وجد ليلاه، بل وأسكنها بيته، كما أنَّ سارة على شفا الوقوع بشركه الذي نصبته لنفسها نيابة عنه، وعليه فقط تزينه لتنغرس فيه بإرادتها ثُم يحكم وثاقها داخله ليتلذذ بما سيفعله بها، ضحكة هازئة صدرت عنه، فغرورها منعها عن رؤية الوعيد بكلماته ونظراته، استطاع ببضع كلمات نبعت من ناطقه إلغاء عقلها وحجب بصيرتها؛ فلم تنتبه لحقده وللسَعِـير المشتــعل بعينيه؛ فهو لم ينسَ قط رفض والدها له حينما تقدم لخطبتها ونظرته الدُّونيَّة له، وكأنه يسمعه الآن وهو ينعته بالضابط الفاشل الحقود، فوالدها هو مَن وضع حجر الحِـقد والمُنَافَسة مع مؤنس وأشْـعَله، بالسابق شمت وانتشى بتأخر ترقية مؤنس والآن يقسم أنه سيقتص منه ومن ليلاه العائدة، وكما سيدخل سارة جُحْرِه سيصيبهما بسُمِّه.
خلال ساعات جمع كل المعلومات عن طيف وعلاقتها بمؤنس ووضع خطته، ففرصته للانتقام قُدِّمت له على طبقٍ من ذهب، وحان وقت القصاص، أقام خطته على تجاهل سارة لتكون الخطوة الأولى منها، وإثارة الشكوك والظنون بعقل والد طيف، أرسل إليه مَن يتحسس أخباره ثُم إرسال أخبار مضللة عن ابنته، جعلت الظنون تلعب برأسه وزرعت الشك داخله، تركه فريسة لأفكاره وتخيلاته، أفكار مرضى النفوس.
يوم يمر يتبعه آخر وهو يتجاهلها، لم يتصل يسألها عن قرارها كما توقعت، انتابها بعض التردد تتذكر تحذير والدها لها بعدم التواصل معه أبدًا ونعته له بالشَّيـطان الآثم الذي يُهلِك مَن يملكه، لكن عليها التعامل معه للقصاص من طليقها، لديها قناعة بأنها تستطيع تلجيمه وتجنُّب مكره، بعد بضعة أيام مِن لقائهما اتصلت به تخبره بموافقتها على عرضه، أعدت قائمة قواعد تحدد بها شكل علاقتهما، لكنه فاجأها بكلماته:
- يعني وافقتي على طلبي؟
- أيوه، مش مصدق!
- تمام، أنا جايلك النهارده.
- جايلي فين؟!!
- البيت.
- أنت بتخرف! أنا لوحدي.
- نصيحة أوعي تحاولي تغلطي معايا تاني، هاجي الساعة خمسة.
أبلغها ثم أنهى المكالمة دون انتظار ردها ولم يأبه لرفضها، صُدِمت من فعله واشــتغل غيظها، ثم تساءل عقلها: ماذا يريد؟ ولمَ لا تتم المقابلة خارج المنزل؟ أعادت اتصالها به مرارًا ولم يُجِب حتى فقدت الأمل.
بالموعد استعدت لحضوره وتأهبت للعراك، وبتمامه حضر فاستقبلته متحفزة ولم تسمح له بالدخول وأبدت اعتراضها:
- ما تدخلش، هنزل نروح أي كافيه، أنا هنا لوحدي.
أزاحها بيده ودلف بخطوات واثقة، جلس بصدارة المكان وضع قدم فوق الأخرى، طالعها بابتسامة ثابتة وتحدث بأمر لا يقبل النقاش:
- اقفلي الباب وتعالي اقعدي هنا قدامي عشان نعرف نتكلم.
- أنت بتتكلم كده ازاى!!! قولت لك أني لوحدي، جايب الثقة دي منين؟ أنت فعلًا وقح.
بأقل من لحظة وصل أمامها ودون مقدمات صفعها مرددًا:
- اعتقد قولت مش بقبل الغلط فيَّا، صح؟
صرخ بآخر كلمة جعلها تتبعثر موقنة من ضعفها أمامه؛ فالتزمت الصَّـمت، عاد يجلس بهيمنة كملك على عرشه، وبحدة أمرها:
- اقفلي الباب وتعالي.
لأول مرة تعرف إحساس الخوف، ترتعش من داخلها رغم محاولتها ادعاء القوة، لكن ليس أمامها الآن سوى مهادنته ثم ستلجأ لأحد أصدقاء والدها ليبعده عنها بأي وسيلة، لبت أمره مضطرة، لا تعلم أنها بالفعل غرست قدمها بوحله، واهدته القيد الذي سيوثقها به في جَـحِيمه:
- شاطرة، بصي بما إنك وافقتِ على عرضي، فأنتِ عليكِ تعملي كل اللي أقولك عليه وبس.
الصدمة ألجمت لسانها وجعلتها عاجزة عن النطق، لقد وقعت في فخه تتذكر قول والدها، لكنه لم يملكها، تساءلت داخلها ألديها فرصة للفرار؟ أجابها وكأنه يقرأ فكرها:
- ما تفكريش، وقت تفكيرك خلص خلاص، أنا هحدد لك كل خطواتك، قومي الأول أعملي لنا شاي تقيل معلقتين سكر، بسرعة وركزي.
اتسعت مقلتيها بصدمة مما يقول ويفعل، بأي مستنقع ألقت نفسها؟ رمقها بانتشاء ولم يحاول إخفاء نظراته الشامتة، هربت منه تنفذ ما طلب؛ لتعيد تنظيم أفكارها بعيدًا عن سطوته، شعرت بحركته بالخارج يتجول ويفعل بشيء ما، ودت لو تخرج لترى ما هو، لكنها باتت ترهبه، انتهت سحبت هواء عميق يمنحها بعض الهدوء والثبات أمامه، خرجت ووضعت ما بيدها على الطاولة المتوسطة للمجلس، رمقته تحاول رؤية ما يفعل، لكن طوله الذي يتعداها واختياره لمنضدة جانبية صغيرة مرتفعة عما حولها من الأثاث جعل فعله محجوب عن مقلتيها، استدار وهو يدرك أنها خلفه تمامًا، باغتها باستدارته، غرس أصابعه بخصلات شعرها وأحكم شدها، وتابع سلسلة صدماتها:
- مِن اللحظة دي كل حركة ليكِ سواء جوة البيت أو براه بأمر مني، ولأنك عنيدة يا سارة فطبعًا لازم يكون معايا ضمان يخليكِ تسمعي الكلام بالنص، من غير ما تحاولي حتى ترفعي راسك مش صوتك.
الحقد الذي يقطر من كلماته جعلها عاجزة حتى عن رمش جفنيها أو غلق فمها الذي فغر على آخره، لكنها انتبهت مُنتَفِضَة على تجوُّل يده الأخرى مسْتَبِيحة جَسَــدها، شهقة مرتعبة صدرت عنها زادت ابتسامته اتساعًا، وبيدٍ خبيرة وبلمح البصر سقط ثوبها أسفل قدمها، ارتفع صوت أنفاسها وانهارت باكية، وعجز عقلها عن إدراك كيف آلت لهذا المصير! بهَلَعِ حاولت الوصول لملابسها لتستر نفسَهاعن جوع عينيه، ومنعتها يده المحكمة على خصلاتها.
- ليه بتعمل كده؟ حرام عليك.
دوت ضحكته الصَّاخبة بالأرجاء واستباحت يده الحرة جَسَــدها بجرأة، وردد ما جعلها تَرتَـعد بضياع:
- فرسة، محافظة على جسمك ونضارتك، غبي مؤنس فعلًا، هو ده الضَّمان، لو فكرتي ترجعي في كلامك جسمك الحلو ده هيغرق السُّوشيال ميديا وتبقي ترند شمال، بنت سيادة اللواء تمارس الدَّعَــارة مانشيت هايل، أيه رأيك؟! ده في حالة أنك عايزة تخلعي وما تكمليش الإتفاق، أمَّا لو فضلتي شطورة وبتسمعي الكلام ومؤدبة، فطبعًا محدش هيشوفه غيري أنا وأنتِ وأحنا سهرانين كل خميس، أيه رأيك؟ مفاجأة صح؟ يا رب تكون حلوة.
- والله مش هرجع في كلامي! سيبني البس هدومي.
- لا الفيديو كده ناقص ده تسخين بس.
- لا، لا، بلاش، حرام عليك أنا.. أنا بردو هبقي مراتك.
ابتسم بانتصار معطيها خياران بكلاهما سقطت بالهاوية:
- مشكلتي أني ضعيف قدام الحلوين، خلاص ارقصي كدة، زي ما أنت، خلي بالك اعتراضك معناه أننا نعمل دخلة سريعة، حتى لو عافية، لا كفاية عياط، بلاش مش بتأثر، قولتي أيه؟
- حاضر.
- شطورة، ما تنسيش بقي عايز حركات من اللي هي، وإلا...
- حاضر، حاضر.
تذوَّقت القهر للمرة الأولى، لم تكن تعلم مدى مرارته، بكت وانتحبت، شعرت بالمهانة والمذلة رأت نفسها فتاة ليل وقعت في شرك مَن لا يرحم، القت بنفسها في الوحل، حاولت بعدت عينها عن مداه، ثبتتها على القاع كحالها، وإن أخطأت وقابلت خاصته رأت فيهما الشماتة والحقد، بعد وصلة أرضته وقَـتَـلَـتها، أوقف التسجيل وأخذ الكاميرا التي ثبتها، أعاد تشغيل ما التقطه، سقطت أرضًا بانهيار تذرف الدُّمع، تجذب ثوبها إليها، لم يرحم ضعفها بل زاد حالتها ببعض التعليقات الوقِـحة التي ذَبَـحت قلبها، أصبح آخر ما يشغل بالها هو مؤنس وطيف، تفكر فقط فيما ينتظرها؟ وكيف تحمي نفسها من هذا الشيطان الماكر؟
بمكان أخر اقتحمت حملة المداهمة وكر خطر، صب مؤنس كامل تركيزه وحرصه خلالها، يُجْهِد نفسه ليوقف عقله عن التفكير، انتهت بنجاحها، جلس بمكتبه رفقة طارق يتحدثان:
- ياه يا مؤنس، أنا كنت قلقان جدًا، الحمد لله الأمور تمت أفضل مما كنا مخططين، من كتير ما شوفتكش بالحماس ده، بركاتك يا مدام طيف.
أغمض عينيه بتعب يريح ظهره على مقعده ورفع ذراعه خلف رأسه ليسندها عليه، ومع قول طارق ارتسمت ضحكة متهكمة صغيرة على جانب فمه، فتساءل صديقه باهتمام:
- هتفضل تعبان كده لامتى؟ قولت لك من زمان، حتى لو لقيتها هتكون مختلفة عن اللي قابلتها من سنين، ده غير اللي حصل لها وشافته طول عمرها، أنت عملت لها كتير قوي، وآخرهم لقيت لها شغل، وده كان مستحيل في حالتها، أنا مش عارف هي ازاي كده! مش بتعرف تقول جملتين من غير ما تهتهة.
اعتدل مع جملته الأخيرة وتحدث بحزم:
- طارق، قولت لك كتير ما تتكلمش عنها كده، ما تشلش همي يا أخي، أنا مبسوط بحالتي دى.
- أنا خايف عليك، أنتَ خسرت سنين عمرك اللي فاتت ومراتك وبيتك غير إن والدتك غَضَبانة عليك، وكل ده بسببها.
- كفاية يا طارق، يلا نمشي.
- يا ترى هتروح على فين؟ بيتك ولا لوالدتك.
- لو مش عايز تستقبلني في بيتك قول، وأنا أوعدك مش هضايقك تاني.
اعتدل طارق بجلسته واتسمت نبرته بالجدية:
- أنت فاهم قصدي يا مؤنس، مش هغَضَب وأقولك اللي يريحك، لأ، لازم كل حاجة تكون واضحة، أنت عرضت عليها الجواز، يبقي يا توافق وتبدأ معاها حياة جديدة، يا ترفض، وأنت تشوف نفسك وحياتك اللي أنت راهنها عليها سنين، كفاية كدة، هايجي عليك يوم وتندم، وأنا مش هانتظر لليوم ده عشان انبهك، لأ، هَنبهك من دلوقت ولو غصب عنك.
هَمَّ بالرحيل هربًا من كلمات طارق، يعلم أنَّه محق ببعضها، لكنه لا يستطيع؛ فهناك رابط قوي غليظ ربطه بها منذ أن رآها بالمرة الأولى لم يلين أو يرتخي رغم مرور السنون، لحقه طارق وأصر على دعوته للبيت ولم يقبل أعذاره.
وكعادته الجديدة ترك صديقه يسبقه للأعلى وطرق بابها ليطمئن على أحوالها، استقبلته خجلة مخفضة الرأس يظهر توترها جليًا في حركة أصابعها وارتعاشهم، رؤياها يروي ظمأ عينه ويُلْـهب نِيــران قلبه، فيذوب ألـمًا وعــذابًا، وكما يحدث بكل لقاء يسود الصمت حتى ينهيه هو:
- ممكن أدخل.
أومأت وخطت للخلف تسمح له بالدلوف، أغلق الباب خلفه، وقفا محلهما يفصلهما مسافة كبرة، أراد مشاركتها بعض تفاصيله يحقق جزء من أمنية تمناها وحلم بها مرارًا:
- كنت في حملة النهاردة، كانت صعبة شوية والحمد لله تمت بنجاح.
هيئ له رؤية بعض القلق مع جملته الأولى تحول إلى شبح ابتسامة بنهاية قوله زالت سريعًا، تنهد بتعب وراوده إجهاد أعوام طويلة، يعاد حديث صديقه بعقله، يئن قلبه ملتاعًا يطالبه ببعض الراحة، ساد هدوء صامت لثوانٍ أنهته عاصفة من الطرقات الغاضبة، رفع عينيه إليها يطمئنها، لكنها ظلَّت تّـرتّعِش وتَرْتَجِف بفَـزع؛ فتوعد الطارق بالهلاك، ولم يكن سوى والدها وجهه محتقن من شدة غَضَـبه وثـوْرته، وكأنه تلبسه شيطان يلقي عليهما اتهامات باطلة، قابلته طيف ببكاء حار ورُعْـب جلي، بينما ثار مؤنس وعنفه بالقول ووقف أمامه كحائط صدْ يمنعه عن الوصول إليها أو الاقتراب منها، لأول مرة تجد منقذ من كيد والدها وغَضَبه، امتنَّت له ووجدت نفسها تحتمي به، وقفت خلفه تتشبَّث بملابسه بيدين مرتجفتين هلاميتين، لجم لسانها ولم تتوقف مشادته مع والدها، حتى قطعها حضور قوة من شرطة الآداب تهاجم المكان، فشددت قبضتها على ملابسه تلتمس الأمان، لف ذراعيه حول كتفها وجذبها لتكون جانبه، طوقها بحماية حنونة.
صرخ الضابط بوالدها ليصمت، ثم تحدث بخشونة، باللحظة التي انضم طارق لهم على أثر أصواتهم العالية:هيئ له رؤية بعض القلق مع جملته الأولى تحول إلى شبح ابتسامة بنهاية قوله زالت سريعًا، تنهد بتعب وراوده إجهاد أعوام طويلة، يعاد حديث صديقه بعقله، يئن قلبه ملتاعًا يطالبه ببعض الراحة، ساد هدوء صامت لثوانٍ أنهته عاصفة من الطرقات الغاضبة، رفع عينيه إليها يطمئنها، لكنها ظلَّت تّـرتّعِش وتَرْتَجِف بفَـزع؛ فتوعد الطارق بالهلاك، ولم يكن سوى والدها وجهه محتقن من شدة غَضَـبه وثـوْرته، وكأنه تلبسه شيطان يلقي عليهما اتهامات باطلة، قابلته طيف ببكاء حار ورُعْـب جلي، بينما ثار مؤنس وعنفه بالقول ووقف أمامه كحائط صدْ يمنعه عن الوصول إليها أو الاقتراب منها، لأول مرة تجد منقذ من كيد والدها وغَضَبه، امتنَّت له ووجدت نفسها تحتمي به، وقفت خلفه تتشبَّث بملابسه بيدين مرتجفتين هلاميتين، لجم لسانها ولم تتوقف مشادته مع والدها، وقطعها حضور قوة من شرطة الآداب تهاجم المكان، فشددت قبضتها على ملابسه تلتمس منه الأمان، لف ذراعيه حول كتفها وجذبها لتكون جانبه، طوقها بحماية حنونة، صرخ الضابط بوالدها ليصمت، ثم تحدث بخشونة، باللحظة التي انضم طارق لهم على أثر أصواتهم العالية:
- مش عايز صوت أنتِ طيف المحمدي.
- وحضرتك عايزها ليه؟
- وأنت كمان مقبوض عليك.
- معاك الرائد مؤنس صادق.
- وأنا المقدم طارق الرشيد، ممكن نفهم في أيه بالظبط؟!.
هدأت ثورة والدها بخوف حقيقي مما يحدث، فقد شمله الاتهام بتقويض ابنته لممارسة الفَـاحِشَةالفاحشة، تابع مناقشتهم بصمت، حتى انسحبت قوة الشرطة، فعادت له جرأته وعنَّف طيف بكلماته:
- الهانم مش ناوية تلم نفسها وترجع معايا، ولا حابة فضايح أكتر، ما القاعدة لوحدك جات على هواكِ، تعملي اللي على مزاجك.
يعلم بضعفها؛ فهي تربية يده زرع بها الهشاشة والخوف، ولم يضع بحسبانه وجود مؤنس حاميها ودرعها الذي أجاب عنها بحدة ارهبته:يعلم بضعفها؛ فهي تربية يده، زرع بها الهشاشة والخوف، ولم يضع بحسبانه وجود مؤنس حاميها ودرعها الذي أجاب عنها بحدة ارهبته:
- الزم حدودك وما تراهنش على كونك أبوها كتير، لو غلطت فيها تاني مش هسكت، هي عارفة حدودها كويس وزي ما سمعت احنا مخطوبين والجواز لمَّا عدتها تنتهي.
- مش سامع حِسِّك يعني، الهانم اتخطِبت في السر ومن ورا أبوهاابوها، ولا ده كلام والسلام.
- كُنت.. كنت هقول لك، لسه ما رديتش، والله!
- يعني مش مخطوبين فعلًا.
- ما رديتش، بس.. موا.. موافقة.
أخيرًا بارقة أمل وسط نيــران أشواقه وعــذاب انتظاره، ابتسم بسعادة تحاول اختــراق حياته، أجاب والدها فيكفيها إرهاقارهاق وضغوط:
- كده عرفت، ولمَّا العدة تخلص ونحدد معاد كتب الكتاب هكلمك.
- ترجع معايا، ولما العدة تخلص نشوف، اهو تشوف البيت عندي وتنضفه.ترجع معايا، ولما العدة تخلص نشوف، أهو تشوف البيت عندي وتنضفه.
شحبت مُتذكرة آخر مرة قامت بتنظيف بيتهبيت والدها حين أرسلها شهاب له، وكأن مؤنس قرأ أفكارها وكعادته منذ قابلته يدرأ عنها ما تخاف:
- آسِف، طيف مش هتتحرك من هنا، ده بيتها، وبيتك هات حد ينضفهواحدة تنضفه دي مش مسئوليتها، وما فيش حاجة ممكن تشوفها، إحنا أخدنا القرار خلاص، مش عايزين نتعبك.
انتفض والدها واقفًا بحنق، حدَّجها بحدة واستاء من نظرتها الممتنة لمؤنس، انطلقاطلق خارج المكان يصفعوصفع الباب بقوة، تنفست الصعداء بخروجه، وصدح صوت طارق ينبهَّهما لوجوده:
- مُنتظرك فوق نتغدى.
نظر إليها مبتسمًا سألها يرجو سماع ما يروى ظمأه:
- موافقة فعلًا، ولا عشان اللي حصل.
اربكها تساؤله فأجابت وعينها تزوغ يمينًا ويسارًا بتوتر:
- كنت.. كنت عايزة اتصل، بس.. بس خوفتخايفة.
نهض ليجلس جانبها، أحاط كفها براحتيه بحنان ورقة يطالبها برجاء وتمنِّي:
- مش عايزك تخافي، بالذات مني، ممكن؟
بسمة مرتعشة نمت على وجهها ولم تعقب، بهذه المرة شعر بالرضى والسعادة، أحرز تقدمًا أسعد قلبه وبات له مع السعادة موعد ولقاء، نهض يحدثها بلين:
- عايزة حاجة قبل ما امشي؟
أومأت موافقة وحاولت إخراجاخراج كلماتها، ولأول مرة تتحدث دون ارتعاش أو تلعثم:
- عايزة أشوف حلا، وحشتني قوي، تقدر تساعدني؟
ابتسم مبتهجًا؛ كـسـرت حاجز الرهــبة بينهما، تقدم خطوة ينهي المسافة الفارقة بينهما رنا إليها يتمعن بعينها وكأنه يرسل إليها ذبذبات الوَصْلالوصل:
- اكيد طبعًا، علم وينفذ.أكيد طبعًا، علم وينفذ.
داعبت شفتيها بسمة خجلة مرتاحة؛ فربت على كفها يبادلها البسمة قبل أن يغادر، ولأول مرة ترك لقائهما داخله نشوة مبتهجة ترسم بسمة سعيدة على وجهه وفؤاده، وقد ثبت عقله حالتها بنهاية اللقاء مرتاحة هادئة متخلية عن توترها تخبره رغبتها بطلاقة، كأنها استثنته من مخاوفها، تمنّى أن يكون مصدر أمانها يومًا، يُمني نفسه بقرب الوِصَال، علّ القلب يجد مبتغاه